يخلط بعض الداعين لانتخابات فورية في العراق بين فكرة تأجيلها وفكرة رفضها من حيث المبدأ أو أنّ قسماَ َ منهم يريد تشويه الصورة تعزيزاَ َ لتكتيكات سياسية وألعاب المقصود منها كسب الشارع لتمرير مآرب ومستهدفات ليس للشعب العراقي فيها مقدار ذرة مصلحة بل لاناقة ولا جمل... ولابد إذن من التأكيد هنا على أنَّ الذي يطلب تأجيل إجراء الانتخابات هو الداعية الحقيقي لإجرائها والمؤمن بالتأكيد بها وبكونها الأداة الأفضل لمسيرة ديموقراطية في عراق الغد.
أما كيف يمكن أنْ يكون دعاة إجرائها فورا ضد الديموقراطية والانتخابات, فيما يكون دعاة التأجيل معهما؟ فيمكن الإجابة عن مثل هذا التساؤل عبر تبيِّن كون قراءة الدعوة المتعجلة للانتخابات لم تظهر إلا بعد أن تأكّدت أطرافها من كون القوى الوطنية الديموقراطية قد عزمت بقراءتها على طلب التأجيل بل بعد أنْ طلبته بالفعل وسجلت الأسباب. تلا ذلك إعلان القوى المعنية بالدعوة للانتخاب الفوري.
وفضلا عن ذلك راح دعاة التعجيل بالعملية يذودون عن رؤيتهم بتبريرات لاحقة ليرسخوا من قوة الدفع التي أعطتهم إياها في الشارع؛ بخاصة تأكدهم من السطوة على ذاك الشارع عبر منفذين: الأول يكمن في تجيير الجوامع والحسينيات لمصلحة العمل السياسي الإداري وجعلها منابر حزبية بالمطلق ولم يعد لدُور العبادة من دَور أساس في الشأن الديني إذ تحولت الصلاة ذاتها إلى فرصة موظّفة ومطوَّعة تماما للشؤون الحزبية الضيقة ولا نقول السياسية العامة, حتى أنَّ كثيرا من أبناء شعبنا الذين لم تُلوى أذرعهم أُبعِدوا عن الحصص الغذائية والرواتب والمقايضات التي تتبع سياسة كن تابعا لمجموعتنا تأخذ الفتات المقسوم فإنْ تمرّدت ورفضت لا تحصل إلا على لوي الذراع والتعنيف. ويجري هذا في ظل البطالة والعوز أو الحاجة وفي حال غياب المؤسسات الخدمية للدولة وغير الخدمية أيضا. ولابد هنا من القول بأنَّ هذه الصورة ليست مطلقة على كل الجوامع والحسينيات حيث ما زلنا نرى [البعض] المتجرّد المعتدل...
من هنا تبدأ الحكاية, حيث البطاقة الانتخابية المقترحة مرتبطة بالحصة الغذائية وبطاقتها التموينية ومصدر التأثير ولوي الأذرع.. ومن هنا تبدأ الحكاية حيث مراكز السلطات في الضواحي والشوارع التي لم تصلها ولا تستطيع وصولها قوى الشرطة المحلية وسلطة مؤسسات دولة محترمة, تلك السلطة الحاكمة فعليا هي بيد سياسة البلطجة.. وهو نموذج ساد ضواحي بغدادية قديما عندما كان شقاوات يضعون حمايتهم على منطقة مقابل خاوة مدفوعة فيما يتغافل عنهم الساسة بقصد مبيَّت.... واليوم قد لا تكون الخاوة المعينة دراهم الأمس ولكنها أبعد وأخطر, إنَّها مواقف الناس وتوجهاتهم ورؤاهم واستقلاليتهم وحرياتهم الشخصية...
ومن الطبيعي أنْ يطمئن هؤلاء إلى أنَّ إجراء الانتخابات سيعود عليهم بالصيد الذي لم ولن يحلموا به في غير هذه اللحظة.. ولذا هم يلعبون في الوقت الضائع. حيث يريدون تحقيق مآربهم وإلا خسروها إلى الأبد. فحيث تبدأ سلطة الشعب لن يسلّمها الناس بعد ذلك أبدا. فهل من مصلحة الشعب إجراء انتخابات لا توفر له حرية قول ما يريد وحرية اختيار من يريد؟ هل من مصلحة الشعب أنْ تجري الانتخابات في ظل سطوة العنف والسلاح والدم والسكين الموضوعة على رقبته أثناء الاختيار؟
إنَّ إجابة دعاة الانتخابات الفورية تتمثل بنعم من مصلحته, فمن يريد مستقبل العراق عليه أنْ يأتي ولو كان في انتظاره الدبابات!؟! وبما أنَّهم قرروا الذهاب فهم وحدهم الذين سيذهبون للتصويت أومن سيصوت تحت التهديد, وبهذا يرسمون مستقبلا عراقيا خاصا بهم وبسطوتهم وسلطتهم.. لأنَّهم يعرفون معنى العنف والدم والإكراه ودوره في توجيه الشارع الذي خرج لتوه من إكراه مقيت دام عقودا طويلة. إنّهم لا يضعون قوة سياسية مقابل قوة سياسية بل هم يرفعون تحديهم للقوى السياسية وللشعب وبيدهم ما هو أكبر من هراوة, ما بيدهم هو إرهاب الشارع والتحكم به بوساطة المتفجرات والقنابل والأموال التي تسد رمق الأبناء والعوائل الجوعى...
فهل من مصلحة العراقي أنْ يذهب ليسلّم مستقبله بيد قوة تجره إلى رسم هذا المستقبل بالإكراه؟ أما سؤالنا للقوى السياسية فسيكون هل من الصحيح أنْ يوافقوا على إجراء تلك الانتخابات في ظروف كهذه؟ إذا كانت قوى معينة تتجه إلى الانتخابات تحت تأثير الإكراه والإجبار والقسر فكيف ستكون سياستها وهي في سدة الحكم والسلطة بيدها وقد تصيَّدتها انتخابيا؟ كيف سيكون الموقف وهي التي سترسم التشريع على وفق مزاج وجودها في أعلى مسؤولية وهي المسؤولية التشريعية؟ ولننظر لنموذج آخر من سلوكها التشريعي التنفيذي.. أليس من تلك القوى السيد الذي استغل وجوده لمدة شهر واحد في رئاسة المجلس السيادي فأصدر قرارا يتطلب على أقل تقدير دراسة القضاة والمرجعيات [قرار 137]؟؟
إنَّنا نتساءل عن أية ثقة ووحدة وطنية وأمن وأمان لشعبنا وقواه السياسية والاجتماعية يتحدث هؤلاء في وقت يبتزون الآخرين من القوى السياسية بل يبتزون الشعب كله جهارا نهارا عبر تلك الدعوة الصريحة لفرض وجودهم تحت سلطة الهراوة. وبعد فليس لتلك القوى من اعتراف بتنوع مكونات شعبنا.. فهم يصدرون دعاواهم بفرض لا الدين الإسلامي ولا التوجه المذهبي بله الحقيقة هم يريدون فرض فلسفة حزب سياسي يلبس عباءة الإسلام والمذهب الشيعي قناعا لتحقيق مآرب برامجية تخفي وراءها ما تخفيه... فيما ينبغي وضع تلك البرامج أمام الشعب الحر من كل القيود والملتئم بظلال دستور الحريات والمساوات والعدالة والمحمي من مؤسسات دولة مستقلة تامة السيادة وقادرة على توفير الحماية لكل مواطن ليعبر عن إرادته الحرة من غير أنْ يكون معرضا من أجل اختياره الحر أنْ يضحي بحياته...
أما كفى هذا الشعب دماء وتضحيات لكي يدعونه للاختيار بين أنْ يدلي بصوته حرا فيموت قربانا لصوته ولخياره وبين أنيصوت لتلك القوى الظلامية التي تتحكم بالشارع بقوة البلطجة والميليشيات التي تتخبأ اليوم متملقة دبابات الاحتلال مستأسدة على العزّل من أبناء الشعب فما بالنا غدا عندما تكون السلطة بأيديهم بتشريع انتخابي يجري اليوم؟؟؟
أيها السادة ليس الخوف أنْ يأتي ابن طائفة إلى السلطة .. من أيّ طائفة كانت. . ولكن المشكلة [ولا نقول الخوف] تكمن في أنْ نسلّم السلطة لقوة تؤكد بسياستها اليوم ما يقدّم للأسوأ غدا. والمشكلة في أنَّنا نؤسس بجزئية خطيرة هي تكريس الطائفية فيما الحقيقة المدافع الأمين عن أية طائفة هو المدافع نفسه عن بقية الطوائف والفئات. فالدفاع عن الشيعي هو دفاع عن السني عندما يكون دفاعا حقيقيا عن الشيعي. والمدافع عن المسلم هو مدافع عن المسيحي واليهودي والصابئي والأيزيدي إذا كان دفاعا حقيقيا عن المسلم. والمدافع عن العربي هو مدافع عن الكردي والمدافع عن الكردي هومدافع عن التركماني والكلدوآشوري إذا كان الدفاع حقيقيا عن الأول..
وليس من دفاع حقيقي عن طرف إلا وكان دفاعا عن الطرف الآخر من الشعب لأنَّ العراق كلّ واحد لا يتجزأ والدفاع عن جزء منه هو دفاع عن الكل فيه.. وحيثما كان الدفاع متعارضا مع مصالح طرف من العراقيين أكد على انتفاء صوابه ولم يكن صحيحا ولن يخدم مصلحة الطرف الذي يرى فيه دفاعا عن مصالحه.. فالذين يجدون دفاعهم عن وجودهم يكمن فيما يتعارض مع مصالح العراق كلا واحدا, لن يكون من الموضوعي أنْ نتصور صواب مواقفهم وليس موضوعيا التفكير ببرامجهم في إطار الوحدة الوطنية ومصالح المجموع ومنهم الطرف المعني..
وغير هذه الأسباب يمكن تذكُّر كون هذه الانتخابات تؤسس القاعدة الكلية الشاملة وهي ليست انتخابات دورية عابرة فهل من امرئ يقيم داره على أساس فيه خلل؟ ومن الخلل أنْ نؤسس الانتخابات وفينا من يقول لنهمل هذا الطرف أو ذاك.. فإذا كنا نريد أنْ نوفر احترام الصوت الواحد فكيف نمضي على أساس من إهمال أصوات من الكثرة بما يقاس بالملايين؟ ألا يؤسس هذا على إغفال وإهمال للفرد المواطن؟ فهل هذا ما يبتغونه من تأسيس للانتخابات؟ يقول بعضهم نعم إذا لم تأتوا فسنجريها وليذهب من لايريد التضحية بحياته أو يخضع للبلطجية إلى الجحيم.. هل هذه هي أسس الانتخابات الحرة النزيهة؟؟
والسؤال من دون أنْ نمضي في قائمة طويلة من التوضيحات مَن مع الانتخابات ومن ضدها؟ إنَّ دعاة التأجيل يبحثون عن الانتخابات لأنهم يبحثون عن توفير الأجواء الصحية الصحيحة لإجرائها لأنَّ الانتخابات عملية تصويتية فلسفتها تكمن في احترام الصوت وحرية قراره .. فيما الدعوة للعجلة لا تريد الانتخابات وإنّما تريد شيئا آخر لا يشبهه إلا تمثيليات الدكتاتوريات التي هُزِمت لغير رجعة...
نحن نريد الانتخابات ونعمل بتؤدة وتأن من أجل الوصول إليها بأسرع ما يمكن ومن أجل التحضير لها بأفضل السبل والأجواء المناسبة. فإذا ما استطعنا بتضافر الجهود توفير ذلك في الغد القريب كان بها ولكنها مسيرة بحاجة إلى تدبر وحيطة ومزيد من الحذر قبل أنْ تكون واقعة ما يُفرَض بمسمى الانتخابات زورا بداية هاوية تدخلنا بدوامة أظلم من سابقتها..
فليتدبر كل امرئ أمره ولا تكن الميول وانتهاز الفرص لسرقة موقع أو سلطة أو إدارة أو إصدار دستور على المزاج الفلاني أو العلاني هو مسار المرء في يومه لأنَّ ذلك يحرث الأرض لغد أخطر وأسوأ في غده.. ومن لا يرى في حرية غيره وحقه في الوجود فرصة لن يجد لنفسه مستقرا وأمنا وبئس ظالم في يومه أثلج صدره وأوغره انتقاما أو فرحا بما يراه انتصارا وفي غده يختبئ البؤس والمأساة كأداء ظلماء.. فلا ينسى امرؤ التجاريب وليتعظ ففي مشترك الحياة وتوافقه مع جاره وأخيه الحل وليس بظلمهم وتجاوزهم..
ومن يرى في قوة تدعمه اليوم فيفرح بها غدا سيكون ذبيحها التالي.. وليس للعراقي الصميم إلا العراقي . فلنؤسس لعراق الجميع عدلا وإنصافا أو لنركب مركب ينبذنا فيه شعبنا.. أما ما نضعه بين أيدي شعبنا فهو تجاريب تاريخه المجيد في وحدته الوطنية بلا تمييز ولا تقاطع وفي تعاضده وفي اختياره ما يعود على كل الأطراف سلامة لا ندامة.. وليرَ من يقف معه ومن يقف ضده حيث يسأل حكماءه وساسته ولا يوقعنَّ بينه وبينهم دخيل أو دعي أو مغرض...