تعد مسألة طرح منطلقات حزب البعث في سوريا للنقاش العام من الأمور الجديدة الجيدة في نشاط هذا الحزب، وهي خطوة صحيحة نحو الديموقراطية.. ولا بد من التنويه بالجهد الهام الذي يقوم به المهندس أيمن عبد النور في تشجيعه لعملية النقاش هذه على صفحات النشرة الإلكترونية الوطنية، وديموقراطية النهج التي يشرف عليها..
قبل البدء بمناقشة ما طرح حتى الآن من منطلقات باسم حزب البعث، لا بد من محاولة الاتفاق على منهج التفكير، وعلى طبيعة الحزب الذي يريده البعثيون، وكيف يقرأون التاريخ؟! هل هو يبغون نفس منهج التفكير، ونفس الحزب القديم، أم أنّهم يريدون بناء حزب على أسس عصرية حديثة، وقراءة موضوعية لا شعاراتية عاطفية لحقائق التاريخ الحديث، تنسجم من متطلبات العصر الحديث الذي يفرض وجوده ومتطلباته على العالم... وما هي نظرتهم وفهمهم لدولة القانون العصرية ودور الأحزاب فيها... وفي هذا السياق من المفيد التنويه إلى أنّه لو وجد في البلاد قانون لتشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية لحدد (هذا القانون) الخطوط العريضة للبنى التنظيمية للأحزاب... ولساعد كثيراً في مناقشة المنطلقات المطروحة للبحث..
سأنطلق من منهج التفكير العلمي الذي لا يعترف بالجمود والثبات، بل ينظر إلى مختلف الظواهر في حركتها وتطورها وتغيرها المستمر.. ومن الفرضية التي تقول بتبني النظرة العلمية لمفهوم الدولة التي تنسجم مع متطلبات العصر، والتي من أهم شروط وجودها وتطورها وقدرتها على البقاء،: رضا وقبول أبناء المجتمع بسلطتها، والتداول السلمي لها، والمساواة القانونية والحرية في ظلها...
إن تطبيق الرؤية والمنهج العصري على المنطلقات المطروحة للنقاش يبين أنّ بعض المفاهيم الواردة فيها لا تنسجم مع متطلبات القبول والنمو والتطور في هذا العصر، كاستخدام مفهوم "عقيدة الحزب" الذي يوحي بالجمود والتعصب.. وبعض المفاهيم يحتاج إلى تحديد وتبيان، وفي هذا السياق أرى مفيداً تبيان ما يلي:
* إن مبدأ "الحزب قائد الدولة والمجتمع" ـ يتناقض مع متطلبات دولة القانون الديموقراطية العصرية، التي تعد مسألة التعددية الحزبية السياسية والتداول السلمي للسلطة بين الأحزاب السياسية أحد شروط بنائها.. وبالتالي من الضروري إسقاط هذا المفهوم من منطلقات الحزب، والإقرار بحق الأحزاب الأخرى أن تستلم السلطة وفق الأسس الديموقراطية، وإمكانية وجود الحزب في صفوف المعارضة..
* أثبتت التجربة أنّ مبدأ الديموقراطية المركزية في التنظيم؛ سلاح فعال بيد المركز، ويحد كثيراً من فعالية أعضاء التنظيم، ولما كانت روح هذا العصر هي الحرية والتغيير والديموقراطية، فمن المفيد اعتماد مبدأ الديموقراطية في التنظيم .. مع تحديد أسس هذه الديموقراطية في النظام الداخلي، بما يضمن تماسك التنظيم..
* في المسألة الفكرية من الضروري تبيان المصادر التي يعتمدها الحزب في بنائه الفكري، ويمكن اقتراح في هذا المجال التراث الفكري التقدمي والعلمي في التراث العربي والإسلامي ومصادر الفكر التقدمي الإنساني الذي يضع الإنسان ورقيه وتطوره السليم في محور اهتماماته..
* من الضروري استخدام التعابير الدقيقة والصحيحة تاريخياً عند التطرق لمختلف القضايا ، فالقول بأن "ثورة الثامن من آذار في سوريا قضت على الانفصال"، ليس دقيقاً، والتعبير الأدق هو أنّها كانت رداً على الانفصال. كما أنّ القول بأن دولة الوحدة "تفككت بعد ثلاث سنوات ونصف نتيجة لمؤامرة الانفصال". يحتاج إلى رؤية موضوعية للاستفادة من أخطاء التجربة، فدولة الوحدة تفككت نتيجة الأخطاء البنيوية القاتلة التي ارتكبت من قبل قيادتها، فضلاً عن المؤامرات الانفصالية.
ومن الضروري عند استعراض آليات تحقيق الوحدة العربية تبيان دور مؤسسات المجتمع المدني العربية، وضرورة فسح المجال لهذه المؤسسات لتقوم بدورها الداخلي في كل دولة ودورها التكاملي على صعيد الوطن العربي.. وفسح المجال لمختلف أشكال تجليات الوحدة، عن طريق التكتلات العربية الإقليمية وتوثيق العلاقات فيما بينها، وإيلاء أهمية للتكامل الاقتصادي العربي...
كما أنّه من الضروري إيلاء مسألة الأقليات القومية الاهتمام الكافي في المنطلقات، مع التأكيد على ضرورة معالجة التبعات المجحفة الحاصلة بحق الأكراد نتيجة الإحصاء غير الصحيح الذي استثنى آلاف السكان الأكراد، والتأكيد على تمتعهم بكامل حقوقهم الوطنية والثقافية..
* في فصل الحرية لا بد من التنويه إلى أنّ الحزب ضد كل تقييد للحريات.. وأن يعلن موقفاً صريحاً ضد الاستمرار في فرض حالة الطوارئ، والدعوة لإيقاف العمل بالقوانين والمحاكم الاستثنائية... إن أحد المتضررين من فرض حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية هو حزب البعث.. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأحزاب الأخرى التي ستستلم السلطة لاحقاً قد تطبق نفس الحالة حيال حزب البعث، وهذا الأمر لا يفيد لا البعث ولا المجتمع.. بالتالي من الضروري أن يقف حزب البعث مع المطالبين بإلغاء حالة الطوارئ وإلغاء كافة المحاكم الاستثنائية، والإفراج عن معتقلي الرأي، ورفع الضرر عنهم..
* الديموقراطية الشعبية، والجبهة الوطنية التقدمية، أسلوب حكم استورد من الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وهو صيغة ملطفة لديكتاتورية البروليتاريا، يمكن استخدامه في مراحل انتقالية محددة، ولم يعد ينسجم مع متطلبات التطور في العصر الحديث.. وأصبح في بعض جوانبه يلعب دوراً معرقلاً لتطور المجتمع وعلاقته بالمجتمعات الأخرى، ولا يستجيب لمتطلبات التطور في العصر الحديث..
* عند الحديث عن الديموقراطية من الضروري تحديد الفهم العصري للديموقراطية، مع التأكيد على أنّ الديموقراطية ليست وصفة جاهزة، ولا نسخة واحدة تستخدم في كل مكان وزمان، ولا هي حالة ثابتة مستقرة في كل مجتمع وإلى الأبد، بل هي أسلوب من أساليب الحكم ينسجم مع الظروف الذاتية والموضوعية لكل بلد ، والديموقراطية أسلوب حكم وحالة متجددة لا تنضب من الحياة الاجتماعية والسياسية.. ومن الجلي أنّ الأنظمة الديموقراطية غير متطابقة، فهناك البرلماني ، والرئاسي ، وما يسمى بنصف الرئاسي والكونفيدرالي ، وذاك الذي يعتمد على مبدأ الاستفتاءات .. الخ ، والجامع بينها أنّه في النظام الديموقراطي يتم تشكيل البنى والتنظيمات الاجتماعية والأحزاب السياسية وفق قوانين وأنظمة، تسمح لها بالتطور الدينامي السليم وتجاوز أزماتها الفكرية والتنظيمية وفق أسس متطورة دينامية.. وفي المجتمع الديموقراطي يحظى أفراد المجتمع على نصيب من العدالة، والحق في ممارسة العمل السياسي، الذي يعد فضـيلة اجتــماعية وحقا وواجباً، لا منة، وتضمن الديموقراطية قانونية العمل السياسي والتنظيمي، وحرية الصحافة والعلانية.
فالديموقراطية وسيلة مساعدة في معالجة الأزمات الاجتماعية والسياسية، وتساعد في خلق آليات وبنى تساعد في تعرية الشذوذ، وحماية السلوك والأخلاق السليمة، ، وتبين الغلو والتعصب والتطرف في التفكير والممارسة وتحد منها، وتساعد في صيانة حقوق الإنسان، وتبيان واجبات جميع أبناء المجتمع من ذكر وأنثى، امرأة وطفل، منتج ومستثمر، فلاح وعامل، غني وفقير.
والديموقراطية هي إحدى وسائل مجابهة التحديات الخارجية ومواكبة التطور الحضاري..
كما أنّه من الضروري تبيان المبادئ الأساسية للديموقراطية التي تتجلى فيما يلي:
ـ حكم الشعب عبر الانتخابات وسيادة القانون ؛ لا ديموقراطية في حال غياب أو عدم سيادة القانون على الجميع دون استثناء.. ومن البديهي التنويه إلى أنّ جميع أبناء المجتمع الديموقراطي الواحد من مختلف القوميات والأديان والمذاهب والطوائف والألوان والطبقات، متساوون قانونياً وأخلاقياً ..
ـ فصل السلطات الرئيسية الثلاث : التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ واستقلالها، وإمكانية مراقبتها وتغييرها دستورياً. لحماية المجتمع من الاستبداد، ومخاطر هيمنة الحزب الواحد والحكم الشمولي.
ـ سيادة واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.. حق الحياة بكرامة، وحق التعليم، وحق العمل، وحق الحصول على السعادة، والحرية في ممارسة العمل، والسياسة، والعقيدة، والحرية العلمية والأكاديمية..
ـ وجود قانون تأسيس أحزاب وجمعيات سياسية ديمقراطي عصري، ووجود قانون انتخاب ديموقراطي عصري..
ـ السيادة المرحلية لحكم الأغلبية الشعبية التي تفوز بالانتخابات الديموقراطية وفق قوانين أحزاب، وقوانين انتخابات تصوغها فعاليات المجتمع الأساسية ، ويقرها الشعب في استفتاءات حرة نزيهة.. والإقرار بضرورة وجود المعارضة ـ المعارضة عنوان الأوطان؛ طالما المعارضة بخير الوطن بخير، والمعارضة الهزيلة تعبر عن هزال الحالة السياسية التي يعيشها الوطن ـ، والحق في التداول السلمي للحكم والسلطة بين مختلف الأحزاب السياسية، وحق الشعب في تغيير حكامه، وممثليه بشكل دوري مستمر، وفق آليات دستورية قانونية شرعية، بعيداً عن الانقلابات العسكرية، مع الإقرار بحق وإمكانية تحول الأقلية المعارضة في أغلبية.. إنّ ثبات مبدأ الحزب قائد الدولة والمجتمع يتناقض مع سنن تطور الحياة الاجتماعية والسياسية، كما يتناقض مع مبادئ الديموقراطية..
ـ تكفل الديموقراطية حرية عمل مؤسسات المجتمع المدني، والنقابات والجمعيات، وتساعد على اغنائها وتطورها..
* تبقى الاشتراكية الخيار الاستراتيجي للأحزاب التي تنشد معالجة التناقضات الاجتماعية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية... مع التأكيد على أنّه لا مستقبل للاشتراكية والعدالة الاجتماعية من دون الديموقراطية.. لقد ولد الفكر الاشتراكي العلمي في رحم النضال في سبيل الديموقراطية، ولاقت الاشتراكية الفشل الذريع مع ابتعادها عن الديموقراطية، واعتمادها المستمر على ديكتاتورية البروليتاريا ـ والديموقراطية الشعبية التي تعد شكلاً ملطفاً لتلك الديكتاتورية ـ وبشكل ثابت... ونظراً لطبيعة اقتصاد بلادنا كاقتصاد دولة نامية، لا يمكنه النمو والتطور بمعزل عن الاقتصاد العالمي.. ولما كانت آليات اقتصاد السوق هي المهيمنة في الاقتصاد العالمي، لا يمكن لاقتصاد بلادنا أن يتطور بمعزل عن هذه الآليات الرأسمالية.. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الدولة يمكن أن تلعب المراقب والملطف للتفاوت والتناقض الاجتماعي الاقتصادي.. إلاّ أنّ المنحى العام للتطور هو منحى اقتصاد السوق الرأسمالي.. ومن هنا تنبع أهمية وضرورة الديموقراطية لدفاع الكادحين عن حقوقهم.. فالديموقراطية تساعد في صياغة نهج وسياسة اجتماعية تتطور باستمرار للمحافظة على مستوى جيد للمعيشة لكافة أبناء المجتمع، وتطوير هذا المستوى وفق آليات ضريبية، وصناديق الضمان الاجتماعي، وتوفير فرص العمل باستمرار. وبفضل نشاط الأحزاب التي تعبر عن مصالح المنتجين والمضطهدين، تدخل مسألة تحقيق العدالة الاجتماعية في صلب، سياسة الحكومة والدولة.. وخير مثال على ذلك دور الدولة في الدول الأوروبية الديموقراطية في إعادة توزيع الدخل، عن طريق سياسة الضرائب، وتأمين الخدمات الاجتماعية، للتخفيف من الفوارق الطبقية بين أبناء المجتمع، وتأمين الحد الضروري من المعيشة اللائقة بحياة الإنسان فيها ..
* عند الحديث حول الموقف من الدين، من المفيد التأكيد على المكانة الروحية السامية للدين، وهي حالة خاصة بين الإنسان والقيم العليا المطلقة تحميها مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان.. علماً بأنّ فصل الدين عن الدولة لعب دوراً مهماً في تطور الأمم المتقدمة والمتحضرة.. ونظراً للتعددية الدينية والمذهبية في بلادنا، من الضروري الأخذ بمبدأ الدين لله والوطن للجميع.. والحاجة إلى اعتماد مبادئ العلم والعقل في معالجة أمور الحياة اليومية والسياسية لبناء المجتمع وتطوره...
ــــــ
* كنا قد نشرنا موضوعين على هامش مناقشة فكر حزب البعث في سوريا، الأول تحت عنوان "إلغاء قوانين الطوارئ شرط ضروري لمناقشة فكر البعث في سوريا"، نشر في موقع الحوار المتمدن www.rezgar.com وفي موقع لجان إحياء المجتمع المدني www.almowaten.org بتاريخ 14/1/2004 كما نشر في الرسالة التي يشرف عليها المهندس أيمن عبد النور الإلكترونية "كلنا شركاء في الوطن" بتاريخ 15/1/2004 ، ونشرنا مقالاً ثانياً تحت عنوان "المعارضة عنوان الأوطان، ومصدر قوة لدولة القانون" في موقعي الحوار المتمدن، ولجان إحياء المجتمع المدني، ونشرة "كلنا شركاء" بتاريخ 26 / 1 / 2004، وهذا هو القسم الأول من المقال الثالث في مناقشة فكر حزب البعث في سوريا.
طرطوس 28/1/2004 شاهر أحمد نصر
[email protected]