|
في ذكرى مأساة هيروشيما آينشتاين مناضل من أجل السلم -1
عدنان عاكف
الحوار المتمدن-العدد: 2358 - 2008 / 7 / 30 - 11:05
المحور:
سيرة ذاتية
" لا يمكن صيانة السلام باللجوء الى التهديد أبدا، ولكن يمكن القيام بذلك من خلال المساعي الصادقة لبناء الثقة المتبادلة ".
البيرت آينشتاين " مسكين آينشتاين هذا. كم ينبغي عليه ان يتقلب في قبره، لو انه علم بان إدارة بوش تعد للضربة الحاسمة في العراق، من أجل ان تجعل العالم أكثر آمن وسلاماا "!! غاري سلوام
في الخامسة والسبعين من عمره، وقبل أقل من عام على وفاته أوجز أشهر علماء القرن العشرين ألبيرت آينشتاين مساهمته في الحياة السياسية والاجتماعية على النحو التالي : " لقد كرست إمكانياتي، خلال حياتي الطويلة، من أجل التوصل الى بلورة رؤيا أعمق نوعا ما في بنية الواقع المادي. لم أبذل على الإطلاق أية جهود منتظمة من أجل تحسين مصير الناس وقدرهم، ومن أجل مقاومة الظلم والاضطهاد، أو من أجل تحسين الصيغ التقليدية للعلاقات الإنسانية. الشيء الوحيد الذي قمت به هو اني كنت بين فترات متباعدة أعبر عن رأيي بشأن القضايا السياسية، وذلك عندما كانت تبدو لي سيئة جدا، بحيث ان الاستمرار بالصمت يجعلني أشعر باني متهم بالاشتراك في اقتراف جريمة ما ".
تقييم أكثر من متواضع للنفس قدمه رجل، أجمع كل من عرفه عن قرب ان أبرز صفاته هي البساطة والتواضع. ولو أخذنا بهذا التقييم حقا فلن تكون مبالغة لو قلنا ان فترة الصمت التي كانت تجعله يشعر بانه " متهم بالاشتراك في اقتراف جريمة " قد امتدت منذ السنوات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى وحتى بعد وفاته. وكانت آخر مرة بدت له القضايا السياسية سيئة جدا، ودعته للتدخل هو البيان الشهير الذي وقعه مع العالم الإنجليزي المعروف برنارد راسل حول السلام العالمي، والذي نشر بعد رحيله عن هذه الدنيا ببضعة أيام.
الشهرة العالمية الواسعة، التي حظي بها آينشتاين، نتيجة لاكتشافاته العلمية، التي غيرت تصوراتنا عن الكون، منحته ثقة كبيرة وأرضية راسخة لطرح الكثير من الآراء السياسية والاجتماعية الجريئة، والتي كانت في مجملها مخالفة لما كان سائد آنذاك في الأوساط العلمية والثقافية في ألمانيا وفي أوربا الغربية بشكل عام. لقد عاصر الرجل أحداث كبرى، ومن بينها أكبر المجازر الدموية، التي قدر للجنس البشري ان يشهدها، كالحربين العالميتين، الأولى والثانية. إضافة الى أحداث سياسية وعسكرية خطيرة، مثل صعود اليمين المتطرف في أوربا، وما أسفر عنه من سيطرة الفاشيين والنازيين في ألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، والحرب الأسبانية الأهلية واكتشاف ظاهرة الانشطار النووي وصناعة السلاح الذري واستخدام القنبلة الذرية في هيروشيما ونيكازاكي، وبدء الحرب الباردة بين المعسكرين المتنافسين، وسباق التسلح الرهيب الذي أخذ يهدد الأرض بأسرها وكل ما عليها من أشكال الحياة. وقد ضل موقفه عبر حياته الطويلة راسخا لم يتغير، رغم كل المتغيرات التي عاصرها، بكونه المناضل العنيد الصلب ضد العنصرية والتعصب القومي والديني، وداعية من أجل ترسيخ السلم العالمي وتمتين العلاقة والثقة المتبادلة بين الشعوب.
عُرف آينشتاين في وقت مبكر بعدائه الشديد للحرب وكرهه للأنظمة العسكرية والديكتاتورية. بعد عودته من سويسرا( حيث عاش هناك مع عائلته ) الى ألمانيا عام 1914 ، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عارض بقوة النزعة العسكرية التي سادت آنذاك في أوربا، وخاصة في بلاده ألمانيا، وقام بعد نشوب الحرب بنشاط كبير من أجل السلم والوقف الفوري للحرب. وقد عبر أحد الكتاب عن مواقف آينشتاين آنذاك من الحرب بقوله: " القدر الظالم رمى برجل السلم الراديكالي هذا بين فكي الحرب. ". كانت النزعة القومية المتطرفة قد سيطرت على ألمانيا، وشملت معظم المثقفين والعلماء، ولم تستثني حتى الشخصيات المعروفة بمواقفها التقدمية واليسارية. وقد أصدرت أكثر من 90 شخصية ألمانية مشهورة في مجال العلم والثقافة والفكر، وبينهم علماء بارزون ( منهم صديق آينشتاين، عالم الفيزياء الشهير وصاحب نظرية الكم ماكس بلانك ) بيانا يدعوا الى دعم الحكومة الألمانية وتوجهاتها العسكرية، وعرف باسم: " بيان الى العالم المتحضر " وهو عبارة عن وثيقة ترتبط بعقيدة شبه نازية لتزكية حرب القيصر ضد " المسرحية المخزية، التي تقدمها القبائل الروسية المتحالفة مع المغول، الذين انطلقوا ضد الجنس الأبيض ".
انظم اينشتاين، في أول فعالية سياسية منظمة، الى ثلاثة علماء آخرين وأصدروا " بيان الى الأوربيين "، والذي جاء ردا على " بيان الى العالم المتحضر "، وقد ورد فيه: " لا يمكن بأي حال من الأحوال لانفعالات القوميين ان تبرر هذا الموقف الذي ليس جدير بالعالم ، الذي ما زال يسمى، بالمتحضر. سيكون بلاء مدمرا لو ان قدر لهذه الروحية ان تسيطر على التيار العام بين المفكرين. فهي لا تشكل تهديدا مباشرا للثقافة بحد ذاتها فحسب، بل وتعرض وجود الأمم للخطر، الأمم التي يدعون بأن هذه الحرب البربرية قد شنت من أجل حمايتها". وحث البيان الشباب الى عدم التطوع في الجيش. لقد شكل موقف هؤلاء العلماء الثلاثة تحديا صارخا لموقف الأكثرية، وقد تعرض آينشتاين بسببه الى الكثير من المضايقات، واتهم بالخيانة، وجرى التركيز عليه لسببين: الأول بسبب شهرته الواسعة ليس في ألمانيا فقط بل وعلى مستوى العالم.أما السبب الثاني لكونه يهودي. وبالرغم من ان البيان صيغ بلغة بسيطة وبتعابير عامة إلا انه لم يحض بتواقيع إلا عدد قليل من المواطنين. بعدها التحق بمنظمة مستقلة وكانت تظم ممثلين عن مختلف التيارات السياسية. كانت تلك المنظمة تدعوا الى وقف الحرب والعمل على تشكيل منظمة عالمية من أجل حل النزاعات العسكرية في المستقبل.. وفي عام 1915 أصبح على علاقة مع منظمة غوته، وهي المنظمات الداعية للسلام، وكان جهدها يتركز على نشر وجهات نظر العلماء المناهضين للحرب. وقام في نفس العام بنشر مقال بعنوان " رأيي بالحرب ". وقد أشار في هذا المقال الى ان جذور الحرب تكمن في البيولوجيا العدوانية للرجال. وعبر عن رفضه لكل أنواع الحروب، مهما كانت، وانتهى الى ضرورة تشكيل نظام سياسي عالمي جديد لتعزيز السلم في العالم.. لكن ذلك لم يقلل من نشاطه من أجل الوقف الفوري. وساهم مع مجموعة من المثقفين على تشكيل تحالف مستقل، وغير حزبي (عرف باسم رابطة الوطن الجديدة ) للنضال من أجل السلم العادل في العالم، والسعي من اجل تشكيل منظمة دولية هدفها تفادي نشوب حروب جديدة. وفي رسالة وجهها الى رجل السلم، الكاتب الفرنسي المعروف رومان رولان شبه حماقة الشوفينية القومية بالتعصب الديني الذي ساد في أوربا خلال القرون الثلاثة الماضية، والذي تسبب بثلاث حروب دموية وعبثية. وفي رسالة ثانية الى رولان ضمنها العمل من أجل تشكيل حلف عسكري، مهمته تحكيمية صرفة، ويضم كل من ألمانيا، فرنسا، روسيا وإنكلترا، ويمكن أن تنظم اليه دول أخرى.
الموقف من الجيش :
" الدولة خلقت من أجل المواطن ، وليس المواطن من أجل الدولة ". يتجلى فحوى هذه المقولة وجوهر مضمونها في كل ما كتبه آينشتاين في القضايا العامة والتي تدور حول المواضيع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لقد انصب اهتمامه الأكبر على الإنسان والشخصية الإنسانية، مع تركيزه بالدرجة الأولى على الجانب الروحي، أي كل ما يتعلق بالفكر والثقافة، والموقف المستقل، والكرامة الإنسانية. ولذلك كان يحتقر ويزدري ما كان يسميه " ذهنية القطيع ". وقد كتب في هذا الشأن :
" يبدو لي ان ما يمتلك قيمة حقيقية في مسيرة الحياة الإنسانية هو ليس الدولة ، بل الإبداع، والمشاعر الذاتية؛ الذات الانسانية؛ هي فقط التي تبدع كل ما هو سام ونبيل، في حين ان القطيع كالجثث بليدة في الفكر وبليدة في المشاعر ". وأكد في موقع آخر : " يجب ان تكون الدولة خادمتنا، ولسنا عبيد للدولة ".
كان آينشتاين يرى ان " ذهنية القطيع " أكثر ما تتجلى في الجيش، في النظام العسكري. وبالرغم من الروح العسكرية المتأججة التي سادت أوربا قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من المخاطر التي كانت تحيط به في تلك السنوات، إلا انه لم يخف ازدراءه للجيش والخدمة العسكرية. وقد صرح علنا: " النظام العسكري هو من بين أكثر الأشياء التي أمقتها ". وكان أكثر وضوحا في ما كتبه في مقاله " العالم كما أراه " :
" يقودني هذا الموضوع الى السمة الأبرز والأسوأ لذاك القطيع – الجيش الكريه. فالشخص الذي يجد متعته في الاصطفاف في الطابور والسير على أنغام الموسيقى العسكرية حري بالازدراء والاحتقار؛ يبدو انه نال دماغه الضخم عن طريق الخطأ – إذ ان العمود الفقري كان سيفي بالغرض. هذا العنف الأحمق وهذه البطولة الزائفة والهراء اللعين باسم الوطنية – ما أشد احتقاري لكل هذا. الحرب ! كم هي منحطة ومبتذلة.خير لي أن أُقطعْ إربا على ان أشارك في هذه الأعمال المقيتة. ينبغي ان تمحى مثل هذه الوصمة من جبين الإنسانية بدون تردد....". وفي رسالة بعث بها في مطلع عام 1918 الى أكاديمي قال : " أفضل أن أعلق مع ابن بلدي، السيد المسيح، الذي تنظرون، أنت وأمثالك ، الى عقيدته بكونها الحقيقة المطلقة. في الواقع ان الألم والمعاناة عندي أفضل من استخدام الى العنف ". و ذهب أبعد من ذلك ليؤكد على الدور السلبي الذي تمارسه القوى المهيمنة، في مختلف الدول، في تشويه وعي الناس وتوجيهه بالاتجاه الذي يخدم مصالح القوى والطبقات الاجتماعية التي تجد في الحروب وسيلة لتحقيق مصالحها الأنانية الضيقة. وأشار الى انه يؤمن بانه " كان يمكن لشبح الحرب ان اختفى منذ زمن بعيد، لو لو لم يتعرض وعي الناس الى التشويه المنتظم نتيجة للتأثير الاقتصادي والسياسي الذي يتم عبر المدارس ووسائل الإعلام ". وعاد الى نفس الموضوع، ليربطه بذهنية القطيع، خلال الثلاثينات : " يمكن تحريك الكتل البشرية، في جميع البلدان، خلال أسبوعين، وان تبدأ نشاطها تحت تأثير الصحافة، لتصل الى حالة من الغضب والهيجان بحيث يصبح الرجال مهيئين لرصفهم في هيئة منسقة من أجل أن يقتلوا أو يقتلوا، من أجل أهداف خسيسة ولصالح أحزاب معينة ".
لم يخف كراهيته للخدمة العسكرية الإلزامية، واحتقاره لكل ما يرتبط بها. وقد وصفها في إحدى مقالاته، على انها " أكثر العلامات المشينة التي تؤشر الى الانتقاص من كرامة الفرد، والتي يعاني منها الجنس البشري المتمدن اليوم ". وقد دعا الشباب في جميع البلدان الى رفض الخدمة العسكرية الإلزامية، وقد اعتبر هذا الرفض جزء من حقوقهم التي ينبغي ان يناضلوا من أجل الحصول عليها. وأكد على ان من أهم هذه الحقوق هو حق الفرد في الامتناع عن المشاركة في النشاطات التي يعتبرها خاطئة أو مؤذية. وكان يرى ان هذا الحق يتعلق بالخدمة العسكرية، في المقام الأول. وأكد على ان الدولة تتجاوز على هذا الحق " عندما تجبرنا بالقوة على الالتحاق بالجيش والمساهمة بالحرب، والأهم من كل هذا هو ان هدف وتأثير هذه الخدمة الوضيعة هو قتل الناس الذين ينتمون الى دول أخرى ". وقد ذهب أبعد من ذلك حين طالب الناس، وعلى الأخص المثقفين والمفكرين أن يعبروا عن روح العصيان الرافضة للحرب علنا وبدون مواربة : " كانسان يتميز بالفكر العميق والنية الحسنة والضمير الحي مطالب بان يعبر بشجاعة عن تعهده اللامشروط بعدم المشاركة في أي حرب، ولأي سبب كان، وأن لا يقدم أي نوع من الدعم، المباشر أو غير المباشر ".
بعد الحرب العالمية الثانية عاد الى العقلية العسكرية وموقفها من الإنسان، مشيرا الى ان الذهنية العسكرية لا تعير الإنسان أي قيمة، في حين انه يشكل القيمة الأعلى في هذا العالم. وقال انها تضع العوامل غير الإنسانية هي الجوهر والأساس، في حين تنظر الى الكائن البشري، طموحاته وأفكاره- باختصار العوامل الفيزيولوجية – بكونها عوامل ثانوية. ومن بين العوامل غير الإنسانية ذكر " القنابل الذرية، القواعد العسكرية الستراتيجية، الأسلحة من كل الأنواع، المواد الخام... ". وأكد على ان الفرد في الذهنية العسكرية يتحول الى مجرد " آلة " و " قوة مجردة ". يتحول الى " هدف بحد ذاته ". وقد شملت معارضته الشديدة للروح العسكرية لتشمل كل شكل من أشكال التهيئة والاستعداد للحرب. وفي عام 1946 وجه رسالة الى اجتماع دولي شارك فيه ممثلو الحكومات :
" لا يمكن لكم ان تعارضوا الحرب وتعملون على الإعداد لها في آن واحد. ان المعارضة المتواصلة للحرب تتطلب نضال وشجاعة وعزم أكثر من الإعداد للحرب ".
في عام 1918، وبعد انطلاق الثورة الألمانية، القى كلمة أمام اللجنة الثورية في الريغستاغ، جاء فيها :
" هدفنا المشترك هو الديمقراطية، حكم الشعب... ولكن احذروا الانسياق خلف مشاعر الانتقام، استنادا الى وجهة النظر القائلة بان العنف لا يواجه إلا بالعنف، إذ ان دكتاتورية البروليتاريا مجرد حاجة مؤقتة من أجل ترسيخ فكرة الحرية في رؤوس إخواننا الريفيين...".
السلم العالمي :
كتب آينشتاين ذات مرة : " ان تـَـقتل أحدا خلال الحرب ليس أفضل بمقدار ذرة من ان تقترف جريمة قتل اعتيادية ". وأشار في عام 1918 ان " القوة لا تـُوَلد إلا المعاناة والكراهية وردود الفعل... ". كان معجب جدا بالزعيم الهندي غاندي وأسلوبه السلمي الذي اعتمده من أجل تحرير الهند من الاستعمار البريطاني. وقد وصفه بانه " أعظم عبقرية سياسية " في عصره، وكان يؤمن أن جهود غاندي ومساعيه من أجل تحرير الهند تبين ان " الإرادة الناشئة عن الإيمان الراسخ أقوى من القوة المادية، التي قد تبدو بأنها لا تقهر ". بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسيادة النزعة العسكرية وروح الثأر والانتقام في أوربا أصبحت قضية السلم وتفادي نشوب حرب جديدة هاجسه الأول. في عام 1922 قام بزيارة الى باريس والتقى بالعديد من الشخصيات السياسية المهمة. و ناقش معهم الوسائل والخطوات التي يمكن اتخاذها للحد من النزعة العسكرية السائدة، وما يمكن عمله لتجنيب أوربا حربا جديدة.. وبعد عودته الى ألمانيا تحدث مرة أخرى في الريغستاغ أمام الفدرالية الألمانية للسلام، ودعا الى قيام علاقات صادقة مبنية على الارادة الخيرة بين الشعوب التي تنتمي الى مختلف الحضارات والثقافات. و حاول من خلال مقالاته الصحفية ان يكشف عن الخسائر الفادحة الناجمة عن الحرب، وكيف أدت الى شل التعاون الدولي وعطلت التبادل الثقافي بين الشعوب، بعد ان قضت على حرية الفكر، وربطت طاقات الشباب الى آلة الدمار والقتل وأدت الى الكساد الاقتصادي وتسببت بمختلف الأزمات الاجتماعية.
في مطلع العشرينات أقام علاقة مع لجنة عصبة الأمم في التعاون الثقافي. وهي عبارة عن اتحاد دولي ثقافي، تم تأسيسه بمبادرة من الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون. وبالرغم من امتعاضه من البيروقراطية التي كانت تسيطر على نشاط هذه المنظمة إلا انه واكب عملها بانتظام وشارك بشكل متواصل في اجتماعات اللجنة التنفيذية منذ عام 1924 وحتى 1927. وخلال تلك الفترة ركز جهوده من أجل تأسيس الحكومة العالمية الخالية من الجيوش. وواصل نشاطه في الكتابة عبر الصحافة دفاعا عن السلام العالمي ومن أجل نزع السلاح. وفي نهاية العشرينات عبر صراحة عن خيبة أمله في عصبة الأمم، التي عجزت عن إحراز أي تقدم لحل القضايا الدولية ونزع السلاح، وأكد على انها عبارة عن أداة بيد الدول المتنفذة..
كان آينشتين يؤمن بان النتائج السلبية لانتاج السلاح لا تقتصر على تشويه الاقتصاد، بل ويشمل الجوانب الروحية أيضا. ووقع في عام 1930 بيان عن نزع السلاح، كان قد أعده لرابطة النساء العالمية من أجل السلم والحرية. وفي نهاية تلك السنة أدلى بتصريحه الشهير وهو في زيارة قصيرة الى مدينة نيويورك : " لو ان 2% ممن يُدعى للخدمة العسكرية الإلزامية يرفض المشاركة في الحرب ويصر على حل المشاكل الدولية بالوسائل السلمية، فان الحكومات سوف تفقد قوتها لا محال، وذلك لعجزها عن مجابهة هذا العدد الهائل الرافض من الناس...". وخلص الى ان سلم الأفراد وحريتهم، وأمن المجتمعات تتوقف على نزع السلاح، " وبعكسه فاننا مهددون باستعباد الفرد ودمار الحضارة ". وكجزء من نشاطه من أجل السلم العالمي بعث برسالة الى سيغمون فرويد عام 1932 طلب منه المساهمة في مناقشة قضايا السلم ومشاكل الحرب. وأشار الى ضرورة وجود تشريع دولي وهيئة قضائية لحل الخلافات بين الدول، تسعى من أجل صيانة الأمن. وجرت بينهما مراسلات حول هذه القضايا، وفي النهاية وافق فرويد على الكثير من مقترحات آينشتاين.
شكل وصول هتلر الى الحكم محطة انعطاف كبيرة في حياة آينشتاين، ليس فقط بسبب تغير مجرى حياته، إذ اضطر الى مغادرة ألمانيا والاستقرار في الولايات المتحدة، بل أدى الى تغيير جذري في موقفه من الحرب والسلم. لقد لاحظ كيف ان ألمانيا الهتلرية تحث الخطى وبسرعة كبيرة نحو التسلح. وحذر من النتائج الوخيمة التي قد تنتج عن هذه النزعة وتوقع سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، وتحدث عن الدمارالذي سوف تخلفه الحرب الجديدة، فيما لو اندلعت. ولم يكن يتحدث عن توقعات على أساس الحدس والتصور، بل كان يراقب عن كثب ما الذي كان تفعله القوى النازية والفاشية الصاعدة حديثا، في أكثر من بلد أوربي. في ألمانيا كان اتباع هتلر قد استباحوا القوانين والدستور قبل ان يستلموا السلطة ، ثم ما لبثوا ان شنوا هجوما ساحق على جميع القوى الديمقراطية وقوى اليسار. تابع كيف ان النازيين جلبوا الرعب والموت الى ألمانيا في البداية، ومن ثم الى أوربا.كان هناك أكثر من جرس إنذار يدق عبر العالم ينبأ بحجم الشر القادم. دخول اليابانيين الى منشوريا، غزو ايطاليا لكل من اثيوبيا والبانيا، والمذابح التي اقترفها فرانكو في اسبانيا.
السلم بحاجة الى القوة :
قبل سنوات قلائل فقط كان قد أكد على انه يعارض استخدام العنف ولا يستطيع تبريراستخدام القوة لأي سبب كان. وقد صرح لإحدى المجلات بان موقفه من الحرب ليس نابع من أي نظرية فكرية، انما بسبب كرهه الشديد لكل أنواع القسوة والضغينة. وها هي القسوة والضغينة تحولت الى الفاشية والنازية. وما انكشف ليس سوى البداية. وهذا ما دفعه الى هذا التحول، وهذا ما جعله يجد تبرير لدعوته أوربا للنهوض ومجابهة الفاشية والنازية. وقد كتب في رسالة الى صديق بلجيكي، من أنصار السلم المعروفين " بما ان ألمانيا النازية تسعى بكل وضوح من أجل الحرب بكل الوسائل المتاحة ، فان الدول الأوربية ، مثل بلجيكا وفرنسا لا تملك أي خيار آخر، سوى البدء ببناء دفاعاتها العسكرية". ويواصل " تخيل لو ان بلجيكا اليوم احتلت من قبل ألمانيا. ان الوضع سيكون أسؤ بكثير مما كان عليه في عام 1914 ".
ومع تصاعد أعمال العنف والملاحقة والقتل التي كان أنصار هتلر يمارسوها ضد قوى اليسار والديمقراطيين في داخل ألمانيا، وبعد النصر الذي أحرزه فرانكو ضد الجمهوريين في اسبانيا، أصبح آينشتاين أكثر إصرارا على ضرورة مجابهة الفاشية بالقوة. وكتب في عام 1939 : " أوربا اليوم تشبه مدينة استطاع فيها اللصوص والقتلة تنظيم وتوحيد صفوفهم تماما، في حين ان المواطنين الذين يحترمون القانون غير قادرين على تقرير ما اذا كان لا بد من تشكيل قوة للشرطة ". وقد أفصح عن ذلك في ما بعد على النحو التالي :
" مع نمو الفاشية أدركت انك لا تستطيع ان تبقى متمسكا بموقفك السلمي إلا اذا كنت تخاطر بأن تترك العالم بأسره يقع بين أيدي أكثر أعداء الجنس البشري بشاعة. لا يمكن مقاومة القوة المنظمة إلا بقوة منظمة. كم أنا آسف لذلك، ولكن ليس هناك طريق آخر ".
ويشير فريد جيرم الى ان التغيير الذي حصل في موقف آينشتاين قد أثار حفيظة بعض قوى السلام. ويشير في هذا الصدد : " تسبب هذا التغيير بظهور رسائل ومقالات غاضبة من أنصار السلم من مختلف أنحاء العالم، الذين شعروا ان آينشتاين قد تخلى عن القضية ". ويضيف جيروم " بالرغم من غضب أنصار السلم، إلا ان دفاع آينشتاين عن استخدام القوة كخيار لا بديل له بقي في تزايد متواصل ". وقد لخص أحدهم الموقف : " لا يمكن ان يكون السلام أكثر أهمية من بقاء... الحضارة الإنسانية وصيانتها من الفاشية ".
وبسبب كل هذه المخاوف أصبح أكثر واقعية في مواقفه من السلام. لم يعد رجل سلم بشكل مطلق كما كان في الماضي، لكنه واصل مطالبته بالسعي من أجل منظمة دولية ، وفي غيابها لا بد للقوى الديمقراطية ان تستعد للدفاع عن نفسها. وقد أثار هذا الموقف حفيظة البعض من أنصار السلم، ولم يترددوا في توجيه النقد له. ولكن آينشتاين رد على ذلك بقوله : " سيكون من الغباء لو أغمضنا عين واحدة عن الخطر النازي ". لقد حاول ان يوصل للناس الرعب الفاشي والتوجه النازي المتعصب نحو الحرب. وقد كتب في عام 1934 موضحا موقفه الجديد : " قبل بضعة سنوات كان رفض الخدمة في الجيش يعتبر شجاعة شخصية وتضحية ذاتية، وكان هذا يعتبر مقياس لنصير السلم؛ لم يعد هذا الموقف صالحا للاعتماد، وخاصة في أوربا. الحقيقة ان الدول الغير ديمقراطية في أوربا، مثل ألمانيا تحت زعامة هتلر، يرسمون خططهم المستقبلية اعتمادا على العدوان العسكري ". وهذا ما أقنع آينشتاين بان النضال التقليدي من أجل السلم لم يعد ممكنا. لذلك على المؤمنين حقا بأهمية النضال من اجل السلم العالمي ان " يبحثوا عن خطة عمل جديدة لتحركهم، تختلف عن السابق، عن زمن السلم ".
وفي تلك الأيام دعا الولايات المتحدة للتعاون مع عصبة الأمم من أجل تحويلها الى آلة فعالة للأمن الدولي. وفي عام 1935 توقع ان الحرب ستبدأ بعد سنتين أو ثلاث سنوات. وبعد فترة وجيزة عاد ليؤكد: " لا بد أولا من إنشاء الحكومة العالمية؛ ينبغي ان يتعلم الناس كيف يفكرون في مواضيع عالمية، وعلى كل دولة ان تتنازل عن جزء من سيادتها لصالح التعاون الدولي. اذا كنا نريد تجنب الحرب فعلينا ان نسعى من أجل ان نجعل العدوان مستحيلا، وذلك من خلال تأسيس محكمة دولية بسلطات فعلية ". وعاد في عام 1936 مجددا، ليؤكد بان الحرب قادمة لا محال اذا استمر الوضع على هذه الحال، ولا سبيل لتفاديها إلا بوجود الحكومة الدولية : " السلطة العالمية، المدعمة بالقوة الضرورية هي الأمل الوحيد لتفادي الحرب ". وحتى هذه الخطوة الجذرية لن تستطيع، حسب رأيه ان تقدم الضمانة الكافية للأمن. ولكن السلم الحقيقي لن يتحقق بالتأكيد بأقل من هذا. وفي رسالة له في أواخر 1936 رفض الفكرة التي كانت تراهن ان الحكومة الفاشية سوف تسعى الى تقديم عرض سلمي بديل.
ومن بين العوامل المهمة التي ساهمت في التغيير الذي حصل على موقف آينشتاين من الحرب والسلم هي الحرب الأهلية في اسبانيا. منذ البداية وقف آينشتاين مع آلاف العلماء والأدباء والمفكرين من جميع أنحاء العالم الى جانب الحكومة الاسبانية التي جاءت عن طريق الانتخابات. كانت سياسة أمريكا المعلنة هي الحياد، وفرض الحصار على الطرفين المتنازعين، في حين ان ناقلات النفط الأمريكية بقيت تزود قوات فرانكو بالنفط، حتى إعلان الحكومة الأمريكية الحرب في عام 1941 . ولكن نحو 2800 متطوع أمريكي تحدو حصار روزفلت واستطاعوا ان يشقوا طريقهم الى اسبانيا. وصل هؤلاء الى باريس كسياح ، ومن هناك انتقلوا الى اسبانيا بمساعدة الفرنسيين المناهضين للفاشية. وقد شكل هؤلاء المتطوعون ما عرف باسم " فرقة لينكولن ". وقد وقف آينشتاين الى جانب هؤلاء المتطوعين وساندهم علنا. وبعد هزيمة الجمهوريين في اسبانيا انظم آينشتاين الى منظمة " أصدقاء فرقة لينكولن ", التي تم تشكيلها لمساعدة هؤلاء المقاتلين للعودة الى الوطن. والى جانب آينشتاين كان هناك الكثيرون من العلماء والفنانين والكتاب، ومن بينهم ارنست همنغوي، والفنان المشهور باول روبسون، والعالم الكيميائي، الحاصل على جائزة نوبل هارولد يوري، و " أب القنبلة الذرية " روبرت اوبينهيمر وغيرهم.
في الأول من أيلول 1939 غزت القوات الألمانية بولونيا، وبعد يومين أعلنت كل من انكلترا وفرنسا الحرب ضد ألمانيا، وبذلك تكون الحرب العالمية الثانية قد تأخرت عن موعدها الذي توقعه آينشتاين بأقل من سنة واحدة. ولكن لا أحد يستطيع القول ان توقعاته بشأن حجم والضحايا وحجم الدمار الذي خلفته قد تأخرت عن ما حصل بالفعل، إلا فيما يتعلق بقضية واحدة، لم يسبق لأحد أن أخذها بالحسبان خلال الثلاثينات، ألا وهي قضية السلاح الذري، الذي يعتبر الهدية الأكبر التي قدمتها الحرب للمجتمع الإنساني، سنترك الحديث عن القنبلة الذرية ودور آينشتاين في بناءها جانبا، لنتحدث عنها في فقرة خاصة. وسنحاول ان نركز على دور آينشتاين في النظال من أجل السلم العالمي في سنوات ما بعد الحرب، والتي اصطلح على تسميتها بالعصر الذري.....
#عدنان_عاكف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- طب وشعر كيف يلتقيان - ؟؟
-
- الشرعية الثورية - و - الشرعية التاريخية -
-
الصراع بين الشعر والعلم - 1
-
المسلمون الأوائل وكروية الأرض - 3
-
المسلمون الأوائل وكروية الأرض – 2
-
المسلمون الأوائل وكروية الأرض - 1
-
ثورة تموز و - الديمقراطية الملكية -
-
14 تموز بين الموقف العاطفي و الموقف الطبقي
-
14 تموز: تلبية لإرادة الشعب أم تحقيق لمطامح العسكر ؟؟
-
نحن وثورة الرابع عشر من تموز 1
-
آينشتاين والاشتراكية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|