|
فيم يجتمعون وعم يتحدثون.. ؟
سعد صلاح خالص
الحوار المتمدن-العدد: 2356 - 2008 / 7 / 28 - 10:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس/ 99 "رجل الدين هو ذلك الذي يجد نفسه مضطرا للعيش عاطلا عن العمل على نفقة العوام الذين يكدحون من أجل لقمة العيش" .. فولتير
تقليعة هذا العام هي مؤتمرات حوار الأديان، وحوار المذاهب، وتصالح العقائد، و إنشاء المراكز الدولية لحوار الأديان، و"التعارف بين الحضارات أو الثقافات" وكأن الأديان تمثل مجمل الحضارات والثقافات وليست جزءا منها، وكأن هذه الأديان لا تعرف بعضها البعض عبر قرون من ميراث الدم الذي دفع ثمنه ملايين البسطاء من المؤمنين وغير المؤمنين في صراعات على الماء والكلأ والبترول. وأخيرا، وبعد بضعة آلاف من سنوات الإلغاء والإقصاء وقطع الرقاب وبقر البطون، تأتي نخبة الأكليروس العالمي باختلاف عباءاتها لتنصب نفسها حاكمة لضمير الإنسانية ومقررة لتاريخها، لتخبرنا في مؤتمر مدريد الأخير بأن صلاح العالم يكمن في "عودة الشعوب إلى دياناتها". والعودة إلى "دياناتها" هذه عبارة ملتبسة التباس أذهان حضور هذه المؤتمرات وأهدافهم، فالعودة ليست بالتأكيد إلى الديانات العراقية أو المصرية أو الفينيقية العتيقة وليست حتما العودة إلى اللادين، فهذه عصور ملغية من تواريخ وضمائر وصحائف هؤلاء وإن سادت لفترات أطول كثيرا من أديانهم، وإنما إلى ذلك التأريخ الذي تبلورت فيه "مهنة الدين" لتصبح مدرة للدخل كونها وظيفة تتبادل المنفعة مع السلاطين والقياصرة والذي لم ينتهي حتى وقتنا هذا. وتحدثوا أيضا عن "تقليص الهوة بين الشعوب" و كأن الهوة مردها شكل الأيمان وليست الرفاهية والعدالة والكرامة الإنسانية بغض النظر عن الدين والمعتقد والشكل واللون. اجتمعت الأصوليات وهي كارهة واحدة للأخرى، تتحدث عن التسامح انطلاقا من مبدأ "أنا على حق والآخرون على باطل، ولكن ماذا نفعل، فديننا يدعو إلى التسامح"، فنحن نتسامح لأن ديننا أحسن من دينهم وليس لكونهم بشرا أندادا لنا في الإنسانية، فهي تصنف الناس وفق معتقداتهم، والمعتقد في هذه الفلسفات مواز بل ويتجاوز اللون والعرق، فهو رابطة أقوى من رابطة الدم والوطن والإنسانية وحتى العاطفة البشرية، فهم لا يتزاوجون فيما بينهم بل ولا يتجاورون كلما أمكن ذلك، ولا يعترفون بآلهة الآخرين وإن أدعوا القواسم المشتركة. المشترك الإنساني الوحيد عندهم هو الدين، ولا عجب إن كانت أكثر جرائم العالم وحشية قد ارتكبت ولا تزال ترتكب باسم هذا أو ذلك الدين. اجتمع محتكرو الجنان والفراديس ليقنعوا العالمين بأن التاريخ إنما ابتدأ وينتهي بهم ، غافلين عن حقيقة أن مجمل تاريخهم لا يصل حتى إلى نصف عمر الحضارة الإنسانية ، بل وليتلبسوا إنجازات ليست لهم ولم تكن لتتحقق لولا ثورة العقل الذي نقلهم من خانة العقيدة الشمولية القسرية إلى خانة الاختيار الشخصي الطوعي في نصف العالم على الأقل. وتحدثوا فيما تحدثوا عن عدم التدخل في "شؤون الآخرين"، و الآخرون هنا هم المجتمعين ومن يمثلونهم، وكأن ليس هنالك آخرون ملحدون أو غير مؤمنين، وكأن الهوية الإنسانية دينية بالضرورة، وكأن جميع صراعات العالم إنما ناشئة عن تصور مختلف للإله أو تفسير مختلف لقصص الخليقة والبعث والنشور. تحاوروا في كيفية "تحسين صورة الآخر" وليس في تحسين الأصل لتكون الصورة حسنة بالضرورة، وكأن كل منهم لا يحفظ الآخر عن ظهر قلب، ولا يعتقد بكفره ومروقه، ولا يحتكر الله لنفسه حصرا، ولا يرسل العباد للمحارق نيابة عنه، ولا يجني الملايين التي يدفعها المؤمنون أملا في جنة السماء بعدما ضاقت بهم جهنم الأرض. جلس "أهل الكتاب" في صدارة الحوار المزعوم، دافعين الآخرين من أصحاب عقائد الشرق الأقصى - الذين ربما يفوقونهم عددا- إلى الصفوف الخلفية والذين بدورهم فضلوا الاستماع وقضاء الوقت في فنادق مدريد عوضا عن الخوض في حوار عمره الفي عام لم يطعم فقيرا، ولم ينير منزلا، ولم يعيد حقا مسلوبا، بين أطراف تلعن بعضها نهارا جهارا ، وتعبئ جمهورها المتآكل بالكراهية ووجبات الدم المقدسة على أشلاء الطرف الآخر. وبالضرورة كان هنالك المنتقدون من جميع الأطراف، الذين يرون في مثلا هذه الحوارات إلغاء لمبادئ الدعوة والتبشير، أو تكريسا لوجود الآخر الكافر، ودعا آخرون إلى حوارات داخل الأديان ذاتها. فيما بحث آخرون عن حل لقضية فلسطين وغيرها وكأن الصراع العربي الإسرائيلي صراع بين محمد من جانب وموسى و عيسى من جانب آخر فحسب، بعيدا عن حسابات الجغرافيا والموارد والاقتصاد والأسواق والحرب الباردة و الساخنة بين المصالح الكبرى التي يرى فيها المجتمعون أنفسهم أصولا وليسوا أدوات لقيادة الجمع المؤمن المسكين للسلخ وليس في سبيل الإله الذي انتهكوه كما انتهكونا، على مذبح تلك المصالح. ما يجب أن يتحاور من أجله العالم، بما فيهم أصحاب مدريد، هو هوة الفقر والمجاعة، وأزمات الخبز والحرية، وتوزيع الثروات ومنجزات المدنية البشرية على الشعوب، وإزالة الظلم والحيف، وتأكيد الهوية الأسمى للجنس البشري وهي إنسانيته، القاسم المشترك الوحيد بين جميع سكان هذا الكوكب. لن يكون الحوار العالمي حوارا ما لم يكن موجها لتحقيق الفردوس الأرضي لفقراء العالم وأغنيائه على حد سواء، فردوس التعليم والصحة والرفاهية والغذاء الرخيص والسقف الواقي والمياه الصالحة للشرب وقيم الحرية والعدالة والمساواة، أما مجالس ومؤتمرات حوار الأديان فلا تتعدى فوائدها المزيد من الدولارات في جيوب أصحاب الفنادق و شركات الطيران.
#سعد_صلاح_خالص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لروح قاسم عبد الأمير عجام في ذكراه الرابعة..
-
غزوة بيروت
-
العراق بعد خمس سنوات .. سلطة تبحث عن دولة
-
نحن و هم ..مقاربة للمسألة الدنماركية
-
قصة حقيقية تتكرر يوميا في أوطان الظلمة و الجراد..2
-
حوار و متدمن ؟ .. شكرا لكم
-
قصة حقيقية تتكرر يوميا في أوطان الظلمة و الجراد..
-
تساؤلات تبدو مشروعة: الديموقراطية و المجتمع المدني في العراق
...
-
اخر معارك الفاشية العربية
المزيد.....
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|