حميد مجيد موسى سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي يحاور صحيفة طريق الشعب الصادرة في بغداد، يوم 8-1 شباط /2004– العدد 26: حوار صريح حول قضايا ملتهبة
حاوره: ابراهيم الحريري
تحققت انجازات لايمكن انكارها، تفتح الطريق، اذا احسن استثمارها، للتطور الديمقراطي اللاحق
حل الجيش عملية لم تراع خصوصيات الوضع العراقي ولا الانتماء الوطني لأكثر العاملين في الجيش
ازالة اسس عودة الدكتاتورية عملية صراع تتحقق بالمشاركة الفاعلة للجماهير وقواها الحية
“الاجتثاث”اصطلاح بغيض نعارضه، فهو ضار سياسيا، لا انساني، ويأخذ البريء بجريرة المذنب
اكثر من مرة تردد امامي هذا السؤال: كيف تنظرون، انتم الشيوعيون الى التطور المقلق للامور، هل ستتدهور؟ هل ستزداد الازمة تعقيدا؟ هل ثمة امل بحلها او بحلحلتها على اقل تقدير؟هل ثمة امل؟ هل ثمة امل؟
اؤلئك الملايين، الذين عاشوا سنوات انعدام الامل يقلقهم ان يروا، وهم يلاحظون تفاقم التناقضات والصراعات، كيف ان جذوة الامل التي اشتعلت في نفوسهم بعد 9 ابريل/ نيسان تذبل او تكاد.
في بالهم الكثير من الاسئلة، هم يؤشرون الى العديد من الاشكالات.. وتتكاثر الحلول، تختلف، تكاد تتضارب احيانا.
وهل يمكن التصور ان حركة الجدل الفائر الذي يشهدها المجتمع منذ 9 نيسان يمكن خنقها؟
لم يكن ثمة بد من التوجه الى سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، الرفيق حميد مجيد موسى، لطرح حالة القلق التي يعيشها الناس امامه، ولاستكناه تصوره وتصور الحزب، توصيفه للازمة ولسبل حلها.
لماذا ابو داود؟ لانه وانا هنا لا اعبر عن انحياز حزبي، بل عن قناعة واعجاب بمنطقه، بهدوئه، وتفاؤله ليس من قبل الشيوعيين واصدقائهم، حسب، بل من قبل بعض من يمكن احتسابهم على المعسكر الاخر، بمختلف تلاوينه، فلطالما نقل لي انهم حين يرد اسم ابو داود في مجالسهم، او حين يرونه متحدثا على شاشة التلفزيون تنفرج اساريرهم ويردد اكثر من واحد: هذا زلمة الزين!
لانه قادر بما يملك من قوة على الاقناع، وهذا ليس رأيي، بل رأي اكثر من سمعوه، ان يبسط من دون اخلال او تسطيح الحركة المعقدة للواقع، وان يشير بقوة الى الضوء في آخر الطريق.
هو طافح، دائما، بالبشر والتفاؤل، ليس ذلك التفاؤل الساذج بل المستند الى حركة الواقع.
هو كذلك، بما هو تجسيد حي او يجهد ان يكون حيا، لفكر الحزب ولممارسته، وهو بذلك، وصفة مجربة ضد اليأس والكآبة.
هو يعرف ذلك.
من هنا عدم ادعائه، ومعرفته لمصدر او مصادر قوته كشيوعي وكقائد.
وهذا مادار معه من حوار في منعطف حاد، تاريخي، حاسم، من تطور العراق.
- تبدوا كالعادة ممتلئاً بشراً وتزداد تفاؤلاً مع ان الوضع يزداد تعقيداً فكيف تفسر ذلك؟
* انها الواقعية، لا اكثر. فحالة مثل الحالة التي نعيشها وانعطافة بمستوى الانعطافة الحاصلة وتغيير بالطريقة التي حصل بها، من السذاجة ان ينظر اليه بانه طريق معبد او مسيرة سلسة وانما هي مملوءة بالاشواك والتعقيدات والعراقيل. ولكن، في كل الاحوال، لايمكن الا الاقتناع، وبالتالي، الاستنتاج، بان النظام السابق قد مات مرة والى الابد. ومهما كانت الاختلافات وتباين وجهات النظر وتقاطع في المواقف فان هناك قناعة بان جديداً يجب ان يحدث وان هذا الجديد يجب ان يكون نقيضاً للنظام الاستبدادي، وان الاسباب التي ادت لتكرار الانظمة الدكتاتورية وتجديد انتاجها يجب ان تزول.
والعام، ايضاً، والمشترك، رغم اختلاف المفاهيم، هو ان هذا الجديد يجب ان يكون ديمقراطياً، يجب ان يحترم ارادة العراقيين، ويؤمن لهم المساواة في الحقوق والواجبات، يجب ان تعلو كلمة ”لعراقية ”فهذا اساسً وحدة العراقيين، سياسة وادارة. يجب ان ينتهي عصر الانتهاكات والاضطهاد والتمييز السياسي بين العراقيين. فلهذه الاعتبارات، مجتمعة، ومن هذا المنطلق، هذا التفاؤل.
فالتفاؤل ليس مجرد عاطفة من حق الانسان ان يتمناها لنفسه ولغيره، وانما، ايضاً، يرتكز ويستند الى حقائق موضوعية، الى اتجاهات عامة، اجتماعية ثابتة منطقياً وعلمياً بعد التغيير الحاصل
- كان من المتوقع، او المفترض ان طريق التغيير بات هيناً، او ان الصعوبات تقل. لكن الملاحظ، من قراءة مسيرة الاشهر الاخيرة، ان المصاعب تتفاقم؟
* صحيح ان الطريق وعر وهذا مرتبط بالطريقة التي تم بها التغيير، فقد حصل عبر حرب ضروس، وعبر احتلال، ولم يحصل بمبادرة او بفعل داخلي. فلعملية التغيير، من هذا النوع استحقاق وردود فعل وابعاد تنعكس على اسلوب حل المشاكل والتحكم بالامور فالقرار الاساسي لازال ليس بيد ابناء البلد. والمشكلة ان هذه الحالة كرستها قرارات دولية جديدة وبالذات القرار 1483 .
لكن رغم اننا نرى على السطح وجود الكثير من المصاعب وتفاقم بعضها، لكن يجب ان لايغيب عنا، ايضاً، ان هناك ايضاً، خطوات وتحولات ذات طابع ايجابي ومهم وذات مدى بعيد في التأثير على مسيرة البلد:
الحرية المتاحة للعمل الحزبي والاعلامي وللتظاهر، تشكيل الاحزاب وهو ما حُرم الشعب العراقي منه لسنوات طويلة وهذا يجب. كما اعتقد- ان يقدر. هذا لايمنع التفكير بالامور الأخرى، فحالة البطالة، مثلاً، ازدادت وتعقدت، وليس هناك حلول جذرية.
ولكن هناك مساعٍ كبيرة للتخفيف من حجم البطالة. فهي، كما اشرت، تفاقمت بسبب انحلال الجيش والقوات المسلحة كذلك مؤسسات واجهزة الامن والمخابرات، فضلاً عن العديد من الدوائر الخاصة، قبل ان يصدر قرار بحلها. والقول بذلك لايعني التخفيف من مسؤولية القرار الصادر بحلها فهو أيضاُ خاطئ ومتسرع ولم يستوعب الظاهرات الجديدة المعقدة.
لكني اقول ان ما نشهده مرتبط بطبيعة التغيير، بالحرب. لذلك، تعطلت العملية الانتاجية، خصوصاً في الصناعة وفي الكثير من مرافق الخدمات.
لم تتح الفرصة، بسبب الاوضاع المضطربة وشحة المال، والارتباك الاداري، لاعادة البناء بسرعة، فنحن بحاجة الى وقت ايضاً.
وقبل كل شئ نحن بحاجة ماسة الى ان تكون الكلمة الاولى في تقرير مصائر البلد، للعراقيين. وعلى هذا الطريق هناك ايجابيات، فقد قطعنا شوطاً وثبتّنا، ”خارطة طريق” بمعنى ما، لتحقيق هذا الهدف. ومهما قيل عن اتفاقية 15/11 التي تؤكد على نقل السلطة الى العراقيين، مهما قيل عنها من ملاحظات، وانتقادات مشروعة، لكن يبقى الجوهري، اننا وضعنا سقفاً زمنياً وخطاً محدداً لكي يكون للعراقيين الكلمة المقررة في ادارة شؤون الدولة. وهذا، في الحقيقة. نجاح للحركة الوطنية، يجب ان لايُبخس، اذا ما قورن بتجارب أخرى، لبلدان أخرى، وفي سوابق تاريخية.
ويمكن ادراك أهمية هذا النجاح اذا نظر اليه في ظل التعقيدات الراهنة.
نعم، ازدادت الجرائم السياسية: التفجيرات بالسيارات المفخخة وقتل الابرياء واغتيال مناضلين. وهنا لانستطيع الا ان نقول ان النقد الموجه للحالة الامنية هو نقد مشروع. فالسياسة الامنية التي اعتمدت، منذ انتهاء الحرب وحتى الان، لم تكن بالسياسة الحكيمة، او بالسياسة العسكرية/الامنية المنسجمة. فالتلكؤ والتباطؤ في اتخاذ أجراءات وقائية وابعاد العراقيين عن الملف الامني لفترة من الزمن، وعدم معرفة خصوصيات العراق وملموسيات الوضع الامني، العراقي، يضاف الى ذلك، عدم حماية الحدود، وهذه مسؤولية خاصة على قوات المحتل (قوات التحالف).
هذه الاسباب، جميعاً، ادت الى تفاقم ظاهرة المفخَّخات، الاعمال الارهابية، التي ترتكب القتل من اجل القتل!
فمن حق الناس، اذن، ان تقلق، وترتعب من حجم الكوارث ومن تكرار الاعمال الاجرامية. لكن نستطيع القول أن هذه الاعمال هي اعمال يائسة ومآلها الفشل لن تحقق، اطلاقاً، نجاحاً سياسياً على المدى الطويل. لكن تأثيراتها مؤقتة فهي لا تعمل على زرع اليأس في نفوس الناس في طموحهم المشروع لاستقرار عاجل ولتحقيق الامان ولعودة الاوضاع الطبيعية.
هذه الاعمال التخريبية، مضافاًُ لها، اعمال تخريبية على الصعيد الاقتصادي، الخدماتي، مستغلة كل التشوهات التي خلفتها الانظمة الاستبدادية وخصوصاً النظام الدكتاتوري الفاشي الاخير. هي - اي القوى المعادية للتغيير الديمقراطي- تستغلها وتسعى لادامتها فتخلق حالة من النهب والسلب والفوضى والتخريب، وسوء الخدمات والرشوة والفساد الاداري، كل هذا، تكشف، في لحظة واحدة، ليقدم للمواطن نموذجاً مؤذياً لايدعو للطمأنينة، بل للقلق.
وهذا الوضع يرتب على الجميع، الاحزاب والقوى الوطنية والاسلامية داخل مجلس الحكم وخارجه، كما يرتب على قوات الاحتلال بحكم مسؤوليتها وفق اتفاقيات جنيف، وبحكم مسؤوليتها بموجب القرار رقم 1483 ، اتخاذ اجراءات وتدابير عاجلة، على جميع الاصعدة، مدروسة، مقبولة من الشعب، بل وبمساهمة المعنيين من ابناء الشعب، كي نصل الى تحول في المزاج الجماهيري ، في الوضع الامني. واعتقد اننا كحزب كقوى واحزاب سياسية معنية، ساهمنا بشكل مستقل، او عبر مجلس الحكم وفي نشاطاتنا مع القوى والاحزاب الاخرى في الهيئات التنسيقية وفي النشاطات المشتركة او عبر الاعلام في توضيح معالم هذا الطريق الذي من شأن اعتماده ان يحول البلد الى حالة آمنة تقلص وتقلل من هذه المصاعب وتفتح الطريق لعملية اعادة بناء واعمار مستقرة، ثابتة، مردودها ايجابي على مشاعر الناس، وعلى امنهم ومعيشتهم، وممارستهم لحرياتهم.
- ورد في الحديث انه يجري العمل على ازالة، او زالت اسس عودة الدكتاتورية الفاشية، فهل تعتقدون انها زالت تماما حقاً؟
* نحن في صراع الان، وهذا احد الاسباب الجوهرية للتوتر في المجتمع العراقي، بين قوى تضررت من التغيير، بحكم ما كانت عليه من تسلط وجاه ونفوذ. بين قوى تخشى الجديد. مهما كان الجديد، تخشى من المساءلة، من المحاسبة عما اقترفت من جرائم كثيرة. وبين قوى، تطرح نفسها ايضاً كبديل من اجل تحقيق التغيير الديمقراطي.
انها- أي القوى الاولى-تخشى الديمقراطية، وانا هنا اتحدث عن تحالف غير نزيه، بين رجالات النظام المقبور وعتاة المجرمين الطامحين الى اشاعة القلق والارتباك، بهدف اعادة النظام الاستبدادي واذا لم يكن ذلك ممكناً، فعلى الاقل ان يكون لهذه القوى كلمة مؤثرة في تقرير مصائر البلد تدفع عنهم "شرّ"! المساءلة والتحقيق في ما ارتكبوه، انضافت اليها قوى اصولية متطرفة قروسطوية لاترى أي مشروع حضاري انساني ديمقراطي ملائماً لها.
الصراع. بهذا المعنى، محتدم سياسيَّ، ويتداخل مع انواع من التناقضات الأخرى في المجتمع. ذلك ان الديمقراطية لم تتأصل بعد. وهذا امر مفهوم في مجتمعنا. فالتفكير الديمقراطي والقبول بالاخر واحترام حقوق الانسان، اُنتهكت على مدى تاريخ واسع، طويل، في العراق. لهذا فان ترسيخ ثقافة الديمقراطية وممارستها تحتاج الى صراع فكري صبور وجهد مثابر، كي تجري هذه التحولات، لترسخ مواقع جبهة انصار الديمقراطية، انصار المجتمع المدني والتقدم الحضاري في البلد.
نعم هناك انعطافة ليست لصالح عودة الاستبداد. هناك بداية لاجتثاث اسس عودة الاستبداد، والسياسي، بالذات.
وهذا يتلخص بحرمان من عاشوا خدماً وسنداً للدكتاتورية من فرصة التحكم السياسي، وحرمانهم من ان يكونوا في موقع اتخاذ القرار السياسي. وهذا يفسح – ولاشك- في المجال لخوض صراع افضل من مواقع توازن قوى انسب، ازاء كل طامع في منع او اعاقة المسيرة نحو الديمقراطية والحرية والتقدم.
- هل توقعتم ان تكون مقاومة التغيير على مثل هذا القدر من الضراوة، هل استعددتم بما فيه الكفاية لمواجهة هذا الاحتمال؟
* كل الاحداث التي جرت بعد التغيير اعني بعد نهاية الحرب؛ اتسمت بطابع المفاجآت، ليس بالنسبة للحركة الوطنية فقط، اعني الاحزاب التي ارتضت بالحرب طريقاً وتلك التي رفضت الحرب طريقاً. كانت الامور مفاجئة لكل الناس، وللاميركان وقوى الاحتلال الأخرى، وللعالم، لمؤيدي النظام ولمعارضيه. الامور تتدحرج. احياناً- بطريقة مفاجئة– خصوصاً انك لاتملك زمامها. فالقوى الوطنية لاتتحكم بمسار البلد. كل هذه الاسباب، كل هذه الظروف، تجعل من الصعب جداً وضع مخطط نظري متكامل يغطي حلقات تطور البلد. ولذلك يتطلب ان يكون الانسان حاضراً، مع الوقائع، متفاعلاً مع الاحداث مع رؤيا طبعاً، بعيدة المدى، لانه لايمكن للتعامل اليومي ان يكون حلا لقضية. لكن اذا تم التعامل في اطار منظور عام للتطور اللاحق للبلد، فانه يمكن ان يحقق نتائج.
لكن لعلي اضيف خبرة معينة ملموسة. فنحن الذين عشنا الاحداث بعد انتفاضة اذار 1991 المجيدة، وتعايشنا مع احداث كردستان التي عاشت بعيدة عن هيمنة الدكتاتورية، اعني بحالة من الاستقلال النسبي عن الادارة المركزية، شاهدنا الكثير والكثير. فطوال سنتين تقريباً، بعد الانتفاضة وبعد انسحاب السلطة مهزومة، مرعوبة، لكن متقصدة من المنطقة، عشنا- ايضاً- حالة من الفوضى والارتباك حالة من الفلتان الامني، رغم ما بذلته الجبهة الكردستانية، من جهود مثابرة لارساء الاستقرار.
ينبغي ذكر انه كانت هناك مؤشرات واضحة تدل على نهاية سريعة للحالة، ووضوح للطريق، اعقبه بعد سنتين. انتخابات وبرلمان الخ فحكومة، مع كل الانتقادات والملاحظات، وضعت نهاية للفوضى السائبة، وللارتباك.
صحيح انه حدث في فترة لاحقة اقتتال بين الاخوة لكن هذا موضوع اخر.
الذي عاش تلك التجربة لايصدم كثيراً، لما يجري الان. بل يراه كأنما هو من طبيعة الامور، ليس استمراءًً له ورغبة في بقائه، وانما لفهمه في اطار الواقع.
طبيعة الصراع عنيفة، محتدمة: ثمة قوى ترى نهايتها التأريخية، ترى موتها سياسياً، وقوى أخرى تريد أن تبني الجديد.انه صراع معقد.
- تمت الاشارة، خلال الحديث، الى تقصير قوات الاحتلال في توفير الامن وهو ما ساهم في تفاقم الجرائم السياسية. لاشك ان هناك اسباباً أخرى سياسية وأقتصادية...الخ صحيح ان الجيش انحل، لكن صدور القرار بحل الجيش وسع من قاعدة التذمر. كذلك فيما يتعلق بقرار "الاجتثاث" هو قرار ملتبس، بالحد الادنى، ودفع قوى معينة. احست انها مستهدفة، للالتحاق بمعسكر العدو. لم يجر كما يبدو التعامل مع هذا الموضوع الحساس بشكل مرن أي: عزل القوى الاكثر عداءً للتغيير وتحييد قوى اخرى، واستمالة قسم ثالث. اعني ان هناك اجراءات سياسية وليست امنية فقط، لعبت دوراً في تعقيد الوضع.
واجد من الضروري ان انقل ما اسمعه احياناً هنا وهناك: اسمع حديثاً يشير او يلمح الى ان الحزب الشيوعي العراقي لم يقاوم بعض الاجراءات السياسية الخاطئة، بما فيه الكفاية.
* صحيح ان للاوضاع المتردية اسباباً كثيرة، فهي لايمكن أن تختزل بالجانب الامني/ العسكري فقط، اذ هناك ابعاد اقتصادية أجتماعية. وبدون حلول من هذا النوع يستحيل على الاجراءات العسكرية/ الامنية/ السياسية العامة ان تتكفل، لحالها، بمعالجة وضع مجتمع كالمجتمع العراقي في حالته المتحولة الحالية.
فالعمل من اجل اتخاذ اجراءات متكاملة، او حزمة متكاملة من القرارات على مختلف الاصعدة كان دائماً هو مسعى وهدف النشاط السياسي للحزب الشيوعي العراقي.
اما ان هذه القرارات لم تتحقق فهذا مردّه توازنات القوى الموجودة في البلد والاوضاع المعقدة التي لايملك الحزب المفتاح السحري لتحقيقها. لكن ذلك لم يفتّ في عضد الحزب ولم تضعف من مواصلة المطالبة بتحقيقها. فلو تصفحنا "طريق الشعب"، صحيفة الحزب، لرأيناها طافحة بالاخبار والتعليقات والمعالجات التي من شأنها أن تضع تصوراً متكاملاً او شبه متكامل لوجهات نظر الحزب لحل الازمة العراقية الراهنة.
لا أدعي اننا بلغنا. في هذا المجال، الكمال، فقد يكون هناك قصور في التصور، ولااريد ان اسحب الحق من الناقدين فهم، ولاشك، حريصون على الحزب، واهلاً وسهلاً بكل رأي من شأنه ان يساعد الحزب على تلمس حالة او حقيقة او رأي لم يستطع الحزب وقيادته التوصل اليه من اجل تحسين الاوضاع.
نحن لاندعي العصمة ولا المعرفة الشاملة للحقيقة. لكن تركيزنا على الامن والاجراءات الامنية، ينطلق من نظرة واقعية علمية تقضي انك اذا اردت ان تحل أي مشكلة، فلا تتوقع انها ستحل مرة واحدة، وبكل جوانبها وتفاصيلها. لابد من ان تختار حلقة اولى وان تثبت اولويات.
حل القضايا الاقتصادية/ الاجتماعية يتطلب وقتاً، ومستلزمات كثيرة. لكن الناس على عجلة من امرهم، ولابد من الاستفادة مما تحقق، ويعيق ذلك الحالة السياسية المتردية او الامنية المتردية. وبالتالي فأن اولوية نشاطنا تبدأ بما هو يمكن ان يكون متيسرا، طوع البنان ويمكن تحقيقه بسرعة وهو توفير الاجراءات الامنية عسكرية/ سياسية عامة، تفتح الطريق لمعالجات اقتصادية واجتماعية مطلوبة يمكن، بدورها، ان تسهم في تعزيز الوضع الامني.
لقد قدمنا، بهذا الصدد، تصورات ومشاريع كاملة، قابلة للتحقيق.
لكن انفراد القوات الاجنبية، قوات التحالف/ الاحتلال من الدول المشاركة بالمسؤولية العسكرية/ الامنية لايستطيع تأمين الامن الداخلي. هذه حقيقة اصبحت جلية، الان، ثابتة، قلناها في الايام الاولى ونستدل عليها اليوم من خلال المشهد الفعلي الذي نعيشه هل كان بالامكان ان تتخذ إجراءات تزيل، او تحول، تدريجا، الملف الأمني الى أيدي العراقيين؟
أقول نعم.
فالاجراءات التي اتخذتها قوات التحالف هي اجراءات متباطئة، اجراءات ذات طابع أكاديمي، نظري لا تعرف الحالة العراقية ومستلزماتها.
فالابطاء في اعادة بناء الجيش العراقي او أجهزة الشرطة، او الاجهزة الأمنية، وعدم الثقة بالقدرات العراقية وأؤكد هنا على"عدم الثقة" والخشية منها أي من القدرات العراقية" وعدم الاستعانة بالأحزاب السياسية ذات التاريخ النضالي في مقارعة الدكتاتورية ومن اجل الديمقراطية، التي تملك تجربة عسكرية، أيضا، وأمنية فضلا عن السياسية كل هذا ساعد على تدهور الوضع الأمني .
واود هنا التأكيد اننا لسنا من الجهات التي تشجع المليشيات بمعنى اننا لا ندعو الى احزاب وكتل مليشياوية، وانما اردنا ان يكون لها دور في بناء المؤسسات العسكرية والأمنية الموحدة تخدم الوطن والشعب لا حركة او حزباً معينا.
ان عدم الاستعانة بالمؤسسة العسكرية وبخبرتها وبمنتسبيها وبطاقاتها، اضعف حالة تكوين قوات وطنية عراقية.
كان لهذه التدابير مجتمعة، ايضا، ان تكون عاملاً في تعطيل اجراء فرز صحي داخل القوات المسلحة، اذ كان ـ ومايزال ـ ممكنا الاعتماد على الوطنيين داخل القوات المسلحة، الناس الشرفاء، وهم كثر، البعيدين عن ممارسة الجرائم التي ارتكبتها الدكتاتورية
اجل.اريد ان اشدد انه كان وما يزال هناك الكثير من الشرفاء في القوات المسلحة وكان ـ وما يزال ممكناً ـ الاستعانة بهم لاعادة بناء الجيش.
هؤلاء ليسوا صنيعة صدام، وحتى اؤلئك الذين أضطروا الى الانتساب الى حزب السلطة مكرهين مجبرين، توقياً لـ " للشر" " يتجفون الشر" لم يكونوا مقتنعين ولا مؤيدين لجرائم النظام ولسياساته الحمقاء.
كان ضرورياً اجراء هذه العملية من الفرز الصحي، لو اديرت بكفاءة عالية للاستفادة من هذه الطاقات، اولا، وأيضا، وهذا ليس اقل أهمية من وجهة النظر السياسية والانسانية، للتمييز، كي لا يروح الأخضر بسعر اليابس.
لقد قلنا وأكدنا ـ دائماـ اننا ضد سياسة العقوبات الجماعية فهي ضد مبادئنا وضد شرعة وقوانين الأمم المتحدة وقوانين واتفاقيات حقوق الانسان.
التمييز، اذن، ضروري، وقد بدأ حزبنا واطراف كثيرة في الحركة الوطنية، قبل الحرب بسنوات طويلة و اذاـ على الاقل ـ استشهدت بوثائق حزبنا، نرى انه، منذ المؤتمر الخامس، كانت هناك أطروحة متكاملة مفادها، انه يوجد داخل حزب السلطة تمايز يجب ان يستثمر، وعدم رضا يجب ان يستقطب لصالح النضال من اجل اسقاط الدكتاتورية وبناء البديل الديمقراطي. وانه يجب عدم التعامل مع الجميع على أساس انهم صداميون ومجرمون أعداء للوطن.
كنا ومازلنا نتمنى ان تفهم عملية "الاجتثاث "(واريد هنا ان اؤكد ان هذه الكلمة "اجتثاث"، هي بالنسبة لي ولحزبنا كلمة قبيحة) كما يجب، ليس باعتبارها عقاباً جماعيا أعمى. لقد حاولنا ان يكون هناك بدائل اكثر دقة، اكثر انسانية، وأكثر تعبيراً عن حاجات الواقع وتعقيداته بمعنى ان نقول " ازالة اثار النظام السابق الفاشي" فهذا تعبير أفضل وأصح، وهو أي هذا التوصيف لا يخفف من المسؤولية الجرمية السياسية الفكرية التنظيمية والمسؤولية عن الحروب التي اشعلها النظام السابق وازلامه.
فهناك مجرمو حرب بالتأكيد لكن لابد من التمييز بين الجلاد والبريء، فلا يمكن قانوناً وعرفاً وانسانياً، أخذ البريء بجريرة المذنب، ومرة أخرى اؤكد، ان ذلك لايعني التساهل او الدعوة الى التساهل ـ اطلاقا، مع مرتكبي الجرائم لكن يجب اعطاء فرصة لمن تورطوا ـ من الأبرياء ممن لم يسيئوا الى الشعب، فلا يمكن وضع الجميع في خانة واحدة وصف واحد.
وحتى اؤلئك الذين انخرطوا في حزب السلطة عن قناعة، ولم يرتكبوا جرائم، ينبغي اعطاؤهم فرصة اعادة النظر في تجربتهم وتجربة حزبهم وسلطته ـ وهي لم تكن بحال سلطة الحزب بل سلطة الفردـ والى اين قادهم وقاد "حزبهم" النهج المدمر السابق.
لقد أوضحنا موقفنا هذا قبل الحرب، قبل التغيير.
وتشتد الحاجة الى تأكيدها بعد التغيير. وهناك احساس ـ الان ـ يقتضي الانصاف ان نشير اليه ، بأن الامر ـ أي التطبيق العملي لاصطلاح " الاجتثاث" البغيض ، لايعني كل من انتسب الى حزب البعث، لهذا جرى في الكثير من القرارات، تمييز الهيئات القيادية عن جمهرة الاعضاء. بل أنه لم يتخذ اجراء عقابي حتى ضد كل اعضاء الهيئات القيادية، الا ضد اؤلئك الذين عرف عنهم، مساهمتهم في التصفيات الدموية، والانخراط في الجرائم ضد المواطنين استناداً لرأي الناس ولماهو معروف عن مواقفهم، وترك لهم حق الاعتراض، لقد ارتكب بعض منهم، وكانوا في درجة أدنى في التسلسل الحزبي، من الجرائم القذرة وجرائم دموية لم يرتكبها كثيرون من الـ "35" الف بعثي، أعضاء الهيئات القيادية الذين شملهم قرار العزل والاجتثاث.
ويمكن في الظروف المعقدة الحالية ان تكون هناك اجتهادات ووجهات نظر متباينة بصدد هذه المسألة لكنني اعتقد ان الأخطاء المحدودة في ممارسة قرار العزل يـمكن معالجتها، بل ينبغي معالجتها وفق الضوابط القانونية وألانسانية.
- لكنه ترتب على هذه الأخطاء نتائج سلبية أدت الى دفع كثيرين، ممن كان يمكن تجميدهم وتحييدهم دفعهم الى معسكر الخصم او الخصوم فكيف سيعالجون ذلك؟.
* هذا يتطلب مجهوداً سياسياً من الجميع، وأعتقد ان هناك ادراك لذلك فلو رجعنا الى مجلس الحكم، كمؤسسة عراقية وطنية ذات مسؤولية، فان موقف التمييز، أي عدم الخلط بين المذنب والبريء، يكتسب قوة ويتعزز، وهناك لجان في الوزارات للفرز.
وهناك قرارات تتعلق بموظفي الدوائر المنحلة، تنطلق من هذه الحقيقة، أي حقيقة التمييز بين عضو وعضو، بين مسؤول و مسؤول.
هذه العملية جارية لكن يبدو انها لاتأخذ حقها الكافي من التوضيح والشرح، ويجري استغلال النقص في الشرح والتوضيح من قبل المتربصين او المعادين او المخربين، او من قبلهم جميعا، لخلق، ولتأجيج حالة من عدم الرضا وعدم التوافق في داخل المجتمع.