|
الفضائيات والتلوُّث العقلي
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2364 - 2008 / 8 / 5 - 09:30
المحور:
الصحافة والاعلام
يدقُّ العالمُ ناقوسَ الخطر إذا ارتفعت أسعارُ البترول والغاز، ويرتفع صُراخ التُجَّار حين ترتفع أسعار المواد الغذائية ، ويكتئب الموسرون حين تُصاب البورصات بانخفاض الضغظ ، ويُعلنُ الفقراءُ الحداد حين تقفز أسعار الخبز ! ويتشاءم وزراء الاقتصاد حين تظهر إحصاءات بالعجز المالي المتوقع للأعوام التالية ، وتُكتب المقالات عن التدهور الاقتصادي ، وكيفية مواجهته ، ويشرع المحللون الاقتصاديون في وضع التحليلات والتوقعات للمستقبل الآتي . وتبدأ المؤسسات المختصة في وضع البرامج لمواجهة الأزمة الاقتصادية القادمة ، فينتشر مراقبو الأسعار في الأسواق لتطبيق القرارات والقوانين . أما في مجال البيئة ، فقد ظهرت جمعيات ومؤسسات عديدة في العالم تُلاحق المعاملَ والمصانعَ التي تُلوِّث البيئة ، وتُقيم الدعاوى القضائية على الدول التي لا تلتزم بقوانين حماية البيئة من التلوث ، حتى نجحت في وضع صيغة اتفاق كيوتو للتقليل من الاحتباس الحراري الناجم عن المصانع التي تلوث الهواء. وفي الوقت نفسه فإن الغالبية العظمى من الناس في عالمنا ، لا يكترثون حين ترتفعُ أسعار الكتب والمطبوعات ، ولا يأبهون بانصراف الناس عن شراء الكتب الثقافية ، ولا يجدون تفسيرا لعدم وجود الكتب الثقافية المترجمة ، وبقاء الحواجز في وجه الكتب الثقافية ، على الرغم من أننا نعيش في عالم مفتوح وسريع ومتلاصق . كما أن أكثر دول العالم لا تكترث بارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة ، ولا يلتفت الكثيرون إلى تأثير ذلك على الثقافة العامة ، وكأن الثقافة من سقط المتاع ! كل هذا ، على الرغم من كثرة وزارات الثقافة والمؤسسات الثقافية الخاصة ، والجمعيات الثقافية والأدبية في دول العالم إلا أنها كلها لم تتمكن من إلزام الدول بتوقيع اتفاقية تقضي بحظر نشر مسببات (التلوث العقلي) على الأقل ! ومن المعروف أن التلوث العقلي مُقدَّمٌ في أهميته حتى على التلوث البيئي ، لأنه أخطر من التلوث البيئي ، ومن مظاهر هذا التلوث العقلي الذي عالجه فيدريكو ماير في كتابه مستقبل الثقافة قبل سنواتٍ قليلة ، انتشار التجهيل والتطرف والعنصريات ، الناتجة عن سياسات بعض الدول في احتكار الثقافة، ودعا الكاتب إلى كسر احتكار الثقافة والتثقيف . وإذا كانت نسبة الإصابة بالتلوث العقلي مرتفعة في كل بلاد العالم ، فإنها توشك أن تصبح وباءً في العالم العربي . ومن أبرز مظاهر التلوث العقلي في العالم العربي ، انتشار ظاهرة الاتجار بالعلوم ، فقد غدت كثيرٌ من الجامعات والمعاهد في العالم العربي سوبرماركتات للشهادات ، وأصبحتْ كثيرٌ من المدارس أمكنة لاصطياد الطلاب الموسرين للدروس الخصوصية . وضمرتْ حركة الطباعة والنشر الشعبية المدعومة حكوميا ، وأصبح سعرُ بعض الكتب يعادل مرتب موظف في الشهر . وبخلتْ دولُ غنيةٌ كثيرة على الثقافة ،ولم تُسهم في إحداث مشاريع ثقافية نهضوية، تقوم على بعث التراث الثقافي العربي القديم ، وإعادة نشر الموسوعات وطبعها طبعاتِ رخيصةً ، ولم تلتفت دولٌ كثيرة إلى أهمية الترجمة لإغناء الثقافة العربية ، وقامت بعض الدول بمحاصرة المبدعين الأكفاء في رزقهم ، ولم تحمهم من بعض الجاهلين والمتطرفين ، الذين يحكمون على المبدعين بنواياهم ، وبجملٍ مقتطعةٍ من سياقها الفكري يستخدمونها أدلة اتهام على اتجاهاتهم الفكرية . وأفسحت دولٌ عديدة للمستثمرين ورجال الأعمال ليؤسسوا قنواتٍ فضائيةَ لنشر الجهالات والأباطيل ، فازهرت موجة مشايخ الفضائيات الذين وسعوا مجالات تخصصاتهم لتشمل الأحلام والرغبات الجنسية، وحتى طريقة المشي والنوم والاسترخاء ، وبرع كثيرون منهم في اختراع فتاوى جديدة لم يسبقهم إليها أحد كقطع رؤوس المخالفين لهم بالمناشير الكهربية وغيرها وغيرها . وكثيرٌ من فقهاء الفضائيات مغامرون، لا تنقصهم الثقافة فقط ، بل إن بعضهم موظَّفٌ لتدميرها . وقامت الفضائيات ووسائل الإعلام بتوجيه القارئين إلى أقاصيص الخيالات ، التي تشوّش أفكارَ الأطفال ، وتُسدل عليها طبقةً من الجهالات ، تمنع تسرُّبَ كل أشكال العلوم ، فأصبحت قصص الكاتبة الإنجليزية رولينغ أشهر القصص في العالم وهي سلسلة (هاري بوتر ) الموغلة في السحر الأسود، والتي بلغ عدد ما طبع منها أكثر من مليار نسخة ! واقتفتْ الكاتبة ستيفني ماير خُطى رولينج فألفت مسلسلا من الروايات أكثر رعبا من هاري بوتر، فقد اختصتْ في الكتابة عن مصاصي الدماء ، وألبستهم ثوب الفضيلة ، حين جعلتْ لهم عشيقات يعشقنهم في أحدث رواياتها 2008 (طلوع الفجر) Breaking Dawn. وإذا أضفنا إلى هذه الجرائم العقلية التي تُنفِّذها وسائل الإعلام جريمة أخرى ، وهي بث أفلام الرعب والشذوذ خلال اليوم والليلة في القنوات الفضائية وأشرطة الكمبيوتر ، نكون بذلك قد أدركنا بأن العالم مقبلٌ في هذه الألفية على الشذوذ والجرائم والتطرف والعنف ، فلم يعد منظر قطع الرؤوس وتطايرها بعيدا عن الأجساد في أفلام الرُّعب التي تبثها الفضائيات صباح مساء أمرا بشعا محظورا ، بل إنه أصبح مرغوبا لدرجة أن القائمين على أمر تلك الفضائيات لا يُحذرون المشاهدين من مشاهد الرعب الخطيرة والبشعة المبثوثة فيها، بل يصنعون لها دعايات لجلب أكبر عدد من المشاهدين . كما أن كل ما كان في الألفية الثانية مُستقبَحا محرَّما ومحظورا من كل مظاهر الشذوذ الجنسي ، أصبح في الألفية الثالثة لا بأس به مقبولا ، وعاديا ، وسوف يُصبح عن قريب مستساغا ومرغوبا فيه، ثم مطلوبا . مطلوبات عاجلة . إقامة الدعاوى القضائية ضد كل مصادر التلوث العقلي التي تفسح المجال للمهرطقين والمشعوذين والجاهلين ليقوموا بتضليل الجيل الناشيء بحجة الحضارة والتجارة والعولمة ذات الأفق المفتوح ، وإجبار هذه الدول التي تحتضن مصادر التلوث بتعويضات ملائمة لإنعاش الثقافة الفكرية الواعية ، بتأسيس مراكز لنشر المخطوطات وإحياء الكتب والموسوعات وذلك بنشرها في طبعات رخيصة يمكن للفقراء شراؤها واقتناؤها كما فعل الفيلسوف فولتير حين أستحدث البنية الأساسية للنشر الشعبي رخيص الثمن ، فنشر كتبه في مختصرات صغيرة ورخيصة وقال : "لو كان ثمنُ الإنجيلٍ غاليا ما قامتْ المسيحية " ! فلا يُعقل أن يكون نصيبُ كل ألف فردٍ في مصر فقط كتابا واحدا حسب إحصائية دار الكتب المصرية عام 2002 التي أحصت عدد الكتب المطبوعة فكانت 12196 كتابا في العام . بالإضافة إلى إحداث قنوات فضائية ثقافية واعية يُشرف عليها الأدباء المبدعون ، ولتتمكن من مواجهة حملات التجهيل التي تنفذها كثيرٌ من القنوات الفضائية التي تنشر فايروس التلوث العقلي . أليس غريبا أن تؤسس الدول العربية، والمستثمرون الأغنياء مئات القنوات الفضائية ، ولا يوجد بينها إلا عدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد، محسوبٌ على الثقافة ،على الرغم من أن معظم تلك القنوات المحسوبة على الثقافة ، هي قنوات ثقافية قشرية، هلامية ، تقوم على الثرثرة الكلامية المُنفّرة ، بادعاء أن ما تقوم به هو الثقافة .... أليس ذلك أيضا مؤامرة على الثقافة لجعل المشاهدين يهزؤون بالثقافة والمثقفين ؟! وأخيرا فإن العرب لم يلتفتوا بعد إلى أن الصناعات الثقافية في المستقبل هي أهم الصناعات وأكثرها ربحا ، فما يزالون يعتمدون على ثروات المواد الخام ، التي توشك أن تنقرض ! ففي كتاب الصناعات الإبداعية والثقافية لجون هارتلي عالم المعرفة 338 يقول : " إن عائدات أمريكا من الصناعات الإبداعية والثقافية عام 2001 بلغ سبعمائة وواحد وتسعين مليار دولار، وأنا أكتبها بالحروف حتى تُقرأ بصورة صحيحة ، أما بريطانيا فتبلغ عائداتها من تلك الصناعة مائة وثلاثة عشر مليار دولار .
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تبخَّر اليسارُ الإسرائيلي ؟
-
نصائح للراغبين في ركوب قطار العولمة !
-
هل المثقفون هم فقط الأدباء؟
-
أوقفوا (جموح) الصحافة الإلكترونية !
-
الآثارالعربية ... ومحاولة هدم الأهرامات !
-
كتب مدرسية ( مُقرَّرة) في الجامعات !
-
عوالق شبكة الإنترنت !
-
من يوميات صحفي في غزة !
-
الإعلام وصناعة الأزمات !
-
محمود درويش يبحث عن ظله في الذكرى الستين للنكبة !
-
مجامع اللغة العربية ليست أحزابا سياسية !
-
لا تَبكِ.. وأنتَ في غزة !
-
كارتر وهيلاري كلينتون وأوباما !
-
الزمن في قصيدة محمود درويش (قافية من أجل المعلقات)
-
أوقفوا هذا العبث في غزة !
-
سؤال ديوان : لماذا تركت الحصان وحيدا لمحمود درويش ، حقلٌ من
...
-
جمعية المختصرين !
-
مأزق التعليم الجامعي في العالم العربي !
-
هل المدرسون مُتطفلون على الوظائف الحكومية ؟
-
موتوسيكلات .. لأوتو سترادات غزة !
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|