لا يخفى على أحد أن قانون قطاع السمعي البصري المغربي سيكون له انعكاسات اقتصادية وسياسية وثقافية أكيدة. لذا فمن المنتظر أن يثير مشروع هذا القانون نقاشا بالبرلمان بعد أن صادقت عليه الحكومة ويتأسس هذا المشروع على مبدأ الحرية في إطار احترام متطلبات الخدمة العمومية والإكراهات التقنية المتعلقة بوسائل الاتصال.
ومن المعلوم أنه تم تنظيم المناظرة الوطنية الأولى للإعلام سنة 1993، وهي المناظرة التي ركزت توصياتها على ضرورة تحرير الحقل السمعي البصري لولوج عصر التنافسية، إلا أن أغلب تلك التوصيات ظلت حبر على ورق وأقبرتها غبار النسيان على امتداد سنوات إلى أن برزت حركية جديدة في عهد المساري ثم الأشعري عندما كانا وزيرا للاتصال، ولينتهي الأمر إلى بلورة مشروع قانون القطاع السمعي البصري الذي صادقت عليه الحكومة قبل عرضه على أنظار البرلمان.
وجاء هذا القانون في ظرف تميز فيه واقع الحقل السمعي البصري المغربي بستاتيكية وجمود القناة الأولى ومحاولات اجتهادات خجولة للقناة الثانية. ومن المعلوم أن الإذاعة والتلفزة تعتبران من الخدمات العمومية والخدمة العمومية مجال السمعي البصري ترتكز على ثلاث معطيات الممارسة.
ـ فلابد أن تكون هذه الخدمة في إطار التعددية السياسية والفكرية لتتمكن فعلا من خدمة المواطنين مهما اختلفت آراءهم السياسية ومنابعهم الثقافية.
ـ ولابد وأن تأخذ هذه الخدمة بعين الاعتبار التنوع الثقافي وهذا التنوع غالبا ما يغيب في مفهوم الخدمة العمومية على أرض الممارسة . وبالتالي يكون هناك حضور الفكر الوحيد وهيمنة نوع من االمجتمعية.حساب الثقافات الأخرى.
ـ كما أنه لا مناص من خدمة الوحدة الاجتماعية والوحدة المجتمعية . وفي هذا الصدد يمكن التساؤل حول البرامج التلفزية بالمغرب لهذا المبدأ وخدمته، لاسيما فيما يخص البادية والعالم القروي. فهل هموم البادية المغربية وسكانها حاضرة فعلا في تلك البرامج وبأية صورة يتم عرضها ؟ وهل كل مقومات البادية المغربية حاضرة في البرامج التلفزية والإذاعية بالمغرب بالشكل والمضمون التي وجب التعرض إليها وإبرازها؟
كما أنه في هذا الصدد تبرز إشكالية الجهوية والخصوصية المحلية. فهل هموم المواطن المغربي على مستوى الجهات حاضرة في تلك البرامج؟ وهل تلك البرامج تترجم وتكرس فعلا الثقافة الجهوية والخصوصية المحلية ؟ وهل الهم الجهوي والمحلي حاضر في تلك البرامج؟ إنها تساؤلات كبيرة وكبيرة جدا تتضح أهميتها أكثر من أي وقت مع اقتراب تحرير الحقل السمعي البصري المغربي. لاسيما وأن المصلحة أو الخدمة العمومية لا تفقد مدلولها عندما تصبح في ظل القطاع الخاص عوض ظل الدولة.
وبالتالي تظل الخدمة ذات طابع عمومي مهما كانت الجهة التي تضطلع بها وخصوصا في المجال السمعي البصري. ما دامت الخدمة العمومية هي خدمة المواطن مهما كان الذي وراءها. ولهذا الغرض ولضمان هذه الطبيعة يتم اللجوء في هذا المضمار إالبصري. دفتر التحملات التي تحتم على القطاع الخاص أو الفاعل الخاص تقديم الخدمة العمومية باعتبارها حق من حقوق المواطنة. لأنه بمجرد حمل الشخص للجنسية ، فهو كمغربي له الحق في الإعلام السمعي البصري ولا يستوجب الاستفادة من الحق شرط أداء الضرائب كما يعتقد البعض، بل يكفي أن الشخص مواطنا ليكون له الحق الكامل في تلك الخدمة العمومية . وهذه إشكالية تتطلب العناية إبان مناقشة قانون الحقل السمعي البصري .
وعموما يبدو أن واضعي هذا القانون كان همهم الأساسي هو تبسيط المساطر لاسيما أن مشاريع القوانين التي سبقته ـ في عالرسمية.ين المساري والأشعري ـ كانت مجرد تجميع ليس إلا لجملة من نصوص القوانين الفرنسية في هذا المجال.
إلا أن من أهم إيجابيات القانون الجديد المنظم للحقل السمعي البصري بالمغرب أنه قابل للتطبيق بمجرد نشره بالجريدة الرسمية . وذلك خلافا للقوانين السابقة التي كانت وظلت رهينة صدور مراسيم لتعرف طريقها إلى التطبيق.
وإذا كان القانون الجديد قد نص على المحافظة على مقومات المجتمع المغربي وعلى فكرة التعددية السياسية والثقافية، فإنه لم يتطرق إلى الحصص وإلى تحديدها وضبطها وذلك من أجل الحد من احتمال عزو الإنتاج الأجنبي. وهذه من الهفوات الكبرى التي تستوجب الاستدراك وإبان إعداد دفتر التحملات ما دام لا أثر لها في نص القانون.
وللإشارة فإن القانون الفرنسي الجاري به العمل حاليا في الحقل السمعي البصري يحدد بكل وضوح وبكل دقة الحصص وتبرز أهمية هذه الإشكالية لكون الموالانحرافات. في الميدان السمعي البصري يمكنه أن يقدم ويعرض ويروج ما يشاء كيفما يشاء دون الاهتمام أو الالتفات إلى الإنتاج المغربي درجة حضوره ضمن الإنتاجات والبرامج المبثوثة. وهذا من شأنه أن يشكل خطورة على الثقافة المغربية والإنتاج الثقافي الوطني.
كما أنه في هذا المضمار لابد من الإشارة إلى أن فرنسا مثلا أوجبت اللغة الفرنسية وكلفت الأكاديمية الفرنسية بتتبع البرامج للتصدي لكل الأخطاء والانحرافات . أما القانون المغربي اقتصر فقط على التنصيص على تشجيع الإنتاج الوطني وإعطاء الأفضلية لهذا الإنتاج. ومن المعلوم والمعروف أن الأفضلية ليست إلزامية في النص القانوني اعتبارا لمدلولها العام وغير المضبوط علميا. وبذلك يسعى القانون الجديد إلى تأطير حرية الإعلام العمومي في مناخ فتح أبواب الحقل السمعي البصري المغربي على مصراعيها في وجه الجميع.
فمن المعروف أنه بعد إقرار القانون الجديد ستتحول القناة الأولى إلى شركة مجهولة الاسم، وبذلك ستكون في وضعية تتسم بالضعف الوالتسيير.لشركات أو القنوات الجديدة التي ستستحدث. وبالتالي يتوجب منذ الآن بالنسبة للمغرب تمكين القناتين (الأولى والثانية) من إعادة الهيكلة وبإعادة النظر في عقلية التدبير والتسيير .
فالإذاعة والتلفزة المغربية تضم حاليا مئات الموظفين اغلبهم غير مهنيين بالمعنى الصحيح والفعلي للكلمة، علاوة على مكوناتها.ة التدبير والتسيير السائدة في مجال الوظيفة العمومية وهي عقلية مخالفة كليا عن العقلية السائدة في القطاع الخاص عموما. وبذلك فإنها غير قادرة والحالة هذه عن التصدي للمنافسة إن على مستوى الجودة أو على المستوى الجمالي للصورة بمختلف مكوناتها . وهذا من التحديات الكبيرة، فإما أنها ستتهيأ منذ الآن وإما أنها ستظل على هامش الركب. علما أن البعض يعتقد أنها محكوم عليها بالتهميش منذ الآن لكون أن التحدي المنتظر كان ولابد الاستعداد له قبل الآن.
ويزيد الطين بلة إذا عملنا أن القناتين المغربيتين ـ الأولى والثانية ـ تعتمدان على تمويل الدولة رغم أن القناة الثانية تعتبر شركة ، فالدولة تملك 70 % من رأسمالها وتساهم بجزء هام في تمويلها ، علما أن سوق الإشهار محدود جدا ومتمركز في رقعة جغرافية ضيقة ويمكنه ، لاسيما في البداية أن لا يستجيب لمقومات المنافسة اعتبارا لضيقه ومحدوديته. كما أن هذا الوضع، في ظل الكساد الاقتصادي الذي تعرفه البلاد من شأنه أن يجعل من إنشاء قناة تلفزية مشروعا غير ذي مردودية أكيدة حاليا. وبالتالي سيكون العامل الحاسم في البداية هو الدافع السياسي والحضاري. وفي هذا الصدد لوحظ اهتمام بعض المستثمرين الفرنسيين والإسبان والأمريكيين والخليجيين بهذا المجال رغم أن اقتصاالمليار.المغرب لا يسمح في الأمد القصير بتنشيط سوق الاستهلاك في حجم يمكن من جلب المعلنين عن الإشهار. علما أن سوق الإشهار قد وصل إلى ما يناهز ملياري دولار سنويا، في حين أنه منذ 5 سنوات سابقة لم يكن يتجاوز نصف المليار .
أما فيما يخص الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري، فإن فكرة إحداتها ليست وليدة اليوم. ففي سنة 1993 اجتمع الإعلاميون المغاربة لأول مرة للتحدث عن مشاكلهم وكان اجتماعهم هذا بمثابة وقفة لدراسة الأوضاع والآفاق (المناظرة الوطنية الأولى) وركزت إحدى التوصيات على تحرير القطاع وإحداث هيأة عليا خاصة به .
ويكاد يحصل اتفاق حول عدم تناسب مؤهلات الأشخاص المعنيين مؤخرا ، لتشكيل تلك الهيأة ، مع التحديات المطروحة في الحقل السمعي البصري . وقد اعتبر البعض أن اختيارهم لم يخرج عن دائرة التوافقات والتوازنات. في حين اعتبرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية بأن مسألة التعيينات تعكس إرادة من طرف السلطة في التحكم المطلق في تالتحرير. السمعي البصري رغم الإعلان عن إنهاء الاحتكار واعتماد مبدأ التحرير . وبعيدا عن تشريح الأشخاص المعنيين لتشكيل الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري، يمكن الاكتفاء بالنظر إلى الرئيس والمدير العام لمديرية الحقل السمعي البصري، وهما يعتبران حجر الزاوية باعتبار أنهما سيكونا جوهر التجربة ما دام هما اللذان عليهما الحرص على المتابعة اليومية واحترام التعددية وإعداد التقارير المقدمة للبرلمان والحكومة والأحزاب والغرف المهنية والنقابات. علما أنه لابد من القول بأن هذه الهيأة تعتبر هيأة تقنية صغيرة بالمقارنة مع حيثيات القانون المنظم والمؤطر للحقل في شموليته.
ومهما يكن من أمر فإن التحديات التي تنتظر بلادنا في هذا المجال تحديات ضخمة جدا. فهناك جملة من الدول حررت حقلها السمعي البصري، ورغم مرور سنوات مازالت لم تتقاطر عليها الاستثمارات الأجنبية ، وفي هذا الصدد يمكن ذكر مصر وفرنسا .
إن مت يعتقد أنه بمجرد تحرير الحقل السمعي البصري ستتقاوالتنوع،مارات فهو مجانب للصواب، إلا أن تحرير الحقل سيفرض ضرورة التصدي لجملة من التحديات. فهناك تحديات مؤسساتية وتشريعية وتنظيمية. ومن ضمنها خطر التمركز الذي من شأنه أن ينال من التعدد والتنوع ، وبالتالي تهديد ليس فقط حرية التعبير ، بل تهديد الاقتصاد كذلك.
كما أنه على المستوى التشريعي والقانوني تطرح إشكالية المراقبة. ففي كثير من الدول هناك مجالس الحقل السمعي البصري، إلا أن التجربة أبانت أنها ظلت مجرد مجالس صورية جدا. وفي هذا الصدد يمكن ذكر تجربة تونس والجزائر، إذ ظل أعضاء المجلس مجرد موظفين سامين.
وإشكالية المراقبة هذه تجرنا إلى إشكالية التوازنات التي لا مناص من الحفاظ عليها، لاسيما فيما يخص امتلاك الوسائل السمعية البصرية.
فالقانون الحالي ـ على عكس القوانين السابقة في عهد المساري والأشعري ـ أقل صرامة إذ سمح للمستثمر الأجنبي بامتلاك 51 % في قناة تلفزية و 30 % في قناة أو إذاعة أخرى إن رغب في ذلك. والحالة هذه فإن كثيرا من الجهات المغربية ـ جهة الغرب الشراردة بني حسن على سبيل المثال ـ لا يمكنها أن تحتمل أكثر من قناة، وبالتالي من الممكن أن نكون أمام أوضاع احتكار الحقل السمعي البصري على الصعيد الجهوي، لاسيما إذا كان المستثمر أجنبيا، وهذا وضع من شأنه أن يكرس تمركزا جغرافيا من الأكيد أن عواقبه ستكون سلبية على أكثر من مستوى.
ومن بين التحديات كذلك إشكالية تمويل القنوات، إذ من الممكن أن تتدخل لوبيات بطرق مستثرة وغير مرئية في هذا التمويل. ومن هنا تطرح ضرورة تتبع هذا التمويل وآلياته، لاسيما فيما يخص القنوات الجهوية.
وهناك التحدي الاجتماعي وهو المرتبط بالمراهنة على جلب أكبر عدد من المشاهدين . إلا أن التلفزة العمومية لها وظائف لا مناص من القيام بها في إطار الخدمة العمومية، وهي الإخبار والترفيه والتثقيف. لكن في ظل المنافسة الحادة ، قد تبتعد عن الخدمة العمومية و هذه الوظائف الكلاسيكية.
ويظل التحدي التكنولوجي من أكبر التحديات بالنسبة لبلد مثل المغرب. وهذا التحدي مرتبط بإشكالية وصول الخدمة إلى المعنيين. وفي هذا الصدد هناك أكثر من مفارقة . فهناك جملة من المناطق ما زالت لا تستقبل برامج القناة الثانية رغم أن المواطنين الساكنين بها يؤدون ـ عن طريق فاتورة استهلاك الماء والكهرباء ـ الضريبية المرصودة لتمويلها، وهذا أمر لا يمكن أن يقبله عقل سليم لاسيما وأن هذا الوضع دام طويلا ولازال. وهذا يجرنا إلى ضرورة إرغام المستثمر على توصيل الخدمة العمومية إلى المواطن وتسهيل الولوج إلى وسائل الإعلام.