محمود الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 2364 - 2008 / 8 / 5 - 10:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أردت قبل أن أرد علي كلمة الأنبا توماس أن أزيح الستار عن أمر أراد له رجال الدين الإسلامي , وعلماؤه , أن يكون حقيقة واقعة يتوجب علي المؤمنين بالإسلام أن يؤمنوا بها , وهي ماتم ذكره عن مصر وأهلها ونسائها في كتب التراث الإسلامي , أقصد تراث المسلمين , وليس تراث الإسلام لأنه هناك فارق بين تراث الإسلام , وتراث المسلمين يتوجب التنويه عنه , فهذا ماجاء في بعض كتب التراث ومنها كتاب المواعظ والإعتبار في ذكر الخطب والآثار في الجزء الأول لأحمد بن علي بن عبد القادر ، الحسيني ، العبيدي ، المقريزي ، تقي الدين ، أبو العباس , والذي جاء به عن أخلاق أهل مصر:
قلة الغيرة وكفاك ما قصه الله سبحانه وتعالى من خبر يوسف عليه السلام ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه وشهادة شاهد من أهلها عليها بما بيّن لزوجها منها السوء فلم يعاقبها على ذلك بسوى قوله: " استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " يوسف 29.
وقال ابن عبد الحكم : وكان نساء أهل مصر حين غرق من غرق منهم مع فرعون ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبروا عن الرجال فطفقت المرأة تعتق عبدها وتتزوّجه .
وتتزوّج الأخرى أجيرها وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئًا إلا بإذنهنّ فأجابوهنّ إلى ذلك .
فكان أمر النساء على الرجال .
فحدثني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب : أن نساء القبط على ذلك إلى اليوم إتباعًا لمن مضى منهم لا يبيع أحدهم ولا يشتري إلا قال : أستأمر إمرأتي .
وقال : إن فرعون لما غرق ومعه أشراف مصر لم يبق من الرجال من يصلح للمملكة فعدّ الناس في مراتبهم بنت الملك ملكةً وبنت الوزير وزيرةً وبنت الوالي وبنت الحاكم على هذا الحكم وكذلك بنات القوّاد والأجناد فاستولت النساء على المملكة مدة سنين وتزوّجن بالعبيد واشترطن عليهم أن الحكم والتصرف لهنّ .
فاستمرّ ذلك مدة من الزمان ولهذا صارت ألوان أهل مصر سمرًا من أجل أنهم أولاد العبيد السود الذين نكحوا نساء القبط بعد الغرق واستولدوهنّ .
وأخبرني الأمير الفاضل الثقة ناصر الدين محمد بن محمد بن الغرابيلي الكري رحمه اللّه تعالى : أنه مذ سكن مصر يجد من نفسه رياضة في أخلاقه وترخصًا لأهله ولينًا ورقةً طبع من قلة الغيرة ومما لم نزل نسمعه دائمًا بين الناس إن شرب ماء النيل ينسي الغريب وطنه .
ومن أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب فلا تجدهم يدّخرون عندهم زادًا كما هي عادة غيرهم من سكان البلدان بل يتناولون أغذية كل يوم من الأسواق بكرةً وعشيًا .
ومن أخلاقهم : الإنهماك في الشهوات والإمعان من الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة قال لي شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى :
أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب .
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلدان وأخلاق سكانها فقال :
إن اللّه تعالى لما خلق الأشياء - جعل كل شيء لشيء فقال العقل : أنا لاحق بالشام فقالت الفتنة : وأنا معك وقال الخصب : أنا لاحق بمصر فقال الذل : وأنا معك وقال الشقاء : أنا لاحق بالبادية فقالت الصحة : وأنا معك .
ويقال : لما خلق اللّه الخلق خلق معهم عشرة أخلاق : الإيمان والحياء والنجدة والفتنة والكبر والنفاق والغنى والفقر والذل والشقاء فقال الإيمان : أنا لاحق باليمن فقال الحياء : وأنا معك .
وقالت النجدة : أنا لاحقة بالشام فقالت الفتنة : وأنا معك .
وقال الكبر : أنا لاحق بالعراق فقال النفاق : وأنا معك .
وقال الغنى : أنا لاحق .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المكر عشرة أجزاء .
تسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس .
ويقال : أربعة لا تعرف في أربعة : السخاء في الروم والوفاء في الترك والشجاعة في القبط والعمر في الزنج .
ووصف ابن العربية أهل مصر فقال :
عبيد لمن كلب .
أكيس الناس صغارًا وأجلهم كبارًا.
وقال المسعودي : لما فتح عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه البلاد على المسلمين من العراق والشام ومصر وغير ذلك كتب إلى حكيم من حكماء العصر: إنا لَناس عرب قد فتح اللّه علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن البلاد والأمصار فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها .
فكتب إليه : وأما أرض مصر فأرض قوراء غوراء ديار الفراعنة ومساكن الجبابرة ذمّها أكثر من مدحها هواؤها كدر وحرّها زائد وشرّها مائد تكدر الألوان والفطن وتركب الإحن وهي معدن الذهب والجوهر ومغارس الغلات .
غير أنها تسمن الأبدان وتسودّ الإنسان وتنمو فيها الأعمار وفي أهلها مكر ورياء وخبث ودهاء وخديعة .
وهي بلدة مكسب ليست بلدة مسكن لترادف فتنها واتصال شرورها .
وقال عمر بن شبه : ذكر ابن عبيدة في كتاب أخبار البصرة عن كعب الأحبار : خير نساء على وجه الأرض : نساء أهل البصرة إلا ما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء قريش وشرّ نساء على وجه الأرض : نساء أهل مصر .
وقال عبد اللّه بن عمرو : لما أهبط إبليس وضع قدمه بالبصرة وفرخ بمصر .
وقال كعب الأحبار :
ومصر أرض نجسة كالمرأة العاذل يطهرها النيل كل عام .
وقال معاوية بن أبي سفيان :
وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس وثلث يشبه الناس وثلث لا ناس .
فأما الثلث الذين هم الناس : فالعرب والثلث الذين يشبهون الناس : فالموالي والثلث الذين لا ناس : المسالمة يعني القبط .
وأترك الحديث عن الجهاد والغزو والفتوحات لأنه حديث ذو شجون ولايحتمل الموضوع الحديث عنه , ولن أتحدث عن عقيدة الولاء والبراء , وعقيدة الإستحلال , والتي يخشي العديد من الخوض في غمار الحديث عنها , ولكن سأبدأ بتساؤل مؤداه :
لماذا الإعتراض علي كلمة الأنبا توماس إذاً ؟!!
في البدء أود أن أذهب إلي نتيجة مؤداها إلي أنني لست في حاجة إلي رجل دين لكي أتعرف علي الله , وأتعرف علي أحكامه المتضمنة الترهيب من محرماته والترغيب في مباحاته , لأن الحرام والحلال أمران منوطان بالفطرة البشرية السوية التي جبلت علي التعرف علي الحرام والحلال بالمفهوم الديني , والخطأ والصواب بالمفهوم المدني أو ماوافق القانون وخالفه , وهذه الأمور من إطلاقات الإرادة البشرية العارفة بالصحيح والخاطئ , والموافق للقانون والمخالف له , ومن ثم فإن رجال الدين أو بتعريف لطيف ظريف علماء الدين , كان تعرفهم علي الدين بإرادة فردية وإجتهاد فردي هم وحدهم يثابون عليه , والثواب لا يتعدي حدود الفرد علي الإطلاق , وكذلك الخطأ بالتعبيرالمدني أو الخطيئة أو الخطية بالتعبير الديني , ومن ثم فإن لست بحاجة إلي رجل دين أو عالم لديني ليدلني علي طريق الله !!
ولكن المؤسف له أنه وردتني رسالة تضامن مع آخرين ضد الأنبا توماس وبالتحديد ضد الكلمة التي ألقاها بمعهد هدسن بواشنطن بالولايات المتحدة الأميريكية , وكدت أن أتبوأ كغيري مكانة بين الموقعين علي وثيقة الأعتراض علي هذه الكلمة , إلا أنني وقد علمت أن الأمر يتعلق بالآخر الديني ومن ثم فقد آثرت قراءة الكلمة قبل التوقيع علي هذا البيان من عدمه , ومن ثم فقد قرأت الكلمة وتعجبت من الذين وقعوا عليها بالرفض , بل لقد دهشت من الذين طالبوا بتقديم الأنبا توماس اسقف القوصية , للمحاكمة الجنائية بتهمة أو بجريمة إذدراء الأديان , وهذا ماجعلني أحتار في الأمر وأتسائل لماذا هذا الإعتراض علي هذه الكلمة , بل والمحير في الأمر لماذا نادي بعض المثقفين والكاريزما بضرورة تقديمه للمحاكمة الجنائية بتهمة إذدراء الأديان وتحقيرها ؟!!
وبالرغم من موقفي المعلن من رجال الدين بصفة عامة سواء الأديان السماوية أو الديانات الأرضية أو حتي المعتصمين بالإيديولوجيات السياسية , إلا أنني حين قرأت الكلمة لم أجد فيها أي خطأ من الممكن الإستناد إليه في مهاجمة الرجل سوي تقييمي للمسألة علي أنها تمييز بين المصريين بسبب اللغة , وهذا التمييز أمر مرفوض سواء كان بادراً من الأنبا توماس أو من غيره .
الأنبا توماس حاول التعريف بكلمة قبطي , علي مستوي الفرد وعلي مستوي الجمع , فالرجل قال في التعريف بالقبطي وبالأقباط : مصر كانت تدعى دائماً "إجيبتوس" وكان الجميع يعرفونها بهذا الإسم ، وفي القرن السابع حدث تغيير في الإسم وفي البلاد ذاتها ، حين جاء العرب لمصر أو بالأحرى حين قاموا بغزوها . لم يستطعوا نطق كلمة "إجيبتوس" بسبب الفروق اللغوية فغيروها الى "جبت" بعد أن اقتطعوا حرف "إ" و مقطع "أوس" وهكذا أصبحت إجيبتوس "جبت"، واستخدموا القاف فاصبحت ( قبط ) .
وكان الإعتراض علي الأنبا توماس أنه ذكر جزءاً من الحقيقة التي قام بها المسلمين ونسبوها للإسلام , وكأن هناك خلطاً متعمداً ومقصوداً من جانب المسلمين في أمور يرتكبوها أو جرائم يفعلوها ومن ثم يدعوا أنها بإسم الإسلام الذي هو في حقيقة الأمر منسوب لله ولرسول الإسلام في حالة من حالات إستجلاب القداسة لأفعال بشرية حتي تتحول تلك الأفعال إلي أفعال مقدسة لايجوز الإعتراض عليها وإلا وصم من يعترض أو يفسر أو يوؤل بأنه من الكفار الملاحيد المحادين لله ولرسوله محمد , وكانت الفتوحات الإسلامية لمصر والتي يراها المسلمين ويؤصلوا لها علي أنها من باب الفتوحات الإسلامية بالتساوي مع الفتح الإسلامي لمكة , او لغيرها من البلدان التي تم إضفاء ألوان من القداسة الدينية عليها حتي تتحول تلك الفتوحات وكأنها أوامر إلهية من لدن رب العالمين , أوحي بها إلي رسول الإسلام والذي يتبعه المسلمين بدورهم نفاذاً للأمر الإلهي المزعوم !!
وفي ذات الوقت يري المصريين أو بتفسير الأنبا توماس الأقباط , أن هذا لم يكن فتحاً دينياً لمصر أو "إجيبتوس" التي حرفت لتكون ( قبط ) , أو( جبت ) , وإنما يرونه غزواً أو إحتلالاً لمصر من جانب المسلمين الذين أتوا إليهم من الجزيرة العربية بعاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم التي سيروها وصيروها ديناً لايمكن التفرقة بينهم وبين الدين في حالة خلط يصعب فيها تفسير ماهو ديني وماهو منسوب للعادات والأعراف والتقاليد التي كانت تخص شبه الجزيرة العربية وسكانها الذين كانوا يعتاشوا من الرعي والصيد والقنص , وأعمال التجارة , وأعمال الحج أو بالمفهوم العصري السياحة الدينية , وهذه المنطقة من العالم كانت تعيش علي الترحال حيث الماء والنار والكلأ , ومفهوم الوطن لديهم غير محدد الملامح حال كون الوطن مرتبط بالماء والنار والعشب والكلأ , فأينما وجدت هذه الأسباب التي تهيأ لقيام حياة كان مفهوم الوطن يتحدد لحين جدب الأرض , وغيض الماء , وجفاف العشب , وإنعدام النار بالتبعية كجزء من أسباب الحياة وتواصلها , وهذه البقعة من الأرض يصعب عليه ويستحيل أن تكون منتجة لأسباب التحضر والتمدن بأي صورة من الصورة حيث الإستقرار مفقود من المعادلة الحضارية , وهذا هو المقلق في الامر حال كون المصريين , أو أهل "إجيبتوس" من أصحاب الحضارة والتمدن , ومن منتجي العلم والإبداع في التجارة والصناعة والطب والفلك والهندسة والصيدلة والعمارة وغير ذلك من العلوم المنتجة لحضارة من الحضارات حيث نهر النيل هو الفاعل للإستقرار والباعث للنماء والواهب للحياة المستقرة صانعة الحضارة , وحينما جاء المسلمين إلي مصر غازين أو فاتحين , مستعمرين أو محاربين جاؤا لا ليعرضوا حضارة أو علماً , أو ليشاركوا في تجارة , وإنما جاؤا لمصر لكي يعرضوا الدين علي أهل "إجيبتوس" أي علي الأقباط وهم المصريين, كانت هناك خيارات ثلاث , الإسلام , أو الجزية عن يدٍ وأهل "إجيبتوس" صاغرين أذلاء لرفضهم الإسلام , وإما الحرب والقتل بسبب رفض الإسلام وبسبب رفض الجزية علي المستويين , فكان لزاماً علي أهل "إجيبتوس" أن يتضرروا من المسلمين من أهل الجزيرة العربية ويصفونهم بالمستعمرين الغازين لوطنهم مصر , حال كونهم لم يأتوا لمصر محملين إلا بالكتاب المقدس للمسلمين , وهو القرآن أو المصحف , والذي لم يأتوا برسالة غيره سوي أن يرفعوا هذا الكتاب المقدس في وجوه المصريين طالبين منهم بل آمرين لهم أن يؤمنوا بما فيه من غير جدال أو نقاش أو حوار مما تبدي معه العنف والقسوة والتلويح بالحرب والقتل لمن لايرتضي به ومن ثم كانت الجزية والرافض لها يتم قتله وقتاله , فماذ كان ينتظر من غير المسلمين أصحاب مصر ومواطنيها , في نظرتهم وتقييمهم للعرب فقط , وليس تقييمهم للإسلام كدين حال كون العرب حين عرضهم للدين الجديد علي المصريين الذين لايجيدون اللغة العربية ودين المسلمين وكتابهم المقدس مدون باللغة العربية التي لايفهمونها لأنهم يتحدثون لغة غير اللغة العربية مما أفقد الطرفين التواصل في فهم مرادات الطرفين إلا أن العرب الفاتحين أو الغازين أو المستعمرين كانت لهم رؤية في فرض هذا الدين بالخيارات الثلاث السالفة الذكر , مما أثار حفيظة المصريين , وترك بصمة تاريخية سيئة لديهم تجاه أتباع هذا الدين ؟!!
بل وحينما تتم التفرقة بين الأقباط أهل "إجيبتوس" وهم المصريين , وبين العرب , هل هذه تعتبر إهانة للعرب أو إهانة للمصريين ؟
بل ولتقريب المعني هل الهنود والإندونيسيين والماليزيين , والفرس , والبنجال , والأتراك , ومواطني البوسنة والهرسك , والجمهوريات الست بالإتحاد السوفيتي السابق من أذربيجانيين , وكازاخستانيين , وغيرهم من الجمهوريات الأخري والذين لاينطقون العربية والذين يدينوا بالإسلام , هل حين إجراء المقارنة بينهم وبين العرب يعتبرهذا الأمر وهذه المقارنة إهانة للعرب أم إهانه لهم ؟!!
ولماذ حين تتم التفرقة بين العرب وبين المصريين تعتبر هذه إهانة للإسلام والمسلمين ؟!!
إن الدول التي دخلها المسلمين سواء كانوا غازين , أو فاتحين أو محاربين مقاتلين , لم يتخلوا عن لغتهم وحضارتهم وثقافتهم علي الإطلاق , وإنما آمنوا بالدين فقط , ولم يتعلموا اللغة العربية ولم يؤمنوا بالعادات والأعراف والتقاليد العربية الآتية لهم من شبه الجزيرة العربية , وهذه إيران , وهذه تركيا دولة الخلافة الإسلامية التي حكمت عالم المسلمين لفترة طويلة من الزمن بإسم الإسلام , لم تتخلي عن اللغة التركية , تمسكت بها ولم تتخلي عنها حتي يوما هذا , وفضلت اللغة التركية علي لغة الدين , ولغة القرآن , فهل كان الأتراك مجرمين في حق الإسلام وفي حق المسلمين , أعتقد أن العرب والعديد من المسلمين يطالبوا علي الدوام بعودة الخلافة الإسلامية , ويحتفلوا بذكري نكبة سقوط الخلافة التركية والتي كان يتحدث خليفة المسلمين اللغة التركية وليست اللغة العربية سواء في مجالسه الخاصة أو العامة أو مكاتباته الرسمية , فلماذا هذا التناقض , ولماذا هذا الهياج ؟!!
ولماذا الأمر يصبح إجراماً حينما يتعلق بمصر وبالمصريين , وهل حينما أفتخر بمصريتي , وبوطني مصر أعتبر خائناً لله وللرسول ومحارباً للغة القرآن وللغة الدين الإسلامي !!؟
إن الأقباط الذين هم المصريين حينما يتمسكوا بدينهم أياً كان دينهم سواء كان اليهودية أو المسيحية أو الإسلام مع الإحتفاظ بمصريتهم أو وطنيتهم المصرية فهذا أمر لايعيبهم في شئ علي الإطلاق , بل ونجد الأقباط المسيحيين يتمسكوا بالتقويم الوطني المصري , قبل أن يتمسكوا بالتقويم الديني الميلادي المسيحي , وهم بذلك يقدموا الوطن علي الدين , في حين أن المسلمين يتمسكوا بالتقويم الهجري الديني علي التقويم الوطني مخالفين القاعدة التي قلت بها سابقاً , أن الأوطان وجدت قبل الإنسان , وأن الإنسان وجد قبل الأديان , ومن ثم تكون الأولوية للوطن قبل الإنسان , وللإنسان قبل الأديان , ولكن هيهات , هيهات أن يتفهمون!!
والذي أزعج الأنبا توماس وكان من المتوجب أن يزعج كثيرين غيره أن يتحول النظر من مركز العلم والحضارة والمدنية في مصر إلي شبه الجزيرة العربية فماكان منه إلا تحدث عن جملة أسباب محزنة منها تساؤله :
ما الذي يجعل شخصا يغير هوية وطنه بأكمله ؟ وأن يحول مركز الهوية من مصر ليصبح العرب ؟ وبالرغم من أن الشعب والأفراد ظلوا كما هم من الناحية العرقية إلا أنهم لم يعودوا أقباطا ... وهذه علامة استفهام كبيرة ، وسبب كبير فيما يحدث الآن فهو أي الأنبا توماس يري أن : مصر كانت دائما بؤرة التركيز للأقباط ، فهي هويتنا ، وطننا ، أرضنا ، لغتنا وثقافتنا ، ولكن حين تحول بعض المصريين للإسلام ، فإن بؤرة الإهتمام والتركيز عندهم تغيرت وبدلا من أن يكون الوطن في الداخل هو مركز الإهتمام ، أصبحت شبه الجزيرة العربية المركز، وبدلا من أن ينظروا إلي حيث هم راحوا ينظرون وجهة أخري ولن يعودوا يسمون أقباطا وهذه نقلة كبيرة ، كما أنها سبب هام للغاية فيما يحدث الآن .. هل هم حقا أقباط أم أصبحوا فعليا عربا ؟
ولهذا تترك علامة استفهام كبيرة هنا . فإذا توجهت لشخص قبطي وقلت له إنه عربي فإن هذه تعتبر إساءة ، بصورة ما ، لأننا لسنا عربا بل مصريين وسعداء بكوننا مصريين ولن أقبل أن أكون عربيا . فمن ناحية أنا لست عربيا عرقا . وثانيا أنا أتكلم العربية ، ومن الزاوية السياسية أنا جزء من بلد تم "تعريبه" ، وأصبح ينتمي سياسيا للبلاد العربية ولكن كل هذا لا يجعل المرء عربيا .
وكذلك الحال إذا تحدث فارسي أو تركي العربية فإن هذا ليس معناه أنه عربي , وإنما لغته فقط هي العربية , وإذا قلت لفارسي أو تركي أنه عربي فمن حقه أن يغضب لأنه غير ذلك , وليس بعربي !!
ليس عيباً أن أنتقي من الثقافات والفنون والحضارات مايلائم ثقافتي وفنوني وحضارتي , فأنا أهتم بثقافة إبن رشد , وإبن حزم , وإبن سينا , وغيرهم ممن تعدت ثقافتهم إلي الحدود الإنسانية العليا , وهذا لايعيبني , وحتي إذا كانت الثقافات والفنون والعلوم لدي الهندوس والبوذيين , أو عٌباد البقر فهذا لايؤلم , ولايعيب في شئ , والمؤلم أن أعيش عالة أقتات كالهالوك المتطفل علي خيرات وثقافات الغير من غير أن يكون لي دور ثقافي / حضاري / علمي في الحياة المعاصرة علي المستوي الوطني أو المستوي الدولي العالمي ؟!!
إن ماقاله الأنبا توماس في محاضرته كان مزعجاً للغاية لأناس لم يحسنوا التفرقة بين العروبة والمواطنة والإسلام , وذلك بسبب جعلهم الدين وطن , وجعلهم العروبة هي جزء من الدين لايتم إلا به , وجعلهم أفعال المسلمين وأقوالهم وسيرهم وتاريخهم جزء من الدين أو إن قلت هي الدين فلن تخطئ , بل ومحاولتهم السير علي منهاج الأممية الإسلامية في جانبها السياسي لا الديني , والسير علي منهاج القومية العربية المختزلة لثقافات الشعوب وحضارتها وفنونها وعلومها في بوتقة القومية العربية , وهذه المحاضرة تزعج الإسلامين أصحاب نظرية الخلافة الإسلامية والأممية الإسلامية , وتغضب القوميين أصحاب نظرية الخلافة العربية , لأنهما في أصل الفكرة سواء بسواء !!
وفي هذه المسألة نقع جميعاً أسري الهوية الثقافية والهوية السياسية والتي تسكن في مرحلة وسطي بينهما الهوية الدينية التي تدير صراعاً لصالحها من أجل ضم الهويتين لتكونا مندمجتين في الهوية الدينية أو هكذا يتوهم أصحاب نظرية الخلافة الإسلامية , وهكذا لايريد أن يكون الأمر كذلك من أصحاب الخلافة العربية أو القومية العربية حيث يريدون الأمر خاصاً بالعرب وحدهم دون المسلمين في قوميتهم الناطقة بلغة الضاد فقط , والإثنان يعيشان الوهم الحضاري !!+
وليت الأمر يقف عند التعريب وطمس الهوية المصرية والتي تم طمسها بالفعل إلا من بعض التعابير اللغوية المتداولة بين المصريين والتي إستعصت علي التعريب بالفعل حال كونها لصيقة بالحياة اليومية للإنسان المصري ومعها لهجته العامية التي لم تفلح اللغة العربية في تغييرها مثلها في ذلك مثل لهجات شبه الجزيرة العربية واللهجات الخليجية ولهجات العديد من البلدان الناطقة بالعربية .
ولكن الغريب في الأمر والمحير في الواقع والموجب للتساؤل , لماذا لم يغير الفرس والأتراك والهنود والأذر والكازاك لغتهم حينما فتح المسلمين بلادهم , أو حتي غزوها أو إستعمروها , وقبلوا بالدين الإسلامي فقط , ولم يغيروا لغتهم التي هي بالنسبة لهم وعاء للفكر والثقافة والعلم ومحتوية للمفردات الحضارية الخاصة بأوطانهم , وتم علي العكس من ذلك أن قبل المصريون الذين هم أهل "إجيبتوس" بالدين ومعه اللغة , وكيف تحول المصريين من اللغة المصرية إلي اللغة العربية مع أن هذا لم يحدث لأوطان كثيرة , مع أن مصر بلداً حضارياً ولغته لغة علم وثقافة وحضارة وفنون ؟!!
وذلك لأن تغيير اللغة معناه تغيير الهوية وإستبدال للثقافة , وإهدار للمفاهيم الحضارية الخاصة بوطن من الأوطان والإنتماء لثقافة وحضارة أخري , بالرغم من أن العرب لم يكونوا أصحاب حضارة مثل الصين الفرس والروم واليونان والرومان , ولكن المصريين هم من كانت تضارع حضارتهم تلك الحضارات بل وتسبق بعضها في الحضور والظهور ؟
إن الأنبا توماس يري أنه إذا لم تكن تنتمي للهوية المصرية فأين يقع مكانك ويقول :
هذا يعني أنه إذا لم تكن تنتمي لهذه الهوية أو الجماعة ، فأين يقع مكانك في المجتمع العربي ؟ أنت داخله وخارجه ، تنتمي ولا تنتمي ، وهذه هي المعضلة الكبيرة التي يواجهها الأقباط الذين تمسكوا بديانتهم المسيحية بل بالأحرى بهويتهم كمصريين ، وبثقافتهم ، محاولين الإحتفاظ باللغة والموسيقى والتقويم القبطي ، مما يعني أن التراث الثقافي للمصريين القدماء ما زال باقيا .
بل ويتوجع من أن إخوانه في الوطن : قد تخلوا عنه من أجل ثقافة أخرى . هذا يعني أن هناك عملية تعريب مستمرة تحدث لهذا الوطن ، بدأت منذ قرون، منذ القرن السابع ، ومازالت جارية حتى الآن . يمكننا أن نقول أيضا أن هذا جزء من المعضلة ، وفي نفس الوقت فإن الأسلمة هي معضلة أخرى بدأت منذ فترة ولا تزال تحمل معها العديد من المشاكل حتى الآن .
والذي يقلق الأنبا توماس بصفته مسيحياً مصرياً ( أقصد مسيحياً قبطياً ) أو باللهجة المصرية من مواطني ("إجيبتوس" ) مسألة الأسلمة التي تنتهجها التيارات الدينية وعلي وجه خاص التيار السلفي الوهابي الآتي من الجزيرة العربية وخاصة المملكة العربية السعودية الراعي الرسمي له بالتوافق مع النظام المصري الذي يحتويه ويحتضنه بأساليب تخدم علي إستمرار النظام المصري في الحكم والسلطة لإتباع ذلك التيار منهج التكفير والخروج علي المجتمع بمفاهيم منها من لم يكفر الكافر فهو كافر , والإدعاء الظاهر منهم بالإهتمام بالعقيدة وإصلاحها عند الناس والإنشغال بقضايا النقاب ولباس المرأة وصوتها وعملها وإختلاطها وزينتها , وكذا لباس الرجل والتدقيق في مسائل العبادات والطاعات علي حساب المسائل التي تشغل بال الناس وتفكيرهم في حياتهم اليومية من فقر وبطالة وجهل ومرض , وظلم وفساد واستبداد الإنظمة الحاكمة والرجوع بالمجتمع إلي مفاهيم الحاكمية الإلهية المطلقة , وتحريم الخروج علي الحكام حتي وإن قتلوا الأولاد وهتكوا عرض النساء والبنات ,و حتي وإن جلدوا ظهورهم , وسلبوا أموالهم في مقابل أنهم يقيموا الصلاة فقط , وإتباعهم لقاعدة : أنهم ينشغلوا بالسياسة ولايعملوا بها , في إظهار كم وحجم من التناقض بين الأقوال والأفعال التي تؤصل للفساد والإستبداد وتوريث الحكم والسلطة سواء كان الأمر يتعلق بالممالك أو الجمهوريات !!
وحينما يتعجب الأنبا توماس من تجاهل اللغة المصرية التي هي لغة المصريين أقصد الأقباط , فله الحق في ذلك , وذلك بالرغم من أن هذا الحق أصبح حقاً تاريخياً , يصعب ويستحيل تحقيقه بسبب الممارسات التي تمت في مواجهة اللغة المصرية وتسيد اللغة العربية التي هي وعاء للثقافة العربية المختلطة بعادات وأعراف وتقاليد العرب الفاتحين أو الغازين , أو حتي المستعمرين لمصر , مع التنويه علي أن إستخدام مصطلح الإستعمار العربي لمصر أمرمزعج لأن الخلط يتم بين أفعال العرب المسلمين , وبين الإسلام , ومن هنا تتأزم الموضوعات وتتفاقم الأزمات لدرجة أن تم الخلط بين اللغة والدين وجعل اللغة في مقارباتها اللغوية تعتبر دين حال كون التفسير والتأويل بلغة القرآن المقدس لدي المسلمين .
إلا أن الأنبا توماس يقع في نفس الخطأ الواقع فيه العرب حينما يريد أن يبعث اللغة المصرية , يجعل أماكن العبادة حضانة لها كما فعل العرب المسلمين من جعلهم للغة العربية لغة الدين وتم توظيف مفرداتها اللغوية داخل المساجد والزوايا والمعاهد الدينية , في إشارة منه يتبدي منها ذلك الأمر الذي يعيبه علي العرب المسلمين إذ يقول : لكن حتى يأتي ذلك الوقت فعلينا أن نحتفظ به في حضانة في الكنيسة , وكأن اللغة المصرية هي لغة يتوجب علي المسيحيين أن يحتفظوا بها لديهم وحدهم , وذلك من خلال إدارة صراع ديني علي اللغة المصرية التي أصبحت الآن لم تعد لغة العلم والحضارة والثقافة والفنون اللهم إذا كانت هذه اللغة في مرحلة تاريخية هي من أعظم اللغات الحية والفاعلة في العالم , ولكن هناك لغات حية وحديثة حتي بخلاف اللغة العربية ذاتها مثل اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية بل واللغة الصينية وتلك اللغات أصبحت تمتلك المفردات اللغوية الخاصة بالعلم والتكنولوجيا والحضارة , مما جعل اللغة العربية , واللغة المصرية تتواري خجلاً أمام تلك اللغات , وأصبحا هما والفقر الحضاري والعلمي سواء بسواء !!
بل ويذهب الأنبا توماس في مقولته قائلاً : إنه نوع من حفظ التراث في حضانة حتى يأتي الوقت المناسب الذي يمكنه فيه أن يخدم المجتمع المصري بأكمله .
في حين أن هذه المقولة تفتقر إلي الصحة حال كون خدمة المجتمع المصري بأكمله تفتقر إلي تعلم اللغات التي تمتلك مفردات العلم والحضارة الحديثة بجانب التمسك باللغة التي يتحدث بها المصريون حالياً , أما اللغة المصرية القديمة فقد فات أوان تعلمها مع حالة الإنفلات التكنولوجيا واعتبار العالم كله عبارة عن عمارة كونية واحدة ومازال العرب , والمصريين من سكان الدور الأرضي لهذه العمارة والتي بها خدام سكان العمارة الكونية من بواب وفراشين وخدم !!
ومازال الأسي قائم علي التراث المصري بالنسبة للمسيحيين الأقباط , ومعهم المسلمين الأقباط أصحاب الوعي الحضاري بالأزمة التي تخلط بين الفنون والعلوم وبين الأديان , ومن ثم يسرد الأنبا توماس هذا الموضوع قائلاً : نحن نشعر بأن أخواننا وأخواتنا في الوطن قد خذلونا بعض الشيئ، إذ نرى ثقافتنا وفنوننا تنتزع منا و يطلق عليها أسماء أخرى . كمثال : فإن فن أشغال الخشب ( الزخارف الخشبية ) هو أحد الحرف المعروفة لدى المصريين ، فجأة لم يعد حرفة مصرية بل أصبح " فنا إسلاميا " .
إن تحول شخص أو مجموعة أو ملايين من الناس للإسلام لا ينفي حقيقة أن هذه الحرفة هي فن مصري صميم ، ومع ذلك تحول هو أيضاً ليصبح فنا إسلاميا ، وهذا يعني آن المصريين سينظرون لأنفسم ويتساءلون : من أين أتى هذا الفن ، هل هو فن إسلامي ؟
نحن نعرف أن أشغال الخشب لم تكن معروفة في الجزيرة العربية في ذلك الوقت حيث أن البيئة هناك صحراوية ولا يوجد بها كم الأشجار أو الأخشاب اللازمة ، إذن ما يحدث هو أن ثقافتي قد سرقت مني وسميت بإسم أخر وهذا ، فيما أظن ، تزييف تاريخي مازال جاريا .
وأنا أتفق مع الأنبا توماس في هذا الكلام الذي له صدي واقعي في حياتنا المعاصرة , إذ نجد مايسمي بالعمارة الإسلامية , والطب النبوي الإسلامي , والتاريخ الإسلامي , والحديث عن الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية , لدرجة ماتم التعارف علي تسميته بالفتوحات الإسلامية وإعتبارها جزءاً هاماً من التاريخ الإسلامي , والتي يسميها مواطني الدول الأخري بأنها أعمال حرب وإستعمار واستلاب لمقدرات أمم وشعوب تم إستعمارها من جانب العرب الذين تعارف علي تسميتهم بالغزاة المستعمرين , وذلك مثلما يتم التحدث عن الحروب الصليبية , والغزوات الصليبية والتي كان الصليب هو الراية المرفوعة في مواجهة الأمم والأوطان التي تم إحتلالها وإستلاب خيراتها تحت راية الصليب بزعم أنها حروب دينية مقدسة , وهي لم تكن كذلك علي الإطلاق وإنما كانت قائمة علي أسس متبادلة من القتل والقنص والخطف والسرقة وتم إضفاء الصبغة الدينية عليها من جانب الغزاة المستعمرين وكانت المصلحة هي التي من وراء القصد , وإلا لو طبقنا تلك المعايير الحديثة علي تلك الأعمال فماذا يمكن أن نسميها , وبأي لغة يمكن تعريفها وتوصيفها ؟!!
إن الأزمة الحقيقية هي الكامنة في مسألة تقديم الدين علي الوطن , وتقديم الدين علي الإنسان , إنها أزمة الطائفية والعنصرية الدينية المقيتة ونفي الآخر ليس من الوطن فقط , ولكن نفيه من الدنيا علي الإطلاق , وتحريم الجنة عليه في الآخرة وجعله يعيش في نار الدنيا إنتظاراً لنار الآخرة الموعود بها الأغيار والمخالفين في الدين !!
حينما يتحول الوطن إلي جحيم فلن يكون هذا الجحيم إلا من صناعة العنصريات والطائفيات الدينية واللغوية , ليس بين الأديان فحسب , وإنمابين أتباع الدين الواحد , حتي تضيق الدوائر ويتحارب الإنسان مع الآخر الداخلي الذي يعيش معه لتصغر الدائرة وتتماهي لتصل إلي درجة الصفر ويكون الإنتحار الجماعي هو المصير المحتوم لمجتمعات مريضة نفسياً ومعقدة إجتماعياً , وغير قادرة علي تحقيق سعادتها ورفاهيتها في الدنيا فيكون قتل الآخر بديلاً في البحث عن الجنة المفقودة في الدنيا ووصولاً للجنة الموعودة في الآخرة والتي تذكرة دخولها وصك الوصول إليها عبر أبواب رفض الآخر , والتحريض علي إذرائه , بل وقتله .
والمصيبة الظاهرة للعيان أن المناهج الدراسية تنحي تجاه هذا المصير وكأنها تريد له أن يكون حتمياً برعاية أنظمة الحكم الملتحفة بالمفاهيم الدينية , وجعل المنتمين للأديان من ضمن أوراق اللعبة في إداراة صراعات دينية حول مسائل تافهة يتم تضخيمها ومن ثم تتعيش تلك الأنظمة في إستمرارية بقائها علي تلك الصراعات الدينية , ويتنعم رجال الدين بصفة عامة من وراء دورهم الذي يتم توظيفهم فيه من جانب أنظمة الفساد والإستبداد , وتكون المناهج الدراسية أحد أهم العوامل الرئيسية في إزكاء وإشعال تلك النيران ومعها وسائل الإعلام الموظفة للحديث عن الأنظمة الإستبدادية الفاسدة وعن إنجازاتها المتوهمة .
فأسلمة المجتمع , أو تنصيره أمر ليس بالهين علي المسلمين أو علي المسيحيين , لأن المسألة وكأنها ترمي الناس بحقيقة أنهم كفار جاهليون خارجون عن صحيح الدين , ومن يقوم بأمر الأسلمة أو التنصير وكأنه من أهل الدين الصحيح المتوجب عليه أن يأخذ الناس إلي الجنة مقيدين بالسلاسل ومن يرفض دخول الجنة مقيداً بالسلاسل فلابد وأن تجري عليه أحكام نظرية الإستحلال التي تبدأ بسلب المال وتنتهي بالقتل , وهذا سواء للمسلم أو لغير المسلم فهما في ذلك سواء بسواء .
وفي هذا السياق يتحدث الأنبا توماس فيقول : معنى الأسلمة لا يقتصر فقط على دفع الناس للتحول للإسلام لكنه أيضاً يشمل أمورا عديدة تأخذ شكل إتجاهات معينة مثلما تفعل وسائل الإعلام وكذلك في المدارس التي نقضي فيها سنوات عديدة منذ حداثتنا ، حيث نسمع دائما أن الإسلام هو الطريق الصحيح للحياة ، وحيث يضطر صغارنا – وهم أقلية - للتعايش مع هذه الحقيقة ، وأن ما يسمعونه في المدرسة والتعليم الذي يتلقونه يختلف كثيراً عما تلقوه في كنائسهم . ويستطرد قائلاً : تخيل نفسك طفلا صغيرا تذهب للمدرسة حيث تسمع شيئا ثم تعود للمنزل لتسمع شيئا مختلفا . كما أنه عليك حفظ آيات من القرآن التي تُمتحن فيها . فهل علىَّ كطفل صغير أن أدرس القرآن لكي أستطيع إجتياز الإمتحانات بنجاح ؟
لكن الأطفال بالفعل يكبرون وهم محاطين بهذه الإتجاهات .. وهذا يعني أيضاً إنه عليك في إطار دراستك للتاريخ أن تدرس تاريخ انتصارات القوات الإسلامية الغازية ، وإنه عليك كطفل صغير أن تمجد الغزاة العرب الذين جاءوا لبلدك ، فكيف يكون شعورك في هذه الحال ؟
وفي ذات الوقت أنت تدرس القليل جداً عن تاريخ الفراعنة ، وعن تراثك القبطي ، وعن الحياة اليومية للوطن ، بينما معظم ما أنت مجبر على دراسته مشبع بهذه الإتجاهات .
فنحن إذن قد نشأنا ، وأنا من ضمن هؤلاء ، قد نشأت وأنا أحفظ أجزاء من القرآن والكثير من الأحاديث وتاريخ القوات الإسلامية المنتصرة .. كان علينا دراسة وحفظ هذه الأمور كي نُمتحن فيها و المفترض أن نمتدحها ونثني عليها . وهذا الأمر بالطبع يقلل من إحساس الشخص بالعدل في أعماقه .
وهذا الشعور والإحساس لم يفارق الأنبا توماس وحده , ولن يفارق غيره من المواطنين المصريين غير المسلمين علي الإطلاق إلا إذا حدث تحول للمجتمع المصري وتغيرت النظرة إلي تقييم المفاهيم الدينية علي مستوي المصريين مسيحيين ومسلمين وبهائيين , وشيعة , ونوبيين , وقرآنيين , وذلك بالتحول نحو دولة المواطنة بإحداث العديد من التحولات الجزرية في التعليم والصحافة والإعلام من خلال منظومة قانونية ودستورية تحيد المفاهيم الدينية عن التعليم والصحافة والإعلام , بل عن القانون والدستور , وتجعل نظام الدولة وهيكلها العام يدور في إطار دولة مدنية محتمية بالمواطنة لا بالمفاهيم الدينية التي من حق كل إنسان أن يدين بأي دين , ويعتقد حسبما يعتقد مادام لايبتغي من تدينه والتزامه الديني التأثير علي باقي أفراد المجتمع أو هيئاته ومؤسساته , ومن الأجدر بمكان أن يتم التنويه علي حتمية تصفية الجماعات الدينية وتجفيف منابعها من خلال إدماجها في المجتمع واستثمار الطاقات بما يعود علي المجتمع بزيادة مساحة الحريات الإبداعية الخلاقة والتصدي لمشاكل البطالة ومكافحة الفقر والجهل والمرض , وهذا لن يكون إلا من خلال دولة تؤمن بالمواطنة عبر آليات قانونية ودستورية لاتميز بين المواطنين بسبب اللغة أو الدين أو العرق أو الجنس أو اللون , وهذا ماوقع فيه الأنبا توماس خلال ذهابه إلي منحي تمييزي بسبب اللغة المصرية بين المواطنين المصريين , الذين لايتحدثون العربية إلا في المحافل والمعاهد العلمية , وفي حياتهم العامة لايمكن لهم أن يتحدثوها علي الإطلاق مثلها في ذلك مثل اللغة القبطية التي يريد الأنبا توماس أن يضعها في حضانات في الكنائس لتنشأ ثقافة دينية مسيحية في مواجهة ثقافة دينية إسلامية علي أساس من التناحر والتشاجر وتتوالي التأزمات بين أبناء الوطن الواحد بسبب التمييز بسبب اللغة !!
والذي كنت أأمله من الأنبا توماس أن يبحث عن أمور أخري مرجعها خنق الحريات و الفساد والظلم والإستبداد الذي حل بمصر الوطن سواء كانت هي إجيبتوس , أو إيجيبت , أو حتي جبت , فهو الذي تحدث الإنجليزية بطلاقة يحسد عليها وهذه اللغة الإنجليزية هي التي أجادها , وإجادته لها هي التي جعلته يذهب إلي ذلك المعهد ويلقي فيه كلمة بلغة يفهمها من حضر ودعي للإستماع إليه , أما لو تحدث باللغة المصرية أو اللغة القبطية فماكان لأحد أن يفهمها بدون مترجم كما هو الشأن لو تحدثها باللغة العربية فهما في هذا الأمر متماثلين في عدم إستيعاب الغير لهما من غير مترجم !!
أما ماسرده من وقائع تحدث للمسيحيين المصريين , فهذا أمر معلوم ولايخفي علي ذو عقل , وهذا راجع إلي أسباب من صنع المسيحيين المصريين , الذين أرادوا التقوقع والإنغلاق والإعتصام بالكنيسة في كل أزمة أو مشكلة تحل بأي إنسان مسيحي مصري , والإتصال بالجهات الأمنية التي لها عيون داخل كل كنيسة كما لها عيون داخل كل مسجد , من غير أن يكون للمسيحيين المصريين رأي واضح في القضايا المصرية المصيرية ذات القاسم المشترك الإنساني , وإليك يا نيافة الأنبا توماس , المفاوضات التي تتم بين الأنبا شنودة وبين الجهات السيادية المسؤلة في مصر لوقف تظاهرات أقباط المهجر , تلك التظاهرات التي تحرج النظام المصري وتسبب له المشاكل في الداخل والخارج , فأنتم من سيستم المسيحية كما يريد العرب المسلمين أن يؤسلموا السياسة والمجتمع , وأنا حينما أكتب هذه السطور فلابد أنني متهم , ولابد أنني مدان إذ كيف أكتب وأدافع عن مسيحي , وتتوالي الإتهامات علي أن هذا حب لغير المسلم , وغير المسلم في النار , ومن أحب قوم حشر معهم , أي سيكون في نهاية الأمر مصيري مثل مصيرك في النار حسب سياسة تأميم المفاهيم الدينية التي ترعاها الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها الدينية والكنيسة لها دور في هذه المسألة مثلها في ذلك مثل مؤسسة الأزهر .
ومن فضلك ياسيدي دعنا من مثل هذه المقولات التي تقرر فيها : نحن لسنا كنيسة ضعيفة ، ولا أشخاص ضعفاء ، نحن أقوياء وسنظل صامدين ، فالمحبة التي فينا أقوي بكثير من الكراهية ، وبقوة المحبة سنبقى ونعمل ونندمج مع المجتمع ونعمل من أجل خيره وسنسعى للوصول إلى والتواصل مع إخواننا وأخواتنا في الوطن.
فهذا الكلام المبني علي كنيسة قوية لابد وأن يواجهه مسجد أقوي , ولذلك نعترض علي مثل هذه الكلمات التي لاتؤسس لقيام مجتمع قوي , وتتنافي مع دولة المواطنة التي يتوجب علينا أن نسعي للتأسيس لها , وهذا الكلام المبني علي لسنا كنيسة ضعيفة , لسنا أشخاص ضعفاء , وقوة المحبة التي هي أقوي بكثير من الكراهية , هذا الكلام في جزء منه مآله دور العبادة , أما المجتمع فلا يتوجب عليه أن ينساق لهذا الكلام إلا من خلال عباداته التي تترجم في الواقع عبر منظومة قانونونية أساسها الحق والواجب , والذي يخرج عليها أياً كان دينه تشمله نظرية العقوبة القانونية .
وعلي المثقفين المصريين الخارجين علي ثقافة السلطة الحاكمة أن يكون لهم دور في إحداث علائق التغيير في المجتمع المصري بكافة الأساليب والطرائق التي تؤسس لمجتمع دولة المواطنة , وأدعو المثقفين إلي إعادة النظر فيما قرأوه من كلمة الأنبا توماس ومراجعة ماجاء بها بحيدة وإيجابية بعيداً عن التقييم الديني للأنبا توماس , وليس بإعتباره رجل دين مسيحي مصري , لأن الدين إذا دخل في المفاهيم فسدت المفاهيم , بسبب تعدد المفاهيم , حال كون الدين واحد , والمفاهيم لاتحصي ولاتعد !!
وفي النهاية , أين يكمن الخطأ ؟!!
#محمود_الزهيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟