أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - محمد السالك ولد إبراهيم - عسكرة الديمقراطية في موريتانيا: صراع -على هامش- الشرعية















المزيد.....


عسكرة الديمقراطية في موريتانيا: صراع -على هامش- الشرعية


محمد السالك ولد إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 2363 - 2008 / 8 / 4 - 10:42
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


هل بدأ فعلا العد التنازلي لنهاية حلم الجمهورية الثالثة في موريتانيا؟! أم هي مجرد غمامة صيف، ليس إلا؟ مرة أخرى، يتضح جزء من جبل الجليد الذي تواجهه مشاريع التحول الديمقراطي في بلدان العالم النامي و ما يطرحه ذلك من تحديات هائلة. و لعل من أغرب مشاهد تلك التجارب - ضمن المحيط العربي الإفريقي- و أجدرها بالرصد و التحليل هو مشهد التجربة الموريتانية في مجال توطين الديمقراطية، التي يمكن اختصارها في مغامرة تشييد صرح ديمقراطي فوق رمال الصحراء المتحركة.
إن ميلاد ديمقراطية تعددية مزركشة بألوان قوس قزح، نمت و ترعرعت في أحضان العسكر منذ قرابة عشرين سنة (1986 - 2006) و تخللتها بانتظام انتخابات عامة متفاوتة الشفافية، ربما شكل بداية مشجعة على اقتحام رحلة الألف ميل التي تبدأ بخطوة. و لكن وجود طبقة سياسية مائعة، يغلب عليها الفساد وتسودها العلاقات الزبونية إلى جانب أحزاب سياسية هلامية، قديمة و جديدة و جديدة - قديمة، يسيطر عليها الهوس بالسلطة و التكالب على المغانم، لا يمكن - بالتأكيد- أن يكون نهاية سعيدة لمسار تجربة نصف قرن من الخطأ و الصواب، هي عمر الدولة الوطنية (État-nation) نفسها في موريتانيا.
و هكذا، كانت آخر تقليعة جاء بها العسكر في بلادنا هي ما عرف بـ "ديمقراطية المرحلة الانتقالية"، عندما دفع انقلاب عسكري مفاجئ العقيد "اعلي ولد محمد فال"، المدير العام الأسبق للأمن الوطني، إلى هرم السلطة في خريف سنة 2005، على رأس مجموعة قليلة من الضباط المتنفذين، ما لبثوا أن "رتبوا" انتخابات بلدية و برلمانية و رئاسية "نظيفة" على مقاس خوذاتهم، ليتسلقوا خلسة سلم "الجنرالية" بعد ذلك، ثم لينتهوا من "لعبة التآمر على الديمقراطية بواسطة الرئيس المنتخب إلى التآمر عليه بها" على حد تعبير الكاتب اللامع حنفي لد الدهاه في مقاله الأخير "الخيار بين إعدامين". فهل انتهى مشهد الديمقراطية الانتقالية في موريتانيا ليبدأ مشهد الديمقراطية الانتقالية "المضادة"؟
منذ بضعة أيام، عندما تفجرت الأزمة السياسية الحالية داخل الحزب الحاكم في موريتانيا، بين مجموعة من النواب و السياسيين المحسوبين على "الجنرالات الجدد" من جهة و رئيس الجمهورية المنتخب و حكومته المؤلفة حديثا من جهة أخرى، بدت هذه الأزمة المفاجئة للرأي العام كمجرد مناورة تكتيكية "داخلية" لتعزيز مكاسب أو لتحسين مواقع معينة ضمن هامش محدد سلفا و ربما أيضا، لكسب بعض الوقت بإشغال و مشاغلة شعب فقير و متخلف، بات يعاني الأمرين بفعل الإحباط بسبب تأخر و تلكؤ أجندة التغيير و الإصلاح و هو يعيش وسط دوامة من الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية الخانقة مع استمرار غلاء الأسعار و تأخر موسم الأمطار للسنة الثانية على التوالي.




لكن هذه الأزمة، التي ما انفكت تتعقد يوما بعد يوم، قد بدأت تأخذ الآن ملامح صراع داخلي مكشوف على السلطة و تقاسم المنافع بين الأطراف المتحالفة التي باتت تشكل "البراديغم"paradigme السياسي للحكم بأجنحته المختلفة في موريتانيا ما بعد المرحلة الانتقالية. و بالرغم ن صعوبة التكهن بمسار الأزمة و آفاق تطوراتها المحتملة في الوقت الراهن، لا بد من طرح بعض التساؤلات مساهمة في إثراء النقاش الدائر حاليا: فما طبيعة الأزمة الحالية في موريتانيا وما هي أبرز ملامحها؟ و من هم الفاعلون الرئيسيون في الأزمة و ما أهدافهم؟ و من الرابح و من الخاسر في اللعبة؟ و ما هي السيناريوهات المستقبلية لما بعد الأزمة؟
مهما يكن من أمر، سيظل ملفتا للانتباه في هذه الأزمة، منذ أول ظهور إعلامي رسمي للمجموعة المستقيلة من الحزب الحاكم، هو بروز قواسم مشتركة تتمثل في العلاقات "الحميمية" لتلك الوجوه المعروفة - التي ظهرت على الأقل في الصف الأول من المجموعة- من حيث ارتباطها الوثيق بـ "رموز المرحلة الانتقالية" السابقة أو بأوساط المخابرات. أما زملاؤهم من النواب الذين "بادروا" بالتهديد بحجب الثقة عن حكومة الوزير الأول الجديد، فبمجرد إلقاء نظرة عابرة على خلفياتهم العائلية و القبلية، تتضح كذلك طبيعة و مقدار أواصر القربى التي تربطهم بكل من "رموز المرحلة الانتقالية" السابقة و بـ "الجنرالات الجدد". ناهيك عن خلفية ترشح هؤلاء النواب أصلا، عندما "هبوا" فرادى و جماعات، "مستقلين" تارة و "متحزبين" تارة أخرى و كيف استطاعوا دخول قبة البرلمان و كيف ناوروا لتشكيل تكتل مرجح داخله، إلى أن "ألف" الله بين قلوبهم مع بقية "إخوانهم" الآخرين في الأغلبية الرئاسية و "ألهمهم" الدخول في حزب "عادل"، فتلك إشكالية أخرى قد يطول الآن فيها الحديث.
يتضح إذن، بأن تحرك هذه المجموعة السياسية المحسوبة على "رموز المرحلة الانتقالية" السابقة و كذا على "الجنرالات الجدد" – في هذا الوقت بالذات- لا بد أن يكون ذا أهداف متصلة بمقتضيات التأثير على ميزان القوى داخل "براديغم"paradigme السلطة و الحكم، أكثر من كونه يعني تغييرا سياسيا جوهريا في طبيعة النظام نفسه. إذ لا يمكن حتى الآن تلمس أي مؤشرات تدل على حصول مثل ذلك التغيير السياسي.
و لعل في لجوء "الجنرالات الجدد" إلى استخدام بعض أوراقهم من "المدنيين" - الذين لم يتردد زميلهم النائب المخضرم ولد بدر الدين- في وصفهم بـ "البيادق"، ما يشير إلى إفلاس استراتيجي حقيقي بالرغم من الأهمية التكتيكية المؤقتة لتلك الخطوة . فلا بد أن "الجنرالات الجدد" قد فقدوا جل "أوراقهم" الضاغطة داخل المؤسسة العسكرية و الأمنية التي ينتمون إليها، لكي "يغامروا" بتدبير و توجيه "انقلاب مدني" ضد "الرئيس المؤتمن"، بعد أن قطعت عليهم تداعيات "ترقيتهم" المثيرة للجدل الطريق إلى الثكنات إثر التململ الكبير الحاصل في أوساط كبار الضباط العسكريين احتجاجا على تلك الهدية "الملغومة" التي قدمها الرئيس المنتخب عربون مودة للضباط الذين جاءوا به قبل عام و نيف إلى السلطة. فهل تسرع الرئيس، إذن، في عملية التخلص من "الجنرالات الجدد"؟ أم أن هؤلاء ربما أحسوا "بالخطر" الداهم فقرروا أن "يتغدوا" بالرئيس قبل أن يتعشى هو بهم؟
و لكن، هل يمكن أن تكون للموقف أبعاد أخرى تتجاوز الخصومات "العائلية" داخل "كزرة" أهل الأغلبية الرئاسية؟ يعتقد بعض المراقبين أن للأزمة الحالية أبعادا و تعقيدات بالغة تتصل من جهة بسراديب السياسة المحلية الموريتانية و تضاريسها الأيديولوجية و فسيفسائها المجتمعية، كما تتصل، من جهة أخرى، بـ "أجندة" السياسة الدولية و الأدوار المعلنة و "الخفية" للقوى الدولية و الإقليمية و ما لها – تقليديا- من تأثير بالغ على تطورات الموقف السياسي في موريتانيا.
وعلى هذا النحو، يحلو الآن لبعض المحللين التحدث عن اكتشاف مثير لـ "صلات سياسية" قديمة سبق أن كانت تربط الرئيس المنتخب - في ما مضى- بالحركة الوطنية الديمقراطية (MND). تلك الحركة السياسية الموريتانية العتيدة، ذات الجذور اليسارية و صاحبة الخبرة الواسعة في التعاطي مع مختلف الأنظمة السياسية المدنية و العسكرية و ترويضها.

و بينما يجتهد هؤلاء في إيجاد تأصيل"تاريخي" - و لو متعسف- لتفسير التحالف الجديد بين الرئيس ولد الشيخ عبد الله و بعض أهم رموز تلك الحركة، ذلك التحالف الذي تكلل مؤخرا بدخول الحزب الممثل لها ( اتحاد قوى التقدم) في الحكومة الجديدة بعدد من الحقائب الوزارية، يذهب آخرون إلى أن "الخطة" السرية التي ربما تكون حركة (MND) قد اقترحتها على الرئيس ولد الشيخ عبد الله لتخليصه من نير "الجنرالات الجدد" و تدخلاتهم المستمرة، تقتضي استخدام العناصر المعروفة بـ "رموز الفساد" من بقايا "الحرس القديم" للرئيس الأسبق ولد الطايع لأجل مقارعة "الجنرالات الجدد" و تضييق الخناق عليهم في مرحلة أولى، ليتم بعد ذلك استخدام "رصيد" الإسلاميين في بناء جسور مع الجيش بغية إعداد مجموعة مختارة من الضباط أكثر "انسجاما" و "تمثيلا" للمؤسسة العسكرية، ليعهد إليهم بمهمة حماية ظهر النظام كبديل عن "الجنرالات الجدد" الذين سيكون قد تم استهلاكهم. و كدليل على صحة هذا الزعم، يسوق أصحابه أمثلة بارزة على قرارات جريئة و حاسمة اتخذها الرئيس المنتخب مؤخرا و لم يستشر فيها "الجنرالات الجدد" بل اكتفى فحسب بأخذ آراء بعض الأصدقاء و المقربين منه بمن فيهم -على الأقل- شخصية مخضرمة من (MND). و يتعلق الأمر هنا بقرار إقالة الوزير الأول السابق السيد الزين ولد زيدان و قرار تعيين الوزير الأول الجديد السيد يحيى ولد أحمد الواقف و كذا قرار المصادقة على التشكيلة الحكومية الحالية، التي يعتقد بأن تركيبتها "الخاصة" تعكس إلى حد كبير "شفرة الخطة السرية" التي يقال بأن (MND) قد اقترحتها على الرئيس المنتخب.
كما يعتقد محللون آخرون بأن للأزمة الحالية أبعادها الدولية و الإقليمية التي تتصل من جهة بـ "تفاهم ودي" حول الموقف من موريتانيا ربما يكون قد حصل مؤخرا بين الولايات المتحدة و فرنسا. و يفترض أن ذلك "التفاهم" - الذي ربما أخذ بعين الاعتبار مخاوف و تطلعات بعض القوى الإقليمية المتنفذة - يستند إلى جملة من الترتيبات التوافقية بين الطرفين بدء بتنظيم التواجد العسكري و الأمني المشترك في البلد و تقاسم مناطق النفوذ و استغلال المصادر الطبيعية و مرورا بتأمين استمرار الموقف الرسمي من إسرائيل و انتهاء بالمواصفات و المعايير المطلوبة في نظام الحكم السياسي و طبيعة الحكومة المقبولة. و تخلص مثل هذه التحليلات إلى أن الأزمة الحالية و تحرك "الجنرالات الجدد" الذين يقفون خلفها، إنما يأتي من وحي ذلك السياق "الدولي" الذي يعكس قلقا متزايدا بات يساور "المنظومة الدولية" من ضعف قبضة الرئيس المنتخب على مقاليد السلطة و من بروز ميوله الدينية الواضحة و من "حساسيته" أزاء استمرار العلاقات مع إسرائيل بالإضافة إلى فشله الذريع - حتى الآن على الأقل - في معالجة الملفات الكبرى العالقة مثل المخدرات و الإرهاب. و أخيرا، ربما يكون انفتاحه على الإسلاميين و قبول مشاركتهم في الحكومة الحالية بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
و لتتضح الصورة أكثر، يبدو أن ما لا تريده القوى الدولية هو رئيس "يسود و لا يحكم" - على حد تعبير المقال الشهير للأكاديمي الخليل ولد مأمون- له الجرأة على تهديد "إسرائيل" بعرض العلاقات الدبلوماسية معها على استفتاء عام، بينما تهاجم السفارة الإسرائيلية في عهده و يعجز عن تأمين سلامة الأجانب الغربيين فوق أراضيه و يفتح حكومته لمشاركة "الإسلاميين" فيها، فيبعد عنهم بذلك تهمة الأصولية و التطرف و يمنحهم "مجانا" قناة اتصال مباشر مع الجيش عبر وزير الدفاع "المحسوب" عليهم و منبرا إعلاميا رسميا "للتواصل" و لتعبئة الأنصار و المؤيدين على نطاق أوسع. كما أن القوى الدولية لا ترغب كذلك في ركوب مغامرة يجري فيها استبدال أنظمة قوية موالية لها في المنطقة و تعتبر "مأمونة الجانب" مثل نظامي حكم ولد الطايع و ولد محمد فال بنظام حكم هش قد يفضي في أحسن الأحوال إلى إنقلاب عسكري "إسلامي" على الطريقة السودانية أو إلى الدخول في متاهة من الفوضى العارمة غير المحسوبة العواقب. و باختصار، فإن ما تريده القوى الدولية في موريتانيا هو نظام حكم قوي، يديره ديكتاتور "عصامي" بقبضة مخملية بينما هو يتشدق طوال الوقت بمزايا الديمقراطية و الحكم الرشيد. و بما أن هذه المواصفات المطلوبة لا تكاد تتوفر - في الوقت الراهن- في شخصيات سياسية من العيار الثقيل عدا الرئيسين السابقين ولد الطايع و ولد محمد فال، فإن احتمال أن تكون الأزمة الحالية في انواكشوط مجرد زوبعة في فنجان أو مناورة ذكية لإعادة أحد الرجلين إلى السلطة - وسط ضوضاء مفتعلة- لم يعد، بعد الآن، من رابع المستحيلات.

و بالرجوع إلى تحليل ملامح الشخصية العامة لعناصر المجموعة المستقيلة من الحزب الحاكم، بالإضافة إلى العلاقات "الحميمية" التي تربط تلك الوجوه بـ "رموز المرحلة الانتقالية" السابقة أو بأوساط الاستخبارات و"الجنرالات الجدد" كقاسم مشترك فيما بينهم، نجد سمة أخرى جوهرية هي افتقار تلك المجموعة إلى وجود أي شخصية محورية تتمتع بـ "كاريزما" خاصة أو بسمات الشخصية القيادية التي يحتمل أن تشكل زعامة لتلك المجموعة. و يترتب منطقيا على هذه الملاحظة أن تلك المجموعة المستقيلة ستظل في أمس الحاجة إلى "زعامة حقيقية" خاصة عندما تحين لحظة الانتقال إلى الخطوة التالية إذا ما قدر لهذه المناورة أن تستمر. و بطبيعة الحال، لا يتوقع أن تأتي تلك الزعامة من بين "الجنرالات الجدد" الذين يجيدون فيما يبدو استخدام "الريمنت كونتول" في إدارة "الأزمة" و لكن لا يتوقع أن تكون لهم القدرة على تقمص الزعامة السياسية للمجموعة المستقيلة عندما تزف ساعة الحقيقة. بل إن أغلب الظن هو أنهم سيستنجدون - كما فعلوا في السابق- بخدمات "زعيم محترف" من خارج السرب، يكون مصنفا وطنيا و دوليا. و لا شك أن هذا "الزعيم" يتابع الآن مجريات الأحداث في الكواليس وهو ربما يتحين الفرص ليهبط بالمظلة على المشهد فجأة إذا كان ما يزال يجيد استخدامها.
و كدليل على صحة هذا الزعم، يسوق أصحابه جملة من الأحداث ذات الدلالة القوية في هذا الصدد مثل استمرار التواجد العسكري والأمني الأمريكي المكثف في شمال البلاد و خصوصا في مدينة أطار و ضواحيها منذ أشهر، بحجة التحضير لإجراء مناورات مشتركة بات يكتنفها الغموض. ذلك التواجد العسكري الذي تدل مؤشرات عديدة على أنه أخذ يتسع في المكان و الزمان و الحركة ليتخذ شكل مجهود منظم لإقامة ترتيبات عسكرية و ميدانية غير مسبوقة و ربما كذالك لتشييد صروح إنشائية ضخمة، سواء بهدف إقامة قواعد عسكرية و أمنية مؤقتة أو دائمة أو منشآت عسكرية خاصة أو مراكز للقيادة و السيطرة. و يدل على حجم و أهمية ذلك التواجد العسكري و الأمني حجز عدة فنادق بالكامل في المدينة من طرف "البعثة الأمريكية" في آدرار، و كذا تأجير عدد من الشقق و العمارات بأسعار مغرية و لمدد زمنية تتراوح بين عدة أشهر و سنة كاملة. أما الحدث الثاني ذي الدلالة القوية أيضا، فيتعلق بالأهداف الحقيقية للزيارة المتزامنة التي قام بها مؤخرا أحد "الجنرالات الجدد" إلى فرنسا، جاء بعدها مباشرة إلى موريتانيا ثلاثة جنرالات من الجيش الفرنسي في إطار تعزيز التعاون العسكري و الأمني بين البلدين. حيث التقوا بكل من الرئيس المنتخب و بـ "الجنرالات الجدد". لكن "حساسية" الرأي العام الموريتاني المفرطة من زيارات جنرالات الجيش الفرنسي لبلادنا - خاصة ضمن ظروف الأزمة الحالية- تثير التوجس مما قد تحمله من "رياح" قد لا تشتهيها "السفن" خصوصا مع اقتراب ذكرى انقلاب 3 أغشت الأخير.
و لكن، من هو الخاسر و من هو الرابح في الأزمة الحالية؟ بالرغم من أن هذا السؤل يبدو سابقا لأوانه إلى حد ما، فإن خيوط الإجابة عليه يمكن تلمسها في الحيثيات التالية.
أولا: في ما إذا تأكدت فرضية "الإرادة الدولية و الإقليمية" لتغيير الرئيس المنتخب قبل انتهاء مأموريته و بالتالي إسقاط حكومته "المؤلفة" حديثا، فسيخسر "الجنرالات الجدد" لأن أدوارهم الحالية ستنتهي حتما - كأدوات انقلاب على "الشرعية" - بمجرد اكتمال عملية الانقلاب ذاتها. وعندها سيكون الرابح الأكبر من المناورة التي تورط فيها "الجنرالات الجدد" هو "جنرال" آخر لما يوقع بعد على مرسوم ترقيته، هو العقيد أعل ولد محمد فال، الذي يتوقع أن يستنجد به "الجنرالات الجدد" لإخراجهم من الأزمة الحالية أو تعيده القوى الدولية إلى سدة الحكم من جديد عبر انتخابات سابقة لأوانها. و عندئذ، ستشكل المجموعة المستقيلة حاليا من حزب "عادل" نواة صلبة لـ "حزب أعل"؛
ثانيا: في ما إذا لم تتأكد فرضية "الإرادة الدولية و الإقليمية" لتغيير الرئيس المنتخب قبل انتهاء مأموريته و كان "الاعتراض" يخص فقط الحكومة "المؤلفة" حديثا و تشكيلتها "المنمنمة"، فسيخسر "الجنرالات الجدد" كذلك، لأنهم قد غامروا بكشف البرقع عن رؤوسهم و الظهور على المسرح "كفاعلين سياسيين" خارجين على "الشرعية"، يزاحمون بـ "خشونة" رئيس جمهورية منتخب كان قد أجزل لهم العطاء، فما قنعوا.

و بذلك ستحترق كل أوراق "الجنرالات الجدد" أمام الرأي العام الوطني و الدولي، ليتسنى عندئذ للرئيس المنتخب استجماع شجاعته الأدبية لممارسة كامل صلاحياته الدستورية في التخلص منهم بجرة قلم يوقع بها على مرسوم إقالتهم "دون أن تنطح فيها شاة شاة" كما يقال؛
و مرة أخرى، يظهر في خلفية المشهد العبثي للأزمة الحالية ذلك الصراع المزمن بين المصالح الاقتصادية والجيو- سياسية للقوى الدولية والإقليمية المتربصة بهذا البلد و سيادته و مصالحه ومستقبله، عبر دوامة محيرة من جدليات التقارب و التناوب والتحالف و التخاصم و التدافع و التنافس و التصارع فيما بين تلك القوى عموما، خاصة منها "المصالح" الفرنسية والأمريكية المتجاذبة على الساحتين الإقليمية و الدولية.
أما الآن، و بعد مرور نصف قرن على استقلال البلاد، فلا بد من الاعتراف بأن المشروع السياسي الأصلي لموريتانيا الذي كان يهدف إلى بناء دولة وطنية (État-nation) تتجاوز التقسيمات "الإثنية" و"الجهوية" والقبلية، بات يعاني - أكثر من أي وقت مضى - من تراكم أزمات جدية غير مصرح بها. و لا جدال اليوم في أن غياب رؤية واضحة لكيفية تحقيق الأهداف المنشودة و تضافر الصعوبات المرحلية المتعددة التي واجهت المشروع منذ بداياته و عبر مراحل تطوره المختلفة و كذا تأثير التقلبات الحادة للنظام الدولي، قد قادت في نهاية المطاف مشروع الدولة الوطنية (État-nation)نحو طريق مسدود. و لما لم يكن ذلك النموذج الدولتي - منذ إنشائه- قائما على أساس "المواطنة" و"الموالاة للدولة" كتعبير عن الإرادة الداخلية للأهالي من خلال "عقد اجتماعي" فيما بينهم، فقد -جرى الالتفاف عليه - شيئا فشيئا- ليتم تجييره عبر مخططات اختزالية، زبونية و ضيقة، تمثلت في سلسلة من الممارسات البشعة التي يسميها المفكر الفرنسي الكبير "جان فراسوا بايار" في كتابه "الدولة في إفريقيا"، بـ "سياسة البطن" (la politique du ventre ) التي ما فتئت تمارس بوتيرة شبه منتظمة على خلفية "ضربات القوة" و "ضربات الدم" العبثية التي تتشابه و تتوالى على بلادنا في نوع من "العود الأبدي" التعس.
فهل يمكن إذن، اعتبار الديمقراطية كـ "أيديولوجيا" مهيمنة، بنتا غير شرعية لعلاقات القوة اللامتكافئة بين أقطاب متعددة، أكثر من كونها تكريسا مثاليا لفكر الفلاسفة الغربيين و المصلحين الأوائل؟
ثم هل دخلت الممارسة الديمقراطية - في ظل التحولات العالمية الجارية - مرحلة متقدمة من الارتداد والنكوص ربما تؤدي إلى تراجع و تقهقر المقولة نفسها؟ و هل حقا يمكن تصور أو توقع نجاح تجربة ديمقراطية بدون ديمقراطيين؟
ثم، هل سيظل إدراك مقولة الديمقراطية في العالم العربي الإسلامي - بما في ذلك بلادنا- منحصرا في نوع من الوعي الشقي المترنح بين نوازع الاحتفاظ بالحكم و ضرورات التعامل الحذر مع مقتضيات التغيير و الإصلاح ضمن سياقات محلية، إقليمية و دولية يستعصي استقراء ملامحها أو التكهن باتجاهاتها؟ وهل سيتغير الجوهر الاستبدادي لأنظمة الحكم في هذا البلد؟ أم سيظل الاهتمام بالديمقراطية من طرف مختلف الفاعلين السياسيين مجرد معطى متغير الأهداف والأبعاد والقيمة؟
هل سيتم إيجاد حل جذري للمعضلة المزمنة المتمثلة في تسييس وتجيير مؤسسات الجيش والأمن الوطني في لعبة استغلال واحتكار "العنف العمومي" كوسيلة للوصول إلى السلطة والتمسك بها تحت أي ذريعة؟ و هل ستوضع ضوابط موضوعية و ميكانيزمات فعالة للتعاطي مع المؤسسات العسكرية والأمنية باعتبارها مؤسسات جمهورية، لها ما لها وعليها ما عليها بموجب القانون ولا يمكن أن تكون- بأي حال من الأحوال- "فوق" الجمهورية أو فوق "الشرعية" أحرى أن تكون في مواجهة معها، كما يحدث الآن؟
هل ستتم إعادة صياغة "مفهوم" و "مهام" الأمن الوطني و طرق ممارسته فنيا ومهنيا وأخلاقيا حسب مقتضيات دولة القانون، ليس باعتباره محصورا في الاهتمام بأمن الأرض والحاكم على حساب المواطن نفسه، بل باعتباره يمثل جوهر رعاية "الصالح العام" بما يضمن صيانة السلم الاجتماعي للجميع أي لمكونات الدولة الموريتانية ذاتها؟


على كل حال، إذا كان مفجرو الأزمة الحالية تهددون "بحجب" الثقة عن الحكومة الجديدة، فإن أوجاع الشارع الموريتاني و تفاقم أزماته المختلفة لن "يحجب" عن الأذهان حقيقة أن أغلبية الموريتانيين- بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والحزبية- سيظلون قلقين جديا حول مصير "ديمقراطيتهم" على أيدي نظام حكم يفترض بأن تجربة الديمقراطية - في طبعتها الانتقالية- تحسب له بدل أن يحاسب على التفريط فيها!!!

***
* باحث - المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل / [email protected]







#محمد_السالك_ولد_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلطة و المعارضة في موريتانيا.. نحو خارطة طريق للمصالحة
- السياسة الخارجية الموريتانية: جدلية الداخل و الخارج
- موريتانيا.. نحو الجمهورية الثالثة؟ بين تنصيب 18 ابريل1992 و ...
- بين الإسلام و الغرب: تهافت الديمقراطية


المزيد.....




- وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق ...
- جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
- فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم ...
- رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
- وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل ...
- برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية ...
- الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في ...
- الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر ...
- سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - محمد السالك ولد إبراهيم - عسكرة الديمقراطية في موريتانيا: صراع -على هامش- الشرعية