أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - الجلاد والضحية في بلاد الرافدين !















المزيد.....

الجلاد والضحية في بلاد الرافدين !


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 2369 - 2008 / 8 / 10 - 11:15
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


الجلاد والضحية في بلاد الرافدين !
قراء في كتاب : جدار بين ظلمتين
المؤلف: بلقيس شرارة ورفعة الجادرجي
دار النشر: دار الساقي , لندن
تاريح النشر: 2003
عدد الصفحات: 350 صفحة من اقطع المتوسط
عند تصفح كتب التاريخ التي تبحث في مسيرة العراق منذ ألاف السنين , وحين يقرأ الإنسان كتاب موسوعة العذاب للكاتب الراحل السيد عبود الشالجي , على سبيل المثال لا الحصر , يتيقن بأن هذا التاريخ كان ولا يزال مليئاً بعلاقة خاصة متميزة ومستمرة بين الضحية والجلاد , بين الإنسان المفكر وعدو الإنسان والتفكير , بين الخير والشر , سواءً اجتمعا في الواحد أم توزعا على اثنين حسب ميثولوجيا الشعوب المتنوعة. وحين يقرأ الإنسان الشرائع العراقية منذ القدم , ابتداءً من قانون أوروكاجينا وإصلاحاته الاجتماعية وموراً بقوانين أورنمو ولبت عشتار وإيشنونة وشريعة حمورابي وقوانين الكلدان والآشوريين من بعده , سيجد أمامه تطورات وتحولات إيجابية في تلك المجتمعات و ولكن معها مزيداً من القوانين العقابية القاسية , ففي الوقت الذي خلت أولى الشرائع من عقوبات ردعية و بل غرامات مادية , تحولت تدريجاً إلى عقوبات تصيب الجسم والنفس البشرية , ثم أخذت أبعادها في شريعة حمورابي التي تضمنت 52 مادة تعاقب بالموت لشتى المخالفات والتي اقتربت من عدد قوانين ومراسيم صدام حسين التي كانت تحكم بالموت على الإنسان. لقد تميزت تلك القوانين بالقسوة , تدلل عليها قاعدة العين بالعين والسن بالسنة. لقد اضطهد الحاكم الجلاد سكان البلاد بشتى الأساليب والأدوات و واستند في ذلك على قوانين وقواعد معينة في الحساب والعقاب. وفي الدولة الإسلامية تعددت صيغ التعذيب والإذلال وتنوعت بين فترة وأخرى , وخاصة من قبل الخلفاء الأمويين والعباسيين وسلاطين الدولة العثمانية. وأمامنا كتاب موسوعة العذاب الذي يصور لنا وآسي العلاقة بين الجلاد والضحية بأبشع صورها وأكثرها انحطاطاً وتعسفاً. وتاريخ العراق الحديث حافل بالتجاوزات الفظة على الإنسان وحقوقه , سواء في فترة الاحتلال البريطاني وعصر الانتداب أم بعد ذلك وعلى امتداد فترة الحكم الملكي. وفي الفترة التي أعقبتها واجه الشعب العراقي صنوف العذاب والحرمان والتنكيل. والفارق هو أن الفترة التي ابتدأت بانقلاب شباط/فبراير 1963 وتواصلت حتى سقوط النظام الدموي , وما بعده أيضاً , أن الحكم كان من حيث المبدأ دون قوانين ودون اعتبارات. فالحاكم بأمره هو الذي يقرر كل شيء وبقراراته يعملون.
الكتاب الذي قرأته قبل يومين يقدم لنا لوحة استثنائية ووصفاً متميزاً للعلاقة بين الجلاد والضحية في بلاد الرافدين , في العراق , ويؤكد ما أشرت إليه بأن تاريخ العراق فيه امتداد غير منقطع لعلاقة مريعة بين الإنسان العراقي المفكر والناقد والمتطلع نحو الأفضل , وبين الجلاد المستبد بأمره , المنغلق على نفسه , المشدود إلى كرسيه , المطعون في ضميره والمغتصب لإرادة وحقوق الإنسان.
فقد صدر في العام 2003 عن دار الساقي بلندن كتاباً قيماً تحت عنوان "جدار بين ظلمتين" للأديبة والكاتبة السيدة بلقيس شرارة والمهندس المعماري والكاتب السيد رفعة الجادرجي. ومن المؤسف حقاً أني لم أطلع على هذا الكتاب إلا في الآونة أخيرة حين تسلمت الكتاب هدية طيبة من الأستاذ رفعة الجادرجي, ولهذا لم يتسن لي الاستفادة منه حين أنجزت كتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة في العراق" والذي صدر عن مؤسسة حمدي في مدينة السليمانية في العام 2005 , إذ لو كنت قد اطلعت عليه لخصصت لأحداثه موقعاً مناسباً في كتابي.
وكتاب "جدار بين ظلمتين" يكشف ببراعة ودقة وبأسلوب غير معهود عن جوانب جوهرية وحساسة للعلاقة غير المتكافئة بين نظام الحكم والمواطن , بين الجلاد والضحية , بين مُغتصِب السلطة والمهيمن على أجهزة القمع والسالب لحقوق الإنسان والناهب للأموال من جهة , وبين الإنسان الضحية والأعزل والمُغتصب والمسلوب من حريته وحقوق المواطنة والفاقد لكل ما يمت بصلة لما يسمى بلائحة حقوق الإنسان التي ساهم العراق في وضعها ووقع وصادق عليها منذ العام 1948 من جهة أخرى. الكتاب يقدم لوحة فنية مشحونة بالألوان والعواطف والمشاعر الجياشة والمضامين الإنسانية والحركة الدائبة , يقدم لنا الحزن والألم الإنساني اللذين يسيطران على مشاعر الإنسان وهو عاجز تماماً عن الدفاع عنه نفسه أو عن أبنه أو ابنته أو زوجته أو زوجه. من يقرأ هذا الكتاب الفريد في طريقة عرضه للأحداث سيجد أمامه شريطاً سينمائياً متحركاً وپانوراما واقعية لما كان يواجه العراق والشعب في تلك المرحلة من مراحل العراق. والكتاب مؤهل لكتابة سيناريو لفيلمٍ سينمائي يسجل حقائق الوضع في أحلك مرحلة من مراحل عراق القرن العشرين , إنها المرحلة الأكثر سواداً وعبثية وهدراً للإنسان وحياته وكرامته وحقوقه. أتمنى أن يكتشف أحد المخرجين الجيدين هذا الكتاب ليبدأ بالبحث عن منتج وكاتب سيناريو ومصور وممثلين مبدعين يمكنهم تحويل القصة الواقعية إلى حياة مليئة بالحركة على الشاشة البيضاء من أجل المساهمة بإزالة الحجب السميكة التي شكلت جداراً يمنع عن عيون الكثير من الناس حينذاك , وبعضهم لا زال حتى يومنا هذا يواجه مثل هذا الجدار , حقائق الوضع التي كانت سائدة في فترة حكم البعث وصدام حسين.
يجسد هذا الكتاب تجربة ذاتية غنية جداً لشخصين , وبتعبير أدق , لزوجين حبيبين , بل لعاشقين بكل معنى الكلمة , أحدهما يعلن عن ذلك صراحة وبأحلى الكلمات المعبرة وأكثرها شوقاً وحيوية , وهي المرأة الشجاعة بلقيس , والآخر يتجنب ذلك , رغم هيامه بزوجته وحبه المفعم بالحياة لزوجته , إنه رفعة , إنه الرجل الذي , وكأي رجل عراقي , يستحي من التعبير عن والإعلان عن عواطفه إزاء حبيبته , زوجته , صراحة , رغم تفتحه الفكري والثقافي الكبير , فهو ابن هذا المجتمع.
عاشا معاً ما يقرب من ثلاثة عقود قبل أن يواجهوا ظلم النظام واستبداده حين تم اعتقال السيد رفعة , عاشا في عالم الثقافة العراقية والإقليمية والدولية , تجولا في بلدان العالم سعياً وراء الفن والموسيقى , عاشا الحياة الثقافية المتنوعة والإبداع الفني معاً وكل في مجال اختصاصه , وبالتالي قدم كل منهما لنا بأسلوبه الجميل المختلف تجربته واتجاهات تفكيره وأفكاره ومعايشته للآخرين عن ذات الفترة التي عاشاها طيلة عشرين شهراً , وهي الفترة التي قضاها السيد رفعة في المعتقل بعد أن حكم عليه بالمؤبد. الأول هو المهندس الدولي المبدع الأستاذ رفعة الجادرجي ورئيس المكتب الاستشاري العراقي الذي يصف لنا ويتحدث عن حياته اليومية وحياة من عاش معه تلك الأحداث منذ أن اعتقل من قبل جهاز المخابرات العراقية في زمن الدكتاتورية المطلقة والنظام الشمولي الفردي , فترة كانت قبل وأثناء وبعد صعود صدام حسين من موقع الرجل الثاني أو نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس قيادة الثورة ورئاسة الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة , ووضعه في زنازين المخابرات العراقية واضطهاد الجلاد اليومي له , والثاني هي الأديبة والكاتبة السيدة بلقيس شرارة التي عاشت المأساة خارج السجن بحرية مقيدة وقدرة ضعيفة على تقديم العون لمن يقبع وراء الجدار رغم الجهود المبذولة لفك حبسه وإطلاق حريته. وضع زوجها في سجن صغير , بينما كانت هي تعيش في سجن كبير هو العراق في فترة حكم صدام حسين , ولكنه يبقى ضيقاً جداً يمنع الإنسان عن التنفس بحرية. لقد كان الفاصل بين الزوجين جداراً سميكاً وعالياً , جداراً سمه الدكتاتورية الغاشمة
فالكاتبة السيدة بلقيس شرارة خريجة كلية الآداب ومن وسط وعائلة ثقافية وديمقراطية تقدمية , أسلوبها شفاف ورقيق ينساب بعفوية كما تنساب المشاعر الإنسانية الحرة , وأدب جميل في الكتابة ينساب بهدوء إلى عقل الإنسان ويدغدغ عواطفه ويحرك مشاعره , سواء حين كتبت عن الحزن والألم والمرارة وفقدان الأمل والثقة بالآخر , أم حين نشرت الفرحة والبسمة والسعادة , وسواء كتبت عن الغضب أم عن الحب بأجمل معانيه , حب أم رفع لابنها وحب نصير ويقظان لأخيه والأخت أمينة لأخيها والزوجة لزوجها , إنها حين تكتب تغوص في عمق الإنسان وتسعى إلى اكتشاف دواخله والعوامل التي تحركه.
أما الأستاذ رفعة فهو ليس مهندساً كبيراً فحسب , بل هو فنان كبير ومثقف رفيع المستوى وقارئ نهم , وكتابته تعبر عن ذهن هندسي متقد ومنهجية صارمة وقدرة عالية على التحليل للنفس البشرية , صريح وجرئ في عرض أفكاره والمواقف التي مرّ بها ورأيه في الناس والأحداث التي عاشها.
والكتاب يروي لنا قصة شخصيتين عاشتا عشرين شهراً في موقعين مختلفين أحدهما في السجن والآخر في البيت والمجتمع , ومن هنا اختلف فحوى أحاديثهما وحركتهما وتباينت طبيعة الشخوص الذين تعايشوا وتعاملوا معهم وسلوكياتهم , ولكنهما التقيا في تشخيص مسائل مشتركة كان يعيشه الشعب العراقي بأغلبه. حين نقرأ الكتاب نكتشف بسهولة ويسر سمات مميزة لطبيعة الفترة التي كانا يعيشان فيها , طبيعة السلطة السلطوية التي حكمت العراق طيلة ثلاثة عقود ونيف. فالنظام تتميز بـ:
• غياب كامل للحياة الدستورية والقانون والحرية الفردية وحق الإنسان في الدفاع عن نفسه.
• غياب سلطة القضاء المستقلة القادرة على اتخاذ القرار بمعزل عن إرادة السلطة التنفيذية.
• حق الحاكم المطلق بإصدار الأوامر باعتقال أي شخص مهما كانت منزلته دون الحاجة إلى تبرير ذلك.
• حق أجهزة الأمن والمخابرات ممارسة الاعتقال دون العودة إلى أمر قضائي أو التحقيق أمام حاكم تحقيق أو المحاكمة أمام محكمة شرعية وأسس وقواعد قانونية.
• حق أجهزة الأمن والمخابرات في اعتقال وتعذيب وقتل من تشاء دون خشية من محاسبة وعقاب. وقُتل تحت هذه الحماية الممنوحة للأجهزة القمعية الكثير من الناس الأبرياء تحت التحقيق والتعذيب أو دس السم لهم أو بأي أسلوب آخر.
• الكراهية والحقد يملآن صدر الجلاد إزاء الإنسان والرغبة في إهانته وسحق كرامته. فليس للإنسان في عرف الجلاد قيمة وليست له حقوق.
• لا اعتبار لرهافة إحساس الإنسان وأحلامه وتطلعاته , بل بذل كل الجهد من جانب النظام لتدمير الذات وتحطيم شخصية الإنسان عبر أساليب فاشية وعدوانية جارحة.
• بث الخوف , بل الرعب , الذي تطبعه الدكتاتورية , في نفوس وسلوك الناس , وما ينجم عنه من ازدواج الشخصية والتحولات في تصرفات الإنسان وفي علاقاته العامة.
• التفكير بخلاص الذات والتخلي عن الآخر أو العجز عن التضامن معه , ولكن الدكتاتورية لا تتوقف , فهي تزحف لتسحق الآخر والآخر .. وتحويل الكثير منهم إلى أشباه الناس.
• ولكن أفضل ما صوراه لنا هي تلك اللوحة الخاصة بالمستبد بأمره , ذلك الدكتاتور القادر على أن يقول "كن فيكون"! , وقد كرس ورسخ هذا المعنى في أذهان الناس, كل الناس , عبر أجهزة إعلامه ودعايته وأجهزته القمعية وعبر زياراته والأساليب التربوية الفاشية التي كانت تمارس وعبر سنوات طويلة , إذ أقنعهم عبر مآسيهم ومحنهم اليومية بأنه "القادر على كل شيء قدير" , بأنه وكيل الله على ارضه! فهو الذي يمنح مراحمه متى ولمن شاء , ويمنعها عمن شاء. وهو الذي يقرر مصير الإنسان بين الموت والحياة , وبينهما خيط رفيع ارتبط دوماً بمزاج البطريق لا غير.
ليست القسوة في الاعتقال وحده , بل في عدم معرفة الإنسان ما ينتظره , فهو حين يعتقل لا يعرف التهمة الموجهة له , ولا يعرف أين سيذهبون به , ولا من سيحاكمه , ولا من يمكن أن يدافع عنه إن كانت هناك محاكمة , ولا إلى متى يبقى معتقلاً , وهل سيموت أم سيبقى على قيد الحياة. كما أن أهل الضحية لا يعرفون لِمَ اعتقل أصلاً , وأين سيجدونه , وكيف يفترض أن يتحركوا لإنقاذه. فالضحية والأهل والأصدقاء يعيشون في عالم مضبب تماماً وقلق دائماً والخوف يمارس فعله القاتل من المجهول القادم. إنها المحنة الدائمة التي يعيشها الضحية في قبضة المستبد الجلاد.
قدم لنا الكاتبان نوعين من البشر : فمنهم من نسى الصداقة والود السابقين وتحول إلى شخص غريب الأطوار بسبب الخوف الذي كرسه الجلاد في طباع الناس , والخشية من الجلاد المرتقب , أو بسبب صداقة كانت بالأساس مزيفة قبل ذاك أو بسبب الشماتة والرغبة في الحصول على مشاريع بدلاً عن الضحية التي كان يحظى بها بسبب معارفه وقدراته الهندسية. ومنهم من أبدى استعداداً كبيراً ومستمراً وبصور شتى لتقديم المساعدة والتضامن وعدم نسيان الصداقة , أو احتضان الأهل في فترة يكون فيها الضحية أو أهل الضحية في أمس الحاجة لمثل هذا الدعم المعنوي والاحتضان. إن أسلوب التحليل في تصوير تلك الشخصيات سهل ممتنع يعبر عن وعي ثقافي رفيع المستوى بالإنسان ومواطن ضعفه وصلابته.
قدما لنا صورة مباشرة وغير مباشرة عن علل المجتمع العراقي ومشكلاته الأساسية وتخلفه الحقيقي من خلال شخصيات سجينة أو سجانة أو شخصيات من خارج السجن , رغم الحضارة التي كان يمتلكها العراق , وكذلك الخزين الفكري والثقافي اللذين تختزنهما الذاكرة المثقفة والذاكرة الجمعية العراقية.
لقد ذكرني الكتاب وأنا أقرا صفحاته كيف رن جرس الدار عندي في صيف تموز من عام 1978 رجلان من جهاز الأمن العراقي وطلبا مني مرافقتهما , فمدير الأمن العام يريد محادثتي. كانا مؤدبان , ولكنهما منعاني بأدب أن لا أتصل بأحد هاتفياً. كانت زوجتي وطفلي ,سامر وياسمين , في ألمانيا في زيارة لعائلتها. كنت حينذاك عضواً متفرغاً في المجلس الزراعي الأعلى وبدرجة خاصة بعد أن تم نقلي من جهاز التدريس في الجامعة المستنصرية. جلست في المقعد الخلفي لسيارة شيفروليت حديثة وجميلة وذات نوافذ زجاجية مانعة للرؤية من الخارج وقادا السيارة على الأمن العامة في البتاويين , حيث وضعت في زنزانة انفرادية لثلاثة أيام دون تحقيق أو استفسار أو معرفة بما يريدون , رغم استفساري عن السبب , إذ لا جواب. ثم بدأ التحقيق , وكانوا مؤدبين حتى نهاية التحقيق , ثم جاءوا بالورقة والقلم لأجيب وأنا في زنزانتي عن أسئلة وجهها لي جهاز الأمن ولكنها معطاة من صدام حسين ذاته , كما أخبرت لاحقاً. لم تكن زنزانة الانفرادي تختلف عن تلك التي وصفها الأستاذ رفعة الجادرجي في هذا الكتاب , فهي متشابهة عموماً. كنت وحدي في الزنزانة , وقبالتي كان وكيل وزارة الداخلية من عائلة الالوسي. وبجواري كان معتقلاً يضم عدداً كبيراً من الشيوعيين والديمقراطيين الذين حزنوا حين التقت نظارتي بهم ورفعوا أيديهم بالتحية والسلام.
ثم بدأ التعذيب في غرفة واسعة نقلوني إليها ليتسنى لهم التعذيب بعيداً عن المعتقلين. غرفة واسعة وفيها حمام ومرحاض , ولكن الحمام مليء بالغائط والبول , ومنها أصبت بالفطريات. غرفة واسعة بنيت وكان وضع تحتها مرجل شغال , إذ كانت الحرارة تصل إلى أكثر من 70 مئوية. كانت قطرات الماء التي تسقط على أرض الغرفة تجف أو تتبخر مباشرة. بدأ الضرب من شخصين "اعتبرا معتقلين" أثارهما كتابتي ضد النظام في جريدة طريق الشعب في حين أنهما من أجهزة التعذيب و من جلادين حاذقين لمهنتهم القبيحة وعارفين مواطن الخطر في جسم الإنسان وراغبين في أن أصاب بالجنون . كان الضرب مبرحاً وهادفاً إلى إيذاء رقبتي إلى تعطيل أو إلحاق الضرر بالحبل الشوكي. قاطعت الطعام الذي كانوا يقدمونه لي. لم آكل منه سوى الخبز ولم اشرب الشاي , وكنت أشرب الماء من حنفية المرحاض. قدموا لي وجبة طعام شهية بدعوة من ضباط كانوا طلبة عندي. وضعوا أمامي كأس لبن (شنينة) نقلت الكأس من أمامي ووضعته بجهة الضابط المقابل لي وأخذت كاس لبنه. لم يشربه أبداً , ولم اشرب كأسه أيضاً. لم أكل من الرز واللحم الذي أمامي , رغم تحريك صينية الهبيط بحيث ما كان أمامي أصبح أمام الضابط المضيف. ولكن لم أذق منه شيئاً يذكر. استفسرا عن سبب ذلك , قلت له لا ثقة لي بكم. كان التعذيب لمرة واحدة ولكن كان في ساعات الليل. كنت اسمع صراخ المعذبين من السجناء. عجزوا عن لوي إرادتي وصمودي , ولكنهم أذاقوني مر العذاب. أحلت على التقاعد وأنا في المعتقل وبدون تقاعد مع إنزالي درجتين وظيفيتين , وهي للإهانة فقط. حين أطلق سراحي كنت قد فقدت أكثر من 14 كيلو غراماً من وزني ومصاب بالفطريات. لقد كان اعتقالي بأمر صدام حسين , وكان قد أرسل للأمن ورقة يعطيهم الأوامر بما يفترض أن يمارسوه معي من أساليب التعذيب وأن لا يطلق سراحي إلا بأمر منه.
لا زلت أعاني بهذا القدر أو ذاك من بقايا ذلك التعذيب الشرس والمركز والموجه إلى الرأس والرقبة بشكل خاص. من هنا جاءت رغبتي في أن أبادر للكتابة عن هذا الكتاب القيم الذي قدم لنا وصفاً واقعياً عن فترة الاعتقال بالنسبة للضحية وعن حالة الأهل خارج السجن لفترة الاعتقال الطويلة.
رغم المصائب التي صورها لنا الكتاب من زاويتين مختلفين ومن شخصين مستقلين فكرياً , يمنحان القارئة والقارئ ساعات جميلة يتمتع بها في قراءة نص رائع يشد الإنسان إليه شداً ويوصل لهما تجربة إنسانية غاية في الأهمية ويمنحهما فرصة التعرف القريب جداً على نظام شمولي غادر , غادرنا بلا رجعة , ولن يغادرا القارئة والقارئ الكتاب إلا بعد ينتهيا منه.
8/8/2008 كاظم حبيب







#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحية لعارف دليلة والحرية لبقية سجناء الرأي في سوريا!
- -مدنيون- وانتخابات مجالس المحافظات ثانية !
- -مدنيون- وانتخابات مجالس المحافظات!
- هل الأخوة الكُرد بحاجة إلى إبعاد المتطرفين منهم عنهم والقبول ...
- رسالة جوابية مفتوحة
- أيها السادة ... ما هكذا تورد الإبل!
- رسالة جوابية عن سؤال حول مصطلح الشيعة الصفوية
- سلام وتحية إلى عارف دليلة في سجنه المظلم في سوريا
- هل سيواصل حكام إيران السير على طريق صدام حسين ؟
- هل الضجة الإعلامية هي البديل المناسب عن وعي الواقع العراقي و ...
- هل من نتائج ملموسة لزيارة المالكي إلى برلين؟
- هل تحول قرَقوش السودان إلى راقص قرقوز في دار فور؟
- بيان صادر عن هيأة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية ...
- هل الادعاء العام لمحكمة الجناية الدولية على صواب بمذكرة اعتق ...
- أفكار وملاحظات للمناقشة في الذكرى الخمسينية لثورة تموز/يوليو ...
- نقاشات فكرية وسياسية مع السيد الدكتور فاضل ألجلبي حول أحداث ...
- نقاشات فكرية وسياسية مع السيد الدكتور فاضل ألجلبي حول أحداث ...
- نقاشات فكرية وسياسية مع الدكتور فاضل ألجلبي حول أحداث العراق ...
- صيدنايا بين وَله الشعراء بها وبين قسوة الدكتاتورية عليها!
- نقاشات فكرية وسياسية مع السيد الدكتور فاضل ألجلبي حول أحداث ...


المزيد.....




- كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب ...
- شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه ...
- الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع ...
- حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق ...
- بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا ...
- وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل ...
- الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا ...
- وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
- مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني ...
- تأثير الشخير على سلوك المراهقين


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - الجلاد والضحية في بلاد الرافدين !