أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - التجمع الشيوعي الثوري - ملف حول أزمة اليسار اللبناني-2















المزيد.....



ملف حول أزمة اليسار اللبناني-2


التجمع الشيوعي الثوري

الحوار المتمدن-العدد: 726 - 2004 / 1 / 27 - 05:08
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


] نتابع في هذا العدد من ما العمل؟ النقاشات بخصوص أزمة اليسار اللبناني، وهذه المرة أيضاً أزمة الحزب الشيوعي اللبناني، الفصيل الأهم في هذا اليسار. علماً بأن هذا العدد قد لا يصدر قبل انعقاد المؤتمر التاسع للحزب المذكور، المحدد لأيام 26-27-28 كانون الأول/ ديسمبر الجاري. والملف الحالي يضم – فضلاً عن مقالين لكل من مجموعة "الأفق الثوري" في الحزب، والرفيق رياض صوما، عضو مجلسه الوطني – نصاً قديماً للمفكر الشيوعي الفرنسي الراحل، لويس التوسير ، كانت نشرته مجلة "المناضل" في آخر عدد صدر منها عام 1978، هو العدد 35، وذلك بوصفها لسان حال الشيوعيين الثوريين العرب.
 وهذا النص بعنوان "التنظيم آلة للسيطرة" إذا كان يناقش آنذاك تخبطات الحزب الشيوعي الفرنسي، الستالينية بامتياز، يمكن أن يكون مفيداً جداً في قراءة التخبطات الراهنة للحزب الشيوعي اللبناني. على أن تنشر ما العمل؟ في عدد لاحق تصورات الشيوعيين الثوريين الخاصة لتجاوز أزمة اليسار اللبناني ككل.[


في جوهر أزمة الحزب

لا بد لكل مطلع على واقع الحزب الشيوعي اللبناني، من الإقرار بوجود أزمة عميقة تطول فيه المستويات كافة، وهي تتجلى في الكثير من الظواهر المتشعبة والمتداخلة في آن. وما تقديرنا لتاريخ الحزب المديد، إلا خطوة أولى على طريق ملامسة هذا الواقع المأزوم، بغية تحليل أسبابه واستخلاص الاستنتاجات الكفيلة بإخراجه من أزمته.
والإقرار بعراقة تاريخ الحزب، لا يتناقض والإقرار بالوضع المأساوي الذي وصل إليه راهنا. بل على العكس من ذلك، إن المقارنة بين حالة الماضي والحالة الحاضرة، ما هي إلا فاتحة العملية النقدية الجريئة والضرورية التي ينبغي للشيوعيين خوضها، كي يضعوا الإصبع على جرح الحزب النازف.
  وبداية، توجب طرح السؤال التالي: إذا كان الحزب، بعد تاريخ حافل من النضالات والتجارب الغنية، استطاع أن يجري تغييرا هاما على المستوى التنظيمي (في مؤتمره الثاني) أدى إلى تمهيد الطريق أمام مرحلة جديدة من تطوره تميز فيها بإنتاج نظرية وبرنامج سياسي ثوريين، رفع على أثرهما شعار "نحو حزب شيوعي جماهيري" (في مؤتمره الثالث) وتوصل استنادا إلى ذلك إلى تكريس طليعيته في الممارسة السياسية عبر مبادرته السباقة إلى تنظيم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، في 16 أيلول 1982، من خلال إطلاقه "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، التي ربط في ممارسته فيها بين موقفه الوطني التحرري من جهة، وموقفه في مواجهة النظام السياسي في لبنان بهدف التغيير الاجتماعي من جهة أخرى، فتوج في ربطه الممارسي بين المنحيين في سيرورة واحدة، بتبنيه العلني لمفهوم "الثورة الوطنية الديمقراطية" (في مؤتمره الخامس)؛ فما الذي أعاق الحزب، إذن، عن تحقيق أهدافه البرنامجية؟
ففي الإجابة عن هذا السؤال يكمن فهم أزمة الحزب الراهنة.
  فكما أن تحليل تاريخ نشوء الحزب وضرورته الاجتماعية وتطوره لا يستقيم من دون ربط ذلك بعملية تثبيت التكوين الاجتماعي اللبناني نفسه، ودخوله في التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية من موقع البنية الطرفية فيه، فإن تحليل أزمة الحزب الراهنة يستعصي على الفهم، دون ربطها بتناقضات ومراحل تطور هذا التكوين بالذات.
  وفي اعتماد هذا المنهج التحليلي، يتضح السبب في تزامن ذروة تقدم حزب الطبقة العاملة النقيض، مع ذروة تفاقم أزمة تطور التكوين الاجتماعي، التي تمثلت على المستوى السياسي في أزمة نظام السيطرة الطبقية القائم على أساس "الميثاق الوطني" (أو ميثاق الصيغة اللبنانية لعام 1943) وقد تمظهرت أزمة هذا النظام في تفجر التناقضات الاجتماعية-السياسية في الحرب الأهلية في لبنان (1975 – 1990).
وكذلك فإننا في تتبع منطق هذا التحليل المنهجي، لا نستغرب حقيقة تزامن أزمة الحزب مع عملية إعادة إنتاج هذا التكوين الاجتماعي، في شكله التاريخي الجديد، المتمثل في نظام "الجمهورية الثانية"، وعبر تثبيت السلم الأهلي على أساس "اتفاق الطائف".
  وبالتالي نصل إلى الاستنتاج، بأن عجز حزب الطبقة العاملة عن تحقيق مشروعه للهيمنة الطبقية البديلة عبر إسقاط "حكم الطغمة المالية" والوصول إلى السلطة عبر إنجاز "الثورة الوطنية الديمقراطية"، هو الذي فتح الباب واسعا أمام عملية إعادة إنتاج نظام السيطرة الطبقية القديم في شكله التاريخي الجديد. وهذا العجز نفسه أدى لا إلى إقصاء الحزب عن سلطة "الوفاق الوطني" المتجددة رغم تأييده لاتفاق الطائف، فحسب، بل إلى تحوله، أيضا، من "حزب الكادحين القائم على أسس طبقية ومبدئية ثورية" إلى "حزب معارضة تقليدي"، ما زال يتخبط في فشل وسائله المعارضة بسبب حالة صعود هذا النظام القائم، في فترة زمنية استمرت بين عامي 1992 و1997، في ما عرف بفترة "إعادة الإنماء والإعمار"، وبسبب الظروف الإقليمية المعقدة وتلقيه الحماية والدعم الخارجيين، طوال العقد الفائت وحتى يومنا هذا.
  نعود فنطرح السؤال ذاته: إذا كان الحزب قد أنتج، في سيرورة تطوره التي دامت قرابة عقدين كاملين يمتدان من أواخر الستينات إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، نظريته وبرنامجه السياسي الثوريين؛ فما الذي غاب عن ممارسة هذا الحزب العملية خلال خوضه الصراع الطبقي المكشوف ضد البرجوازية-التبعية الحاكمة، فحال دون تحقيقه لأهدافه ومهامه الملقاة على عاتقه؟
وللإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تحديد جوهر أزمة الحزب.
 فبرغم تعدد مستويات الأزمة الحزبية، فإن جوهرها واحد، وهو يكمن في المستوى السياسي لبنية الحزب. أي أن الأزمة في الحزب هي أزمة سياسية بالتحديد. وعلى هذا التناقض السياسي تتمحور باقي تجليات الأزمة المختلفة، النظرية منها، والتنظيمية، والممارسية، والجماهيرية، وعلى صعيد التحالفات، الخ ...
  ولهذه الأزمة السياسية زمانان مختلفان، رغم تواصلهما؛ الأول هو زمان الحرب الأهلية، والثاني هو زمان السلم الأهلي.
  والأزمة هذه واحدة، لأن وجودها في زمان الحرب أدى إلى تفاقمها واشتدادها في زمان السلم. فبين الزمانين علاقة سببية، في انتقال الأزمة من زمان إلى آخر. إلا أن هذه الأزمة ليست مجردة عن الظروف الموضوعية التي تحيط بالحزب، ولا هي خارجة عن التاريخ، بل فيه تتفاعل. فباختلاف الزمنين تحولت الأزمة، في جوهرها الواحد، من أزمة على الصعيد التكتيكي في ممارسة الحزب السياسية إبان الحرب، إلى أزمة على الصعيد الإستراتيجي في تحديده لسياسته المتبعة منذ نهاية الحرب الأهلية.

الأزمة التكتيكية في زمان الحرب الأهلية:

  لقد كان اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، نتيجة طبيعية لأزمة النظام السياسي وانعكاساً لتناقضات جهاز الدولة فيه، بما هو جهاز السيطرة الطبقية للبرجوازية-التبعية. وقد فجرت هذه الحرب قوى سياسية تمثل الفئة المهيمنة من الطبقة المسيطرة تلك. ومن موقعها الاجتماعي هذا، أعلنت الحرب على الحالة الجماهيرية المتصاعدة، آنذاك، الملتفة حول قضايا التحرر الوطني وقوى "اليسار"، المتمثلة في "المقاومة الفلسطينية" و"الحركة الوطنية اللبنانية".
  وقد كان لتحالف الطرفين، في أعقاب الأزمة الاقتصادية في أواخر الستينيات، الأثر الكبير في استفحال الصراع الطبقي، عبر تصاعد نضالات الطبقات الكادحة وعلى رأسها الحركة المطلبية العمالية، في ناحية، وفي تفاقم تناقضات النظام السياسي المتهاوي، في الناحية المقابلة.
  فظهرت الدولة في حالة عجز عن تأمين إستمراريتها في شكلها التاريخي المتقادم ذاك، اعتمادا على الوسائل الطبيعية، لإعادة إنتاج سيطرتها الطبقية. فكان لا بد من تحول العلاقة الصراعية بين الطبقة المسيطرة والطبقات الكادحة، من شكلها السلمي إلى شكلها العنفي، في محاولة لحل هذا التناقض بالقوة، وذلك بالاتكاء على علاقتها التبعية بالخارج، وبإيعاز من القوى الخارجية المعادية لقضايا التحرر الوطني.
  إلا أن فشل الطبقة المهيمنة النقيض، في حسم هذا الصراع في مصلحة تحالفها الطبقي الواسع، بالسرعة المطلوبة، أدى إلى اختلاف نوعي كبير في طرفي التناقض الرئيسي، فتحولت الحرب من صراع تناحري بين الفئة المهيمنة من الطبقة المسيطرة، من جهة، والطبقات الكادحة، من جهة أخرى، إلى صراع متفاوت الأشكال بين الفئة المهيمنة من الطبقة المسيطرة، والفئات الأخرى من نفس الطبقة، على موقع الهيمنة بالذات في النظام السياسي على أساس نمط الدولة البرجوازي-التبعي القائم في لبنان، من دون المساس بمضمونه المحدد هذا.
فتوقفت الطبقة العاملة عن ممارسة دورها الهيمني النقيض، بفقدانها استقلالها الطبقي، وبانتقالها إلى موقع التبعية الطبقية لأحد أطراف الطبقة المسيطرة، في صراع هذا الأخير ضد الطرف المهيمن على جهاز الدولة والمجتمع.
   فتحولت المعركة، بسبب العجز عن حسمها، من معركة في سبيل إقامة "حكم وطني ديمقراطي" بديل غير طائفي، إلى معركة إعادة تشكيل نمط الدولة البرجوازية-التبعية ذاتها، أي إلى إعادة إنتاجه في شكل تاريخي جديد، يقوم على إعادة تقسيم السلطة السياسية والمواقع المختلفة في جهاز الدولة، بين الفئات المسيطرة، في شكل طائفي جديد، تم تعريفه من موقع الأيديولوجية البرجوازية ب "التوازن الطائفي". وهذا الأمر قد تم تاريخيا، بين عامي 1989 و1992، في طور إعادة تشكيل التركيبة الطبقية، للطبقة المسيطرة، عبر توسيع إطار علاقة الهيمنة وموقعها في التكوين الاجتماعي اللبناني، لتشمل فئات أوسع من تلك الحلقة الاحتكارية الضيقة، التي استولت على مواقع القرار فيه، حتى عام 1990.
  فما هي أسباب هذا الانقلاب الكبير في آلية الصراع الطبقي، إبان الحرب الأهلية في لبنان؟ وكيف انتهى الأمر إلى فقدان الطبقة العاملة، استقلاليتها السياسية؟ ولماذا عجز حزبها عن إتمام مهماته، وحسم المعركة ضمن الخطوط العامة لتوجهات برنامجه السياسي؟
  بادئ ذي بدء، لا بد من الإقرار بصعوبة المعركة التي دارت في بنية اجتماعية وظروف تاريخية معقدة للغاية. كان تحديد ساعة الصفر في خوض غمارها، تحت رحمة قرار الفئة الاجتماعية المهيمنة وقواها السياسية، وليس في يد القوى النقيضة. كما أن عملية الانقسام المناطقي والتهجير الطائفي، أدت إلى تغيير قوانين المعركة إلى حد كبير. ويجب هنا أن لا ننسى التدخل العسكري الخارجي الكاسح في عام 1976، من قبل الجيش السوري، ودوره في قلب التوازنات، لصالح القوى المناهضة لحركة التحرر الوطني.
  لكن، رغم الإقرار بكل ذلك، فإن الحسم المقصود هنا، هو حسم المعركة على المستوى السياسي تحديدا، وليس العسكري على أهميته حتى تجاه المنحى السياسي نفسه. فالمستوى العسكري يبقى عنصراً هاماً، بلا شك، في حالة الدفاع، كما كان عليه الأمر في بداية الحرب الأهلية. وهو كذلك، في حالة الهجوم، كما كان عليه الأمر قبيل تدخل "قوات الردع العربية" في لبنان عام 1976. لكنه لا ينفصل في أي حال من الأحوال عن المستوى السياسي، بل يكون عاملا مساعدا له في تحقيق أهدافه الموضوعة في البرنامج السياسي للحزب.
  وفي هذا الصدد، لا يكفي وضوح الرؤية الإستراتيجية، في نظرية الحزب، ولا ربط ذلك بالبرنامج المرحلي الصحيح، ولا بد، إذن، من تكامل ذلك مع وضع خطة تكتيكية عملية، يقوم الحزب بتنفيذها، للوصول إلى إتمام "إسقاط الطغمة المالية" وإنجاز "الثورة الوطنية الديمقراطية".
أما في تغييب مسألة كيفية الوصول إلى السلطة، وهي مسألة سياسية بامتياز، برزت وتجسدت الأزمة التكتيكية، على المستوى السياسي، في الحزب الشيوعي اللبناني.
  والخطة التكتيكية، ليس المقصود بها، خطة إستاتيكية ثابتة، تصلح لكل زمان ومكان، تنتظر من يتبع تعليماتها المنصوصة قبليا أو بشكل مسبق. وفي إخضاع الخطة التكتيكية لظروف الحرب الأهلية الطويلة والمعقدة، ولتداخل العوامل العالمية والإقليمية بالداخلية منها، كان لا بد من تغيير الخطط التكتيكية، بما يتناسب والوضع القائم، مع الحفاظ على مضمونها، وتطويره بالممارسة، حتى يرتقي إلى حالة الإمكان على صعيد التحقق الاجتماعي-التاريخي.
  أما في تغييب الخطة العملية التكتيكية، في العملية الثورية، فإعاقة لها عن إرتقاء سيرورتها، من خلال تراكم الخبرات التنظيمية-السياسية والوعي الاجتماعي-الطبقي، إلى مستوى صيرورتها الفعلية، كما ينص عليها البرنامج السياسي للحزب.
  يظهر جليا لكل متتبع، أن أولى الدروس التي قدمتها الثورات المختلفة، تكمن في عدم كفاية تأزم السلطة القائمة وترهل نظامها السياسي، حتى يتحطم جهاز الدولة فيها، من تلقاء ذاته. أما لانتصار الثورة، فلا بد من قيام سلطة بديلة، وبناء جهاز دولة من نوع آخر، جديد، قادر أن يخوض الصراع ويحسمه في صالحه، ويحل مكان ذلك القديم والمأزوم.
  ووقائع الحرب الأهلية في لبنان، تثبت أن جهاز الدولة، قد وصل إلى حالة من التهافت، كادت أن تودي به بشكل نهائي. حيث تعرض إلى أسوأ عملية تدميرية، لم ينجُ منها أي من مؤسسات الدولة وسلطاتها المختلفة، بقدر أو بآخر. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

1) الشلل الذي أصاب الجيش اللبناني، في بداية الحرب، بسبب قرار من رئاسة الوزراء يقضي بعدم تدخل الجيش، في محاولة فاشلة لتحييده. إلا أن الجيش لم يسلم من الانقسام الفعلي أثناء الحرب، في ولاءات مختلفة داخلية منها وخارجية. وقد تم الزج به في الحرب، على فترات متباينة، كادت آخرها أن تحطمه نهائيا.

2) وقد أصاب الوهن السياسي، مجلس الوزراء، وصولا إلى انقسامه الفعلي، إلى مجلسين مختلفين، يقوم كل منهما على نطاق منطقة معزولة عن الأخرى، بغض النظر عن اختلاف درجات تمثيلهما الفعلية لتلك المناطق.


3) كذلك فإن المجلس النيابي، المنتخب قبل اندلاع الحرب، بقي قائما على هامش الحياة السياسية، على أساس التمديد المستمر لمناصب أعضائه، الذين غيب الموت عددا غير قليل منهم. وقد وصل به الحال إلى حد العجز الكامل عن القيام بالصلاحيات المنوطة به، كمثل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في نهاية عهد الرئيس أمين الجميل.

4) أما موقع رئاسة الجمهورية، فناهيك عن التدخلات الخارجية التي لعبت الدور المقرر في اختيار رئيس الجمهورية، حيث انتخب الرئيس الياس سركيس في أعقاب التدخل السوري في لبنان عام 1976، وكذلك تمت عملية انتخاب الرئيسين بشير الجميل وأمين الجميل على فوهات الدبابات الإسرائيلية عشية الاجتياح عام 1982، فإن موقع رئاسة الجمهورية نفسه قد إضمحل، في آخر الحرب، مع تعيين قائد الجيش آنذاك، العماد ميشال عون، في منصب رئيس الوزراء بالوكالة عام 1988، وذلك من قبل آخر رئيس لجمهورية صيغة 1943، بسبب عدم توافق القوى السياسية، على عقد جلسة نيابية يتم فيها انتخاب رئيس للجمهورية، بعد تجاذبات عنيفة داخلية وخارجية.


5) ولم تسلم مواقع أخرى، تم تحجيمها، مثل الأجهزة الأيديولوجية التابعة للدولة، عندما تم التعرض بالاغتيال لمفتي الجمهورية، الشيخ حسن خالد، على سبيل المثال لا الحصر.

6) ناهيك عن الصراع الذي نهش مالية الدولة، من خلال الفساد والتلاعب، أو من خلال وضع اليد على بعض مدخرات البنك المركزي، في سبيل المصلحة الفئوية لطرف في صراعه ضد الآخر. وهذا ما أدى إلى السقوط المادي والأخلاقي للدولة في آن معا.

  لكن وقائع الحرب الأهلية تثبت، أيضا، بأن الحزب الشيوعي لم يستطع استغلال الفرص التاريخية التي لاحت أمامه في أفق إتمام برنامجه الثوري، وتحطيم جهاز الدولة المهترىء، عبر عملية إنتاجه لجهاز بديل ذي طبيعة طبقية نقيضة لما هو قائم، في سبيل تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية. بل اقتصرت ممارسته السياسية، على طرح المسألة لا في بعدها العملي التكتيكي، إنما في بعدها الشعاراتي، لا أكثر ولا أقل. وللدلالة على ذلك، يمكن ضرب عدة أمثلة، من تاريخ الحرب الأهلية؛ أو بالأصح، من تاريخ ممارسة الحزب الشيوعي السياسية، في الحرب الأهلية في لبنان:

المثال الأول:
  رغم طرح "الحركة الوطنية اللبنانية" برنامجها المرحلي للإصلاح الديمقراطي، الذي جاء في آخر فقراته دعوة لعقد "الجمعية التأسيسية" التي من صلاحياتها، إنشاء دستور جديد، قائم على أسس غير طائفية، يشكل مرجعا لقيام جمهورية ديمقراطية في لبنان، فإن الحزب لم يتمسك في أدبياته السياسية وطروحاته التوعوية، التي كان يخاطب من خلالها أعضاءه وجماهيره وحلفاءه، بذلك المطلب المتقدم، وتركه يتحول من طرح سياسي يؤسس للبديل السياسي المنشود، الذي يقوم مكان المجلس النيابي ذي الشكل الطائفي، إلى شعار يطويه النسيان، على مر الزمان.
  وتغييب هذا المطلب، أدى إلى إفقار البرنامج السياسي للحزب، من جانبه العملي، حتى بات في آخر الحرب عاجزا عن رفض المبادرة التي أطلقها مجلس النواب اللبناني بعد التوافق السوري – العربي – الأمريكي، في الطائف على إعادة إنتاج نمط الدولة البرجوازية-التبعية، في شكلها الطائفي الجديد، الذي يعتمد المناصفة الطائفية في مجلس النواب، على قاعدة "ستة وستة مكرر" المنسية، وعلى إعادة تقاسم الصلاحيات بين مؤسسات الدولة وسلطاتها المختلفة.

المثال الثاني:
   ورد في مقالات بقلم جورج حاوي، التي نشرت في جريدة "النداء"، سنة 1976، وتم إصدارها لاحقا في كتيب حمل عنوان: "المخطط الأمريكي – السوري نحو الهزيمة الحتمية"، في فترة انكفاء سلطة الدولة عن القيام بصلاحياتها، واسترشادا بتجربة الحزب التقدمي الاشتراكي، آنذاك، في مناطق نفوذه، بما عرف باسم "الإدارة المدنية"، دعوة إلى قيام إدارة مدنية، في بيروت (الغربية).
  إلا إن دعوة إنشاء إدارة مدنية، انطلاقا من مفهوم جورج حاوي الخاطئ، لم ترد، كبديل جنيني لسلطة الدولة المنكفئة تلك، يقوم على أساسه نمط آخر للدولة، يحتكم إلى سلطة الشعب، ويشرع حق هذا الشعب في تقرير مصيره ومستقبله وشكل جهاز الدولة المتطور الجديد، حيث يقوم الحكم المباشر فيه على الديمقراطية الحقيقية للطبقات الكادحة، أكثرية الشعب الساحقة.
بل على العكس من ذلك، إعتبر جورج حاوي، وإنطلاقا من مفهومه أن الإدارة المدنية، هي سلطة مؤقتة، تنظم أمور الناس، في زمن غياب سلطة الدولة، وهي تعيد تسليم السلطة للدولة عندما تصبح قادرة من جديد على ممارسة صلاحياتها.
أما في الممارسة الفعلية، فلم تنجح التجربة في بيروت، لا بسبب معارضة البرجوازية البيروتية التقليدية الشرسة لهذه التجربة، فحسب، بل لأن التجربة نفسها تقزمت كما في "الجبل"، إلى سلطة حزبية فئوية، تقوم على سياسة فرض الأمر الواقع الميليشياوي على الجماهير، في محاولة لتنظيم شؤونها بشكل فوقي، بدلا من أن تتحول هذه الإدارة المدنية، إلى تجربة تنظيمية تكون للجماهير الكادحة فرصة تعلم تنظيم شؤونها بنفسها، وتعلم أساليب الحكم الديمقراطي، من خلال ممارساتها اليومية المباشرة لإدارتها المدنية.

المثال الثالث:
  قامت في صيف عام 1987، تجربة فريدة في لبنان، عندما بلغ تردي الوضع الاقتصادي حدا، يفوق قدرة تحمل الطبقات الكادحة لآثاره التدميرية على مستواهم المعيشي المباشر. فكان أن أعلنت الطبقة العاملة الإضراب العام، ممثلة في نقاباتها العمالية، آنذاك. وقد قام الحزب الشيوعي بدور فعال في تنظيم هذا الإضراب، ودعا عبر أطره العمالية إلى قيام اللجان العمالية في مواقع العمل، واللجان الشعبية في الأحياء. وقد استمرت الحركة الاحتجاجية في تصاعدها المستمر، لمدة خمسة أيام متواصلة. حتى بلغت أوجها في قيام مظاهرة شعبية ضخمة إشتركت فيها الجماهير من كلا المنطقتين المتنازعتين، اللتين قسمتا العاصمة، بيروت، على أساس ديمغرافي طائفي بسبب عمليات التهجير. وكان نقطة إلتقاء هذه المظاهرة، عند ساتر ترابي يفصل بين المنطقتين، في محلة المتحف، فقام المتظاهرون، بمحاولة إزالة هذا الساتر الترابي بأيديهم، في حركة معبرة عن رفضهم هذه الحرب ونتائجها التقسيمية، وذلك كله قام على مبدأ تحميل دولة السيطرة الطبقية تلك، مسؤولية الأزمة الاقتصادية وأعباءها.
فكان أن اختار الحزب، الدخول في جبهة سياسية مع أحزاب وقوى أخرى، على ضرورتها في تلك الظروف، بدلا من استكمال التحرك السياسي ذي البعد الطبقي الواضح. فدعا الاتحاد العمالي العام، بعد مفاوضات مع الدولة، إلى فك الإضراب العام، والى عودة الحياة إلى طبيعتها السابقة.
  أما الحزب فلم يتمسك، بالقدر الكافي، بهذه التجربة الفريدة، ولم يستفد من اللجان العمالية والشعبية، فتناثرت منسية في الذاكرة الشعبية، بدلا أن تتحول إلى بذور سلطة شعبية بديلة، تخوض الصراع الطبقي المكشوف ضد الدولة ذات السياسة الاقتصادية البرجوازية-التبعية، التي باتت لا تقدر إلا على نهب خيرات الوطن والشعب في مصلحة حفنة من المتنفذين تحميهم قوى خارجية معينة.
  وهذه الأخطاء التكتيكية على مستوى ممارسة الحزب السياسية، قد انسحبت على مسألة التحالفات.
  ففي كل ما سبق، أي عبر كامل مرحلة الحرب الأهلية، مارس الحزب نهج التحالف الطبقي الواسع ضد "حكم الطغمة المالية" أو الفئة المهيمنة من الطبقة المسيطرة.
  وإذا كان هذا النهج صحيحا في بعده النظري، حيث قام على أساس تحديد طبيعة المرحلة، من تطور التكوين الاجتماعي، ووضع برنامجه السياسي المرحلي، على أساس هذا التحديد، و استخلص تاليا طبيعة المهام الملقاة على عاتق حركة التحرر الوطني. إلا أن هذا النهج قد تمت ترجمته العملية، في تحالف سياسي فوقي مع ممثلي تلك الطبقات والفئات الاجتماعية، عوضا عن التحالف المباشر مع جماهيرها بالذات. فلم تستقل تلك الجماهير، التي تتشكل بمعظمها، من الطبقات الكادحة، عن الأيديولوجية البرجوازية، ومفهومها للصراع الوطني والاجتماعي. فضعفت بذلك قدرة الحزب في التأثير السياسي من موقع الطبقة العاملة، كطبقة مهيمنة نقيض، واستمر النزف على مستوى جماهيرية الحزب، ومواقع انتشاره، مع تطور الحرب وقيام أحزاب جديدة في المجتمع اللبناني، تعتمد على الفكر الطائفي كمنطلق لممارستها السياسية، بما هو الفكر المكون للوعي الاجتماعي السائد على المستوى الأيديولوجي للتكوين الاجتماعي اللبناني. ففقد الحزب بذلك موقعه السياسي المتمايز، وظل ينجر وراء ذلك التحالف من موقع التبعية الطبقية، حتى دخل حلفاؤه جميعا، في سلطة الجمهورية الثانية، مخلفينه وراءهم، يهيم في دعوته ل"الحوار الوطني" و ل "الميثاق الاقتصادي الاجتماعي" على أسس عقد اجتماعي جديد، دون أن يكون لدعوته تلك أثر في تحديد سياسة دولة اتفاق الطائف.
  وفي مسار صراعه ضد الفئة المهيمنة ونظام حكمها، حاول الحزب التأثير على موقع القرار في سوريا لحملها على التحالف مع الحركة الوطنية. وكان بنتيجة تغيير الموقف السوري من أفرقاء الحرب الأهلية، أن تدخل الجيش الإسرائيلي، بشكل مباشر في الحرب الأهلية، في عدوان عام 1978، واجتياح بيروت، عام 1982.
  وكان الحزب يبرر تحالفه مع سوريا، بالمصلحة المشتركة في خوض الصراع ضد إسرائيل. وإذا كان هذا الأمر صحيحا، في الظاهر، إلا أن التجربة العملية قد أثبتت أن البعد الطبقي للصراع "القومي" من منطلق السلطة السورية، يختلف جوهريا عن البعد الطبقي لقضية التحرر الوطني، في مفهوم الحزب الشيوعي.
  وكانت المحصلة النهائية لهذا "التحالف"، أن انكفأ الحزب الشيوعي عن خوض النضال الوطني المسلح، المباشر، ضد الكيان الصهيوني، بسبب تضارب المصالح الطبقية-السياسية لهذين النهجين الطبقيين المختلفين.
والقضية المحورية في فهم تغير اتجاهات المواقف السورية، هي بالضبط ذلك الموقف المبدئي لدى الدولة السورية من شكل الدولة في لبنان. فبرغم اختلاف الموقع التحالفي لسوريا، خلال الحرب، إلا أن الثابت بقي دوما لديها في موقفها الرافض من تقسيم لبنان، من جهة، ولهيمنة فئة من الطبقة المسيطرة على الأخرى، من جهة ثانية، وكذلك، موقفها الرافض لأي حل ثوري من موقع الطبقة المهيمنة النقيض، من جهة ثالثة.
  وما طرح الحل السوري لمسألة النزاع الداخلي اللبناني، المستند، منذ بداية الحرب، من خلال "الوثيقة الدستورية" وحتى نهايتها، عبر رعاية "اتفاق الطائف"، إلى ثوابت احتفاظ الدولة اللبنانية بشكلها الطائفي، مع تعديل طفيف عليه، يقوم على المناصفة وإعادة توزيع الصلاحيات، إلا الجذر لكل اختلاف آخر، حتى على مستوى القضية الوطنية، المتمثلة في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي.
فتعارض النهجين الطبقيين، حول طبيعة الدولة اللبنانية، بين نهج اتبعته سوريا، لإعادة إنتاج نمط الدولة البرجوازية-التبعية، في شكل تاريخي جديد، وعدم تعارض ذلك مع التوجه السياسي الأمريكي، عندما، تقلص النفوذ السوفيتي الخارجي، المتمثل في إعلان الاتحاد السوفيتي التخلي عن سياسة دعم حركات التحرر الوطني، إبان فترة حكم ميخائيل غورباتشيوف، وبين نهج آخر وضعه الحزب الشيوعي اللبناني، لتغيير نمط الدولة نفسه، عبر إقامة الحكم الوطني الديمقراطي، النقيض الطبقي، لجهاز سيطرة الطبقة البرجوازية-التبعية تلك – هذا التعارض بين النهجين – هو الذي يفسر التعارض في الرؤية لطبيعة حركة التحرر الوطني العربية وأهدافها، بين نهج طبقي اتبعته سوريا، يفصل بين مهام الصراع الوطني و مهام الصراع الاجتماعي، وبين نهج الحزب الذي يوفق بين مهام الصراع الوطني والصراع ضد السيطرة الطبقية للبرجوازية-التبعية اللبنانية، في مهمة واحدة هي عملية التحرر الوطني من العلاقات الرأسمالية-التبعية، بمجملها.  

الأزمة الإستراتيجية في زمان السلم الأهلي:   

  لقد اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، نتيجة لتفاقم الأزمة البنيوية للتكوين الاجتماعي اللبناني، ولاشتداد التناقضات على مختلف مستويات هذه البنية.
والحرب بدورها عمقت من انكشاف المجتمع على الخارج. كما أنها تمادت في عملية تهديم العلاقات الاقتصادية والبنية التحتية، وتقطيع أوصالهما. وكاد، خلالها، أن ينهار جهاز الدولة، حيث انتقلت علاقة السيطرة الطبقية إلى حالة سادت فيها السيطرة الميليشياوية على التقسيمات المناطقية. وساهمت الممارسات التهجيرية، على اختلافها، في إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية على أسس ديمغرافية ذات شكل طائفي جديد. وكان التكوين الاجتماعي اللبناني مهددا طوال هذه المدة، بأحد أمرين: إما التقسيم إلى دويلات صغيرة متنافرة، أو الرزوح تحت السيطرة الخارجية على المجتمع وإعادة تشكيله بما يتناسب مع موازين القوى الإقليمية والعالمية.
  أما "وثيقة الوفاق الوطني" التي أقرت في الطائف عام 1989، فقد تم حسم الحرب على أساسها. ورغم كل ما نتج عنها، على أرض الواقع، من إعادة إنتاج لنمط الإنتاج البرجوازي-التبعي، عبر مشروع "إعادة الإنماء والإعمار" الذي تغيرت معه تركيبة الطبقة المهيمنة على المستوى الاقتصادي، وكذلك، من إعادة إنتاج لنمط الدولة البرجوازية-التبعية، الذي تغير معه موقع الفئات المهيمنة من جهاز الدولة، باتجاه العلاقة المباشرة بها. فتم إنشاء شكل جديد لدولة موحدة، مركزية،تستمد شرعيتها من شرعية ذلك الاتفاق، فقامت بتطبيق السلام الأهلي، وقمع كل من تعتبره مهددا لهذا السلام بشكل أو بآخر.
  إلا أن هذا الاتفاق "التاريخي"، استطاع أن يحل الشكل التناحري للتناقضات داخل المجتمع، دون أن يحل التناقضات نفسها. أي أنه ساهم في إنهاء حالة الاقتتال، مبقيا على أسبابها، وعاجزا عن حلها الجذري والنهائي. وبقيت الأزمة البنيوية، حتى يومنا هذا، عصية على الحل. إضافة إلى كون الصيغة الجديدة، هذه، قد أثبتت بالتجربة الملموسة، أنها بدورها، تعيد إنتاج الأزمة البنيوية.
  فماذا كان موقف الحزب الشيوعي اللبناني من اتفاق الطائف، و"الجمهورية الثانية"، وقضية الديمقراطية، أي من المسألة المحورية على المستوى السياسي من التكوين الاجتماعي؟  
 ففي الإجابة عن هذا السؤال، اعتمادا على وثيقة المؤتمر الثامن، يمكن مقاربة طبيعة الأزمة الإستراتيجية في سياسة الحزب الراهنة.

  فرغم بعض التناقضات التي وقعت فيها مكونات الوثيقة، من منطلقات وإستنتاجات، إلا أن التوجه السائد فيها كان شديد الوضوح، ويحسم هذه التناقضات في مصلحته في المحصلة النهائية.
وقد تمظهر هذا التوجه السائد في انحرافات مهمة عن النظرية الماركسية، ومن أهمها:

1) اعتبار المسألة الديمقراطية "ضرورة كيانية":
  إن أول انزلاق إلى موقع الأيديولوجية البرجوازية، يكمن في اعتبار الديمقراطية كضرورة كيانية، وربط وجود لبنان بوجودها. وفي هذا التجريد للمسألة الديمقراطية عن تاريخيتها، تغييب لبعدها الطبقي، ولاختلاف مضمونها بحسب المواقع الطبقية المختلفة في مجتمعنا الواحد، خاصة بين الطبقة المهيمنة والطبقة المهيمنة النقيض.
وهذا الاعتبار يقود إلى إظهار لبنان في تاريخه و منذ نشأته، وكأنه كان يقوم على أساس ديمقراطي، وليس على أساس طائفي هو الشكل التاريخي الذي تتخذه علاقتا السيطرة والهيمنة الطبقيتان فيه. فتغيب، بذلك، هاتان العلاقتان الطبقيتان وتستحضر بدلا منهما الديمقراطية، بقوة أيديولوجية خارقة مستندة إلى مقولات الوعي السائد منذ نشوء التكوين الاجتماعي اللبناني على أسس رأسمالية-تبعية.
  وهكذا يتمايز لبنان، بحسب هذا الاعتبار، عن محيطه العربي، في اجترار لمقولات الطبقة التي استفادت من عملية التجزئة الاستعمارية للوطن العربي.
تقول الوثيقة في معرض تعداد "التحديات التي يواجهها لبنان"، ما يلي:
"تحدي الديمقراطية: التي تشكل بالنسبة للبنان ضرورة كيانية يتعزز في ظلها وجوده، ودوره، وتنوعه، وسماته المميزة. وفي هذا المجال يلاحظ تزايد محاولات تطبيع الواقع السياسي في لبنان وتكييفه مع السمات الأساسية، اللاديمقراطية، "للنظام العربي" السائد، وهي محاولات خطرة، يمكن ملاحظتها بوضوح في مجال الإعلام، كما في مجالات حقوق الإنسان وحرياته عامة. ناهيك عن مجالات التوزيع والتلزيم وصولا إلى التحالفات السياسية".

2) العلاقة الملتبسة بين الطائفي والطبقي:
  وفي تناقض مع ربط مسألة الديمقراطية مع كيانية لبنان ووجوده المتمايز، جاء في الوثيقة تحت عنوان "أزمة تاريخية متمادية" ما يلي:
"يعيش لبنان منذ نشأته في كيانه السياسي الحديث، أزمة متمادية تنفجر أحيانا بنزاعات وحروب مدمرة، ثم تخبو كامنة فترة، لتعود فتنفجر مرة أخرى كلما احتدمت تناقضات النظام السياسي وإفرازاته وانعقدت على تناقضات عربية ودولية، محفزة لهكذا انفجار أو مسرعة له".
  وهذا الكلام على عموميته صحيح، إلا إنه ورد كمقدمة لانحراف نظري ثاني، يقوم على الفصل بين ما هو طائفي وما هو طبقي. فتصبح الأزمة التاريخية، بحسب طرح الوثيقة، لا في ارتباط هاتين المسألتين كارتباط الشكل بالمضمون، إنما على عكس ذلك، في محاولة الربط "الوهمي" بينهما.
فتكمل الوثيقة شرح هذه الأزمة التاريخية بالقول:
"وتكمن الأزمة المتمادية هذه في عجز النظام القائم في لبنان، في مرتكزاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن مواجهة مواطن الخلل البنيوية التي تنخر فيه فيبقى واهنا دون أن يموت. وتتمثل مواطن الخلل هذه في عاملين أساسيين: في سيادة الطائفية السياسية في بنية النظام ومؤسساته من جهة، وفي سيطرة طبقة سياسية تمثل تحالفا هجينا من البرجوازية التابعة وأمراء الطوائف من جهة ثانية. ويرتبط العاملان هذان في علاقة سببية وهمية معقدة، وينخرطان في عملية إنتاج وإعادة إنتاج أحدهما للآخر. وكأنه لا فكاك من فخ أوالية هذا النظام الواهن والمتجدد في آن".
  وهذا التحليل الذي يفصل بين الطائفي والطبقي، يمهد الطريق إلى إبراز أولوية البعد الطائفي للمسألة، على حساب بعدها الطبقي. فيسهل على الوثيقة في مكان آخر اعتبار لبنان: "بلد منقسم على ذاته، هو أقرب ما يكون، واقعيا إن لم يكن قانونا، إلى كونفدرالية طوائف ومذاهب متفرقة".

3) إنتاج مصطلح "الطبقة السياسية" :
  إن عملية الفصل بين الطائفي والطبقي، لم تكن لتتم لولا تقزيم منهج التحليل الطبقي الماركسي المتعدد المستويات، إلى حدود مفهوم جديد يحصر الطبقة في المستوى السياسي من التكوين الاجتماعي، فجاءت الخطوة الأولى في إنتاج مصطلح "الطبقة السياسية".   
حيث ورد في تحليل الوثيقة ما يلي:
"لقد فوتت الطبقة السياسية مرة أخرى، فرصة جديدة لإعادة بناء لبنان جديد، صيغة ونظاما، واقتصادا واجتماعا، على أسس ديمقراطية مدنية عصرية ...".
  ثم يتمادى أكثر في هذا الاتجاه عبر اعتماد خطوة ثانية تلغي التحليل المنهجي في تعريف علاقة الهيمنة الطبقية في ارتباطها بجهاز الدولة، على اعتباره جهاز سيطرة الطبقة البرجوازية-التبعية، فيحل مكان ذلك، في الوثيقة، مفهوم طائفي لعلاقة الهيمنة تلك:
"ومن أهم التحولات السياسية ذات البعدين الطبقي والطائفي التغيير الظاهر في موقع كل من الطوائف الكبيرة في الحياة السياسية عموما، وفي موقع هذه الطوائف من الدولة ومؤسساتها خصوصا. وقد حصل هذا التغيير لمصلحة الطرف الإسلامي من النخب الحاكمة، على حساب النخب المسيحية الحاكمة، مع تفاوت نسبي في حجم وتأثير هذا التغيير بحسب المذاهب الإسلامية المختلفة".
  وفي هذا الصدد، تنتقد الوثيقة التطبيق العملي لاتفاق الطائف، فتقول:
"رغم مرور حوالي السنوات العشر على الطائف، الذي توصل إلى إصلاحات سياسية، أدخلت لاحقا في صلب دستور البلاد، ورغم أن هذه الإصلاحات تمت بتوافق برلماني، شبه إجماعي، وبرعاية عربية ودولية شبه كاملة، فإن هذا الاتفاق لم يؤد إلى مصالحة وطنية حقيقية، ولا إلى سلم أهلي وطيد منشود. أي أن هذا الاتفاق لم يضع لبنان على طريق التطور السياسي الذي يخرجه من مأزقه الطائفي، ولو بعد حين. بل إن النظام السياسي الراهن يكاد يقوم على استبدال هيمنة طائفية بهيمنة طائفية معاكسة أو نقيضة".
  وهنا تتوضح الخطوة الثالثة، عبر إدراج مفهوم "الاستبدال". مما سيؤدي لاحقا إلى التمييز بين استبدال سيئ هو استبدال هيمنة طائفية بهيمنة طائفية أخرى من جهة، وبين استبدال جيد هو "استبدال السلطة الحالية بسلطة جديدة ..." من جهة أخرى. وفي الحالتين يبقى مفهوم الاستبدال قائما، بدلا من التغيير الطبقي الثوري للنظام السياسي.

4) اعتماد النهج الإصلاحي:
  فرغم تقديم الحزب برنامجاً ديمقراطياً متقدماً، وبسبب كل ما تقدم، فإن الوثيقة قررت الاعتماد على الوسائل الإصلاحية في تحقيق هذا البرنامج الديمقراطي، وذلك في تخلٍّ واضح عن طرح مسألة "الثورة الوطنية الديمقراطية". وقد بدا الأمر جليا في نقاط عدة من الوثيقة:

أ?- اعتماد مفهوم استبدال السلطة:
"إن الحزب الشيوعي اللبناني، بما هو حزب للتغيير الديمقراطي، يعمل من أجل إستبدال السلطة الحالية بسلطة جديدة قادرة على بناء نظام سياسي ديمقراطي علماني يؤمن في آن، أوفر الحريات الديمقراطية العامة والخاصة، وأفضل الشروط للتنمية الشاملة، والمتوازنة والمضطردة، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ...".
ب?- اعتماد مفهوم تداول السلطة:
  "وهو يؤكد أن نضاله في سبيل ذلك، ينطلق من إيمانه بتداول السلطة بناء على الخيار الحر للشعب ...".

ج?- اعتماد العمل تحت شرعة الدستور:
"ملتزما بقواعد العمل الديمقراطي الهادف إلى توعية أكثرية الشعب اللبناني المتضررة من نهج السلطة الراهنة وتعبئتها في النضال الديمقراطي المشروع، الذي يكفله الدستور لإسقاط هذه السلطة".

د?- اعتماد الأساليب الديمقراطية في "التحويل" الديمقراطي:
"ولإتمام عملية التحويل هذه تتوسل القوى الديمقراطية الأساليب الديمقراطية التي تعكس الإرادة الشعبية وطموحات أغلبية المواطنين".  

ه?- اعتماد الانتخابات بهدف تداول السلطة:
"المشاركة النشيطة في الانتخابات النيابية والمحلية وغيرها من الانتخابات في كافة المؤسسات التمثيلية، واعتبار ذلك شكلا من أشكال النضال السياسي والتوعية الشعبية".

و?- اعتماد المصالحة الوطنية والحوار الديمقراطي:
"وبديهي أن تكون المصالحة الوطنية الحقيقية، الناتجة عن حوار ديمقراطي، هي شرط بلورة ثوابت وطنية تتوحد حولها الفئات والقوى السياسية اللبنانية كافة، كوحدة الوطن، وهويته، ونظامه السياسي الديمقراطي العام".
"إن الوحدة الوطنية المنبثقة عن الحوار والمصالحة والـقواسم المشتركة التي فشلت السلطة في تحقيقها بشكل جذري، هي شرط لازم، له الأولوية، في أي محاولة جدية لبناء دولة عصرية ديمقراطية، دولة علمـانية مدنية، تنهي الـواقع التقسيمي الراهن".

ز?- اعتماد مشروع الإصلاح الديمقراطي:
 "حدد الحزب (ويحدد) أهدافه القريبة والمرحلية للإصلاحات الديمقراطية الشاملة في لبنان ..."
 "ويشمل البرنامج الذي يطرحه الحزب ... إصلاحات ديمقراطية للنظام السياسي ..."
 "فلا بد من إحداث تغيير قي المسار الحالي الذي تدفع فيه البلاد، إن البديل ينبغي أن يكون من طبيعة أخرى. هو مشروع إصلاح ديمقراطي جذري، شامل متكامل".
 "فالديمقراطية الحقيقية التي تتيح تداول السلطة وتجدد قواها، هي الضامن لإزالة المخاوف من كل نوع. إنها نقيض كل أشكال الاستبداد والتسلط والهيمنة والإكراه والإمتيازات ... وينبغي أن يقترن ذلك بإقرار تشريعات عصرية في مجال صيانة الحريات، وفي مجال التشريعات المدنية، ووضع قانون إختياري للأحوال الشخصية، وخصوصا وضع نظام ديمقراطي للأحزاب السياسية، يطلق حرية تشكيلها، على أسس وطنية لا طائفية، دون إخضاع الترخيص لها لمشيئة هذا المركز السلطوي أو ذاك، ووضع نظام حديث للإعلام، وكذلك رعاية مؤسسات المجتمع المدني وإطلاق مبادراتها في كل الحقول".

  هكذا يتضح بأن الحزب الشيوعي اللبناني قد تخلى عن برنامج "الثورة الوطنية الديمقراطية"، وعن انتهاج سياسة طبقية تتمثل في "إسقاط الطغمة المالية"، وبالتالي فهو يتخلى أيضا عن ربط برنامجه المرحلي ببعده الإستراتيجي الذي يتلاءم مع هويته، بما هو حزب شيوعي. وهذا ما عبر عنه مهدي عامل بوضوح ما بعده وضوح في قوله: "وصول الطبقة العاملة إلى موقع الهيمنة الطبقية في التحالف الطبقي الثوري ... هو الشرط الأساسي الذي بتوفره تتوفر لمرحلة الحكم الوطني الديمقراطي إمكانية انخراطها في سيرورة الانتقال إلى الاشتراكية كمرحلة منها تنفتح على مرحلة لاحقة تتواصل بها في حركة ثورية واحدة ...".

   ففقد الحزب الشيوعي اللبناني هويته الطبقية المتمايزة واستقلاله الطبقي، وبذلك تكون قد انطلقت أزمته السياسية من موقعها التكتيكي الممارسي، في زمان الحرب الأهلية، المتمثلة في العبارة التالية "... أية كانت أشكال النضال التي سوف تعتمد ..." الواردة في وثائق المؤتمر الـثالث. إلى أزمة سياسية في موقعها الإستـراتيجي الأكثر خطـورة في زمـان السلم الأهـلي.

على هـذا المستوى السياسي يجـب أن تـبدأ عمـلية الإصلاح الداخـلي للحزب الشيوعي اللبناني.

الحزب الشيوعي اللبناني
الأفق الثوري



#التجمع_الشيوعي_الثوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيلا تتحول وثيقة جنيف -من مسوّدة اتفاق للوضع الدائم- إلى حلّ ...
- التنظيم آلة للسيطرة - لويس آلتوسير
- لأجل نهوض جديد للحركة الطلابية
- لبنان - الوضع السياسي والاقتصادي يزداد تفاقما، لكن الإنقاذ ف ...
- لئلا يتأخر الفجر أكثر
- صدور العدد 185 من -ما العمل؟
- الثورة البوليفيــــة
- الثورة الإسبانية
- اللـقـاء الأخـيـر - خـواطـر عن سـمير القنـطـار
- حكومة لولا : هل ستغـيِّـر أم ستغـيَّـر ؟
- عامل يرأس جمهورية البرازيل: مسيرة حزب العمال الطويلة
- أين موقع فلسطين على خارطة الطريق؟
- صـدام الهـمجـيـات
- من الانتفاضة الثانية الى الدولة ثنائية القومية مقابلة مع ميش ...
- أمــمـيـــــة
- ملف حول أزمة اليسار اللبناني
- ما هو التجمع الشيوعي الثوري؟
- عـود على بـدء !
- نبذة عن التجمُّع الشيوعي الثوري
- معاً لدحر الهجمة الإمبريالية على الشعب العراقي


المزيد.....




- هل يمكن أن يعتقل فعلا؟ غالانت يزور واشنطن بعد إصدار -الجنائي ...
- هيت .. إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم
- ما هي حركة -حباد- التي قتل مبعوثها في الإمارات؟
- محمد صلاح -محبط- بسبب عدم تلقي عرض من ليفربول ويعلن أن -الرح ...
- إيران تنفي مسؤوليتها عن مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات
- سيدة من بين 10 نساء تتعرض للعنف في بلجيكا
- الدوري الإنكليزي: ثنائية محمد صلاح تبعد ليفربول في الصدارة
- تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية وقتال عنيف ...
- هل باتت الحكومة الفرنسية على وشك السقوط؟
- نتنياهو يوافق مبدئيا على وقف إطلاق النار مع لبنان.. هل تصعيد ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - التجمع الشيوعي الثوري - ملف حول أزمة اليسار اللبناني-2