كتب جان جاك روسو " السلطة الأكثر شمولا وقمعا ، هي التي تتغلغل حتى داخل الإنسان وتمارس القسر على إرادته و أفعاله"
ونقول أن السلطة الأكثر ذكاءا هي التي تجبر معارضيها على محاورتها .
الديمقراطية كنظام ، والمواطنة كحالة ووضع ، والمشاركة كفعالية ، مفاهيم ثلاثة مرتبطة بشكل حميمي وعميق. الثلاثية تطرح إشكاليات جدية وذات دلالة بالغة ، فإما تترجم وتتضح من جهة، أو تزيد من التعتيم على الفكرة التي نبحث عنها" المشاركة"، أو تحدث انشقاقا معرفيا وأيديولوجيا هاما على حد تعبير Georges Lavau في كتابه الديمقراطية .
بين الديمقراطية والمواطنة علاقة داخلية ، ووفقا لكليهما ، المبدأ الذي يقود أو يرشد الديمقراطية هو المواطنة ، ويتضمن في نفس الوقت القانون والحقوق لكل كائن إنساني أن يعامل من قبل الآخرين بالمساواة والعدل ، وخاصة فيما يتعلق بالتجمعات والخيارات الجماعية ، و إجبار الحكام أن يكونوا مسؤولين أمام كل أفراد المجتمع السياسي . دون أدنى شك إن نماذج و إجراءات ومناهج المواطنة لدينا تطبق وتستخدم في المؤسسات السياسية بطريقة تكاد تكون من إرث القروسطية ، وهي محاصرة بمبادئ عمل و إدارة متعفنة " الخضوع القهري للعادات الاجتماعية ، الحكم البيروقراطي الفشل الإداري ، والاستبداد" ، أو أنها اتسعت لتستوعب الأشخاص أو الجماعات الذين ليس لهم أي حق في ممارسة فعل سياسي أو غيره بشكل قانوني .
والسؤال الآن ، هل جميع الأفعال الجماعية تعتبر كمشاركة ؟ يأتي الجواب مباشرة بلا . فيمكن أن تشارك الناس بالوقوف أمام مجمع للأغذية للحصول على سلعة ما ، ويمكن أن نشارك مع فرقة الإنشاد الديني ، و إذا شارك البعض مع مجموعة من اللصوص في سرقة بنك أو شعب أو دولة لا يمكن أن نسمي هذا مشاركة سياسية .
ثلاثة تعاريف أساسية يمكن تقديمها هنا للمشاركة السياسية :
1- بالمعنى الضيق : حيث كل الأفعال والنشاطات تكون مرخصة ، على أن تكون ضمن نشاطات الحكومة أو النظام السياسي القائم .
2- بالمعني الواسع : تكون الأفعال هنا منظمة وخارج عمل ووظيفة الحكومة ، لكنها تنتظر موافقة وقبول السلطة .
3- بالمعنى الأوسع : من خلال جميع الأفعال والنشاطات والمشاركات مهما كان هدفها ، على الحكومة أن تستجيب لها.
يميل الكثير من علماء السياسة إلى المعنى الثالث ، مع بعض القيود والتي يلجأ إليها لاستبعاد النشاطات ذات الطابع العنفي أو اللاإنساني . وهذا ما ندعوه بالمشاركة المتدفقة والمتفاعلة بشكل قانوني مع المجتمع والتي تجبر النظام السياسي على الانخراط في المشاركة أو الحوار ، وليس العكس كما يعد له الآن في سورية. وضمن هذا المعنى ، مشكلتان أساسيتان لا بد من علاجهما في موضوع المشاركة السياسية للمواطنين :
الأولى : وتتعلق بالتقويم والحكم على المشاركة ، وهذا ما يفضي بدوره إلى إيضاح عدة نقاط :
- ما هي مساحة و امتداد المشاركة ، أو بمعنى آخر ، أبعاد المشاركة من قبل الجماعات السياسية ؟
لا يوجد نهائيا أية مشاركة بلا قيود ، حيث يوجد استبعاد قانوني أو عملي ، كما يعبر عن ذلك Huntington Samuel political participation in Developing countries”
و الخلاف بين الاستبعاد ين ، أن القانوني يكون دائما " خارجيا " مفروض بواسطة القانون ، والعملي يكون استبعادا " داخليا " أكثر مما هو خارجي ، بمعنى أنه ينتج عن سياق أو صيرورة مختلطة من الاستبعاد ين . وهذا ما يفرزه الجهل السياسي والمعرفي أو عدم الأهلية السياسية ، أو يكون ناتج عن مشاعر شكوكية أرتيابية تجاه نظام سياسي فاسد أو هالك .
- ما هي النماذج المختلفة للمشاركة ، و أية معان يمكن أن توصفها ؟
وهنا لا بد من تفريق أو تمييز بين المشاركة كسياق موجهة نحو نهاية ما ، لها إنتاج واضح ، وبين المشاركة كعلاقة بين الفاعلين. فالمشاركة " كسياق" يمكن أن تقود إلى قرار يلامس الجوهر " جوهر السلطة ذاتها " . أما المشاركة " كفعل" لا تحدث أو تشكل قرارا بشكل أوتوماتيكي ، ومثال ذلك ، أن يسمح لك بالانتخاب ولكن الممثل السياسي لك هو ما من يتخذ القرار الذي يراه هو صحيح .
- ما هي المجالات التي يجب أن تفتح أمام المشاركة السياسية ؟
نعود هنا إلى مفهوم " الحياة العامة " حيث تدار المصالح بكونها مشتركة بين الجميع . ولكن هذا المفهوم الذي يشكل جزءا من النظريات السياسية السائدة لا يمكن رؤيته إلا في العالم المتمدن حيث تكون المفاهيم الديمقراطية جوهرا لا عارضا . والدور التطهيري أو التعقيمي للدولة يكون محاصرا بالمجتمع المدني ، واستقلالية القانون مؤمنة .
إن مسألة الحدود " الطبيعية " أو الضرورية " لمجالات المشاركة هي قديمة جدا في دولتنا ، وتارة تكون باسم " حرفية السياسة " و أخرى باسم القمع والاستبداد والاستعباد .
المفاهيم القديمة للمشاركة لا بد من تدميرها ، ليحل مكانها الأفكار الجديدة التي تبعد الدولة عن التدخل في مجالات عدة أهمها ، الفرد والعائلة والمجتمع ، ويكون أساسها المواطنة ، وذلك من خلال الصراع لاجل التغيير " لا الانقياد " ، تغيير العلاقات الاجتماعية . ووضع قواعد لعلاقات منظورة لا ضبابية ، ثم العمل لصناعة مفردات سياسية جديدة .
الثانية :
إن مقاييس نظام سياسي ما يمكن تحديدها من خلال حدة أو كثافة أو قيمة المشاركة ، كأن تكون التعددية الحزبية ضد سياسية الحزب الواحد ، حرية الصحافة في مواجهة الرقابة ، الديمقراطية الثقافية في مواجهة النخب ، رقابة البوليس على حماية أمن المواطنين ، مجتمع حرية الفرد بدلا من مجتمع الفوضى والعادات والتقاليد ، مجتمع العادات " الشفهية " في مواجهة عادات
"النص" .
المشاركة السياسية يجب أن تتحلى بخصوصية أو موقع خاص في حياة المجتمعات ، وذلك من خلال ربطها بشكل قانوني بنظرية ديمقراطية . كما على المحاورين الجدد أو الساعين لاقتسام السلطة ، وليس بالضرورة السلطة السياسية ، ويمكن أن تكون كذلك ، أو سلطة المعارضة ، أن يفهموا جيدا ماهية العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تعاقبت على التاريخ والتي أحدثت عمقا وكثافة ومن ثم شرعنت المشاركة .
وكما قلنا سابقا ، المشاركة علاقة بين الفاعلين المتساوين في الحقوق والواجبات ، حيث الحصول على الحقوق أولا ، ومن ثم الدخول في الحوار ، وليس الدخول في الحوار للحصول على الحقوق .