|
السيستاني والمسلسلات التركية
نذير الماجد
الحوار المتمدن-العدد: 2355 - 2008 / 7 / 27 - 11:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كما كان متوقعا، تدخلت أخيرا المؤسسة الدينية الرسمية في النجف الأشرف لتضع حدا للإقبال الكثيف والمتصاعد الذي حظي به المسلسل الدرامي الشهير "سنوات الضياع" ووصيفه "نور"، بعدما اجتاحا الوطن العربي من المحيط إلى الخليج وحققا نجاحا لافتا في الوصول لأكبر شريحة عربية. تدخل الفقيه الشيعي السيستاني أخيرا مستخدما كل ثقله الديني والكهنوتي ليحسم الجدل الساخن الذي ما انفك الإسلاميون يثيرونه بسخط وتذمر وحنق شديد من كل الأوضاع المزرية التي وصلت إليها جماهيرنا العربية، وهذا بالطبع حسب توصيفهم.
السيستاني وفقا لأحد شراحه لم يكتف بتحريم المسلسلين المدبلجين الآنفي الذكر بقوله: "مع اشتمال هذه المسلسلات والمسرحيات على لقطات غير شرعية وغير أخلاقية – التي لا تخلو منها غالباً – يحرم النظر إليها مع التلذذ الشهوي أو خوف الوقوع في الحرام ، بل الاحوط لزوماً ترك النظر إليها وإن كان بدونهما" و الاحوط لزوما هنا يفسره الشارح الشيخ صالح الجدعان بالقول بالحرمة أي حرمة النظر لهذه الأعمال، لم يكتف السيد السيستاني بهذه الفتوى الصريحة والقاطعة بل راح يعمم الحرمة لكل الأعمال التلفزيونية الملهية حسب وصفه لما تحتويه من مشاهد مخلة بالأدب ومنافية للأخلاق والأحكام الشرعية.
ولا تجوز أيضا مشاهدة تلك الأفلام التي يمثلن فيها النساء السافرات والخالعات "الغير محجبات" وغير ذلك من أمور يحظرها الدين، مما يعني عمليا مقاطعة كل عمل درامي وكل مشهد تمثيلي يبث على شاشات التلفزة فيما خلا القنوات الدينية التي تبث الأعمال التي تحرص على الأخلاق وتراعي الحجاب وتلتزم به، أي تلك القنوات الإسلامية المنخرطة في الوعظ الديني على مدار الساعة.
أنا أعرف أن هذه الفتاوى وشروحها لن تحظ بذاك التماهي والانصياع المأمول والمرتقب من قبل المؤسسة الدينية الرسمية شأنها في ذلك شأن الكثير من الفتاوى والمواقف الدينية التي بقيت عند قطاع كبير من الناس حبرا على ورق بوصفها قوانين لا يمكن تنفيذها عمليا إلا إذا أغلقنا دور السينما والمسرح ومنعنا كافة أشكال الدراما العربية والعالمية لعدم مراعاتها لأحكام الحجاب والعفاف والأخلاق الإسلامية! لكنها مع ذلك تكشف عن ذلك القلق الكبير الذي اعترى رجال الدين بسبب النجاح اللافت الذي أحرزته هذه الأعمال الفنية رغم ما فيها من معالجة جريئة لا تتوافق إطلاقا مع الرؤى الدينية الرائجة التي تسود المجتمع، كالعلاقات المرتكزة على الحب بين الرجل والمرأة والهامش الكبير من الحرية في اللقاءات المنعقدة بينهما ودور المرأة الكبير في الحياة والعمل والنجاح الذي تحققه في هذا المجال، وتفوقها على غريمها الرجل في تسيير شؤون الحياة والعمل والإنتاج، والحقوق المتكافئة التي ظفرت بها المرأة ضمن معالجة درامية استثارت شهية المرأة المنكفئة على ذاتها في البيئات المحافظة في مجتمعاتنا، كل هذه العناصر كانت بمثابة نواقيس وأجراس خطر وإنذار استرعت انتباه الخطاب الرسمي الديني الأمر الذي جعله يشمر عن ساعديه ويقوم بعملية "تدخل سريع"، تحد من تفاقم هذا الاستهتار بالدين والقيم!
وإذا كان يحق لنا إبداء الملاحظة بصفتنا معنيين بهذا الموقف، فلي هنا عدة ملاحظات آمل أن لا تثير غضب رجال الدين والمنضويين تحت لوائهم:
أولا: لعل هذا الموقف يمثل تراجعا مفزعا في تقاليد الحوزة الدينية التي آثرت على نفسها عدم التورط في تعقيدات الموضوعات لينصب جل اهتمامها في الأحكام والكليات من دون الدخول في دهاليز الجزئيات و التفاصيل، فالقول بحرمة هذا العمل بذاته لا يعني فقط مصادرة للفن وتضييق الحرية عليه، بل يمثل خطوة انتكاسية وتقهقرية تطلق رصاصة الرحمة بفرض حالة من الاتباعية على ما تبقى من عقل عند من بات يعرف بالعامي، والنتيجة هي تعطيل العقل والتفكير بالوكالة، وهذا أمر خطير دأب الفقهاء ورجال الدين على نفيه في مدوناتهم الأصولية والفقهية ولكن هذه الفتوى تكشف بكل وضوح عن تهافت هذا المدعى وزيفه، وربما كانت كافية لتعكس رغبة رجال الدين في الهيمنة على كل تفاصيل الحياة وانتزاع القدرة من الفرد الشيعي على إعمال العقل حتى وإن كان لا يتعدى حدود مطابقة الأحكام على موضوعاتها.
ثانيا: انبنى هذا الموقف المثار على تصور مسبق مفاده أن الفرد أو الإنسان العادي "العامي" لا يمكنه إلا أن يتأثر بمثل هذه المغريات أو "الأفكار المضلة" فهو وفقا لهذا التصور أشبه بخامة تتشكل ويعاد تشكيلها بسهولة، إلا أن الفرد لديه مناعة ذاتية تؤهله لتقييم هذا العمل أو ذاك دون الحاجة لمتابعةٍ "وصائيةٍ" من رجال الدين، وعليه فلا يمكن استساغة هذا الولوج الحائل والمرتاب من صلاحية الفرد في مواجهة المغريات الثقافية في عصر تحطمت فيه الحواجز التي كانت القوى الوصائية تضعها لحماية المجتمع من الدخيل الثقافي، فما عادت المجتمعات في حصون منيعة، وما عاد المربي أو الواعظ يحتكر صناعة وتكوين شخصية الفرد والمجتمع، بل هنالك أكثر من لاعب أو مؤثر يساهم في صياغة الفرد شئنا أم أبينا، لأن المرحلة الراهنة التي نعيشها بدا فيها ذلك الإخطبوط الإعلامي يبث منتجاته الثقافية و يغزو بها كل بيت و كل طبقة و كل مجتمع مهما كان تمنعه الديني أو الثقافي أو إرثه الحضاري و حتى لو كان مجتمعا منغلقا فإنه في ظل هذه العولمة لابد أن يطاله التغيير و يناله شيئا من تأثيرات الثقافات الأخرى.
أتصور أن الخصوصية الثقافية بدأت تتداعى وتنحسر، وبدأت المؤسسة الدينية تفقد سيطرتها وسلطتها على الأفراد والمجتمعات، حتى بدا الجيل كله في شبه كبير نتيجة هذا الانحسار رغم اختلاف مجتمعه و طبقته و قوميته و عرقه و دينه.
ثالثا: إن أروع وأجمل دور تساهم به هذه الأعمال الفنية هي دفع مسيرة التلاقح والتداخل الثقافي بين المجتمعات، خاصة تلك الأعمال التي لا تأتي في سياق تبجيلي ومتعالي على الواقع، لأن الشفافية إذا ساهمت في كشف وتعرية المهمش والمندثر تحت ركام التصنع و"الماكياج" التي تحاول كل ثقافة أن تحتمي بها سوف تخلق لغة للتخاطب تتسم بالوضوح والمصداقية بحيث تستطيع الثقافات الحية أن تتحاور وأن تتجاوز ذاتها باستمرار.
ما أجمل أن تتعارف الشعوب على بعضها عبر هذه الفنون التي تستطيع أن تنجح فيما تخفق فيه السياسة، وهذا ما نجده ماثلا بشكل رائع جدا في هذا العمل، فلو جيشت الحكومة التركية مثلا كل قدرتها الديبلوماسية لما استطاعت أن تفعل ما فعله هذا العمل الفني الذي ساهم إلى حد كبير في تعريف المجتمعات العربية على المجتمع التركي.
رابعا: يتراءى لي أن هذا المعالجة الدينية باتت عقيمة جدا، فبدل هذه المواقف والأجوبة الجاهزة التي اشتهر بها الخطاب الديني بكل اتجاهاته كان يجب الاهتمام بمسائل أخرى أكثر أهمية، فبدل اللجوء إلى إطلاق الفتاوى بلغة التحريم والحظر كان يجب الالتفات إلى أسئلة من نحو: لماذا راجت هذه المسلسلات؟ ولماذا تقبلها الجمهور العربي مع ما تبذله المؤسسة الدينية من جهود وعظية جبارة؟! هل لأنها تحمل في طياتها رغبات مكبوتة ومدفونة تحت يافطات الأخلاق والصلاح وما أشبه؟ هل يمكن أن تفسر بذلك التماهي الخجول بمناخات الحرية التي تدعو إليها هذه الأعمال؟! هل تأتي في سياق تفريجي لحالة الاحتقان والتململ بين الأوساط العربية المؤدلجة حتى النخاع؟!
عوضا عن تقديم السؤال بصيغة يجوز أو لا يجوز، لابد من إعادة صياغة السؤال وطرح الإشكالية التي تفتش عن العوامل والأسباب، لا أن تطمرها وتتجاهلها.
#نذير_الماجد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تحجبوا أكسجين الوعي!
-
مشاكسات على هامش الفقه!
-
فقهاء ولكن..!
-
إلى من يتغنى بالموت ليل نهار!
-
لماذا كذب وليد جنبلاط؟
-
آمنوا ولا تفكروا!
-
حوار الأديان في السعودية.. هل هو اكذوبة أبريل؟!
-
اشكاليات الحجاب في الخطاب الديني
-
السعودية:المرأة و السيارة و جدل لا ينتهي
-
طبروا كلكم إلا أنا!
-
الاسلاميون في البحرين و مفاتيح جنة الفقهاء!
-
عاشوراء: موسم المنابر و حصاد الوجاهة!
-
التحية إلى روح بينظير بوتو
-
نحو رؤية جديدة للزواج
-
الإسلاموية و فوبيا التجديد!
-
أحاديث في الحب
-
فتاة القطيف: قضية فتاة أم وطن!
-
الفن ليس محظورا منذ الآن «2»
-
العمامة الفاخرة و -الناصح المشفق-
-
الفن ليس محظورا منذ الآن!
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|