|
أزمة البشير هي أزمة الثقافة العربية
محمود الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 2354 - 2008 / 7 / 26 - 10:51
المحور:
المجتمع المدني
مجتمعاتنا مأزومة منذ زمن طويل يصعب حسابه بآلات العد ومقاييس الزمان , مجتمعاتنا لايصح أن يطلق عليها مجتمعات لأنها مازالت تعيش في طور البداوة ومفاهيم الصحراء والجفاف, مجتمعاتنا لم تتعود أن تفكر بحرية وانطلاق لأن شيخ القبيلة مازال قابع فوق العقل المغلق للعقل والهازم لأليات التفكير , مجتمعاتنا لم تتشوق للحرية كما تتشوق لكسرة الخبز وعورات النساء , مجتمعاتنا لا تعرف سبيل التقدم للأمام لأنها مازالت مشغولة بمؤخرات النساء !! نعم إنها مجتمعات مأزومة والأزمة ساكنة في أعضائها التناسلية بمقدماتها ومؤخراتها قبل أن تسكن البطون والعقول , لأن العقول مازالت في المؤخرة , ومن هنا كنا في ذيل الحضارات والثقافات ولم نرتقي لأن نكون متشبهين بأي أمة من الأمم . إن مجتمعاتنا لاتنتج الثقافة ولاتستهلك الفكر ولاتؤسس لمجتمع حي نابض بالحرية واليقين العلمي , بل تم إستبدال اليقين العلمي باليقين الديني وتسيدت فيها مفاهيم الملوك وأوامر الأمراء , ومن ثم فهي مجتمعات سادت فيها وارتقت ثقافة الخصيان وربحت فيها تجارة الأغوات والغلمان . إننا مجتمعات تعشق الإستبداد لدرجة أن سادت مقولة : المستبد العادل !!, مع أن العدل والإستبداد لايلتقيان فالإستبداد خصاء للعقل من التفكير وتطبيع للعقول علي تجريم التأويل إلا بصك وصاية من الحاكم أو السلطان أو الملك أو الأمير علي شرط أن يكون عقل الفقيه أو المحدث أو المفسر أو صاحب التأويل حتماً يوافق إرادة الحاكم فيما ينتهي إليه أو يذهب إليه من فقه أو تفسير أو تأويل ليستقر الملك وتحكم الإمارة أو السلطنة أو المملكة بأوامر هي أقرب ماتكون من أوامر رب العالمين , ومن هنا كانت لادول ولا مؤسسات ولاهيئات ومن ثم غاب عنا فقه المجتمعات وساد فقه القبائل بأوسع أنواع الظلم والفسادات والإستبداد , فكان شعار كل حاكم أنا شيخ القبيلة , ومن ثم كانت القبيلة هي الشيخ والشيخ هو القبيلة , وعلي هذا المنوال صارت الدولة هي الحاكم , والحاكم هو الدولة قبل أن يقول لويس أنا الدولة والدولة أنا , فالإستبداد عربي بجدارة , والظلم مرقده عربي بحفاوة , ومازلنا نحلم بحلم المستبد العادل بكل إنكسارات النفس المهزومة والمكلومة بالفقر والمرض بكل مذلة وانكسار , وهناك مثل تداوله العامة مفاد هذا المثل أن ضرب الحاكم للمواطن لايمثل جريمة أو ضرب الحاكم للمواطن ليس عيباً , والحاكم يبدأ من رأس النظام إلي أدني السلم الوظيفي في السلطة التنفيذية والتي تصل إلي الخفير!! بل وقال من أسميناهم علماء ونصبناهم علينا فقهاء : إمام غشوم خير من فتنة تدوم ، ومائة سنة بإمام جائر ، خير من يوم بلا إمام !! بل ومنهم من ذهب إلي أن وجوب طاعة ولي الأمر حتى لو زنى وسرق وأخذ المال وهتك العرض وجلد الظهر وقتل الولد , بمقولة شاذة تبدأ بهتك العرض ويتوسطها أخذ المال وجلد الظهر , وتنتهي بقتل الأولاد !! وهذا هو السائد في الثقافات الشعبية الدينية المتوارثة , أما الثقافات الدينية التي تؤسس لطاعة الحاكم وتحريم وتجريم الخروج عليه من غير أن يكون لها رأي أو دور في إختياره من بادئ الأمر فلها رصيد لايتسع المقام لسرده وإنما يتسع المقام لسرده في مباحث الطغيان والفساد في أنظمة الحكم العربية التي تلوذ بالدين حين بروز كل أزمة علي السطح لتستعمل الشعوب والجماهير كما تستعمل السوائم والبهائم بلاعقل وبلاقلب وبلاضمير !! ومن هنا كانت نصوص الدين في إستخداماتها الباطنية والظاهرية تحوي كل المعاني المرادة لها أن تكون حسب تفسير وتأويل بقاء وإستمرارية الحكام علي كراسي الحكم والسلطة حتي ولو كان البقاء والإستمرارية مرهونان بالقتل والتعذيب وهتك العرض والحبس والإعتقال والغياب القسري بل والقتل , وذلك حسب مفاهيم أهل التفسير والتأويل من سدنة الحكام وخدام المعبد السياسي المقام علي أعمدة المصلحة لدي أهل التفسير والتأويل من سدنة الحكام حيث أنها لها مجال وحيز ولها إبتكار في عقلية سدنة الحكام أرباب المصلحة علي موائد الحكام علي مر العصور وتوالي الأزمان , فكان النص للحاكم عاصم له من العدل ومؤيد له في سلوك مسالك الطغيان والظلم , فالنصوص ملتبسة في أفهام من فهموهما , والنصوص مهيأة لأن تحمل معاني بعدد من يتعرض لها بالتأويل والتفسير أو حتي بالنقد والجرح والتعديل !! إن الأنظمة العربية التي تحتمي بالمؤسسات الدينية حسب تلك المفاهيم السابقة لايمكن لها أن تبني مجتمعات علي أساس من الحرية والعدالة لأن النصوص تحمي الحكام الفاسدين بتأويلات رجال الدين والموروثات الدينية , مع الخلط التام بين صاحب النص وبين الحاكم بإسم النص , وهذا نص ديني له قداسة في نفوس المؤمنين به . ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه : قال دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان . فالأمر مرهون حسب منطق راوي الحديث وحسب من يتعامل معه مستخرجاً منه العبر والعظات في تجريم من يخرج علي الحاكم إلا أن يري منه كفراً بواحاً ولابد أن يكون هذا الكفر عليه برهان ودليل من الله !! فمن إذأ لديه القدرة علي معرفة برهان الله سوي رجال الدين أو المتعاملين مع النص الديني بصفاتهم الرسمية الموالية للحاكم في ظل العصر الحديث بتطوراته وآلياته الحديثة المبنية علي مجتمع المواطنة والعدالة الإجتماعية والديمقراطية بعيداً عن تأسيس الدولة الحديثة علي مفاهيم دينية وموروث ديني تتعدد رؤي تفسيره وتأويله بحسب كل فرد يتعامل مع النص الديني!!؟ مع التنويه بأن القدامي إختلفوا في مراد الله بالنسبة لكلمة الكفر البواح فيذهب أحد المشايخ في سرد هذه الإختلافات وينتقي من الأقوال المختلفة مالا يمكن معه الوصول إلي مراد الله إلا إذا كان مراد الله هو الخاص بفهم كل من تعرض للنصوص بفهمه المفرد هو فقط دون باقي الفهام : قال ابن حجر في فتح الباري : قوله ( إلا أن تروا كفرا بواحا ( بموحدة ومهملة . قال الخطابي : معنى قوله بواحا يريد ظاهرا باديا من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحا وبواحا إذا أذاعه وأظهره . ثم قال : وقع عند الطبراني من رواية أحمد بن صالح عن ابن وهب في هذا الحديث كفرا صراحا , بصاد مهملة مضمومة ثم راء . ووقع في رواية حبان أبي النضر المذكورة " إلا أن يكون معصية لله بواحا " . وعند أحمد من طريق عمير بن هانئ عن جنادة " ما لم يأمروك بإثم بواحا " . وفي رواية إسماعيل بن عبيد عند أحمد والطبراني والحاكم من روايته عن أبيه عن عبادة : " سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون , فلا طاعة لمن عصى الله " . وعند أبي بكر بن أبي شيبة من طريق أزهر بن عبد الله عن عبادة رفعه " سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون ويفعلون ما تنكرون فليس لأولئك عليكم طاعة " . قوله ( عندكم من الله فيه برهان(. أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل . ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل . قال النووي : المراد بالكفر هنا المعصية , ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام . فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم انتهى . وقال غيره : المراد بالإثم هنا المعصية والكفر , فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر . والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر . وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية . فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف . ثم قال : ونقل ابن التين عن الداودي قال : الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب , وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء , فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه , والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه ) انتهى ما تم ذكره هنا في شرح هذا الحديث . وهذا حديث آخر : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم . أي إلي الحكام . أي علي وزن دع مالقيصر لقيصر وما لله لله , ولكن بصورة أدي للحاكم الحق الذي يسبق علي حقك , وبعد ذلك إسأل الله تبارك وتعالي حقك , سواء أعطاك الله أو منعك , والمهم والمضمون أن تعطي حق الحاكم أولاً حسب المفهوم من هذا الحديث !! وأخرج مسلم من حديث أم سلمة مرفوعا " سيكون أمراء فيعرفون وينكرون , فمن كره برئ ومن أنكر سلم , ولكن من رضي وتابع ، قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : لا , ما صلوا " . ومن حديث عوف بن مالك رفعه في حديث في هذا المعنى " قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : لا , ما أقاموا الصلاة " وفي رواية أخري : وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة " . فالطاعة حسب النصوص الدينية واجبة بالتفسير والتأويل حسب مفردات العصر الماضي أما في العصر الحالي فتغيرت لغة الحكم ومفاهيم السياسة وإدارة شئون الدول والعلاقات الدولية المرتبطة بالمعاهدات والمواثيق والعهود الدولية أو مايسمي بالشرعية الدولية برغم بعض المساوئ والمعايير التي تعاير بها وتقيس عليها إلا أنها أفضل من النظم العربية الحاكمة ومشروعية وجود الحكام علي كراسي الحكم والسلطة التي هي بهذه المعايير والقيم تعتير أدني وأقل تحضراً وتمدناً لأنها مازالت تحكم بروح شيخ القبيلة بل القبيلة في بعض الأحيان أرقي من مستوي الحكم والسلطة بمقارنتها بالأنظمة العربية . فحينما يستند أحد من العلماء أو المشايخ أو الفقهاء إلي الحديث الذي يروي عن أبي عبيدة بن الجراح عن عمر رفعه قال : أتاني جبريل فقال : إن أمتك مفتتنة من بعدك . فقلت : من أين ؟ قال : من قبل أمرائهم وقرائهم , بمنع الأمراء الناس الحقوق فيطلبون حقوقهم فيفتنون , ويتبع القراء هؤلاء الأمراء فيفتنون . قلت : فكيف يسلم من سلم منهم ؟ قال بالكف والصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه " . ماذا يمكن أن نقول أمام هذه الرواية التي رواها أبا عبيدة بن الجراح إذا كان المر منسوب إلي جبريل عليه السلام ومنسوب من ثم إلي الرسول عليه السلام , خاصة وأن الفتنة ماحقة لامحالة فلاحيلة تنفع مع نبؤة , ولاشفاعة تنفع مع إستشراف أحداث المستقبل برؤية مقدسة أو بنبؤة صادقة لها حيز واسع من القداسة , والإيمان بها واجب يصل إلي مرتبة الفرض الديني ؟!! بل الأمر يذداد تعقيداً في ظل الشرعية الدولية بملوثاتها القانونية والتشريعية وبموازيينها المختلة في بعض الأحيان والكيل بموازين متعددة والإنحياز لبعض القضايا علي حساب قضايا أخري , وهذه المسألة الموروثة ديناً والتي تلخص عظيم الأزمة في تقسيم العالم كله إلي دار كفر ودار إسلام ومن ثم فلا ولاية لكافر علي المسلم بمافيها ولاية القضاء سواء كان قضاء محلي أو قضاء دولي , إذ حسب المنطق الخاص بالمسلمين أصحاب نظرية تأجيل كافة الحلول إنتظاراً لعودة الخلافة الإسلامية أو المهدي المنتظر لدي السنة أو الإمام الغائب لدي الشيعة , فلاتصح ولاتجب ولاية كافر علي مؤمن علي الإطلاق لأن الولاية حسب معتقدهم من الإسلام والإسلام حتماً يُعلي ولا يُعلي عليه , إذ يري : الكاساني في (بدائع الصنائع) أنه: " لا يجوز أن يثبت للكافر ولاية السلطنة على المسلمين " وقال أيضا : الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم لأن الشرع قطع ولاية الكافر على المسلمين قال الله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } وقال صلى الله عليه وسلم (الإسلام يعلو ولا يعلى) ولأن إثبات الولاية للكافر على المسلم تشعر بإذلال المسلم من جهة الكافر وهذا لا يجوز". ومن أدلة بطلان ولاية الكافر حسب الموروث من تراث المسلمين ولا أقول تراث الإسلام تمييزاً للإسلام علي المسلمين , فيسوق الشاطبي في موافقاته أدلة تُحرم هذه الولاية :
قال الشاطبي في الموافقات: " قوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } إن حمل على أنه إخبار لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله ، فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه وهو تقرير الحكم الشرعي فعليه يجب أن يحمل". والقصد من هذا أن الآية وردت بصيغة الإخبار، إلا أن الخبر يعارضه الواقع من حيث وجود السبيل على المؤمنين أي طريق الوصول إلى هزيمتهم والغلبة عليهم ، ولما كان الأصل صدق خبر الله تعالى وامتناع التخلف فيه ، علم أن القصد هنا النهي عن أن يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين سواء بتوليتهم أو بتحكيمهم فيهم أو بغير ذلك مما يصدق عليه أنّه من باب السبيل أي من باب تسليط الكفار على المسلمين . فالآية وإن وردت بصيغة الإخبار إلا أنّها تضمّنت الإنشاء المتمثّل في النهي عن تسليط الكافر على رقبة المسلم ومنه النهي عن توليته الحكم. ويستند آخرين إلي نصوص القرآن في الولاية ومن هذه الإستنادات :
قال الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) } النساء. ويري منهم أن تفسير هذه الآية يكمن في أن المراد بقوله تعالى { وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } الحكام والأمراء والسلاطين ؛ لأنّ الطاعة لا تجب إلا لهم ولا تجب لغيرهم من العلماء وأولي الرأي ، فالعالم يتّبع ولا يطاع ، وأما الحاكم فيطاع ويتّبع . وأما قوله تعالى{ مِنْكُمْ } فهو لبيان واقع الحكّام الذين يشترط فيهم أن يكونوا منّا أي من المسلمين . وبذا يعلم أن الآية تدلّ على صفة الحاكم وأنّه مسلم من المسلمين.
ويري آخر في الإستناد إلي قول : الله سبحانه وتعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ... (48) } المائدة. قد بيّنت هذه الآية القاعدة الأولى في الحكم في الإسلام وهي الحكم بما أنزل الله تعالى أي بالكتاب والسنّة ، والكافر لا يحكم بالكتاب والسنّة ، لذلك فتوليته الحكم ممتنعة.
ويستند رأي إلي ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أُمّ سلمة أنّ رسول اللّهِ قَالَ: « سَتَكُونُ أُمَرَاءُ ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ . قَالُوا : أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ : لاَ . مَا صَلّوْا ». وأخرج أيضا عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ قَالَ: خِيَارُ أَئِمّتِكُمُ الّذِينَ تُحِبّونَهُمْ وَيُحِبّونَكُمْ ، وَيُصَلّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلّونَ عَلَيْهِمْ ، وَشِرَارُ أَئِمّتِكُمُ الّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسّيْفِ ؟ فَقَالَ : لاَ . مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصّلاَةَ ، وإذَا رأيتُم مِنْ وُلاتِكُم شَيئًا تَكْرَهُونَه ، فَاكرهُوا عَمَلَه ، وَلا تَنزعُوا يَدا مِن طاعَة. والمراد بالصلاة هنا الحكم بالإسلام ككل ، وعبّر بالصلاة أو بإقامة الصلاة مجازا من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكلّ. والحديث ينصّ على ترك طاعة الحاكم المسلم إذا ترك الحكم بالإسلام ومنابذته ، فما بالك بالكافر أصالة إذا ولي على المسلمين . هذا إن حمل الحديث على المجاز ، أما إن حمل على الحقيقية كما ذهب إليه طائفة من أهل العلم ، فيكون أوضح في الدلالة على عدم تولية الكافر؛ لأنّ الكافر لا يصلّي وإن صلي فلا تقبل منه.
ويذهب خامس في الإستناد إلي ماهو أبعد من ولاية الحكم والقضاء إلي مايرويه: البيهقي عن حشرج بن عبد الله بن حشرج حدثني أبي عن جدي عنه أنه جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب ورسول الله صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه ، فقالوا : هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عائذ ابن عمرو وأبو سفيان؛ الإسلام أعزُّ مِن ذلك، الإسلام يعلو ولا يُعلَى . وقد اعتمد العلماء هذا الحديث فبنوا عليه قاعدة: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه . ثمّ اعتمدوا القاعدة فبنوا عليها جملة من الأحكام منها: قال السرخسي في (المبسوط) : " إذا أسلم أحد الزوجين فإنّ الإسلامَ يعلو ولا يُعلى عليه ، فلا يكون اعتقاد الآخر معارضا لإسلام المسلم منهما". وقال ابن عابدين في حاشيته : " إذا أسلم أحد الزوجين يفرّق بينهما ؛ لأنّه بإسلام أحدهما ظهرت حرمة الآخر؛ لتغير اعتقاده ، واعتقاد المصرّ لا يعارض إسلام المسلم ؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعـلَى. وقال القرافي في (الذخيرة): وكره مالك تعليم المسلم عند الكفار كتابهم ؛ لأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه. وقال الشيرازي في (المهذب) : وإذا أسلم أحدهما [ أي أحد الأبوين ] والولد حَمْلٌ تبعهُ في الإسلام ؛ لأنّه لا يصحّ إسلامه بنفسه ، فتبع المسلم منهما ؛ لأنّ الإسلام أعلى ، فكان إلحاقه بالمسلم منهما أَولى. وقال ابن قدامة في (المغني) : الولد يتبع أبويه في الدين ، فإذا اختلفا وجبَ أن يتبع المسلم منهما، كولد المسلم من الكتابية ، ولأنّ الإسلام يعلو ولا يُعلَى. وقال الدّردير في (الشرح الكبير) : وحُكم بين الكفار بحكم المسلم ، إن لم يأب بعض ، إلا أن يسلم بعض فكذلك ، أي : يحكم بينهم بِحكم المسلم من غير اعتبار الآبي ؛ لشرف المسـلم ، وقصده بشرف المسلم أنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. والحاصل فإن العلماء من شتى المذاهب قد اعتمدوا هذه القاعدة في بيان أسس التعامل مع الكفار في مسائل كثيرة ، ومما يتفرع عنها ويتخرّج عليها ما نحن بصدده أي حرمة تسلط الكافر على رقاب المسلمين فيحكمهم ، إذ لا علو أظهر من علو الحكم والسلطنة . فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه . وهذا ما أستقيناه من بعض الأراء في هذه الجزئية والتي تشكل أزمة خانقة للعرب الذين يدينوا بالإسلام وتخومهم الإسلامية في البلدان المجاورة للمنطقة العربية والغير ناطقة بالعربية . فكيف إذا أسقطنا واقع أزمة الرئيس السوداني عمر حسن البشير وطلب توقيفه وتقديمه للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية , علي هذه الواقائع المخلوطة بوقائع مغايرة لوقائع معاصرة وإضفاء الجانب الديني عليها بالرغم من ظلم وفساد الأنظمة العربية الحاكمة , علي واقع يتم الإعتبار فيه علي أن الحاكم المعاصر يمثل ويشابه الإمام أو الامير أو الخليفة صاحب السلطة الدينية المختلطة بالسلطة الزمنية ؟!! فمن الذي يخاف من المحكمة الجنائية الدولية ؟ في البداية لابد وأن تعمل حساب لحملة لواء الدين الإسلامي الرسمي , ومعهم حملة لواء الدين الإسلامي الغير رسميين من المنتمين للجماعات الإسلامية من أقصي يمينها إلي أقصي يسارها وذلك حينما تخوض في الإجابة علي هذا السؤال , وفي نفس الوقت وذات التوقيت لابد وأن تعمل ألف حساب لحملة ألوية التيار القومي , والغريب في الأمر أن تراعي في ذات الوقت ونفس التوقيت حسابات الأنظمة العربية الحاكمة ! ولا أدري كيف يجتمع الفرقاء أو الخصماء علي رفض مجرد فكرة المحكمة الجنائية الدولية بالرغم من العداء بين الإسلاميين وبين القوميين , والعداء بين الفريقين وبين الأنظمة العربية الحاكمة حال كون الإسلاميين يتهمون الأنظمة الحاكمة بالكفروالظلم والفسق والقوميين يتهمونها بالخيانة والعمالة والفساد , ويقف علي جانب مغاير رجال الدين الرسميين المعينين من قبل الأنظمة العربية الحاكمة والذين يعتبروا أبواقاً تردد ماتذهب إليه تلك الأنظمة حتي من التوقيع علي المعاهدات والمواثيق الدولية أو التوقيع علي معاهدات السلام أو إظهار بوادر العداء لدولة معينة أو إتجاه ديني أو سياسي . وإذا كانت مجرد فكرة وجود المحكمة الجنائية الدولية مرفوضة من جانب الإسلاميين وكذلك بالتوازي من جانب القوميين فمن الذي يحمي الشعوب العربية والمجتمعات المنتمية للدين الإسلامي من الحكام الفاسدين المغتصبين للحكم والسلطة من ملوك وأمراء وسلاطين ورؤساء جمهوريات علي مساحات جغرافية تواجد السكان العرب والمسلمين الذين أصبحوا في حقيقة الأمر مجرد سكان بالإيجار الشهري أو السنوي إلي حين يأتي ميعاد الرحيل من السكن الذي هو جغرافية تواجد العرب والمسلمين سواء أكان ذلك بالموت فقراً أو مرضاً أو كبتاً وقهراً أو بالتعذيب والقتل في غياهب السجون والمعتقلات , فمن يردع الحكام العرب بمنعهم من إرتكاب الجرائم ضد العرب والمسلمين حال كون هؤلاء الحكام رافضين للقيم الإنسانية والديمقراطية وغير مؤمنين بالإنسان كوحدة وجودية لها حقوق وعليها واجبات متبادلة بالتساوي بين الجميع حسب منظومة الديمقراطية والحرية والعدالة الإجتماعية ؟ ولكن مازال هناك سؤال مطروح علي ورقة النقاش يختص به حصراً الحكام العرب الذين لاتجد منهم من يستحق البراءة من إرتكابه أفظع وأشنع الجرائم ضد الإنسانية داخل حدود القطر الذي إستبد بحكمه طوال فترة حياته ويؤسس ليورثه لأبنائه وحفدته من بعده وكأن العالم العربي والإسلامي قد تحول إلي ممالك تحكم بالحق الإلهي المطلق والمباشر وحسب المفهوم الدارج الآن فإن الحاكم العربي أصبح هو بمثابة إله يجمع كافة السلطات والمقدرات بإرادته ومقدرته التي أصبحت لاتقاوم , فمن لديه القدرة علي ردع الحاكم العربي الرافض للقيم العليا للإنسان والمنتهك لهذه القيم بإذدرائه للإنسان بفتح أبواب السجون والمعتقلات وإعمال صنائع التعذيب والقتل ومن قبلهما قتل الحريات وإذكاء نار الصراعات الدينية والطائفية وتوظيف غالبية القوي السياسية والإجتماعية إن وجدت لصالحه في إدارة تلك الصراعات لكي يكون لديه مكنة البقاء في الحكم والسلطة بإزكاء نار تلك الصراعات الطائفية والعرقية والدينية ؟ إن من لديه إحساس بالحرية ومتشوق لها ليستنكر موقف رجال الدين وهيئاته الرسمية والغير رسمية من موقفهم من محاكمة البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية فهو الخارج علي الديمقراطية بالإنقلاب العسكري , وهو صاحب النظرية الدينية في السودان , وهو صاحب مذابح الجنوب ودارفور , وهو الذي كان يأوي الإرهابي الدولي كارلوس , وهو الذي كان يأوي أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة في السودان , وهو صاحب المؤامرة علي قتل رئيس عربي في أثيوبيا , وكل ذلك بالرغم من الصمت القاتل تجاه تلك الجرائم المقترفة بحق المواطن العربي من جانب الحكام وذلك علي جميع الأصعدة بداية من الصحة والمرض والعلاج و رغيف الخبز للحرية والديمقراطية وتداول الحكم والسلطة وصولاً للتعذيب والحبس والإعتقال وصولا لنهاية الخط بالقتل أو الإختفاء القسري الغير معلوم سببه !! إن الإجرام والجريمة هما رديفا الحاكم العربي بلامنازع , ومع ذلك نجد جبهة علماء الأزهر تصدر بياناً شنت بموجبه هجوماً شديد اللهجة علي طلب لويس مورينيو أو كامبو بتقديم الرئيس السوداني عمر حسن البشير للمحكمة الجنائية الدولية بطلب توقيفه وإعتقاله ويتهمه فيه بإرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإرتكاب جرائم الإبادة الجماعية في دارفور بجانب باقي لائحة الإتهام الموجهة له مع مصادرة أملاكه , ودعت الجبهة في بيانها الحكام العرب إلي الإحتماء بالشعوب والوقوف إلي جوار السودان وأصحاب الكلمة النزيهة والفكرة السامية , ولاندري هل الوقوف يكون إلي جوار السودان الشعب أم الوقوف إلي جانب السودان الحاكم , فالمهزلة مازالت قائمة ومستمرة في تغييب وعي المجتمعات في الخلط بين الحاكم والدولة بموروثاتها اللعينة التي تجعل الدولة هي الحاكم والحاكم هو الدولة , فإذا كان الوقوف المستلزم هو إلي جانب الشعب السوداني فليس هناك مانع من ذلك ومن يقف ضد إرادة الشعوب والمجتمعات فهو المستحق للعقاب سواء بإرادة الشعوب والمجتمعات بالقانون الوطني أو بالقانون الدولي والشرعية الدولية !! ولكن هل هناك في أي دولة عربية قانون يحاكم الحكام العرب حال وقوفهم ضد إرادة الشعوب العربية أو المجتمعات العربية , أجزم بأنه لايوجد قانون يحاكم أي حاكم عربي سواء كان جالساً متربعاً علي كرسي الحكم والسلطة أو مخلوعاً من علي كرسي الحكم والسلطة . فهل السودان في هذا الوقت لم تكن أخت شقيقة لمصر , أم أن البشير لم يكن أخ شقيق لمبارك ؟! ولكن هناك تساؤل يحمل بين طياته ملامح الخيبة المتبدية في غياب تلك الجبهات أو الهيئات الملتبسة في أفهامها لأصل قضية الإنسان أياً كان هذا الإنسان , وهذا ماتبدي من الغياب المتعمد لقضية اللاجئين السودانيين الذين تمت مطارداتهم أمام مفوضية الأمم المتحدة بالمهندسين بميدان مصطفي محمود بالقاهرة حال تم التعدي عليهم بواسطة قوات الأمن وإصابتهم وجرحهم وتعرض البعض منهم للقتل بأيدي قوات الأمن المصرية في ليل الشتاء القارس , والغريب في الأمر أن تستخدم جبهة علماء الأزهر مفردات لغوية من باب : ولله لن يكون في صدورها لكم شيء مما في صدور هؤلاء المجرمين الذين أغروكم، بنا ثم هم اليوم ينقلبون عليكم واحداً إثر واحد ونظاماً بعد نظام». «اصدقوا الله تعالي في أختكم السودان واجعلوها أمكم فكلكم بعد العراق سودان وافتحوا للأمة أو أعينوها علي أن تفتح بأيديها ثقباً من النور في هذا الظلام الذي صنعته ترسانات القوانين والتدابير المقيدة للحريات المهدرة للحقوق والمضيعة للحرمات ، ثم المدمرة والذاهبة للكرامات ، وطاردوا كل ما من شأنه أن يغذي الجانب الهابط في النفس البشرية بدلاً من التضييق علي أصحاب الأقلام ومطاردة أصحاب المواقف والآراء والأفكار الناصحين لكم وساعتها لن يختلف عليكم واحد. بل والأمين العام لجامعة الدول العربية يقف موقف الرافض للمحاكمة وكأن الجامعة إستطاعت بالقيام بدور يقف ضد مذابح دارفور أو مذابح الفلسطينين , أو حتي مذابح الأقليات الدينية والعرقية , أو حتي مذابح المأسورين بزنازين وسجون ومعتقلات الأنظمة العربية , أو حتي الجامعة العربية وقفت ضد قتل وتشريد السودانيين أمام مفوضية الأمم المحدة بميدان مصطفي محمود بالمهندسين ؟!! وأنهي الكلام بما قاله المستشار هشام البسطويسي في المصري اليوم العدد الصادر الثلاثاء 22 /7 /2008 في رده علي الدكتور العوا قائلاً :
لن أزج بنفسي في الشق السياسي من الحديث، ولكني أتساءل: كيف يتعين علينا أن ننصر أخا ظالما؟ وهل يصح التسليم بصفة تمت بالغصب ؟ وهل موت الآلاف وتشريد مئات الآلاف لا يسأل عنه ولي الأمر - بفرض أن له هذه الصفة - بينما كان عمر بن الخطاب يخشي أن يسأل عن بعير تعثر في العراق؟ وهل يضيع السودان أو أي بلد عربي إذا حكمه شخص اختاره وبايعه شعبه بإرادة حرة من بين مرشحين متعددين ؟ أو كان لديه قضاء مستقل ؟ وهل صحيح أن الحاكم العربي الفرد ملهم فيعرف مصلحة شعبه أكثر من الشعب نفسه ؟ بالتأكيد يجب أن يحاكم البشير وغيره من الحكام علي جرائمهم في حق شعوبهم وفي حق الإنسانية كلها ، وألا يعتد بحصاناتهم فأغلبها اغتصب رغم إرادة الشعوب . وفي النهاية لقد فند المستشار هشام البسطويسي كافة الحجج الرافضة لفكرة المحكمة الجنائية الدولية وتقديم رؤساء الدول للمحاكمة أمامها , وذلك علي أسس قانونية دولية وأسس عقلانية تدحض كافة الأراء المخالفة لوجود هذا الكيان الدولي الذي من الممكن أن تحتمي به المجتمعات والشعوب العربية من عسف وظلم الحكام أصحاب نظرية الإستبداد السياسي والحاكمين بنظرية ملاك الحقيقة المطلقة المحتكرة للعقل والوعي فقال : ١- إن عدد الدول المصدقة علي اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية هو ١٠٧ دول، من بينها ثلاث دول عربية ، بعد مصادقة دول جزر القمر بتاريخ ١٨ من أغسطس سنة ٢٠٠٦، وعدد الدول التي وقعت علي الاتفاقية دون أن تستكمل إجراءات التصديق بلغ ١٣٩ دولة من بينها ثلاث عشرة دولة عربية ، منها مصر والسودان ، بينما هناك ثمان دول عربية لم توقع حتي الآن علي الاتفاقية. ٢- قبل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كانت المحاكمات الجنائية تتم بالمخالفة لقواعد العدالة ، فكانت تتشكل المحاكم الجنائية انتقائيا بمناسبة حالة معينة ، وبعد وقوعها ، مما كان يحيطها بشكوك كثيفة عن حيادها ومصداقيتها وعدالتها، كما هو الحال في محكمة نورمبرج ومحكمة طوكيو اللتين انعقدتا - عقب الحرب العالمية الثانية - بإرادة مجموعة من الدول المنتصرة لمحاكمة مجرمي الحرب في دول المحور (والتي لم تكن بالطبع طرفا في قرار إنشائها) ، وكذلك الأمر في شأن محكمة يوغوسلافيا ومحكمة رواندا، والمحاكم الخاصة بالبوسنة والهرسك، وكوسوفا، وتيمور الشرقية، وكمبوديا ، وسيراليون، وعدد كبير من لجان التحقيق الدولية في بوليفيا والأرجنتين وتشيلي والسلفادور وجواتيمالا وزيمبابوي وأوغندا وتشاد ومقاضاة رئيسها حسين حبري أمام المحاكم البلجيكية ثم السنغالية عن جرائم وقعت في تشاد ، والفلبين وسريلانكا وغيرها كثير، فأيهما أفضل لأي متهم في حالة دارفور: أن يحاكم أمام محكمة جنائية دولية مستقلة ودائمة وقائمة قبل وقوع الحالة محل الاتهام ، وتم تشكيلها عن طريق انتخاب الجمعية العامة للدول المصدقة لقضاتها وللمدعي العام، وتطبق قواعد قانونية سواء في النصوص العقابية أو الإجرائية محددة ومعرفة سلفا ولا تسري إلا علي الوقائع اللاحقة ، أم الأفضل أن يقوم مجلس الأمن - جريا علي عادته في الوقائع سالفة الذكر - بتشكيل محكمة خاصة لدارفور مكونة من قضاة تختارهم الدول الخمس دائمة العضوية، بما فيهم الولايات المتحدة ليطبقوا نصوصا غير محددة سلفا. ٣- ولئن كانت القاعدة في الاتفاقيات أو المعاهدات الدولية ألا تطبق أحكامها إلا علي الدول التي صادقت عليها، وهو ما لا يستلزم، بداهة، نصابًا معينًا لسريان الاتفاقية أو المعاهدة، فتسري بأثر فوري بين أطرافها ولو اقتصرت علي دولتين فقط ، فإن السؤال هو: لماذا اشترطت اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية لسريانها نصابا هو مصادقة ستين دولة من الدول الموقعة عليها ، وهو ما استغرق أربع سنوات ؟ والإجابة أنه لو كانت تسري فقط علي الدول المصدقة لما تطلبت هذا النصاب، ولكنها - كما سنري - تسري أيضا علي الدول غير المصادقة في حالتين استثنائيتين فرضتهما قواعد العدالة، هما أن تقبل الدولة غير المصدقة طوعا واختيارا تطبيق أحكام الاتفاقية علي رعاياها ، أو أن تكون الحالة قد أرسلت بقرار يصدر من مجلس الأمن وفقا للفقرة «ب» من المادة ١٣ من نظامها الأساسي وهي حالة دارفور. ولذلك اشترطت الدول المنعقدة في روما نصابا لعدد الدول المصدقة قبل سريان المعاهدة ووضعها موضع التنفيذ، وتم الاتفاق علي عدد ستين دولة كحد أدني . وجدير بالتذكير أن الولايات المتحدة مارست ضغوطا هائلة علي دول العالم لمناهضة المحكمة الجنائية الدولية وحثها علي عدم التصديق علي اتفاقيتها . ٤- المادة ١٣من الاتفاقية تنص علي أنه: « يجوز للمحكمة أن تمارس ولايتها القضائية في جريمة من الجرائم المشار إليها في المادة الخامسة وفقا لأحكام هذا النظام الأساسي. إذن: أ- وقعت حالة حقيقية تتضمن الارتكاب المحتمل لجريمة أو أكثر من الجرائم الواردة في النظام الأساسي أحيلت إلي المدعي العام من دولة طرف في الاتفاقية (أي مصدقة عليها) بالكيفية الواردة في المادة ١٤ ، ب - ( أو ) أحيلت إليه بقرار من مجلس الأمن بمقتضي الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ج- (أو) أن يباشر المدعي العام التحقيق من تلقاء نفسه أو بناء علي معلومات تصله من أي طريق ( كدولة ليست طرف في الاتفاقية أو الإعلام أو الضحايا أو منظمات المجتمع المدني أو غيرها ) بشرط الحصول علي موافقة « الدائرة التمهيدية » المشكلة من قضاة المحكمة ( المادة ١٥ ) . ونلاحظ علي هذا النص : أولا : إنه استخدم حرف «or أو » التخييري بين الحالات الثلاث ولم يستخدم حرف « and و » ، هذا من الناحية اللغوية . ثانيا: إن القول بأن الفقرة ( ب ) لا تسري إلا عندما تكون الدولة التي اتهم أحد رعاياها طرفًا في الاتفاقية يدخلها في حكم الفقرة التالية لها ويجعل من الفقرة « ب » لغوا لا قيمة له ، والمشرع منزه عنه . ثالثا: إن وضوح النص وصراحته يمتنع معه اللجوء إلي التفسير ورغم ذلك ، فإن فهم هذه الفقرة وفقا لسياق الاتفاقية والغاية منها ووفقا لتاريخ المحاكمات الجنائية الدولية قبلها يقتضي سريان الفقرة « ب » علي الدول التي لم تصدق عليها وليس العكس . وآية ذلك ، أن نص المادة ١٢ فقرة ٢ جري علي أنه في الحالتين المنصوص عليهما في الفقرتين « أ » و« ج » لايجوز اتخاذ إجراء ضد دولة ليست طرفًا ما لم توافق مختارة علي خضوعها لأحكام الاتفاقية، وهو ما يدل بوضوح - بمفهوم المخالفة - علي أن الفقرة « ب » يتم تطبيقها علي الوقائع المحالة من مجلس الأمن ضد شخص أو أشخاص من رعايا دولة ليست طرفًا في الاتفاقية ودون أن يتطلب الأمر موافقتها، وكل ما يشترط في هذه الحالة أن يكون من شأن الوقائع المحالة تهديد الأمن والسلام وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة . رابعا: وبسبب هذه الفقرة تحديدا، حاولت الولايات المتحدة تقويض جهود إنشاء المحكمة واستكمال النصاب، وعندما فشلت مساعيها، سارعت لإبرام اتفاقيات ثنائية مع عدة دول ، من بينها مصر والأردن تحصنها من محاكمة أحد رعاياها أمام المحكمة الجنائية الدولية كضمانة تضاف إلي حق الفيتو الذي يعوق مجلس الأمن عن إصدار قرار يمسها أو يمس إسرائيل . خامسا: ألفت انتباه القارئ لأن الاتفاقية حرصت علي استخدام كلمة الحالة حتي تظهر أن الشكوي لا تقبل ضد شخص ما ولكن تقبل عن حالة قد تشكل جريمة ، وذلك لضمان ألا تستخدم المحكمة كأداة سياسية ضد شخص معين ، فالشكوي تكون عن حالة معينة، ويبدأ التحقيق للتحقق من توافر الحالة، فإذا ثبت صحة الشكوي وأنها تشكل جريمة وفقا لقانون المحكمة يتم توجيه الاتهام إلي مرتكبيها . ٥- والخلاصة أن المادة ١٣ سالفة الذكر تنظم أحوال تحريك الدعوي الجنائية الدولية أمام المحكمة إذا وقعت حالة جدية عن وقوع محتمل لإحدي الجرائم المنصوص عليها، وحصرتها في حالات ثلاث : الحالة الأولي أن تكون بطلب تتقدم به دولة طرف في الاتفاقية ضد أشخاص من رعايا دولة أخري طرف أيضا في الاتفاقية، تحدد فيه الظروف المحيطة بالوقائع وترفق به المستندات المدعمة (المادة ١٤- ٢) فإذا كانت الشكوي ضد أشخاص من رعايا دولة غير طرف فلا يجوز اتخاذ أي إجراء إلا بقبول الأخيرة بخضوعها لأحكام الاتفاقية (المادة ١٢ فقرة ٢) والحالة الثانية أن تكون محالة من مجلس الأمن، استنادا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ضد دولة ليست طرفا في الاتفاقية ، ودون اشتراط قبولها أو موافقتها علي الخضوع لأحكام الاتفاقية، ولكن لا يجوز اتخاذ أي إجراء بالقبض أو المحاكمة إلا بعد الرجوع - في كل مرحلة - إلي مجلس الأمن، والحالة الثالثة أن تكون محالة من أي دولة ليست طرفًا في الاتفاقية أو أي جهة أخري ضد أشخاص من رعايا دولة طرف في الاتفاقية بشرط حصول المدعي العام علي موافقة الدائرة التمهيدية للمحكمة . ٦- الوسيلة الوحيدة أمام السودان أو أي دولة أخري ترغب في توقي المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الإقليمية (القارية) لحقوق الإنسان تكمن في ضمان استقلال القضاء الوطني، نصا وواقعا، بما يتفق مع المعايير الدولية لاستقلال القضاء، وأذكر القارئ والحكومات العربية - بما فيها الحكومة المصرية - أنني حرصت في جميع مداخلاتي من خلال وسائل الإعلام المحلية والدولية والمؤتمرات والندوات منذ سنة ٢٠٠٤ ، علي تنبيه الحكومات العربية بأن الشواهد ومجريات الأحداث الدولية بعد انهيار حائط برلين تشير إلي أن مفهوم السيادة الوطنية قد تغير في العالم ، وأنه سيتم جلب رؤساء دول ومسئولين لمحاكمات دولية عن انتهاكات حقوق الإنسان أو جرائم ضد الإنسانية ، وأن الوسيلة الوحيدة لتوقي هذه المحاكمات هي ضمان استقلال القضاء ونزاهة الانتخابات ، وأن هذين المطلبين لم يعودا مجرد مطلبين شعبيين ، بل أصبحا من متطلبات حفظ الأمن الوطني والقومي والوسيلة الوحيدة لسد أبواب التدخل الأجنبي في الشئون الداخلية في ظل النظام العالمي الجديد. ولا حاجة لإعادة التذكير بما اتخذته - ومازالت تتخذه - الحكومة المصرية من إجراءات عقابية ضد جميع قضاة مصر علي ما دعوناها إليه ولم نسألهم عنه أجرا . ٧- استقلالية وحياد المحكمة والمدعي العام ليست محل شك من المجتمع الدولي ، وجدير بالتذكير أن جميع قضاة المحكمة والمدعي العام تم انتخابهم من الجمعية العامة للمحكمة، وهي المكونة من الدول الأطراف التي صادقت علي الاتفاقية متحدية رغبة وضغوط الولايات المتحدة واسرائيل ، وعدد قضاة المحكمة ١٨ ينتمون لثماني عشرة جنسية مختلفة بالإضافة للمدعي العام وهو أرجنتيني ، وجميعهم مشهود لهم في العالم بالكفاءة والنزاهة والحياد ، أما سبب عدم توجيه الاتهام أو محاكمة المسئولين من رعايا الولايات المتحدة وإسرائيل ليس سببه أن المحكمة تكيل بمكيالين أو لأنها غير محايدة، كما يحلو للبعض أن يزعم، ولكن لأن القضاء الوطني في الدولتين مستقل ، بنصوص يصادقها الواقع ، وفقا للمعايير الدولية لاستقلال القضاء، وهو أمر لا يستطيع أحد أن ينكره عليهما ، فمن أسف أن الذين سيخضعون لهذه المحاكمات الدولية سيكونون من رعايا الدول التي تدل نصوص تشريعاتها أو الواقع العملي فيها علي عدم استقلال القضاء ، وهي دائما دول العالم الثالث . ٨- الطلب الصادر من المدعي العام إلي مجلس الأمن بشأن دارفور هو قرار قضائي ، ولا يصح أن يوصف بأنه سياسي أو خاضع لتأثيرات سياسية أو ضغوط من أي دولة أو جهة، ولكن يمكن توجيه هذا القول لما يصدر عن مجلس الأمن. ٩- لن أتعرض لموضوع الدعوي والإجراءات التي اتخذت فيها - مادامت في طور التحقيق والمحاكمة - فلا يصح لأحد أن يتعرض لدعوي متداولة برأي أو بنقد أو بمحاولة تأثير علي القضاة أو المحقق ، وأرجئ كل ذلك لما بعد الفصل فيها نهائيا . وإلي هنا ينتهي كلام المستشار البسطويسي , ويبدأ التساؤل : وغالباً مانسمع أن هذا الكلام يفتح المجال لتهديد الأمن القومي العربي وتهديد أمن مصر الممتد عبر عمقه في السودان , وكأن الأمن القومي العربي مرتبط بأشخاص الحكام , والشعوب والمجتمعات ليس لها أي دور في صناعة الأمن القومي , الذي هو في رأيي منوط بتحقيق العدالة القانونية والإجتماعية وتوفير مناخ الحرية والديمقراطية والتنمية الحقيقية التي تخدم علي رفاهية الدولة والمجتمع ومن هنا يبدأ المجال بصناعة منظومة سياسية أساسها تداول الحكم والسلطة حتي يمكن أن يكون الأمن القومي لبلد من البلدان صناعة وطنيه , ولايتم إعطاء أضواء الخطر وإشارات الخوف من مفاهيم الخيانة والعمالة والتبعية التي هي من صناعة الحكام وهم أربابهم وهم من يصنعون الخونة والعملاء , وليس المواطنين هم الخونة والعملاء والأفاقين !! متي نري الحكام العرب أمام المحكمة الجنائية الدولية , ونتنسم الحرية والعدالة ونتعايش كشريك لأعضاء المجتمع الدولي ونؤمن بالشرعية الدولية في مواجهة شرعيات الظلم والفساد والإستبداد الكارهة لروح الإنسان والمعذبة لها وللأجسام الساكنة فيها ؟!! أعتقد أن الأزمة هي أزمة الثقافة والفكر العربي . محمود الزهيري
#محمود_الزهيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من يستشعر العار
-
منهم رجال لايستحون !!
-
خريف المآذن .. مرآة عالمنا العربي ... شهادة
-
25 مايو : ذكري الأربعاء الأسود
-
4 مايو: تحية للمضربين : ولكن من هم ؟!!
-
1مايو
-
بين جاهلية الإخوان وقبلية المعارضة السياسية واستبداد النظام
...
-
التمييز الديني
-
علي خلفية الإعتقالات والمحاكمات : الإنفجار قادم
-
حماس ومحاكمات الإخوان
-
جورج إسحاق
-
نقابة الصحافيين : هل هي حصن الحريات ؟!!
-
فهميدا ميرزا
-
حصار غزة : دراسة في المسألة
-
كفاية : إلي أحمد الجار الله : ماشأنك بمصر الشعب ؟
-
قرار البرلمان الأوروبي : هل هو ضد الشعب المصري ؟
-
إختطاف الكرامة : مصر لن تموت !!
-
اللامنتمي هو الوطن : والإنتماء للكرامة !!
-
والقتل جزاء التبرج : والمرأة ليست بهيمة !!
-
إيهود أولمرت , وإيهود باراك : كرامة مصر أم كرامة النظام ؟!!
المزيد.....
-
الأمطار تُغرق خيام آلاف النازحين في قطاع غزة
-
11800 حالة اعتقال في الضفة والقدس منذ 7 أكتوبر الماضي
-
كاميرا العالم توثّق معاناة النازحين بالبقاع مع قدوم فصل الشت
...
-
خبير قانوني إسرائيلي: مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت ستوسع ال
...
-
صحيفة عبرية اعتبرته -فصلاً عنصرياً-.. ماذا يعني إلغاء الاعتق
...
-
أهل غزة في قلب المجاعة بسبب نقص حاد في الدقيق
-
كالكاليست: أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت خطر على اقتصاد إسرائ
...
-
مقتل واعتقال عناصر بداعش في عمليات مطاردة بكردستان العراق
-
ميلانو.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يطالبون بتنفيذ مذكرة المحكم
...
-
كاميرا العالم توثّق تفاقم معاناة النازحين جرّاء أمطار وبرد ا
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|