ويليام ويصا باريس
الحوار المتمدن-العدد: 2367 - 2008 / 8 / 8 - 02:58
المحور:
الطب , والعلوم
الدكتورة ليلي فريد طبيبة مصرية هاجرت بمجرد تخرجها في كلية الطب جامعة القاهرة إلي بريطانيا حيث تعمل في تخصص فحص الخلايا للكشف المبكر عن السرطان. ولكن عملها كطبيبة لم يبعدها عن موهبتها الحقيقية وهي الأدب والكتابة. صدر لها مؤخرا كتاب الروح مصرية: لمحات لمصرية مهاجرة (دار الحضارة للنشر) يتضمن باقة من التأملات تصحبنا فيها في مهارة شديدة من عطاء نجيب محفوظ إلي أحوال الوطن وشجونه.
تتحدث عن نجيب محفوظ الذي كان بسلوكه وقلمه علي السواء, نموذجا للمصري المتحضر المستنير والموهبة الإبداعية الخلاقة والفكر الفلسفي العميق, تتأمل في عقد اللآلئ الذي قدمه للأدب العربي, تتوقف عند قبوله للآخر وإدانته للإرهاب في زمن عز فيه ذلك علي كثير من الكتاب والأدباء والمثقفين الذين خافوا من سطوته. وتغفر ليلي فريد لمحفوظ اشتراطه الحصول علي موافقة الأزهر لناشر كتابه أولاد حارتنا , لأنه دفع ثمنا غاليا لمسيرته التنويرية, وتري أن حياته كانت مصالحة كاملة بين المبادئ والأفعال. وتتساءل عما قدم الخلف؟ كم دافع عن حرية الرأي والعقيدة؟ وترصد في ألم كيف عشنا حتي نري في معرض الكتاب إصدارات تصول وتجول في عالم الجن والعفاريت وتحقير العقائد المختلفة.
في القسم الثاني تحاول استرجاع عطر الأحباب أمثال يحي حقي الذين خلفوا برحيلهم عالما أقل جمالا وثراء. منهم الصحفي مثل حسني جندي وعادل كامل, ورائد العمل الأهلي مثل عادل أبو زهرة, والفنان مثل موريس فريد وإسحاق فانوس رائد فن الأيقونات القبطية المعاصر - الذي استطاع أن يطور أسلوب عمل الأيقونة ولم يبخل بأسرار عبقريته علي الجيل الجديد - وتقول إن التاريخ سوف يحتفظ باسمه إلي جانب راغب مفتاح حافظ الموسيقي والألحان القبطية, ومرقس سميكة مؤسس المتحف المصري, وعزيز سوريال راعي الموسوعة القبطية وإيريس حبيب المصري مؤرخة الكنيسة, ورائد علم أمراض النساء والولادة في مصر الدكتور نجيب محفوظ الذي كان موضعا لتكريم المحافل العلمية الدولية, وغيرهم من العلمانيين العظام الذين لعبوا أدوارا مرحلية في تخليد التراث القبطي الباهر.
وتتوقف عند رحيل الأديب مثل يوسف جوهر الذي لم يحظ رحيله بالاهتمام الكافي, والفارس الذي دخل إلي عالم التمثيل مثل أحمد مظهر والرياضي كصالح سليم وفنانة السينما كسعاد حسني, وتحاول أن تتصور اللحظات الأخيرة لهذه الفنانة العظيمة التي قدمت عطاء كبيرا للفن السينمائي في مصر وكيف تضافرت عدة عوامل علي استكمال أبعاد مأساتها في الغربة من تكالب الأمراض وتبدد الثروة وانفضاض المعجبين, فكان السقوط من قمة الجبل أشد قسوة من التدحرج قرب السفح.
القسم الثالث وهو الذي سوف أكتفي بالتوقف عنده مطولا يتناول قيم ومعتقدات اليوم, تأخذنا فيه ليلي فريد من عودة الشباب الغربي إلي التدين حتي ظهور إرهابيين أطباء.
تتأمل عودة الكثير من الشباب في الغرب إلي التدين, يمارس طقوسا من العبادة ليست نمطية ولا يلتزم حرفيا بمبادئ أي من الطوائف المسيحية, شباب متعطش للروحانيات, قرأ وبحث في كل الأديان والفلسفات ثم فصل علي المقاس الذي يناسب عصره نوعا من المسيحية لا يزال مركزها الإنجيل وأوجد لنفسه نمطا من المسيحية العصرية.
ولا تري في هذا التدين عودة إلي الوراء لأن هذا الشباب لن يسمح مع ذلك أن يحل الدين محل الدستور والقانون والتشريعات, فالدين في عصرهم هو سند روحي لدولة علمانية, ولن تكون هناك أبدا دولة دينية أو صكوك غفران أو محاكم تفتيش, ولن يكون هناك تكفير للعلماء وحرق لكتب الفلاسفة ولن يستخدم الدين في خنق حرية التفكير والتعبير أو مصدرا للانغلاق والتعصب, بل للانفتاح علي العالم وقبول الآخر.
وتنتقل إلي مأساة مارجريت حسان الأيرلندية التي قتلها الإرهابيون في العراق بعد أن اختطفوها. تقول ما أتعس اليوم الذي اضطر في المعوزين من أهل العراق للتوسل إلي مختطفيها لإطلاق سراحها. وتتساءل هل لانت قلوب الأشاوس العرب؟ نعم بدليل أنهم أعفوها من احتفالية نحر الذبائح واكتفوا بأن يطلقوا عليها رصاصة الرحمة.
وتتساءل أين نحن اليوم من قصة الخليفة المعتصم الذي قاد جيشا جرارا وهزم الروم لمجرد أن امرأة استخارت نخوته. وتأخذنا في مقارنة رهيبة مع نذالة البعض اليوم وتحديدا إلي عراق اليوم حيث شهدنا صور نساء لا حول لهن ولا قوة مرتجفات كالعصافير يحيط بهن الرجال العرب الأشاوس مرتدين أقنعة الأبالسة ومصوبين نحوهن أسلحتهن.
وتحاول أن تعرف ما يدور في عقول هؤلاء حتي لا نجن من عدم القدرة علي الفهم. تصورنا أننا فهمنا منطقهم: واحدة تحمل هوية دولة معتدية, وأخري لا تنتمي إلي ملة ليست علي هوي الخاطفين, ومنهن من يعمل في منظمات إنسانية دولية متعاونة مع المحتل, ومنهن من تطوع للعمل في منظمات إنسانية تقدم العون لبشر لا يستحقون!! ولكن لماذا مارجريت حسان التي حملت الجنسية العراقية وتحولت للإسلام بعد أن تزوجت عراقيا وعاشت في العراق ثلاثين عاما تمديد العون للمعوزين والمرضي من أهل العراق ولم تؤيد الغزو يوما ولم تعاون الغزاة؟
تتساءل ليلي فريد لو افترضنا أن هذه الأعمال البربرية لا تحدث إلا من قلة, ماذا حدث للملايين من رجال العرب, ولماذا خرست الألسن وجفت الأقلام؟ لماذا لم نسمع قصيدة عصماء تدين النذالة الخسة وقتل النساء؟ وتطالب الذين كلفوا بتعديل الناهج أن يتمهلوا قبل أن يحشوها بقصص عن نجدة وشهامة ومرؤة رجالات العرب.
وتصحبنا بعد ذلك فورا للحديث عمن تسميهم إرهابيو الغضب وتقول كل من يسأل نفسه اليوم حول سبب جرائم الإرهاب البشعة, فإن الإجابة مهما لفت ودارت , شرقت أو غربت, لابد وأن تعزو هذه البربرية إلي الغضب بسبب ما يجري في... وفي... وفي.. وتري أن العالم, بما فيه المعتدلين, وحتي السياسيين والإعلاميين في الدول التي طالتها يد الإرهاب, يرددون كالببغاء المقولة نفسها. حتي أن كلمة الغضب أصبحت هي الشماعة التي يعلق عليها القتل العشوائي: قتل النفس وقتل الآخر. أصبحت هي العذر والمبرر, لا يهم انعدام علاقة الضحايا بمسببات الظلم المزعوم, المهم هو التنفيس عن الغضب, وكأن التراث الإنساني الأخلاقي الطويل الهادف إلي كبح جماح المشاعر البدائية وتهذيبها وعدم الانقياد لها قد ألغي, فأصبح الغضب مبررا لارتكاب أبشع المجازر.
وتقول إن التسليم بوجود رابطة بين الأعمال الهمجية التي يمارسها الإرهاب وبين تراجيديا إنسانية بكل معني الكلمة كمأساة الشعب الفلسطيني لهو إهانة وتجريح لآلام ومعاناة هذا الشعب المعذب, لأن قضيته العادلة كانت وما زالت ترهق ضمائر ملايين من البشر في كافة أنحاء العالم, ولو كان المتاجرون والإرهابيون والانتهازيون رفعوا أيديهم عنها فلربما كانت ضغوط الضمير العالمي نجحت في حلها منذ سنوات وسنوات.
وتحت عنوان مرحي مرحي أطباء وقتلة , تتوقف عند آخر ما تمخض عنه العقل الإرهابي الشيطاني وهو تجنيد الأطباء, شبكة جهنمية مؤلفة من العاملين في المجال الصحي ممتدة من أستراليا إلي أمريكا وبريطانيا, اتضحت معالمها بعد محاولات التفجير في لندن وجلاسجو. وتتساءل كيف يمكن أن نتخيل أن حافظ الحياة هو مدمرها, المنقذ من الموت هو المتسبب فيه, أن شافي الجراح هو الساعي إلي حرق الأجساد وتمزيق الأوصال؟
إن هؤلاء الأطباء لم يتمثلوا بأطباء عظام مثل مجدي يعقوب ومحمد غنيم, ويبدو أنهم لم يسمعوا عن أيقونات الطب مثل نجيب محفوظ وعلي إبراهيم. وتخلص إلي أنه من الواضح أن تأثير الدكتور أيمن الظواهري وأشباهه كان أعظم من تأثير كل هؤلاء مجتمعين.
وتتوقف تحت عنوان لك الله يا مصر عند مظاهر تردي التعليم والصحة والاقتصاد وسيادة القانون وإعمال العقل والمنطق وتفشي الكراهية والتعصب والانحدار الأخلاقي. والنتيجة: كل ما هو سئ وقبيح وخاطئ يزداد ويتعاظم ويتوالد وينتشر انتشار سرطان خبيث يتغلغل في كل خلية ونسيج. تنظر حولك فتجد صورة عبثية ليس لها نظير, في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا كيف تدار الأعمال ويقضي الناس حوائجهم فيما يلقب بالمستشفيات والمدارس والجامعات, وما يصب في العقول من شعوذة وهلاوس سمعية وبصرية. وتتساءل كيف يوصف سلوك قسم كبير من المصريين الآن؟ بالهوس؟! بالخلل؟! هذيان؟! خبل؟! سمه ما شئت فلن تجافي الحقيقة.
وتتساءل هل يوجد علي ظهر البسيطة مكان آخر تتم فيه المتاجرة بالدين بهذه الجرأة والصفاقة؟! الأديان المقدسة أصبحت مطية للسياسي ليقفز للكرسي ولرجل الأعمال ليمرر صفقات مشبوهة, وللكتاب والصحفيين ليروجوا كتاباتهم الهزيلة. صارت أضمن وسيلة للشهرة والثراء لدي الجميع ابتداء من دعاة الفضائيات والنوادي ومرورا بأصحاب دور الأزياء وصالونات التجميل وانتهاء بالممثلات والراقصات.
تحية إلي ليلي فريد علي هذه التأملات المثرية التي تهزز وجداننا, وتعيدنا كلماتها في حنين عميق إلي جيل العمالقة, إلي زمن كان الناس يحبون فيه وطنهم بلا زيف, إلي زمن لم تكن فيه كراهية الآخر هي العملة المتداولة.
#ويليام_ويصا__باريس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟