أعتقد أولاً أن الحوارات التي جرت كانت مهمة، كما أعتقد أنها تحتاج إلى إستكمال، خصوصاً أن المطروح الآن في هذه الورقة يخصّ المهام الآنية، الأمر الذي يفرض التعمُّق في الحوار حول الرؤية التي تعبّر عن التصوّر الإستراتيجي للشيوعيين، فلا إمكانية لإعادة تأسيس الحركة الشيوعية دون إعادة تأسيس الرؤية، و المهام الآنية تتعلق بالمباشر، بالآن. و الآن يحتاج إلى أن يوضع في صيرورة، في الأمس و الغد، في الممكن و الحلم. و لاشك في أن كثيراً من الملاحظات التي قيلت الآن تطال هذه الرؤية.
فمثلاً سنلاحظ الموقف من الرأسمالية، من النمط الرأسمالي العالمي، و من وضعنا فيه. فهل نستطيع تحديد الآن ما هو وضعنا في هذا النمط؟ و كيف يمكن أن يتطوّر هذا النمط؟ ما هي طبيعته؟ ما هي القوى المحرّكة فيه؟ إلى أين سيقود؟ و بالتالي هل الرأسمالية هي خيارنا الآن في إطار هذا النمط؟ فهذه، كما أعتقد، مسائل جوهرية في تحديد الرؤية الآنية و الرؤية المستقبلية، لأن تحديد إمكانات التطوّر الرأسمالي ستفرض برنامجاً غير ذاك الذي يمكن أن يُحدد على ضوء تحديد أن التطوّر الرأسمالي في بلادنا محتجز و منوع نتيجة طبيعة النمط الرأسمالي في المراكز. هذه نقطة هامة أولاً، و ضرورية للتحديد.
ثم هل نستطيع أن نحدد برنامجاً آنياً دون أن نحدد طبيعة وضعنا العربي، و بالتالي موقعنا في هذا الوضع العربي؟ و لا أقصد بالوضع العربي الوضع الراهن، و لكنني أقصد مجمل التكوين الذي نعيش فيه. هذا يفرض البحث في المسألة القومية التي يجب أن تحظى بأهمية أساسية، لأنه لا يمكن أن نضع برنامجاً محلياً دون رؤيةٍ تنطلق من الأساس العربي. فالعربي هو الأساس الذي يجب أن نبدأ به. كما يجب أن نعيد النظر في الرؤية من المسألة الفلسطينية، و لاشك في أن الورقة قد تناولت بعض الزوايا، و لقد رأيت أنها تكرر ما كان يقال ( و هذا ما سوف أتناوله في موقعه)، و لكن أعتقد أن أي برنامج يجب أن يعيد النظر في الموقف من المسألة الفلسطينية، إضافة إلى عدد كبير من المسائل التي تتعلق بالديمقراطية و رأي الشيوعيين فيها، و الموقف منها، إضافة إلى تحديد آفاق التطوّر و البرنامج البديل.
و هذا يدخلني في الملاحظات على الورقة، حيث لاحظت أن الأساس الذي بُنيت عليه يقوم على النفي، على الرفض. من هذا المنطلق مثلاً هناك دعوة إلى النضال ضد الإمبريالية، و هذا رفض، ولكن ما هو البديل الذي يجب أن نطرحه الآن؟ هل نستطيع أن نطرح الإشتراكية كبديل راهن؟ أم أن الرأسمالية التي نسميها " وطنية" هي هذا البديل؟ و هذا ما كان الشيوعيون يطرحونه دائماً. و بالتالي ما هو التصوّر الذي يجب أن يتبلور في مواجهة الرأسمالية، في مواجهة وحشيتها الراهنة، في مواجهة العولمة، من أجل بلورة آفاق تطوّر لمجمل الأمم المتخلفة و منها الوطن العربي؟
مسألة أخرى تتعلق بالصهيونية. و لاشك أن بعض الأصدقاء أشاروا إلى هذا الموضوع، و لكني أعتقد في أنه يحتاج إلى وقفة، فالمسالة لا تتعلق بالصهيونية فقط، فحين نتحدث عن الصهيونية يبدو و كأننا نتحدث عن أخطبوط تآمري عالمي. يجب أن نتحدث عن الكيان الصهيوني، عن دور الكيان الصهيوني في الوطن العربي، عن دوره كجزء عضوي في المنظومة الإمبريالية، و في السياسات الإمبريالية الأميركية الآن، للهيمنة على المنطقة العربية عموماً، بالترابط مع الدور العسكري الذي تلعبه الدولة الأميركية، و الذي بدأ في العراق وسينتقل إلى مناطق أخرى، و سوريا واحدة منها.
حين التطرّق إلى البرنامج العربي أو إلى الرؤية العربية لاحظت أن الورقة تحاول أن توصِّف لكنها لا تحدد المهام بشكل واضح. و بالتالي أرى أن الوضع العربي يجب أن يخضع لتحليل معمّق لفهم تكوينه الراهن، و بالتالي لتحديد آفاق تطوّره، سواء في إطار البحث في التكوين الطبقي العربي و تحديد طبيعة الفئات المسيطرة النهّابة و التابعة و طبيعة ارتباطها بالنمط الرأسمالي، و من ثم تحديد مهام التطوّر العربي لتحديد دور الشيوعيين في الحركة القومية العربية. و أنا هنا أستعير عنوان وثيقة كتبت في عام 1931.
لهذا يجب إعادة النظر في جملة من المصطلحات و المواقف القديمة وردت في الورقة. منها مثلاً مفهوم حركة التحرر الوطني العربي. هل هناك الآن حركة تحرر وطني عربية؟ يجب أن نتحدث عن الحركة الشيوعية العربية، و عن دورها و تحالفاتها أولاً، و من ثم يمكن أن نتحدث عن مجمل الحركة.
و منها أيضاً شعار التضامن العربي، الذي بدا قديماً إلى حدٍّ كبير، رغم أنه أيضاً كان مضللاً في وقته. و المشكلة هنا ليس في تحويل التضامن من تضامن أنظمة إلى تضامن جماهير، فالمسألة ليست مسألة تضامن بل هي مسألة واحدة تهم كل الجماهير العربية. و هنا يجب التأكيد على توحيد الحركة الجماهيرية العربية عبر دور الحركة الشيوعية العربية الموحدة، أي المؤسسة في حزب واحد.
و على ضوء ما أشرت إليه سابقاً، يجب إعادة النظر في شعارات الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، المحددة في الإستقلال و حق تقرير المصير و إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. لقد توضّح منذ إتفاقات أوسلو أن القيادة الصهيونية في غير وارد التنازل عن مشروعها،و أن المسألة هي مسألة صراع جذري بين مشروعين: المشروع الصهيوني الهادف إلى الهيمنة و السيطرة و الإحتلال، ليس على فلسطين فقط بل على ما أسموه " الشرق الأوسط". و المشروع القومي الديمقراطي العربي الهادف إلى التطوّر و الإستقلال و التوحُّد و الديمقراطية.
و بالتالي فإن مسألة المفاوضات التي مورست طيلة العقود الثلاثة الماضية، لا تقود – و هكذا توضّح في المرحلة الماضية حسب ما أعتقد- في ظل ميزان القوى الراهن إلى حلّ عادل. و بالتالي فالمطلوب هو تحقيق تغيير عميق في ميزان القوى، أولاً بتغيير الواقع العربي لكي يصبح في مواجهة الرأسمالية و المشروع الصهيوني. لهذا فإن الإشارة إلى تهيؤ الآفاق لنهوض جديد ( كما ورد أيضاً في الورقة) أمر مهم و صحيح، لكن هنا بالتحديد يجب التأكيد على دور الشيوعيين العرب في تحقيق هذا النهوض، و في بلورد الرؤية التي تحكمه، و البرنامج الذي يسعى لتحقيقه، لأن دور الشيوعيين العرب هو الذي يحقق هذا النهوض و إلا إستلبته الحركة الأصولية، أو أبرز قوى ربما لا تكون جديرة بتحقيق الأهداف المطروحة، كما حدث نهاية الأربعينات و الخمسينات.
و هنا يجب أن يعاد النظر في مجموعة تعابير تتردد، مثل القوى الوطنية حيث يجب تجاوز المعاني السابقة التي ركزت على الوطني فقط دون الديمقراطي. و أيضاً تعبير الوحدة الوطنية، الذي هو تعبير ممجوج و سلطوي و يقبع خلفه الشعور بالتفكك الطائفي، حيث يجب التأكيد على مفهوم المواطنة و الإشارة إلى تعزيز دور الجماهير في المقاومة و تعزيز دور القوى الديمقراطية في المواجهة.
نأتي الآن إلى مسألة البرجوازية الطفيلية و البرجوازية البيروقراطية. و هنا نحن بحاجة إلى إعادة تحديد طبيعة الرأسمالية التي سيطرت، و أعتقد أن مفهوم البرجوازية البيروقراطية يحتاج إلى إعادة نظر، لأن الفئات البيروقراطية التي نهبت تحولت إلى برجوازية مافياوية أو طفيلية، و هي لم تكن برجوازية و هي تنهب، بل كانت في مرحلة توّل ( أو إنتقال) من كونها فئات فقيرة أو متوسطة إلى أحد أنماط الرأسمالية غير المنتجة. و يتمثل الوضع الآن بوجود فئات طفيلية مافياوية استفادت من إستبداد السلطة لتحقيق النهب الضروري لها، و رأسمالية تابعة ( وهي رأسمالية تجارية بالأساس) تستفيد جزئياً من الدولة و لكنها تسعى لأن تشكّل مع الرأسمالية الطفيلية نظاماً إقتصادياً آخر، مندمج بالنمط الرأسمالي العالمي و ملحق به. و" معاندة" الفئات النهّابة ناتجة عن تخوّفها، أو ميلها لضمان سيطرتها، أو شعورها بأن إستمرار الوضع الراهن أكثر ربحية لها.
و أعتقد بأن تسمية البرجوازية التقليدية بالبرجوازية الطفيلية ليست دقيقة، فهذه البرجوازية هي أولاً تعمل في مجال التجارة، و هي وسيط مع السوق العالمي، أي أنها تعمل في " القطاع الثالث" كما يسمّى في الإقتصاد، و بالتالي فهي برجوازية تابعة في إطار النمط الرأسمالي. و " التنافس" مع البرجوازية التي نهبت ( و التي هي ما يمكن أن نطلق عليها سمة الطفيلية) يتحدد في ممارسة هذا الدور. هنا نلمس أن " الصراع" الراهن يتمثّل في إستمرار البرجوازية الطفيلية في نهب المجتمع و الدولة، أي في الحفاظ على الشكل السابق القائم على هيمنة الدولة من أجل نهبها، و الآن في الإستفادة من سيطرتها لإحتكار النشاط الإقتصادي لتعزيز قوّتها في المساومة مع الرأسمال العالمي و الرأسمال المحلّي.
لكن يجب أن يكون واضحاً أن الوضع الراهن قائم على النهب و إفقار الطبقات الشعبية و بالتالي تجب مواجهته، و من ثمّ إن التحوّل الممكن نحو إقتصاد السوق سوف يعزّز من حالة الإفقار و البطالة و أيضاً تجب مواجهته. و الآن ترتبط مواجهة النهب و إحتكار الفئات المافياوية بالتأكيد على ضرورة الديمقراطية، و إطلاق قوى المجتمع المدني، أي الأحزاب و النقابات و الإتحادات و اللجان المعبّرة عن كل المصالح الشعبية، من أجل فرض برنامج إقتصادي إجتماعي بديل.
هذه النتيجة تفرض العمل على وضع برنامج إقتصادي إجتماعي بديل، ينطلق من التأكيد على دور الدولة الإستثماري و الحمائي، و التأكيد على التخطيط، و التركيز على بناء الصناعة و تطوير الزراعة، و هذا يحتاج إلى خطة إقتصادية متكاملة.
لكن أولاً يجب نقد الراهن، و تطوير حركة شعبية ضد النهب و من أجل توفير فرص العمل و تحسين الأجور، و تعزيز الضمان الإجتماعي و الصحي، و بالتالي تطوير الخدمات العامة التي هي الآن في وضع بائس. و كذلك تعزيز الرقابة على دور الدولة الإقتصادي عبر الديمقراطية و نشاط الأحزاب و النقابات و هيئات المجتمع المدني. و المسألة هنا ليس "المطالبة بوقف"، و هي " العقلية" السابقة التي كانت تكتفي بالمطالبة عبر البيانات و البرامج دون أي فعل واقعي،مهمة الأحزاب أن تُفعِّل حركة إجتماعية تشكل قوة ضغط من أجل تحقيق المهمات المحددة.
هنا نصل إلى الديمقراطية. البرنامج الديمقراطي ليس أداة، هو مدخل تحقيق مصالح الجماهير الشعبية. و هذا التمييز مهم لأن الديمقراطية سلوك و علاقات، و ضرورة لتحقيق البرنامج الإقتصادي و ضمان إستمرار تحقيقه و تطويره، و ضمان مراقبة السلطة التي تنفذه. و لهذا فالشيوعيون يسعون عبر الديمقراطية لتحقيق مصالح الجماهير بدعم جماهيري.
و هنا لا تفيد الإشارة إلى أنه كان للشيوعيين برنامج ديمقراطي لكنهم لم يطرحوه، أو لم يدافعوا عنه كفاية، كان هذا في الأربعينات و الخمسينات، و لكنه كان إشكالياً و بالتالي يحتاج إلى نقد.
و لاشك في أن الورقة تشير إلى عدد من المهمات الديمقراطية، لكن أعتقد أنه يجب أن يضاف إلى برنامج الشيوعيين الديمقراطي مهمات عدة ضرورية مثل :
* التأكيد على حرية العمل النقابي و إعادة الفاعلية للنقابات كمعبّر عن الحراك الإجتماعي.
* التأكيد على الحقوق الثقافية لكل الأقليات القومية.
* السعي لإصدار قانون جمعيات عصري.
* التأكيد على حق الإضراب و التظاهر و كل أشكال الإحتجاج السلمية الأخرى.
* إصدار قانون مطبوعات ينطلق من الحق في إصدار الصحف و المجلات، و إزالة كل المعيقات الأمنية التي تحكم العقلية السائدة.
* التأكيد على حق الأحزاب في الوجود و النشاط و تنظيم ذلك على أسس تتعلق برفض العنصرية و كل أشكال التمييز الجنسية و القومية و الطائفية.
* سيادة القانون و إستقلال القضاء.
و إذا كانت الورقة تشير إلى ترابط المسألة الوطنية و وضع الشعب و المسألة الديمقراطية، فإنه يجب الإنتباه إلى أن هدفاً هو الذي يحظى عادة بالأولوية. و المشكلة الرائجة تتمثل في أن هذا الهدف يصبح هو كل الأهداف، أي يجبُّ كل الأهداف و إن في لحظته فقط. من هذا المنطلق رفضت أن تكون الديمقراطية هي الكل كما يطرح لدى بعض الديمقراطيين. لكن الآن للديمقراطية الأولوية كونها مدخل تفعيل الحركة الإجتماعية و السياسية، من أجل تحقيق كل الأهداف الأخرى، التي تتعلق بالدفاع عن الوطن و مواجهة الهجوم الإمبريالي الأميركي، إلى مقاومة الفساد و الميل الليبرالي، إلى الدفاع عن أوضاع الشعب. لهذا يجب التأكيد على الديمقراطية كمدخل، التي ربما تختلف لحظة بدء الهجوم الإمبريالي، فتصبح مقاومته هي الأولوية.
كيف يمكن أن ندافع عن مصالح الشعب و نعمل من أجل تحسين وضعه المعاشي، و ليس من إمكانية للتظاهر أو الإضراب، و النقابات مسيطر عليها. رغم ذلك يجب التأكيد، إضافة إلى الديمقراطية، على أوضاع الشعب و على مواجهة الهجوم الإمبريالي القائم في فلسطين و العراق و القادم إلينا.
و في هذا الوضع يجب التأكيد على التحالف مع، ليس فقط القوى التي لا تتفق مع برنامج قوى السوق المحلية و العالمي، بل و التي ترفض البرجوازية المافياوية كذلك، لأن الإستغلال و النهب هما من فعل هؤلاء و ليس من فعل طرف منهما، وهما الطبقة النهّابة.
و على أساس ذلك يجب توجيه نقد قاسٍ إلى " الجبهة التقدمية"، و التأكيد على أن الواقع قد تجاوزها إذا كان هناك ضرورة سابقة لها، حيث أنها في الواقع ألغت الدور السياسي للأحزاب و ألحقتها بالسلطة، و كل المظاهر المشار إليها في الورقة هي نتاج هذه " الخطيئة الأصلية". و بالتالي فإن المسألة ليست في تطوير الجبهة، بل في تجاوزها. وحيث أن المهمات المطروحة تفرض تحالف القوى الشعبية بعيداً عن السلطة، و من أجل إحداث التغيير الذي يخدم مصالح الطبقات الشعبية، و يحقق المهمات الوطنية الديمقراطية.
أخيراً أعتقد بأن الحوار يجب أن يتسع لكي يشمل كل الماركسيين، لأن المسألة تتعلق في إعادة بناء الحركة الماركسية العربية و ليس في تجميع قوى موجودة لا فاعلية لها، و لأنها تتعلق كذلك بإعادة صياغة الرؤية. و لهذا سوف أقدم ورقة من أجل ذلك.