يمر عراقنا العزيز اليوم ،وبعد تخلصه من أبشع نظام دكتاتوري عرفه في كل تاريخه الحديث ، بأخطر مرحلة من مراحل تطوره ستقرر بلا شك مصير ومستقبل النظام الجديد لعقود طويلة ، ويتوقف المستقبل المنشود والذي يطمح شعبنا إلى تحقيقه بإقامة نظام ديمقراطي حقيقي يضمن الحقوق والحريات الأساسية لسائر المواطنين باختلاف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم على أساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات ، وضمان الحقوق القومية للشعب الكردي وسائر القوميات الأخرى بما يضمن وحدة وسلامة العراق أرضاً وشعباً .
ففي هذه الأيام الحبلى بالمفاجأة ، وفي ظل تصاعد النشاطات الإرهابية للزمر الصدامية البعثفاشية ،ومن يدعون بالإسلام زوراً وبهتاناً من أعوان بن لادن، والإسلام برئ منهم كل البراءة ،والذين يمارسون أعمالا إجرامية بتفجير السيارات المفخخة وقتل المواطنين الأبرياء بأساليب وحشية يندى لها ضمير البشرية جمعاء وليس العراقيين وحدهم .
وفي ظل الأوضاع الأمنية المتردية هذه ، وفي ظل الوضع الاقتصادي البائس الذي يعاني منه أبناء شعبنا ، وفي ظل البطالة التي بلغت معدلات خطير جداً ، وفي ظل انعدام أو الضعف الشديد للخدمات العامة في كافة المجالات الصحية والتربوية والماء الصافي والكهرباء والصرف الصحي ونظافة المدن من أكوام القمامة التي تتراكم يوماً بعد يوم ،فأن شعبنا الذي استبشر خيراً بعد سقوط النظام الدكتاتوري الصدامي قد أصيب اليوم بخيبة أمل شديدة .
فبعد أن كان همه الأول ضمان الحصول على لقمة العيش انتقل هذا الهم إلى المرتبة الثانية ليحل محله الهم الأمني حيث يشعر المواطن بالقلق الشديد وهو في طريقه إلى العمل أو المدرسة أو الجامعة على حياته.
في ظل كل هذه الأوضاع السلبية نجد القوى السياسية الوطنية سواء منها الممثلة في مجلس الحكم أو خارجه ،في سباق محموم لتحقيق المكاسب الحزبية الضيقة على حساب المصلحة الوطنية والشعبية الكبرى حتى تبدو وكأنها قد تناست مقررات المؤتمرات التي عقدتها قبل سقوط النظام الصدامي في إقامة نظام ديمقراطي تعددي يضمن الحقوق والحريات العامة والتداول السلمي للسلطة على أساس الورقة الانتخابية ، وفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ، واستقلال القضاء ،وسن دستور ديمقراطي تقدمي للبلاد يقره مجلس تأسيسي منتخب بأسلوب ديمقراطي نزيه وتحت إشراف الأمم المتحدة ثم يعرض على الاستفتاء الشعبي العام .
هذا ما كان شعبنا يطمح في تحقيقه ،وهو ما يتطلب وحدة القوى الوطنية الفاعلة داخل وخارج مجلس الحكم لإنجاز هذه المهمة الأساسية التي ستقرر مصير ومستقبل العراق وشعبه .
إن التسابق ما بين القوى السياسية هذه لتحقيق مكاسب حزبية ضيقة لن يخدم قضية شعبنا بأية حال من الأحوال ، بل هو نذير شؤم باندلاع صراعات حزبية خطيرة ـ لا سمح الله ـ لن تؤدي إلا إلى كوارث لا أحد يستطيع أن يحدد مداها وربما تؤدي إلى إضاعة فرصة قد لا تحصل من جديد.
إن على هذه القوى الوطنية أن تتعلم الدروس من تجاربها السابقة إن هي أرادت تجنب الوقوع بمنزلقات عميقة تذهب بكل آمال شعبنا في خلق عراق جديد خالٍ من القهر والعبودية وفرض نمط من الحياة لا يرتضيه أغلبية أبناء الشعب .
أن القوى الوطنية كافة داخل مجلس الحكم وخارجه من أحزاب وتنظيمات سياسية واجتماعية ونقابية ومن الوطنيين المستقلين الذين يشكلون جانباً هاماً جداً وواسعاً من المثقفين الذين يمتلكون من الخبر والتجارب الغزيرة ، ومن سائر الإتجاهات الإسلامية والديمقراطية والقومية التي يهمها مصلحة الشعب والوطن ،وغير المرتبطة بأية وشيجة مع النظام الصدامي الفاشي ، مدعوة اليوم وبأسرع وقت ممكن إلى المبادرة إلى عقد مؤتمر وطني جامع تضع في مقدمة أهدافها أقامة جبهة وطنية عريضة تضم هذه الفصائل المذكورة كافة وتضع هذه الجبهة نصب أعينها تحقيق الأهداف التالية :
1 ـ الإقرار بإقامة نظام ديمقراطي علماني يعتبر الدين الإسلامي دين الدولة ، ويحترم سائر الأديان الأخرى مع فصل الدين عن الدولة ، والكف عن محاولة فرض نظام حكم ودستور إسلاميين .
2 ـ العمل على تجنب الصراعات الحزبية وعدم تغليب التناقضات الثانوية على التناقض الرئيسي مع أعداء شعبنا ، وتجنب الوقوع بالخطأ الجسيم الذي وقعت فيه القوى الوطنية التي أقامت الجبهة الوطنية عام 1957 والتي لم تضع في صلب مشروعها التحالفي ماهية الأهداف التي يتفقون على تحقيقها بعد إحراز النصر على النظام الملكي في ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 ، فلم تمضِ سوى أيام قلائل على انتصار الثورة حتى دبت الخلافات بين القوى الوطنية وبرزت الشعارات المتناقضة وسارت المظاهرات التي تهتف بالوحدة مع العربية المتحدة والمظاهرات التي تطالب بالإتحاد الفدرالي وانقسم المجتمع على نفسه وبدأ الصراع العنيف يأخذ طريقه إلى المجتمع ، وسلك الجانب القومي سبيل التآمر على ثورة الرابع عشر من تموز ، وجرت محاولات عديدة لإسقاط حكومة الوطني البارز الشهيد عبد الكريم قاسم ، وتكلل بالنجاح انقلابهم الفاشي في 8 شباط 1963حيث اغتيلت ثورة 14 تموز ، واغتيل قائدها عبد الكريم قاسم ، واغرق البعثيون وحلفائهم القوميون العراق وشعبه بالدماء .
ومن المؤسف جداً أن يقع إخوتنا قادة الشعب الكردي ،جراء قصر النظر السياسي بأخطاء جسيمة حيث تعاونوا مع انقلابيي 8 شباط ظننا منهم أن غلاة القومية الشوفينية العربية ، البعثيون وحلفائهم القوميون المتطرفون ، سيمنحونهم أكثر مما منحهم عبد الكريم قاسم ، وسينالون حقوقهم القومية على أيديهم ، ولكن لم تمضِ سوى أقل من ثلاثة أشهر حتى شن غلاة القومية المزيفون حرباً شعواء على الشعب الكردي ،وتلك الأيام لا يمكن أن أنساها ، حيث كنت هناك في السليمانية أمارس التعليم قبل انقلاب شباط واضطررت إلى الاختفاء هناك لدى إخوتي من الشعب الكردي الكريم وكان القبض علي في تلك الأيام يعني الموت المؤكد على أيدي البعثيين وحلفائهم من غلاة القومية العروبية الجوفاء،فقد شاهدت بأم عيني الجرائم البشعة التي اقترفها غلاة العروبية بحق شعبنا الكردي الذي نكلوا به أبشع تنكيل .
3ـ الاتفاق على الخطوط الرئيسية لدستور علماني يضمن الحقوق والحريات العامة للمواطنين ،و في المقدمة منها حرية التنظيم الحزبي والنقابي وحرية الاجتماعات وحرية الصحافة وحرية الاعتقاد،ووضع شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة في صلب الدستور ،والذي يشكل الضمانة الأساسية لحقوق المواطنين كافة والمساواة التامة بين الرجل والمرأة على قدم المساواة في الحقوق والواجبات .
4ـ الاتفاق على شكل الفدرالية التي يطالب بها الأخوة الأكراد بما يضمن وحدة العراق شعباً وأرضاً ويحقق في الوقت نفسه طموحات إخوتنا أبناء الشعب الكردي في ضمان أن لا يتعرضوا مستقبلاً لطغيان جديد بعد ذلك الطغيان الصدامي .
وعلى الأخوة قادة الشعب الكردي أن يراعوا الظروف العصيبة التي يمر بها العراق ولا يرفعوا من سقف مطالبهم التي أثارت وتثير الشكوك لدى جانب كبير من القوى السياسية والشعبية الحريصة على وحدة العراق الإقليمية والشعبية .
وعلى هذه القيادات الكردية أن تكبح جماح التطرف لدى جانب من أبناء الشعب الكردي الذي يتصرف تصرفاً لا يخدم الشعب الكردي بالذات بل ينعكس سلباً على قضيته ،ويخلق نوعاً من الحساسية القومية لدى الأطراف الأخرى مما يعقد القضية الوطنية ويباعد بين أطرافها في وقت نحن بأمس الحاجة لتكاتف كل الجهود الخيرة والنبيلة لخدمة قضية شعبنا وتحقيق الأمن السلام في ربوع العراق وتأمين حياة رغيدة لشعبنا.
وعلى الإخوة في القيادات الكردية تثقيف أخوتنا الشعب الكردي بروح الأخوة العربية والتركمانية وسائر الأقليات الأخرى ، وأن ما جرى للشعب الكردي على أيدي النظام البعثفاشي من ويلات ومصائب قد جرى أشد منه للشعب العربي وبشكل خاص الأخوة من الطائفة الشيعية التي تمثل نصف المجتمع العراقي ، والذين نالهم من ظلم الطاغية صدام ما لا يوصف حيث دفعوا ثمناً باهظاً من أرواح أبناءهم في انتفاضة آذار المجيدة عام 1991 ، وفي حروب صدام الإجرامية والعبثية بدءاً من حرب الخليج الأولى فحرب الخليج الثانية حيث كان أبناءهم يشكلون الوقود لتلك الحروب المجرمة والتي جاوزت حياة أكثر من مليون إنسان ، هذا بالإضافة لما عاناه العراقيون العرب والتركمان والقوميات الأخرى من الحصار الجائر الداخلي والخارجي الذي بات معروفاً تماماً لكل إنسان .
أن الشعب العربي في العراق ليس مسؤولاً عن جرائم صدام وبالتالي لا ينبغي لأخوتنا الأكراد أن يخلطوا بين العرب وبين النظام الصدامي الذي وزع ظلمه على الجميع . وعليهم أن ينظروا إلى المستقبل بقلوب مفتوحة إلى إخوتهم العرب والتركمان والآشوريين وسائر الأقليات الأخرى ، فمصيرنا واحد ونحن جميعاً في سفينة واحدة فلنحرص على سفينتنا من الغرق على أيدي أعداء شعبنا المتربصين بنا جميعاً .
كما ينبغي للقوى الوطنية العربية أن تثقف كافة منتسبيها وأبناء شعبنا العربي في العراق بروح الحرص على الأخوة العربية مع سائر القوميات الأخرى وكبح جماح التعصب القومي والطائفي من أجل صيانة وحدتنا الوطنية .
5 ـ إن بناء عراق ديمقراطي جديد لا يمكن أن يقوم به حزباً بمفرده ، فما أصاب العراق على أيدي النظام المقبور من خراب ودمار للبنية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية كبير جداً وإعادة بناء بنيته التحتية تتطلب تكاتف الجهود كافة دون استثناء ، وإن أي محاولة من جانب أية قوى للاستئثار بالسلطة وفرض أجندتها سوف تلحق الضرر الكبير بلا أدنى شك بمستقبل العراق وشعبه .
أن العراق بحاجة لتعاون سائر القوى الوطنية لتحقيق هذه المهمة الصعبة ، فلتمتد الأيادي إلى بعضها وتتشابك ، ولتضع القوى الوطنية خلافاتها جانباً وتركز على بناء العراق الجديد ، عراق الحرية والديمقراطية والسلام والعيش الرغيد ، عراق التآخي والمحبة بين سائر القوميات ، العراق الحر المستقل كامل السيادة ،وجلاء سائر القوات الأجنبية من البلاد ، وإقامة علاقات متكافئة ،وفي كل المجالات المختلفة ، مع سائر بلدان العالم قائمة على أساس احترام سيادة واستقلال العراق .
وأخيراً أوجه ندائي لكم أيها الوطنيون من كل الاتجاهات :
إن العراق بالأعناق أمانةً******* صونوا الأمانة وامنحوه وفاءَ
جددوا العزم وابنوا جبهةً******* تشفي الجِراحَ وتُسعدُ الأبــناءَ
لا تتركوا لباغٍ فيكم ثغرةَ******* كي لا يُدامُ على الشعبِ البلاَءَ