أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - رزاق عبود - البصرة يوم الاثنين 14 تموز 1958















المزيد.....

البصرة يوم الاثنين 14 تموز 1958


رزاق عبود

الحوار المتمدن-العدد: 2350 - 2008 / 7 / 22 - 11:03
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


كعادتي صباح كل يوم من ايام الاسبوع عدا الجمعة. اتجهت الى "معمل توما" للنجارة الملاصق لبيتنا. كان ابي يصر على ذهابي الى موقع شغلي رغم انني لم ابلغ بعد الثامنة من العمر(هاي اذا سجل النفوس صحيح) لانه قطع وعدا مع استادي الاسطة مكي الدوشمچي، بانني ساتواجد في مكان العمل المخصص لنا حتى يعود استادي من زيارته السنوية لاهل زوجته في المحمرة في ايران. وزيارة الامام موسى الرضا، مع انه لم يكن شيعيا. كان ابي، والاسطى احمد يعتقدان انه من الافضل حضوري، رغم عدم وجود مهمات عمل، ولكن لتواصل الشعور بان لك عمل تستفيد منه: "بدل ما اتخم بالشوارع، او في بستانكم الكبير". قد تتعلم شيئا من النجارة اضافة الى الدوشمة. هذه كانت حجتهم. وكانت حجتي: "ولكن حتى اطفال المدارس لديهم عطلة صيفية". ولم يهتم احد لاحتجاجي!!

كنت جالسا في جناح الدوشمة في راحة الشباك الكبيرالذي يبدو انه كان بابا في يوم من الايام. فاضافة الى الاعمدة الحديدية الغليضة التي تشبه قضبان السجن تعطيك احساسا بان المارين في الشارع ينظرون اليك، وكانك "مسجون" تستحق العطف. وما اكثر السجناء في ذلك الوقت. كان هناك ايضا"مشبك" شبكا من الحديد، لمنع الذباب، والحشرات الاخرى. كنت جالسا، سارحا، صافنا (مدولغ) احسد المارين على حريتهم، والاطفال الاخرين على لعبهم في الشارع، او تصيدهم السمك، او سباحتهم في شط العشار، الذي لا يفصله عن المعمل سوى الشارع الذي تسلكه السيارات، و"العرباين" عربات الخيل القادمة من البصرة القديمة. كان الوقت مبكرا، وهدوء عجيب يلف المكان رغم صدى صوت مكائن المعمل. فجاة تحول الشارع الى ميدان حركة عنيفة. رأيت تقافز الكبار، وصياحهم، وفرحهم، وهزجهم، وهوساتهم. كانهم يلعبون مثل الاطفال الذين وقفوا مشدوهين مثلي على حافة الشط، وسرعان ما اختفوا وراء الحشود، ولم يعد لهم اثر. "العرب" ابناء الريف الهاربين من ضيم الاقطاع، وظلمه، الذين يسكنون في البساتين المجاورة يلوحون بمساحيهم، وكوفياتهم، وعقلهم. وهو امر لم نشهده من قبل خاصة، وان ازاحة عقال قد يعني عركة قد تنتهي بالقتل، او الفصل! الكبار بملابسهم الداخلية لايلقون بانفسهم في النهر في حر تموز اللاهب، بل في وسط بحرعجيب غريب من الناس الجذلى الذين فقدوا أي سيطرة على تصرفاتهم، كما بدى لي. سعف النخيل علامة الفرح البصري الاصيل، والغصن الذي دخل به يسوع الناصري الى القدس. وسيلة الزينة المحببة. استغربت بخيالي الطفولي كيف يرقص الكبار في الشوارع؟ لماذا نزعت النساء عباءاتهن، ويلوحن بهن، ويرقصن كما في الافراح، والاعياد، والاعراس.؟! لكنه ليس خميسا اليوم، ولا يمكن ان يكون حفل زفاف! ثم ان الحفلات عادة تقام في الاماسي! ومن يكون هذا العريس الذي ترقص له النساء، والرجال في الشوارع، ويوقفون السير؟! لماذا لا يحتج سواق السيارات على توقف المرور، بل يطلقون بجذل طفولي اصوات "الهورنات" منبهات سياراتهم عالية تصم الاذان، ولا احد يعترض على تصرفهم هذا؟؟ وبعضهم يرقص على اسطح السيارات!! الهلاهل تشق الفضاء. هاهم عمال، وموظفي "باورهوز" شركة توزيع الكهرباء اراهم من بعد يتركون اعمالهم، ويخرجون ليتجمعوا امام بناية المتصرفية( المحافظة)! عجيب، لا يمكن ان يكون هذا اضرابا عن العمل، او مظاهرة ضد الحكومة، فالشرطة لا تمنعهم، ولا تهاجمهم، وقسم كبير من الشرطة يشارك الناس رقصهم، وجذلهم، وهتافاتهم، وهوساتهم! عصيهم، التي طالما اوسعوا المتظاهرين بها ضربا ترتفع في الهواء مع هوساتهم الريفية. ترى هل الشرطة خائفة؟ ام ان الفرحة عامة؟! صورة رايتها تحت فراش اخي مرة، كان يحتفظ بها بسرية، مرفوعة على الاعواد عرفت بعدها انها صورة جمال عبدالناصر بطل السويس، كما يسمى وقتها. صورة كبيرة، نوعا ما، لثلاث رجال مقيدين بالسلاسل عرفت بعدها انهم فهد، وحازم، وصارم. رجال "شرطة القوة السيارة" الذين لا يبعد مقرهم سوى عشرات الامتار عن الشباك الذي اجلس في راحته. والذين يستخدمون عادة في قمع المظاهرات، والاضرابات، والاحتجاجات الشعبية. اغلقوا الباب، وسحبوا الحرس المتبختر الى الداخل، وانكفئوا في مقرهم، "لاحس ولا ونس"!! عجيب ما يجري، والاعجب بالنسبة لي، ان الاسطى احمد نزع على عجل صدرية العمل، وصار"يدگ" يضرب الكانة. ولكن الوقت ليس ظهرا، ونحن بدأنا للتو، فكيف يدعونا الى التعطل؟! والاغرب، ان الصديقين الحميمين الاسطة توما، وكامل(صاحبي المعمل) هما الاخران يتناوبان على ضرب الكانة الكبيرة في مدخل المعمل، وهذا لا يحصل الا في الحريق، او اعلان بدأ استلام الاسبوعية في نهاية الاسبوع، اي يوم الخميس. لكنه ليس خميسا اليوم، ولا يوجد حريق، او حادثة في المعمل فكل مكائن النشر متوقفة. وانا اتنقل ،مذهولا، بين ما يجرى داخل المعمل، وخارجه، فكل شي لم يكن طبيعيا. الناس في الشارع تنحني صوبي وتصيح بي باستغراب: "گوم، اطلع شكو گاعد بالسجن"؟! ويؤشرون على قضبان الشباك، ويضيفون: "صارت حرية، صارت ثورة"!! كلمتان لم اسمع بهما من قبل. وانا احاول اقناع نفسي، وابرر: الاسطى احمد يدعو "النجارين" الى التوقف عن العمل، وانا لست نجارا، فكانته لاتهمني، وصاحبي المعمل توما، وكامل يضربان الكانة الكبرى لاستلام الاسبوعية، وانا لست تابع للمعمل، انا "صانع" عند "الاسطة مكي"، وهو الاخر متعاقد مع المعمل، ولا يعمل فيه. الاسطى مكي فقط من يستطيع ان يسرحني الى البيت لكنه في ايران! ماذا لو صار فرهود من يحمي عدته، وادواته؟ كيف ابرر ثقته بي؟ ماذا افسر تركي موقع العمل بعد دقائق من وصولي اليه؟ لكن الاسطى العبوس احمد يصيح مبتهجا:
- رزاق گوم روح للبيت اليوم ماكو شغل، ما تسمع الكانة، صارت حرية، صارت ثورة!!
- شنو يعني ثورة عمو احمد؟!
- يعني كش ملك، هسه من تطلع، وتشوف الناس الفرحانة تفتهم شنو يعني ثورة!!
رفعني الاسطى احمد من الارض حتى رايت صلعته التي تتوسط هامته واضحة. كنت اختلس النظر اليها لغرابتها، عندما ينحني احيانا. كان بشوشا، فرحا، منبسطا على غير عادته فهو "الخلفة"، ووكيل الاسطى توما اذا غاب. الحزم، والصوت الخفيض سمتاه. وهاهو يلاعبني، وانا ابن الثمانية سنوات، وكانني طفل صغير. الاسطى توما نادى بسرعة على ياسين. المتدين، والعابس الوحيد في المعمل، تبين فيما بعد، انه من الاخوان المسلمين. طلب الاسطى توما منه ان يذبح الخروف بسرعة، ويوزع لحمه على العمال. وما علاقة توما المسيحي بالذبح الاسلامي؟! ما الذي يجري في هذا الكون؟ انا اعرف انه يذبح في راس السنه، ويوم الميلاد، ويوزع اللحم على العمال، والفقراء. ينحر ايضا يوم العاشر من محرم "عاشور". ولكن اليوم ليس عاشور، ولا عيد ميلاد، ولا راس السنة، فهل اختل عقل الاسطى الكبير توما وهو الرزن العاقل الذي يحل المشاكل، وسوء الفهم بين عماله، وابناء المحلة احيانا؟! طلب مني الاسطة توما،هو الاخر، الذهاب الى البيت، وتقديم التهاني الى ابي، واخوتي بالحرية، وان اباركهم بالثورة، واعطاني قطعة لحم، وهو يمزح، ويقهقه: قل لابوك، ان لا يخشى فهو ذبح حلال. واستمر يقهقه وكانه عثر على كنز ما.

خرجت من المعمل، غير مصدق، ولا فاهم (اطرش بالزفة) اخذ منى الوقت اكثر من نصف ساعة للوصول الى بيتنا الملاصق للمعمل. الوف مؤلفة من الناس ترقص، وتهزج في فرح، وجذل لا يضاهيه الا الفرح الذي شاهدته في نفس الشارع في اول ايار بعد سنة من ذلك. كان ابي قد عاد من عمله، وهو الاخر ينحر خروفا. الجيران كلهم يذبحون الدجاج، والديكة اشارة الاحتفال، والفرح. لم يكن احد في البيت. اخوتي، واخواتي كانوا في الشوارع يرقصون مع غيرهم. اخي الاكبر الذي كان على خلاف "زعلان" مع ابي رايته يقبل يدي ابي، كما يفعل في الاعياد. فركت عيني اكثر من مرة للتاكد من ان الامر ليس حلما. امي تقف بلا عباءة في باب الحوش، وتطلق زغاريدها. تستقبلني بعناق طويل، وبوسات لا تنتهي، وهي تصيح بصوت منهك: راح يرجعون اخوك الكبير للشغل بس خطية الملك كتلوه!! ابو مزهر بائع النفط العصبي المزاج، الذي لم يدخل بيته سواي من ابناء المحلة، كان يذبح هو الاخر خروفا. ويهوس بين الحين، والاخر، وكأنه اخذ بثأر قديم. بيت العم اسكندر المفصول سياسيا من شركة نفط البصرة يضج بالناس. تجمع الجميع امام بيته يوزعون الماء، والحلوى، وهو يمسح العرق المتصبب عن وجهه بمنديله، او "خاولية" صغيرة خاصة، وقد زين باب بيته بالسعف كما يفعل في عيد الميلاد. هو الاخر حضنني، وقبلني كعادته، وهو يقول: اخوانك، واخواتك، وكريمة في المظاهرات انت شتسوي هنا؟! وربت على كتفي ساحبا اياي الى جنبه كعادته عندما يكون منشرحا مازحا. كريمة كانت ابنته الاكبر المعلمة، ومعيلة البيت. زوجته لا تسمح له بالتظاهر لضعف في قلبه. هاهو رياض، وموفق، وافرام، وابرام، وكل ابناء، وبنات العوائل المسيحية المقابلة لبيتنا، يتجمعون عند باب العم اسكندر، ويدبكون الدبكات الاشورية. ويوزعون اغصان الياس، والحلويات على ابناء المحلة، والمارين في شارعنا. هل انا في حلم؟ هل هو فيلم هندي؟ اسئلة كثيرة، وكبيرة، ومحيرة اكبر من راسي الصغير. جيراننا بيت المنديل، العائلة الاقطاعية النجدية اغلقو باب بيتهم، كان بعضهم يطل بين الحين، والاخر من شناشيل البيت الكبير."عذار" سائقهم الاسمرالطيب الخدوم متسمرا قرب الباب حائرا بين الولاء لذوي نعمته، وخوفه من مداهمة الناس لبيت الاقطاعي، وفرحة الجماهير. سحبته الموجة، وقضت على تردده. بعدها رايت بنات المنديل يلقين الواهلية على المحتفلين من شرفات قصرهم الكبير. لا ادري ان كان ذاك تحوطا من غضب الناس، ام لانهن بنات متعلمات، وعرفن اليوم، ان الحرية تشمل الجميع. القنصلية السعودية، كانت تطل هي الاخرى على الشارع المزدحم باجساد البشر الذين لم يبحثوا عن ظلال اشجار الرصيف في حر تموز اللاهب كعادتهم كل يوم. لو كان شط العرب جافا لامتلأ بشرا في ذلك اليوم. رافدان من البشر يتوسطهما شط العشار. جسر "باورهوز" القديم الضيق صار يهتز من ثقل الناس. گهوة ابو حقي توزع الماء البارد على الناس. سينما الحمراء الجديدة فتحت الابواب للناس التعبى، وبعض من اصابهم الاعياء، والاغماء ليتمتعوا بنسمة البرودة التي طالما لجأ اليها الناس هربا من لهيب الشوارع في صيف البصرة الرهيب. السعف يتراقص بايدي الناس، صور قليلة لعبد الناصر، والجواهري، وفهد كانت ترى بين الحين، والاخر. سباب وشتائم ضد نوري السعيد، وعبدالاله، والانكليز بلا خوف، ولا هلع. زحفت جموع الفلاحين الذي تحولوا الى عمال حفر بافواج متتالية تحمل المساحي، والمعاول، والمكاوير، وتنذر نفسها لخدمة الثورة.

توقفت سيارات عسكرية، نزل منها ضباط، ومعهم سماعات كبيرة تسلقوا الاشجار، والكونكريت الضخم الذي تستند اليه اعمدة الكهرباء، مقابل القنصلية السعودية، على حافة نهر العشار، وهم يدعون الناس الى الهدوء. اذاعوا بيان الثورة رقم واحد اكثر من مرة. ثم بيان منع التجول، ودعوة الجماهير، الى التعاون مع القوات المسلحة. كلمات كثيرة اسمع بها لاول مرة، ولم افقه لها معنى، لكن التصفيق العالي، والهتاف المدوي، والهوسات، يعني ان حديث العسكر يعجب الاخرين. سمعنا لاول مرة اسم الزعيم عبدالكريم القائد العام للقوات المسلحة. ارتجل الفلاحون هوسات، وزجل للثورة، وقائدها، والجيش العراقي. ثم جاءت الدعوة المؤدبة الهادئة دون وعيد، ولا تهديد، ولا تحذير تطالب الناس الانسحاب الى بيوتها لان الجيش في انذار" جيم"!!. واعوان النظام، وعملاء العهد البائد قد يختفون بين الجماهير، وان الباشا الهارب المطارد قد يختفي في بيوت احد الاقطاعيين في البصرة. وطالب الضابط باحترام حرمة البيوت، والاخبار عن أي ظاهرة، او تحرك مشبوه "فالجيش في خدمة الشعب". لاول مرة تسمع الناس هذه العبارة، ولاول مرة يصفق الناس للعسكر، ولاول مرة يطالب العسكر المتظاهرين التفرق بهدوء دون تهديد، ولا وعيد، ولا اطلاق رصاص. كان من الصعوبة اقناع الجماهير بالانسحاب فالفرح كان طاغيا، ولا يمكن السيطرة عليه. وارتفعت الهوسات: "وين يروح المطلوب النه". انسحبت الجموع، بعد فترة لتترك للجيش، والشرطة مراقبة الطرق، والتحركات، ومحاصرة البيوت، والمواقع المشبوهة، وحراسة المناطق الحساسة. ففي البصرة الكثير من المواقع العسكرية الحساسة اضافة لكونها مدينة حدوية مع اكثر من دولة، اضافة الى مياه الخليج العربي، والقاعدة البريطانية في الشعيبة. في اريافها تنتشر بيوت الاقطاعيين في القرنة، والمدينة، وشط العرب"التنومة". هناك يمكن لنوري السعيد ان يختفي، او يحاول الهرب الى خارج البلاد. هذا ما كان يتحدث به الكبار، كاحد اساليب حث الناس على التفرق، وترك الامور للجيش. الدباباب، والمصفحات، وناقلات الجنود نزلت الى الشوارع، وكان الاطفال، والكبار يصعدون عليها، يصافحون الضباط، ويقبلون الجنود، ويوزعون عليهم الماء، والجكليت، والخبز، والفواكه. أي مشهد، أي حلم، أية ظاهرة من التلاحم العجيب، وفي تحول العلاقة، والدور بين الجيش والشعب. رغم منع التجول كانت الناس تقف عند ابواب بيوتها، تتجمع على الارصفة. العشرات يتجمعون امام القنصلية السعودية دون ان يتعرضوا لها، وفي مقهى ابو حقي، الذي لم يمنع الناس من الاستراحة على "التخوت" الانيقة. البيوت كانت توزع الطعام، والماء على الجنود، والضباط. ما ان تمر سيارة عسكرية مسرعة، او متباطئة حتى يعلو التصفيق الحاد، والتحيات، والاشادات، ولاول سمعت الشعار الخالد "عاش تضامن الجيش وي الشعب". ظلت الجماهير ليوم، او يومين مترقبة منتظرة. كان منع التجول شكليا فلا يمكن كبح جماح الفرحة، والغبطة الشعبيان. ان عفريت التمرد، والانعتاق انطلق من قمقمه، ولايمكن حبسه من جديد. وجرد حسام الغضب من غمده. ظلت الجماهير تراقب، وتتابع كل التحركات، وتصاحب، وتتابع تحرك كل سيارة، او رتل عسكري، وكأن الجيش بحاجة لحماية الجماهير، وليس العكس. سيطر على اذهان الناس فهم بسيط، وعفوي بان الجيش مفجر الثورة، وهي وديعة عنده، ويجب دعمه، وحمايته، والوقوف الى جانبه ليحافظ على وديعتة بكل امانة. كنا نسمع ان الجماهير حاصرت بيت الاقطاعي فلان، او الملاك فلان، او المتنفذ السابق فلان، لكن حرمة اليوت لم تنتهك، ولم يتعرض احد للاعتداء. كانت هناك ثقة هائلة بالجيش، وتصرفاته. كانت حدود البصرة مع الكويت، والسعودية، وايران، ومياه الخليج العربي(كما هي الان) مقلقة للجميع. كنا نسمع الكبار يتناقشون، ويتبادلون الراي، ويتداولون الاشاعات، وترتفع التحليلات، والتخمينات، وتخمد. كل واحد يجتهد على راحته. كان هناك برلمان شعبي في كل منعطف، ومحلة، ومقهى، وبيت، وتجمع. الكل صار يتحدث بالسياسة. لم تعد هذه الكلمة مخيفة، ولا حكرا لاحد.

اخيرا سمعنا النبا، الذي لم افقه معناه، وقتها، ولم اعرف اهميته، ولم اقدر حساسيته فالصورة لا زالت مشوشة عندي. شاهدت الناس تتسابق لتمزيق، والقاء صور الملك فيصل الاول في المزابل، او تدوسها بالاحذية، والعوائل تقف في الابواب لتنزع صور المليك من اطاراتها، وتحرقها امام الملأ، وتنزعها من صفحات كتب اطفالهم المدرسية. لازلت اتذكر بنت جيراننا المسيحية، التي تكبرني سنا، وهي تقول: " اي خلصنا من مليكنا مليكنا نفديك بالارواح يومية الصبح ذابحينة بيهه". اذن حتى الاطفال تحرروا من شئ ما. حتى طلاب المدارس ثاروا على قمعهم اليومي. فجاة ارتفع صوت جهوري لرجل من "طارمة" البيت، بصوت مبحوح من هتافات الامس، وخلفه تسمع هلاهل متتالية: "ابشركم، ابشركم: كضوه لابس عباية مال نسوان". وعلا التصفيق، وارتفعت الهلاهل، والاهازيج، والاغاني، واصوات الطبول، و"تنكات الدهن" صفائح الزيوت، والدمامات، و"براميل" النفط، وامتلات الشوارع من جديد بالاجساد الراقصة، وتشكلت حلقات "الهوسة" الريفية. تتناثر عليهم الواهلية من كل مكان. وكالسيل انطلق ضحايا الاقطاعيين الذين يطوقون محلتنا بصرائفهم، واكواخهم البائسة هم، وعوائلهم، ومساحيهم، ومناجلهم، وسعف النخيل، والهوسات، والردات الريفية المدوية، اعلام، ورايات عشائر، وبيارق توحدت تحت علم الجمهورية، وصوت الثورة، وفرحة الانتصار، وبهجة الحرية، وحلاوة الانعتاق. لا اذكر بالضبط الاهزوجة التي نظمت بشكل جماعي، وعلى عجل مع ضحكات السخرية، والاستهزاء: "الباشا لابس عباية اليوم كضوه، ومثل الهايشة بحبل ربطوه".... وارتفع صوت التحدي، والمناكدة، والشماتة، والتشبيه الساخر بالباشا: "مامونة يا دار كريم،هي..هي". وكان الناس قد عرفوا اسم قائد الثورة.

ترى هل هي صدفة، ام قدر تاريخي، ان يصادف اليوبيل الذهبي لثورة الرابع عشر من تموز في يوم اثنين، كما هو الحال قبل خمسين سنة؟؟! وهل هي صدفة ان تجري مفاوضات لربط العراق بحلف بغداد جديد، وتسليم مقاليد سيادتنا الى المحتلين الامريكان، واعادة المعاهدات التي الغتها ثورة تموز؟؟!! لكن الشعب الذي سحل نوري السعيد، وعلق جثته في الساحات، التي شهدت اطلاق النار على متظاهري الحرية، والاستقلال، والغى حلف بغداد، والمعاهدات الاسترقاقية، وازال القواعد البريطاتية سيكنس كل معاهدة استرقاقية جديدة، وكل عميل جديد، وسيعلق جثث الخونه، والعملاء، وبائعي كرامة الوطن، وسارقي ثرواته في شوارع الغضب العراقي الاصيل.

رزاق عبود
الاثنين
14/7/2008





#رزاق_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاكراد الفيلية قلب العراق النازف
- ثورة 14 تموز المجيدة. استذكار موجز
- خمسة اعوام من الاحتلال والارهاب والفساد والطائفية والانقسام
- لماذا تتهجم منال هادي باسم الشيوعيين والرابطيات ونادي 14 تمو ...
- المناضلة نزيهة الدليمي تؤبن تحت ظلال الراية التي قتلتها
- سقطت الستالينية عاشت الشيوعية
- البصرة تسقط بيد القراصنة
- الاسلاميون شوهوا وجه اوربا الجميل
- البرزاني والطالباني يغامران بمستقبل العراق ومصير الاكراد
- نزيهة الدليمي وتشي جيفارا يستشهدان في يوم واحد
- شيوعية قديمة تحصل على جائزة نوبل
- رسام الكلب ونباح المتطرفين
- علم ودستور ومجلس امة كل عن المعنى الصحيح محرف
- هل يعقل ان تشجع الحكومة السعودية الارهاب في العراق؟؟!
- عصابة الاربعة مصرة على تدمير العراق
- الايزيدية ماساة ومزايدات وتساؤلات
- صوت الانتصار يطغى على دوي الانفجار
- انجمار برجمان احد عباقرة الفن العالمي يغادرنا بهدوء
- المسيح يصلب يوميا في العراق
- مكونات العراق سياسية وليست طائفية او قومية


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - رزاق عبود - البصرة يوم الاثنين 14 تموز 1958