ما انفك نفر نزر من الكتّاب يعيش أجواء أواخر الخمسينيات ، وبدايات الستينيات ، وذلك حين استيقظ العالم على صوت وقع حدث مهيب هو ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة ، وكنا وقتها نحن صغارا ، لا نفقه بالسياسة شيئا ، ولن نقدر على تبين الأمور ، ولكن ما جلبته الثورة للناس في العراق من منافع مست حياتهم المادية وقتها ، جعل تلاميذ المدارس الصغار مثلنا يتلمسون الفارق بين عهد مضى بظلمه ، وآخر قدم بخيره ، فلقد انتشرت المدارس بسرعة مذهلة ، ودخلت الى المناطق النائية ، أو ما كان يطلق عليها زمن الملكية بـ ( المناطق الموبوأة ) ، كما استطاع الكثير من أبناء الأرياف والقرى مواصلة دراساتهم في مراحل متقدمة ، في المتوسطات والثانويات ، والجامعات ، وذلك بعد أن أنشأ رجال الثورة أحدث الأقسام الداخلية بناء ، وأمدوها بالأثاث المريح الغالي، وقدموا فيها ما لذّ وطاب من الأكل ، كما قامت الثورة ، وعلى عجالة من أمرها ، بارسال أبناء الفقراء في بعثات دراسية كثيرة ، فوصل ابن خيرية جارتنا الى أمريكا ، ووصل ابن تسواهن المعيدية ! الى لندن ، ووصل ابن عليوي الفلاح الى الاتحاد السوفيتي وقتها. هذه الحال ، كما يبدوا لي ، اغاضت بعض الأوساط ، وخاصة تلك التي فقد امتيازاتها بسبب الثورة ، ففزعوا الى الدين ، وصاحوا : وا اسلاماه ! ولما كان رجال الدين في العراق على علاقات مختلفة بهم ، فقد ناصروهم ، وذبوا عنهم ذب مستميت ، رغم أن زعيم الثورة ، عبد الكريم قاسم ، قد بسط جناح السلم للجميع ، لكنه لم يساوم على ما قدمت الثورة من منجزات للصالح العام ، وليس لحفنة من المنتفعين على حساب الجياع من العراقيين .
هذا هو السر الذي جعل جماهير غفيرة من شعبنا تلتف حول الثورة والزعيم ، وفي الأيام الأولى لقيامها ، وحيث كانت المؤامرات تحيط بها من الخارج والداخل . فحين نزلت القوات الأمريكية في لبنان والأردن من أجل أرهاب الثائرين في العراق ، نزلت جموع هادرة من جماهيرنا الى الشوارع ، تهتف : احنا العراق احنا ...كريم قائدنا
يا دلاس اسمعنا ...مانخاف اساطيلك
ولن هاب تهديدك .
هذه الاناشيد كانت تغنيها حناجر الملاين من الشعب ، وليس من المعقول أن عدد أعضاء الحزب الشيوعي ، ومناصريه كانوا ملاين ، مع أن الشيوعيين كانوا في طليعة من آزروا الثورة وناصروها ، ودافعوا عن مكتسباتها التي هي مكتسبات الشعب العراقي .
لقد هتفت تلك الجماهير بشعارات كثيرة ، ليس للحزب الشيوعي دخل فيها ، فشعارات الحزب كانت يرسمها الحزب نفسه ، وليس الشارع ، فليس من الحقيقة أن يرسم الحزب شعارا مثل :
ماكو مهر بس هل شهر ...ألخ ، الشعار الذي نادى به شباب العراق وشاباته ، وعلى ما فيه من وجاهة ، ورغم ما فيه من لغة مجاز ، فهم لم يطلقوه من فراغ ، فقد كان المهر عائقا كبيرا بوجه الزواج في العراق ، حتى شاعت فيه زيجات تتنافى مع آدمية المرأة وانسانيتها ، ولم يقف رجال الدين ضد هذا الامتهان لانسانية المرأة زمنها ، معه أنه كان يجري أمام أعينهم . ومن أمثلة هذه الزيجات هو زواج ( كصة بكصة ) ، والذي حرمه قانون الاحوال الشخصية النافذ ، والملغي بالقرار137 ، الصادر من مجلس الحكم ، والممنوع عن التنفيذ ، بقرار من وزارة العدل !
والعراقيون لم يلجأوا الى زواج ( كصة بكصة ) ، إلا لأنهم ما كانوا قادرين على دفع مهر متواضع ، فكيف بهم مع مهر غال ؟ وأعني بذلك أن زواج ( كصة بكصة ) كان مبررا ، رغم أنه كان يحط من كرامة المرأة والرجل على حد سواء ، فالفقر الذي عليه العراقيون هو الذي برر قيام مثل الزواج ، وهو ذاته ، أي الفقر ، هو الذي دفع آلافا من العراقيات والعراقيين الى أن يتحدوا الموروث ، وأن يطالبوا بازاحة هذا النير عن ظهر عملية القران . وها هي الأيام تبرهن صدق ما توقعه أولئك الشبان والشابات ، فهذا الوطن العربي ، فضلا عن الأسلامي يشهد عنوسة للنساء بشكل مخيف ، فقد اشتكى لي مدير دائرة تعليمية ، في دولة عربية ، كان أغلب القائمين بعملية التعليم فيها من النساء ، من أن أربعين بالمئة من المعلمات في تلك الدائرة كن من العانسات ، رغم أن الدولة العربية هذه لم تشهد حربا ، لكنها شهدت حربا أخرى هي حرب غلاء المهور ، فعلى الرجل المتزوج في هذه الدولة أن يقدم لزوجتة ، ومن الذهب فقط ، مايعادل واحدا وعشرين الف دولار .
وإذا كانت الجزائر والعراق يشهدان فيضا من النساء ألأن بسبب من الحروب وعمليات التصفية، إذ تشكل العنوسة فيهما نسبا عالية ، فعلام تصاعدت تلك النسبة في السعودية وليبيا ، وهما دولتان لم تشهدا حربا حقيقية ؟ ألم يكن المهر هو السبب الرئيس الذي يقف وراء هذا الحيف الذي لحق بالنساء فيهما ؟
لقد اضطرت السعودية كدولة الى أن تتدخل في التخفيف من الأثار الكبيرة التي بدت تلقي بنفسها على المجتمع السعودي كله ، كما اضطرت ايران كدولة كذلك الى ابتداع ما سمي بالزواج الجماعي ، تبعها في ذلك صدام الساقط ، ثم حكومات أخرى ، واخيرا رجال الدين في النجف في العراق الجديد !
كانت الشابات والشباب في العراق قد تنبهوا لخطورة المغالاة في المهور ، ولهذا جاء ردهم عنيفا كما فسره المفسرون المغرضون ، رغم أنهم كان يعبرون عن ضرورة تمس حياتهم وحياة مجتمعهم ، فهم أبدا لم يرفضوا المهر كلية ، فكل شاب يحرص على أن يقدم لشريكة حياته شيئا يسرها، كما أنهم لم يرغبوا في أن يرموا قاضيا ما في نهر ما ، رغم أن الزواج كان ، وربما مازال، وخاصة في الأرياف ، يجري دون قاض ومحكمة ، وحتى دونما عقد رسمي ، إنما كان يتمّ مشافهة ، وعلى يدي رجل له إلمام قليل في اجرائه ، أو ربما جرى على طريقة نكاح أم خارجة ، فقد روي أن امرأة على مذهب الاباضية الخارجي ، قد أعجبت بالسيد الحميري الشاعر، وهو شيعي ، أمامي ، فطلبت منه الزواج وهما على ظهر طريق ، فقال : يكون كنكاح أم خارجة ، قبل حضور ولي وشهود ، فاستضحكت وقالت : ننظر في هذا !
أما الفكر المستورد ، تلك القولة التي شاخت ومازال نفر يتمسك بها للان ، ويعني بها الشيوعيين لا غير، فهي للهراء من الكلام أقرب ، وليس للحجة الحصيفة ، فالفكر ، وعلى مدى دهور ، واجيال ، ظل مهاجرا ، تصنعه أمة لتلقفه أمة أخرى ، فقصص القرآن مثل الطوفان موجودة في الديانات الاخرى ، وفي الارث السومري ، والمفسرون المسلمون يقرون بذلك ، ويرون أن وجودها في القرآن تأكيدا لها ، وعبرة لمن يعتبر ، كما أن المسلمين أستوردوا الأفكار ، على حد تعبير هؤلاء الذين لازالوا يعيشون في الماضي . ففي القرن الثاني الهجري ، وربما قبله ، قامت دار الحكمة في بغداد زمن الخليفة المأمون ، والتي ضمت خيرة الفضلاء من المترجمين ، وعلى مختلف دياناتهم ، حيث شرعوا باستيراد الأفكار ! من اليونانيين القدماء في الفلسفة والمنطق واللغة والرياضيات والعلوم الاخرى ، وذلك حين ترجم هؤلاء كتبا كثيرة في تلك المعارف التي طورها العلماء من المسلمين فيما بعد تطويرا خلاقا ، مثلهم مثل اليونانيين الذين كانوا قد استوردوا أفكارهم ! من حضارة وادي الرافدين ، حين نزلوا بابل في فتحهم لها زمن الأسكندر المقدوني ، وما نظرية فيثاغورس في الهندسة إلا نسخة من نظرية بابلية أكتشفت في تل عقرقوف العراقي .
رحلة الفكرهذه هي التي حدت بماركس أن يقول بتواضع جم : إن أفكاري هي وريث شرعي لكل فكر خير أنتجته البشرية ، وعلى هذا يكون ماركس قد استورد أفكاره هو الآخر وفق نظرية استيراد الأفكار هذه ! ولي أن اقول أخيرا : لم يمكث الفكر في بقعة معينة من الأرض ، دوما كان الفكر مهاجرا !