هذا عرض موجز لكتاب فريد من نوعه: "اميريكا تستحث رفعت الأسد للوصول إلى السلطة في العام 1984"، من تأليف وزير الدفاع نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة في سوريا العماد أول مصطفى طلاس. والطبعة الأولى للكتاب صادرة عام 2003 عن "دار الذاكرة" في بيروت.
يتحدث هذا الكتاب الوثيقة عن فترة مهمة من تاريخ سوريا، وقد لا يفوق مؤلفه في الاطلاع على بواطن حوادثها غير المرحوم الرئيس حافظ الأسد. إنه شهادة نادرة لمرحلة وعليها، لرجال وعليهم، يجد فيها كل من المؤرخ والسياسي والمثقف والصحافي ما يفيده ويمتعه ويثير تأمله. وكم يأمل المرء لو أن مسؤولين سوريين آخرين، حاليين أو سابقين، يبادرون إلى تسجيل شهاداتهم ومذكراتهم عما عاشوه وشاركوا فيه من أحداث. إن تجاربهم وخبراتهم وذكرياتهم ثروة لا تقدّر بثمن، تساهم، لو دُونِّت، في إخراج تاريخنا الراهن من صمته.
ولأن هذا الكتاب وثيقة عن وقائع ورجال وطرق تفكير فإن نفسي لم تطاوعني على تشويهه باختصار جائر. إن خطط رفعت الاسد لقصف دمشق واستباحتها، وابتزازه المال العام من أخيه الرئيس حين كان المصرف المركزي خاويا "حتى من الفئران"، على ما يقول العماد، وتفسير زيارات الرئيس أمين الجميل الثلاث المتتالية إلى دمشق، وأصل عهود الولاء بالدم، فضلا عن وقائع أخرى كثيرة، هي من المعلومات التي لا يؤمنها أي مصدر مطلع آخر بحسب علمي. لذا فرغم أن هذا العرض أقرب إلى التلخيص، فإنه لا يغني عن الكتاب، إن من جهة المعلومات أو خصوصاً من جهة أسلوب العماد أول مصطفى طلاس الذي لا يجارى.
دولة ضمن الدولة
في بداية شباط من عام 1984 شاهد المؤلف صوراً على بعض جدران دمشق للعميد رفعت الأسد "تمثله رافعا قبضة يده كدليل على القوة والتحدي". ومن عدم ارتياحه الشخصي "لهذه المناظر المؤذية والغبية" استنتج أن "الرئيس حافظ الأسد سيكون اشد انزعاجا لأن هذا الموضوع يخصه في الدرجة الأولى قولا واحدا". ويشير العماد إلى ان الرئيس كان الشخص الوحيد الذي يتابع "عبر قنوات سرية للغاية" الشؤون الأمنية لسرايا الدفاع التي يقودها شقيقه. والقنوات سرية لأن العميد رفعت كان يسجن أي ضابط في السرايا له علاقة مع المخابرات العسكرية، الأمر الذي جعل السرايا بمثابة "غيتو خاص يصعب انتهاكه". فقد تبيّن مثلا بعد فشل محاولة رفعت الأسد الاستيلاء على السلطة عام 1984 أن أحد ضباط السرايا "دخل السجن برتبة ملازم أول وأصبح برتبة مقدم بعد ثماني سنوات أمضاها بشكل غير قانوني في سجن سرايا الدفاع".
إبعاد سرايا الدفاع عن حراسة مقر القيادة العامة للجيش
يخصص طلاس الفقرة الأولى من كتابه لكيفية إقصاء العقيد سليم بركات من موقعه كقائد الكتيبة 170 من السرايا المكلفة حراسة مبنى القيادة العامة للجيش ووزارة الدفاع، وذلك بهدف "حماية القيادة العامة من سيطرة العميد رفعت عليها". كان رفعت قد "تمكن من إقناع الرئيس الأسد بتعيين هذا الضابط رغم قلة كفاءته المسلكية في فترة نشاط الإخوان المسلمين". ورغم معرفة العماد "بتفاهة هذا الضابط"، فقد أحجم عن لفت الرئيس لعلمه أن "الهاجس الأمني هو المسيطر على ذهن السيد الرئيس ولذلك كانت الكفاءة العسكرية تتراجع إلى المرتبة الثانية".
وقد تم إبلاغ العقيد بركات قرار نقله في 19/2، وطلب من اللواء علي دوبا رئيس جهاز المخابرات العسكرية أن يمنع دخوله مبنى القيادة العامة.
حين جاءه العقيد بركات شاكيا، وجهه العميد رفعت أن يتجاهل الأمر ويعود مساء إلى قيادة الكتيبة، فقد سبق لـ 14 ضابطا من أنصاره أن امتنعوا عن تنفيذ أوامر رئاسية بنقلهم ولم يواجَهوا بأي تبعات. وفي المساء أعلن بركات في كتيبته أنه عُيِّن قائدا لها بتوجيهات من العميد رفعت وأنه لن يغادرها "إلا بأوامر شخصية من القائد رفعت الأسد".
ما إن علم اللواء دوبا بالأمر حتى سارع مع مرافقيه إلى حيث بركات: "لقد انتهى كل شيء ولم يعد لك مكان في هذه الكتبية". لكن العقيد بركات شهر مسدسه وصرخ: "سيدي اللواء لا تقترب مني رجاء!" فرد اللواء دوبا: "بل سأقترب منك يا ابن الكلب!" ثم قام عناصر المرافقة بتجريد العقيد من سلاحه، وصفعه اللواء وهدده بالمحاكمة. وهكذا "انتهت الحادثة بدون ضجيج، وبقي الذين يعلمون بها محصورين في أشخاص معدودين".
بداية المواجهة الحامية بين الطرفين
بعد الحادثة قرر العميد رفعت المواجهة مستندا إلى "نصائح أصدقائه في الداخل والخارج، وبخاصة (طويلي العمر) الذين كانت توحى إليهم التوجيهات بشكل مباشر من واشنطن". ويبيّن العماد أن المقصود بطويلي العمر "الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية" السعودي. على أن العماد يوضح أن ولي العهد السعودي "عاد إلى طريق الحق وأصبح مواليا للرئيس حافظ الأسد بعدما تبيّنت له نيات رفعت الخبيثة".
وقد علم الرئيس الأسد بنيات شقيقه كونه "الشخص الوحيد الذي يمسك ببعض الخيوط الأمنية في سرايا الدفاع".
فجر يوم 25/2/1984 هتف الرئيس إلى العماد طلاس في منزله: "ارتد لباسك العسكري وتوجه مباشرة إلى مكتبك في القيادة العامة واستنفر التشكيلات الضاربة القريبة من دمشق وارفع درجة استعدادها القتالي إلى الكامل، لأن العميد رفعت الأسد استنفر سرايا الدفاع بالكامل وهو يعد العدة للسيطرة على دمشق (...) وليكن في علمك أن رفعت جاد هذه المرة (...) ويجب أن تضع في اعتبارك أن المواجهة قائمة لا محالة ولذلك ليس أمامك سوى إشعاره بأن المواجهة مع الجيش ستكون عملية انتحارية له ولأتباعه".
وفي دقائق، استنفر العماد ألوية صواريخ وألوية مضادة للدبابات وسرايا الصراع التي يقودها العميد عدنان الأسد ابن شقيق الرئيس والفرق الأولى والثالثة والسابعة والتاسعة... وطلب من اللواءين علي دوبا ومحمد الخولي استنفار بقية الوحدات. "يعني لم نترك قائدا قريبا من دمشق وبإمرته وحدة مقاتلة إلا وتم رفع جاهزيته إلى الكاملة".
وطوال الوقت كان الرئيس يتصل متابعا عملية الاستنفار.
عند السابعة صباحا اتصل العماد طلاس راجيا الرئيس أن يرتاح قليلا إذ لم يبق غير "رب العالمين لم نستنفره!" فرد الرئيس ضاحكا: "لأنه معنا".
ثم طلب طلاس فوج مغاوير من الوحدات الخاصة المتمركزة في لبنان (كانت ثاني أهم تشكيل عسكري بعد سرايا الدفاع، وكان يقودها اللواء علي حيدر)، وذلك لحماية القيادة القطرية لحزب البعث. وإذ كان الرئيس يعلم بوجود تنسيق كامل بين شقيقه رفعت وقائد الوحدات الخاصة فقد كان متشككا في جدوى مبادرة العماد، وطلب منه أن يستدعي الفوج من دون إعلام اللواء علي حيدر بالأمر.
الوحدات الخاصة تبدل ولاءها
توجه العماد طلاس إلى تمركز "رجال المغاوير المتمرسين" في معرض دمشق الدولي المواجه لموقع القيادة العامة، وطلب من قادتهم أن يذهب المغاوير أفراداً كيلا يلفتوا انتباه مفارز السرايا، وأن يضربوا العناصر التي تواجههم منها بأخمص البندقية، فإن ثابروا على الممانعة توجَّه لهم "فوهة البندقية التي تنبع منها السلطة السياسية في الحالات الثورية كما قال الرفيق ما وتسي تونغ...عند ذلك سوف تجدونهم يفرون من المجابهة لأن إرادة القتال لديكم أقوى بكثير، وأنتم حماة السلطة وهم الخارجون على القانون".
بعد الظهر قدم اللواء علي حيدر مضطربا، وبادر العماد طلاس بالتساؤل عن سبب معاملته "كالزوج المخدوع، أي آخر من يعلم؟". رد العماد: "إذا كنت حقا معنا فما عليك إلا أن تطلب من مكتبي العميد رفعت الاسد وتقول له بصراحة موقفك". وافق اللواء حيدر وهاتف العميد: "أبو دريد ما بتعرف أنه في هذا البلد لا يوجد سوى قائد واحد هو الرئيس حافظ الأسد.. كيف يقوم عناصر من سرايا الدفاع بهذه الأعمال المشينة التي تسيء إلى انضباط القوات المسلحة؟" وكان جواب العميد رفعت: "أنت الآن تريد أن تعطيني دروسا في الوطنية يلعن أبوك ابن كلب". وأغلق السماعة.
وبعدما تمركز 2000 عنصر من الوحدات الخاصة في معرض دمشق الدولي طلب العماد من العميد عدنان الأسد قائد سرايا الصراع أن يرسل سريتي م/د الأولى "مالوتكا حقائب" والثانية "فاغوت" لتتمركزا على سطح القيادة العامة التي غدت بذلك "قلعة محصنة لا تنتهك".
ولما كان العميد رفعت مسيطرا على مداخل دمشق فقد تم تهريب صواريخ "فاغوت" المضادة للدبابات لتسليح سرايا الصراع (المرشحة للاصطدام قبل غيرها مع سرايا الدفاع) في عربة إسعاف. وهكذا "تمت عملية تحصين بيت قائد الأمة ورمزها المفدى".
نقل الضباط المحسوبين على العميد رفعت الأسد
بعدئذ تولى العماد إجبار الضباط الأربعة عشر المحسوبين على رفعت على تنفيذ أمر نقلهم. وقد أعلم الرئيس بعد نجاح المهمة أنه "ليس الجيش والشعب معك في هذه الأزمة وإنما العناية الإلهية كذلك". وروى له قصة الشيخ أحمد عبد الجواد الذي جاء من المدينة المنورة لنجدته. وخلاصتها أن السيدة أم فراس، قرينة العماد طلاس، اتصلت بالشيخ في المدينة المنورة ودعته إلى سوريا، لكنه اعتذر متعللا ببرد شباط في الشام. وكانت المفاجأة انه أتى دمشق في اليوم التالي، والسر في قدومه أنه ذهب إلى مسجد الرسول بعد اتصال السيدة أم فراس حيث صلى ثم غلبه النعاس فنام في الروضة الطاهرة. وفي المنام تراءى له الرسول وهو في عدة الحرب فسأله: إلى أين يا رسول الله؟ فرد الرسول "إلى الشام...لقد استنجد بنا اهل الشام افلا ننجدهم!... وركب بغلته واختفى كشهاب ثاقب".
وبناء على طلب الشيخ الصلاة والدعاء لمدة ثلاثة أيام في مكان مرتفع فقد رافقه العماد إلى جبل قاسيون صلاة ودعاء. وفي اليوم الثاني وبينما كان الرجلان يصليان شعر العماد بحركة غير طبيعية في الموقع "فالدبابات خارجة من مخابئها وسدنتها يقومون بتنظيف الذخيرة و مسح المدافع وتنظيفها".
وبفضل هذه الواقعة التي جرت في بداية شباط 1984 انكشفت أوراق العميد رفعت قبل أن يكتشفها أحد "باستثناء السيد الرئيس".
الشيخ أحمد الرفاعي يتراءى لي في المنام
اقترح الرئيس الأسد على العماد طلاس أن لا ينام كل يوم في مكتبه خشية عليه، لكن العماد صمم على المبيت في المكتب "حتى أعطي مثلا للاخرين بأن القائد يموت دفاعا عن وطنه حتى ولو في مكتبه". فقال الرئيس: "إذا كان هذا رأيك فأنا موافق لأنه من الضروري أن تترك أمثولات ومآثر للتاريخ".
وفي 12 آذار 1984 سمع العماد في منامه "جلجلة كبيرة" في ساحة الأمويين لا تصدر عن اقل من "ألف رجل يرقصون رقصة الحرب" وفي مقدمهم "الشيخ الجليل أحمد الرفاعي" الذي كان يهتف "بصوت يشق عنان السماء:
يا أيها النبي والكوكب الدري أنت إمام الحضرة سلطانها القوي
وعند عبارة "سلطانها القوي تهوي الف قدم على الأرض فترتج ساحة بني أمية كأن زلزالا ضربها".
استيقظ العماد وأطل من الشرفة على ساحة الأمويين فلم يجد شيئا، لكن المنام عاوده ثانية وثالثة حين كان يعود إلى النوم. "وبعد انتهاء الأزمة اعترف النقيب مالك مصطفى من سرايا الدفاع بأن العميد رفعت السد أمره ثلاث مرات بأن يطلق مدفعية ...على مكتبي وبعد خمس دقائق كان يأتيه أمر معاكس بأن ينزع القذيفة. وهكذا كانت العناية الالهية تحرس مبنى القيادة العامة".
خطة رفعت للسيطرة على دمشق واستباحتها
"كان العميد رفعت يستغل فترات ضغط الإخوان المسلمين على مرافق الدولة المختلفة ويطلب في ذروة الأزمة ضباطا ومجندين" إلى السرايا إلى أن بلغ عديدها 40 الفا من مختلف الرتب موزعين على أربعة ألوية سُمِّيِت "الألوية المحيطة". وقد كلف كلاً منها مهمة "السيطرة على المحاور المؤدية إلى دمشق": اللواء الأول: محور حمص; اللواء الثاني: محور بيروت; اللواء الثالث: محور القنيطرة; واللواء الرابع: محور درعا والسويداء.
وكانت الفكرة الأساسية "تقضي بإغلاق المحاور الأساسية في وجه الوحدات والتشكيلات الضاربة المتمركزة خارج دمشق والتي ولاؤها معقود للقائد الاسد". ثم "تتحرك ثلاث مفارز قوامها سرية دبابات+ سرية مشاة ميكانيكية + فصيلة هندسة عسكرية". مهمة المفرزة الأولى السيطرة على منزل رئيس الجمهورية، فيما تتولى الثانية السيطرة على مقر القيادة العامة، اما الثالثة فتقوم "باحتلال مقر الإذاعة والتلفزيون وتعلن مباشرة على العالم نبأ تسلّم رفعت الأسد مقاليد السلطة في البلاد".
أما القسم الاكثر إدهاشا في خطة رفعت، بحسب المؤلف، للسيطرة على العاصمة فهو القيام "بقصف دمشق عشوائيا لإرهاب السكان وقطع أنفاس الناس". وستنفذ هذا القسم من الخطة كتائب المدفعية /ب.م. 21/ التي تستطيع أن تطلق 720 قذيفة في دقيقة وعشرين ثانية. أما هدف القصف فهو "إشعار سكان العاصمة دمشق بأن القبضة التي تسلمت الحكم قبضة فولاذية".
ولا تتوقف الخطة هنا، فبعد قصف المدينة تقوم مفارز المشاة من السرايا "بعملية نهب وسلب للمدينة المنكوبة". ذلك أن العميد رفعت كان قد ابلغ ضباطه وجنوده "أن المدينة ستكون لهم حلالا زلالا ثلاثة ايام بلياليها" مشترطا عليهم ألاّ "يظل فقير واحد في سرايا الدفاع" بعدها. فإذا "طلب جندي بعدها مساعدة أو إكرامية ستقطع يده".
ومن ألطف ما يرويه العماد عن خطة قصف دمشق أن رفعت قال في "حديث هامس" مع مستشاره السياسي محمد حيدر وكانا يمشيان في ضوء القمر بمعسكرات القابون: "مو حرام وأسافة ان تهدم هذه المدينة الجميلة؟" فأجابه المستشار: "والله صحيح حرام وأسافة ولكن شو طالع بإيدينا غير هيك".
ويستخلص العماد من ذلك ان "على من يكتبون تاريخ سوريا الحديثة أن يقدروا مدى وأهمية الحكمة البالغة التي استخدمها الرئيس حافظ الأسد بنزع فتيل الأزمة".
علي عيد يرسل مفرزة لصوص لنهب دمشق
ويبدو أن لخطة قصف دمشق واستباحتها كمالة لبنانية. ففي أوائل نيسان علم العماد طلاس من قائد القوات السورية في طرابلس أن "علي عيد جهز مفرزة من اللصوص قوامها مئتا عنصر مع عشرين سيارة متنوعة وهم مسلحون ببنادق كلاشنيكوف ومدافع مضادة للدروع وقنابل يدوية ..."، وذلك بالاتفاق مع العميد رفعت لتشارك هذه المجموعة "في نهب محلات المجوهرات خاصة بدمشق عندما تحين ساعة الصفر لاستباحة المدينة ثم يهربون بالمسروقات إلى لبنان وهناك تتم عملية الاقتسام".
طلب العماد من قائد فرقة الدفاع الجوي في المنطقة الوسطى السورية أن يلقي القبض على اللصوص، ووعده هذا أن يفعل لكنه اتصل بعد قليل ليقول إن اللصوص "زمقوا" إلى دمشق (ويبدو انه تملص من المهمة خوفا من "نجاح رفعت الأسد بالسيطرة على دمشق"). وعلى الفور اتصل العماد باللواء شفيق فياض قائد الفرقة الثالثة وكلفه القبض على اللصوص. ورغم أن جماعة علي عيد "يرفعون أعلام الحزب وشعاراته على سياراتهم وصور رفعت الأسد" فإنهم في الحقيقة "لصوص حقيرون لا يجوز أن نسمح لهم بدخول دمشق وممارسة مهام التخريب والسلب التي كانوا يمارسونها سابقا في بيروت عندما أطلقوا على أنفسهم [اسم] فرسان البعث، وهم خليط من سرايا الدفاع وعناصر علي عيد". ويكشف طلاس أنهم "انسحبوا من بيروت إلى طرابلس الشام ولم يتصدوا للقوات الإسرائيلية في صيف العام 1982. لذلك فإن قواتنا المسلحة الباسلة لا تحترمهم أبدا... بل تحتقرهم".
وقد نجح اللواء شفيق في اعتقال اللصوص فوضعهم في "العناية الثورية المشددة" لينالوا "عقابا وضربا شديدا على مؤخراتهم بعد رشهم بخراطيم المياه... حتى لا ينسوا هذا الحدث في حياتهم". وقد تم "احتجاز اللصوص شهرا ونيفاً، ولم يطلق سراحهم إلا بعدما انتهت الأزمة وسافر العميد رفعت إلى موسكو".
الطائفة المرشدية تعلن ولاءها للرئيس
كان لقائد الجيش الشعبي محمد إبرهيم العلي دور مهم في إبعاد الطائفة المرشدية عن العميد رفعت وكسبها إلى صف الرئيس حافظ السد. فلكي يبرّئ نفسه من شبهة الموالاة لرفعت أبدى استعداده للإتيان "بأبناء الرب سليمان المرشد من حمص ومن جوبة البرغال لمقابلة السيد الرئيس". ومصدر أهمية هذه الطائفة التي تكونت أيام الانتداب الفرنسي واعتبرت زعيمها سليمان المرشد إلها، شراكة العميد رفعت مع ابن الرب [المسمّى] النور المضيء (...) في الأعمال التجارية" ثم انخراط عدد كبير من أبنائها في سرايا الدفاع "تنفيذا لتعليمات قيادتهم الروحية". وهم يشكلون "العمود الفقري للسرايا ويأتي ترتيبهم بعد الشريحة العلوية مباشرة".
وصدق العلي في ما وعد فأتى بأبناء الرب وفي مقدمهم "النور المضيء" حيث استقبلهم الرئيس في مكتبه لأكثر من ثلاث ساعات. وتسرب عن اللقاء أنه قالوا للرئيس "نحن لا يمكن ان نكرس الخيانة مبدأ للطائفة. ففي الماضي اتهمنا الانكليز باننا عملاء فرنسا، واليوم يتهمنا الوطنيون القوميون في سوريا بأننا عملاء اميركا. نحن باختصار رجال حافظ الأسد، وقد أحببنا أخاك رفعت لشعورنا بأنه جناحك الأيمن، أما وأنه قد شق عصا الطاعة عليك فلا ولاية له علينا". وقد اكتفى منهم الرئيس بأن يبلغوا جميع أبناء الطائفة "واليوم قبل بكرة" بموقفهم الجديد. وبعدما كانت "قلعة الأسرار التي لا تنتهك أصبحت سرايا الدفاع مثل الغربال يتسرب منها كل ما يحدث فيها".
حين علم رفعت بتحول المرشديين عنه استدعى "النور المضيء" وتحاور معه 7 ساعات من دون أن يظفر منه بحق ولا بباطل. أخيرا قال رفعت للنور المضيء: "أتعرف أنك لن تكلفني سوى رصاصة واحدة في رأسك!" فأجابه هذا: "أعرف ذلك، لكن هل تعرف أن الطلقة الثانية ستكون في رأسك أنت". وأعلمه بأن الحاجب الذي قدم لهما الشاي والقهوة "مرشديّ وليس علويا". وبعد نهاية اللقاء طلب رفعت من المسؤول عن التوجيه السياسي في السرايا ان يسأل الجنود المرشديين إن كانوا معه او مع اخيه الرئيس حافظ الأسد. ويقول العماد إن رفعت صعق في اليوم التالي حين جاءه الجواب أن نسبة مؤيدي الرئيس "مئة في المئة وليست 99% بينهم". وهنا صمم رفعت على الانتقام من المرشديين في السرايا فجمعهم (وكانوا 3225 ضابطا وجنديا) وجردهم من اسلحتهم "وأركبهم عربات نقل عسكرية كبيرة وقذفهم على الحدود السورية اللبنانية الفلسطينية وفي مواجهة الجيش الإسرائيلي مباشرة". ويكشف العماد أن إسرائيل "لم ترد على هذا الإجراء لأن الجنود الذين في مواجهتهم شبه عراة وكان الوقت ليلا". وقد أعيد الجميع بعلم الرئيس ووزعوا على قطعات الجيش كافة من صلخد إلى القامشلي.
أما الرفيق محمد ابرهيم العلي"فقد كوفىء على موقفه بأن "انتخب بتوجيه من الأمين العام (الرئيس حافظ الأسد) عضوا في اللجنة المركزية للحزب في المؤتمر القطري الثامن 1985".
فشل رفعت في محاولة فتح جبهة في اللاذقية
بعودة الطائفة المرشدية إلى "حمى الرئيس الأسد" بدأت سرايا الدفاع تتآكل وأخذت هيبتها تتدهور. هنا قرر رفعت نقل الصراع إلى اللاذقية لأن "المنطقة حساسة" ولأنه "يعتمد بشكل جدي على أبناء الطائفة العلوية". ويبدو أنه كان يتصور أن "من الصعب أن يأمر السيد الرئيس سلاح الطيران بقصف الأماكن التي ينشب فيها النزاع". ويؤكد العماد طلاس أن هذا "الإحساس خاطىء" إذ "لم يكن الرئيس يتردد بقصف اي مكان يلجأ إليه المتمردون على سلطته".
يكشف طلاس أن رفعت كان "يدغدغ أحلام المتعصبين طائفيا بأن وعدهم أنه سيقيم الدولة العلوية هناك كما اقام اليهود الدولة العبرية في فلسطين، وكما كان غلاة المتعصبين من الموارنة يحلمون بإقامة الدويلات الطائفية التي ستدور في فلك إسرائيل قولا واحدا". ويبدو أن رفعت تشجع في مشروعه لعلمه أن "اميركا سوف ترحب بالفكرة لأنها مع اي تفكك للأمة العربية".
بدأت تظهر على جدران اللاذقية عبارات تمجد شخص رفعت مثل "رفعت الأسد الشمس التي لا تغيب". وبدأ أنصاره ينصبون "الحواجز الطيارة لإشعار المواطنين أنهم موجودون بقوة على الساحة". ويبدو أن قصد رفعت من السيطرة على مسقط رأس الرئيس، بحسب العماد طلاس، أن يقول للعالم: "إذا كان أخي لا يستطيع السيطرة على المحافظة التي ولد فيها فهو بالأحرى غير قادر على السيطرة على باقي المحافظات".
كان موقف الرئيس حاسما: "لا مهادنة أبدا مع الخارجين على النظام. اضربهم اليوم قبل الغد".
غير أن قائد القوى البحرية الذي أمره العماد وزير الدفاع بأن ينذر المتمردين بالاستسلام وإلا يضربهم بالمدفعية الساحلية أظهر "إمارات التردد والنذالة وعدم الحسمية"، ثم كذب على العماد حين اخبره بأننا "رشقناهم رشقة ونحصي الآن خسائرهم". وقد نال هذا الضابط جزاءه حين أنتهت الأزمة وسُرِّح من الجيش.
وقد نفذت في النهاية أوامر وزير الدفاع ودمرت ثلاث ناقلات فوقع قتلى وجرحى في صفوف رفعت مما اضطره ان يستنجد بالرئيس متوسلا "أن نوقف النار لأنه قرر أن يخلي المعسكر وينفذ تعليمات القيادة العامة".
في هذا الوقت كان الصراع قد صار مكشوفا لا يمكن التستر عليه كما ارتأى العمادان حكمت الشهابي وعلي اصلان، لكن العماد طلاس رأى أن أي وكالة انباء لن تقدم على إذاعة الخبر لسببين: "1- وكالات الأنباء الغربية والموجهة من اميركا لن تذيع النبأ لأنه يبرز انتصار الرئيس الاسد وهم لا يرغبون بذلك. 2- وكالات الأبناء التي تدور في فلك موسكو لن تذيع هي الأخرى هذا النبأ حتى لا تتسبب لنا بأي إحراج". صدقت نبوءة العماد فلم تقم حتى "الصحف اللبنانية المحسوبة على الخط الأميركي" بإذاعة النبأ.
تزامنات تدل على أن المعلم واحد
"خلال ثلاثة اشهر من عمر الأزمة زارنا الرئيس اللبناني أمين الجميل ثلاث مرات" وهو ما لا يحدث بين أي بلدين مهما تكن علاقاتهما متميزة، كما يقول المؤلف. وتحليل العماد لهذا التواتر غير المألوف أن أميركا التي كانت تعرف ما يدور في السرايا "عن طريق عميلها جوزف صنصيل"، كانت توفد الرئيس الجميل لمعرفة ما "تجهله تماما في دائرة الرئيس الاسد". غير ان الرئيس اللبناني كان "يعود إلى بيروت صفر اليدين لأن الرئيس الاسد يتمتع بموهبة خارقة في إخفاء نياته عن خصومه". وهكذا "خاب فأل الإدارة الأميركية وأهدافها الخبيثة". وواضح أن المعلم المقصود في عنوان هذه الفقرة هو أميركا.
حل رابطة متخرجي الدرسات العليا
أسس العميد رفعت الرابطة بعد نيله الإجازة في التاريخ عام 1974، وذلك كي تكون "مظلة قانونية لعمله". وقد برر تشكيلها أمام أخيه الرئيس بجعل "متخرجي الدرسات العليا موالين للنظام". لكن "لم يبق انتهازي أو متسلق أو متطلع إلى السلطة أو التقرب من وهجها إلا وانخرط فيها"، بحسب الكاتب.
ومن لطائف ما يرويه العماد عن العميد رفعت حين كان طالبا في قسم التاريخ بجامعة دمشق أن رئيس القسم الدكتور محمد خير فارس شكا له "أن رفعت يأتي مع مفرزة من الحرس إلى الجامعة ايام الامتحان، ولا أحد يجرؤ من المراقبين أن يقول له شيئا، فماذا أفعل؟"، وكان رد العماد: "لا تفعل شيئا لأنه لن يعمل لديكم أستاذ تاريخ!". على أن أجمل ما يرويه العماد عن علاقة العلم بالسلطة في تلك الأيام الأمثولة التالية: "ما كاد رفعت ينهي الإجازة في التاريخ حتى تسجل في كلية الحقوق هو وزوجته لين وابنه دريد، وكانوا يقدمون الامتحان معاً في غرفة رئيس الجامعة الدكتور زياد شويكي حرصا على أمن الطلاب وأمن المعلومات، وعندما جاءتهم الأسئلة مع فناجين القهوة وكتب السنة الأولى قال لهم رفعت: العمى في قلبكم... ابعثوا لنا استاذاً يدلنا أين توجد الأجوبة لهذه الأسئلة!".
وحين حدثت "الأزمة" بين الشقيقين أخذ أعضاء الرابطة "يهاجمون جهرا الرئيس حافظ الأسد في مجالسهم الخاصة ويتهمونه بالديكتاتورية"، زاعمين ان العميد رفعت "راعي الديموقراطية في هذا البلد". وقد عقدوا مؤتمرا لهم في شيراتون دمشق "لم تسعف رفعت فيه قريحته" فتحدث "حديثا سياسيا مشوشا عن الديموقراطية والأوضاع العامة في سوريا" لم يفهم أحد منه شيئا. وانفض المؤتمرون وهم "في حيص بيص" لأن "ما بني على باطل فهو باطل".
وكان لافتا لنظر العماد "وجود أكثرية حقيقية من أخوتنا أبناء الطائفة المسيحية" بين أعضاء الرابطة. فمن بين خمسة آلاف كان من يوحي ظاهر أسمائهم "الطيف الديني" (المسيحي) "يربو على الأربعة آلاف". ومن ذلك، يقول طلاس "أدركت أن هناك توجيهاً أكيداً من المخابرات الأميركية". ويربط ذلك بانتساب أعضاء مسيحيين أو متزوجين من مسيحيات في قيادة حزب البعث القطرية إلى الرابطة القطرية: "الرفيق وهيب طنوس" و"الرفيق إلياس اللاطي"، إضافة إلى "الرفيق عبد الرؤوف الكسم" الذي يقول العماد إنه تم تزوير أصل زوجته من يهودية إلى مسيحية كي يتمكن من تولي مناصب حكومية (كان رئيسا للوزراء وقتها). ويضع العماد ذلك كله في سياق "عقيدة التعصب ضد الإسلام"، طالبا أن يسامحه الناس على صراحته "لأنني أبعد الناس عن الكلام في هذا الموضوع، وأنا مؤمن حقا واحترم الأديان كافة".
وبعد "انتهاء الأزمة" طلبت القيادة القطرية إلى الرفاق أن يتخلوا عن انتسابهم إليها، "وبذلك اختفت من الساحة رابطة متخرجي الدراسات العليا التي كان ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب".
زيارة الوحدات والتشكيلات
بعد تأمين القيادة العامة والقصر الجمهوري أخذ العماد طلاس يرافقه العماد علي أصلان يقومان بزيارات ميدانية لوحدات الجيش ويلقيان فيها خطبا تندد بـ"الهيمنة الأميركية وعملائها في المنطقة ودعمها غير المحدود للعدو الصهيوني" وتنوه "بالمآثر القيادية للرئيس حافظ الاسد ودوره في بناء سوريا الحديثة وحرب تشرين وحرب الاستنزاف والحرب التي خضناها ببسالة منذ اقل من عامين للدفاع عن استقلال لبنان ليبقى دائما عربي الوجه واليد واللسان".
أما في "اللقاءات الخاصة مع الضباط حتى مستوى قائد كتيبة" فـ"كنت أضعهم في صورة المؤامرة كاملة وأسمّي الأسماء على المكشوف بصراحتي المعهودة". وفي نهاية كل جولة كان العماد يتلقى "وثيقة عهد بالدم ولاء للسيد الرئيس" من التشكيل الذي يزوره. وكان الرئيس الأسد يتابع كل ذلك سعيدا بنتائجه.
حين علم رفعت بهذه الزيارات الميدانية أرسل الى الرئيس "عهدا كاذبا بالدم من سرايا الدفاع" لكن "عهد النفاق" هذا لم يجدِ لأن ما "يخرج من القلب يدخل إلى القلب أما الكلام الذي يخرج من اللسان فلا يكاد يتجاوز الآذان".
وبعد 62 جولة ميدانية قام بها وزير الدفاع، صيغ من وثائق العهد بالدم "كتاب عهد بالدم" قُدّم الى الرئيس في ذكرى ميلاد طلاس الثانية والخمسين. وقد صدّر العماد الكتاب بمقدمة يصفها بأنها "من أروع ما كتبت في النواحي السياسية والقومية". وقد أضافها ملحقا لهذا الكتيّب "ليعيش معي القارئ الأجواء التي كانت تدور فيها لعبة الصراع على السلطة".
"يوم الجمعة الحزينة" 13/4/1984
"في الساعة الخامسة بعد الظهر اتصل اللواء علي حيدر من مقره (...) وأبلغني بأن (...) سرايا الدفاع بدأت بالتحرك من بين أشجار الزيتون في اتجاه دمشق". ولم تلبث أن تواترت إلى وزير الدفاع معلومات مماثلة من مصادر أخرى بينها العميد عدنان الأسد قائد سرايا الصراع. أعلم العماد طلاس الرئيس بما لديه، وبعد دقيقة رد الرئيس بأن رفعت أكد أن تلك المعلومات "كاذبة ولا أساس لها من الصحة". ولما أكد له العماد صحة معلوماته أبلغه الرئيس بأنه سيرد عليه بعد 5 دقائق. لكن من تكلم بعد الدقائق الخمس كان العميد عدنان مخلوف قائد الحرس الجمهوري الذي أبلغ العماد بأن "الرئيس توجه بمفرده إلى مقر شقيقه رفعت"، وأنه أعطاه التوجيه الآتي: "إذا لم اعد بعد ساعة قل للعميد طلاس أن ينفذ الخطة وعليك في الوقت نفسه ان تعطي التعليمات لقادة الفرق أن لا ينفذوا أي امر إلا إذا كان صادرا عن العماد طلاس".
يقول العماد: "كانت الساعة التي غاب فيها الأسد عن عرينه تعادل دهرا بكامله (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)". و"جاء الفرج" قبل 5 دقائق من انتهاء مدة الساعة المقررة لتنفيذ الخطة. فقد اتفق الرئيس مع شقيقه أن يلتقيا عند نهاية اوتوستراد المزة حيث توجها من هناك إلى دوار كفر سوسة، وهناك أمر الرئيس قائد سرية الدبابات أن يعيدها إلى مكان تمركزها، لكن هذا تجاهل أمر الرئيس "كأنه آخذ سيجارة حشيش". هنا خرج الرئيس عن "هدوئه المعهود" وقال لقائد السرية بصوت "قصم ظهره: أنا قلت لك أرجع الدبابات يعني أرجع الدبابات إلى أماكنها فورا". وفجأة تحوّل موقف العميد رفعت من الإيحاء أنه لا يستطيع "لجم اندفاع ضباطه وحماستهم" إلى العكس: فقد صعد بحركة مسرحية إلى ظهر الدبابة وصفع قائد السرية على خده قائلا له: "نفِّذ أوامر الرئيس! هل أنت أطرش لا تسمع؟!". وهكذا عادت الدبابات إلى أماكنها و"انزاحت الغيمة السوداء عن صدورنا ... وعن صدر الوطن".
خطة قيادة الجيش لمواجهة سرايا الدفاع
ينفي العماد طلاس وجود " خطة عملياتية" لمواجهة رفعت بالنظر إلى أن ميزان القوى راجح جدا لصالح الرئيس الأسد. فالسرايا (40 الفا) لا تعادل غير واحد إلى عشرة من قوة الجيش البرية، ناهيك بصنوف الأسلحة الأخرى. غير أنه تم وضع تصور لمجابهة تحركات سرايا الدفاع الهادفة لاحتلال المواقع الرئيسية في مدينة دمشق: "يقوم سلاح الطيران بتوجيه ضربة كثيفة بالقنابل الارتجاجية والصورايخ المضادة للدبابات مدتها ثلاثون دقيقة. بعد ذلك تقوم صواريخ أرض- أرض بتوجيه ضربة نارية إلى مواقع الخصم وفي الوقت نفسه تقوم طائرات الغازيل والميغ 25 التي تحمل صواريخ جو - أرض بالتحليق فوق التشكيلات المناوئة لضرب أي تحرك!. كما تقوم بالمهمة نفسها وحدات سرايا الصراع ضد الدبابات واللواء 65".
ويسهب العماد في وصف عناصر عملانية أخرى في "تصور مجابهة التمرد"، كما يذكر أن قادة التشكيلات كانوا يحثونه على تنفيذ الخطة، غير أنه كان ينقل لهم رد الرئيس على إلحاحهم: "أبو فراس، اتركوا لي الموضوع فأنا أعالجه بحكمة". وردا على قول العماد: "إن أعصاب الرفاق محروقة" كان الرئيس يرد: "إعطهم مهدئات".
ولا يخفي العماد ان ضغط زوجته السيدة ام فراس كان يعادل "ضغط ضباط الجيش والتشكيلات". يقول: "فزوجتي بطبعها محروقة، ولذلك كل يوم تطالبني بالحسم (حتى أنها لجأت إلى ولديهما فراس ومناف ليعزفا لحن الحسم نفسه وكان جوابي دائما اتركي لنا هذا الموضوع". "ولم تهدأ الأعصاب"، يقول العماد، "إلا بعدما بدأت المفاوضات الجدية بين الرئيس وشقيقه الأصغر لحل الأزمة".
فشل كمين مطعم العندليب
رتّب بعض قادة الفرق موعد غداء مع العميد رفعت في مطعم العندليب في الزبداني على أمل أن يتم اعتقاله هناك مع مرافقيه. وكان رأي الرئيس حين استعلمه العماد طلاس عما يفعل "إذا رفض العميد رفعت الاستسلام وأصر على المقاومة"، "إنها شريعة الحرب إما غالبا وإما مغلوبا وانا لا أريدك إلا غالبا".
غير أن العميد رفعت كان حذرا "مثل القاق الأسود" فلم يأت إلى الموعد. ويبدو أن اللواء شفيق فياض نصحه بعدم القدوم "حقنا للدماء" ويقينا منه أن رفعت سيستسلم من تلقاء نفسه في النهاية.
بداية المفاوضات الطويلة ونهايتها
في أواخر نيسان تيقن العميد رفعت ان "ميزان القوى قد مال لصالح شقيقه (...) فاتصل بشقيقه جميل الأسد ليمهد له المصالحة مع اخيه" الرئيس. ومع أن الرئيس الأسد "معروف عربيا ودوليا بأنه سيد من أتقن فن لعبة عض الأصابع فقد كان ينتظر بفارغ الصبر انهيار رفعت"، وهذا لأن الأخير "سيد من ابتز أخاه وغير أخيه". إذ ما إن وافق على الخروج من سوريا حتى بدأ "يساوم على المبلغ الذي يحتاج إليه للإقامة شهوراً عدة خارج البلاد حتى تهدأ العاصفة". هذا مع أن "الأمير عبدالله بن عبد العزيز كان يدفع له شهريا 5 ملايين دولار"، كما لم يقصّر معه "الشيخ خليفة آل ثاني" ومثله "ياسر عرفات والشيخ سحيم آل ثاني...إلخ".
طلب رفعت "مبلغا كبيرا بالقطع النادر لم يكن متوافراً في المصرف المركزي"، إذ "خيمت غمامة من الشؤم على سوريا لا مثيل لها" مذ تسلم الدكتور عبد الرؤوف الكسم رئاسة الوزارة. فقد "مرض الرئيس الأسد مع أن بنيانه الجسمي متماسك الى درجة تقترب من حد الأسطورة" و"مات خمسة وزراء في عهده"، كما "اصبح المصرف المكزي خاويا حتى من الفئران". و"سدّت منافذ الرزق في وجوه المؤسسات والأفراد وسائر العباد، وبدأ الناس يتساءلون متى ينزاح هذا الغراب [الكسم] عن الرقاب".
خطر للرئيس الأسد أن العقيد القذافي يمكن أن يكون الشخص الذي يحل المشكلة ويؤمّن "المال اللازم لإشباع فم أخيه" وحين التقاه موفد الرئيس "كان القذافي والحمد لله بمزاج حسن، وتذكر مواقف الأسد القومية في دعم الثورة الليبية ومؤازرتها، ورد على رسالة الأسد رد اًجميلا، وتم تحويل المبلغ بكامله إلى المصرف المركزي، وأعطى الرئيس شقيقه جزءا منه وبقي الجزء الأكبر احتياطا للطوارئ الاقتصادية التي كانت تعصف بنا".
وتم تحجيم سرايا الدفاع وعُُيِّن رفعت نائباً لرئيس الجمهورية مسؤولا عن شؤون الأمن. غير أن تعيينه كان نظريا "لأن الرئيس الأسد أحرص من ان يسلّم أمنه الشخصي وأمن البلاد لرجل لا يتقي الله بوطنه ولا بأهله".
وتضمن الاتفاق أن يسافر رفعت إلى موسكو ومعه اللواءان شفيق فياض وعلي حيدر، وليطمئن رفعت أن "الطائرة لن تنفجر في الجو" طلب أن يسافر معهم رئيس إدارة المخابرات الجوية اللواء محمد الخولي .
"وهكذا أسقط الأسد جميع الرهانات المعادية المحلية والعربية والأجنبية" التي كانت تعوّل على تسلّم العميد رفعت السلطة لضمان "انضواء سوريا تحت المظلة الأميركية ونهاية لوقفة العز والشموخ التي اتسمت بها المسيرة التي قادها أمين هذه الأمة".