|
-شيء من الوجل -أو حين يطفو -الداخل- على سطح الكتابة
سلمى براهمة
الحوار المتمدن-العدد: 2342 - 2008 / 7 / 14 - 08:39
المحور:
الادب والفن
تتميز الكتابة القصصية عند مصطفى لغتيري، من خلال مجموعته الثانية "شيء من الوجل"1 بانحيازها أو انتمائها لما يعرف بالكتابة من الداخل أو الكتابة عن الداخل. وقد عرفت الساحة القصصية المغربية هذا النوع من الكتابة ابتداء من السبعينات، وسجل حضوره أغلب من تعامل مع قصص المرحلة بحثا، نقدا، أو تصنيفا.
فنجد "أحمد بوزفور" في كتابه "الزرافة المشتعلة" يتحدث في مقالة بعنوان "الدخول إلى فريواطو" عن اكتساب القصة القصيرة المغربية ابتداء من السبعينات لما يسمى "بالنسق الداخلي" مقابل "النسق الخارجي" الذي عرفت به نصوص الخمسينات والستينات والتي تدور أحداثها في فلك الاستعمار، الصراع الوطني، ثم الصراع الاجتماعي.2
ويتحدث "نجيب العوفي" في دراسة قيمة تحمل عنوان "القصة القصيرة المغربية على خط التطور أم على حافة الأزمة ؟ " عن "أنه ابتداء من السبعينات تعمقت الخيبة وطنيا، وقوميا، وشربت كأسها المرة حتى الثمالة، أصبحت (الآنا) أنا المثقف المأزومة المحبطة، محورا للنص القصصي.3 ويحاول "العوفي" أن يرصد في دراسته تلك تحول القصة من الخارج إلى الداخل، من الواقع البراني إلى الواقع الجواني/ ومن الموضوع إلى الذات.
أكيد أن الخلاصات التي توصل إليها "نجيب العوفي" ستختلف عن الخلاصات التي قد نصل إليها، لأن السياقات مختلفة ، وأعني هنا كل السياقات السياسة، الاجتماعية، الثقافية والأدبية القصصية.
كما أن العوفي انطلق في دراسته تلك من المقاربة السوسيولوجية في شقها البنوي التكويني الذي يربط بين الجنس الأدبي والطبقة الاجتماعية. إضافة إلى تنامي الوعي بالكتابة القصصية وخصوصياتها وتطورها عن الدراسة السابقة التي تفصلنا عنها عشرون سنة على الأقل.
لكن يحق لنا أن نتساءل عن سر / أسباب تركيز الكتابة القصصية عند مصطفى لغتيري، على الداخل.
وقبل طرح أي أسئلة أخرى لابد من القبض على تجليات هذا الارتداد نحو الذات، من داخل التجربة القصصية للغتيري ، وتحديدا من خلال مجموعة الثانية "شيء من الوجل".
لعل أول تمظهر لهذا الخاصية أو السمة الغالبة، المميزة لنصوص هذه المجموعة يتم على مستويين، مكون اللغة (اللغة معجما، تركيبا ودلالة) ومكون الشخصية.
· اللغــــــة :
تزخر نصوص المجموعة بمفردات تلح على هذا الداخل الذي تتلقى من خلاله الخارج. داخل كبركة ماء صافية أو مرآة ينعكس عليها كل شيء. هكذا نتلمس الأشياء ونتعرف على الأحداث والمواقف (إن وجدت) من خلال الذات ودواخلها.
نتلقى كل كبيرة أو صغيرة في النص كما تنطبع في مخيلة / ذهن/ شعور / إحساس الشخصية سواء الساردة أو المسرود عنها.
وحينما تحضر الذات ودواخلها، تحضر الأحاسيس والمشاعر، وتغيب المواقف والأفكار، يحضر التأمل، التخيل، التذكر، والحلم. وذلك ما عكسه المعجم أولا، من خلال تواتر كبير لمفردات من قبيل : أعماق، دواخل، ذات، نفس، هواجس، أحس ...
ونعود إلى نصوص المجموعة لنتأكد من ذلك : "هاجس ما أسر لبه ص 8 : أحس في أعماقه، ص 9. أحس أن شيئا يتغير بداخلي ص 10. فكر أن في أعماقه ... ص 11 شتات ذاته ... ص 13 هجس بداخلي ص 18 " ضاعف الحزن من أعماقي ص 21 يتجذر في دواخلي ص 35 يتسرب إلى نفسي ص 39 دواخله ص 39 قال ذلك في أعماقه ص 40 تأتيث دواخله بالفرح الجديد ص 40 تردد صداها في دواخلهم ... ص 42 تساءلت في نفسي ص 49 تسكن هواجسي ص 50 انبلجت في أعماقه بسمة ص 59 انتزعت نفسها من هواجسها ص 61 تنساب إلى أعماقي ص 62 أخاطبه في أعماقي ص 62 ...
وبالتأمل في أرقام الصفحات فإنه يمكننا القول أن هذا المعجم قد أثت فضاء أغلب نصوص المجموعة (11 نص من ضمن 16 عدد نصوص المجموعة).
ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى عناوين المجموعة والوقوف عندها لتأملها خاصة (الحلم – توقع – شيء من الوجل – شرود – الفرح الجديد – توق – انتظار – ما يشبه الحلم – شرود – لحظات لا مثيل لها).
ولأن العناوين ، نصوص مصاحبة، أو عتبات تطؤها أقدامنا قبل ولوج عالم النص ، فإنها هنا تصر على إدخالنا من باب الذات الضيق، من تجارب خاصة ، حميمية، من " الدواخل" كما يردد السراد في المجموعة.
هكذا نلمس، ونحن نقرأ نصوص "شيء من الوجل" العناية باللغة، بل الاحتفاء بها (ولابد أن نسجل أن المجموعة تكاد تخلو من الدارجة المغربية).
لغة نصوص المجموعة لغة "متأنقة" إن جاز لي هذا التعبير. إنها ليست لغة الخارج، بتناقضاته، فوضاه، شعبه وضجيجه. بل هي لغة الداخل، هادئة وقلقة في نفس الوقت، لكنه قلق الداخل المختلف عن قلق الخارج بكل تأكيد.
إنها لغة المشاعر، والأحاسيس، لغة التأمل، وليست لغة الفعل لغة الثبات والسكون والسكينة أحيانا وليست لغة الحركة.
إنها باختصار شديد لغة تسبح على ضفاف الشعر. نقرأ في قصة "الحلم" انسلت من ثنايا الذاكرة ... وعنها تنكشف حجب سديمية ... أطرافه تنفض عنها الارتخاء، هاجس أسر لبه، وانقذف إلى النوم بعد يقظة خفيفة .. الحلم ألقى بضلاله على كل شيء ..." ص 8 و 9. وتقرأ في قصة "شيء عن الوجل": " ليس في الأفق غير غبش يتراقص ... السائق منهمك في قيادته، يتهادى مع التواءات الطريق، وكأنه مأخوذ بلعبه المنعرجات التي ما فتئت تتناسل كلما توغلنا في المسير، الصمت يرين بثقله على أجسامنا المنهكة ... الفراغ الذي ما فتئنا نتلفع بردائه" ص 21 ونقرأ في "المريد" "كلماته تنساب إلى أعماقي كجدول رقراق، عذب زلال، يستقر في بركة القلب ... يتعلق سمعي بألفاظه لينسج منها رداء، أتلحف به كي يقيني من الغواية والضلال .... " ص 62.
واضحة هي الصور الاستعارية واللغة الانزياحية، التي تؤكد أننا لسنا أمام لغة إخبارية/سردية، بل نحن أمام لغة شعرية. أو بمعنى أصح، لغة سردية، لا تنقل الخبر بل تصوره، وتوصله جميلا، عذبا، رقيقا وشفافا. لأنه خبر / سرد عن الذات، أو ما يسميه محمد برادة "الجغرافيا السرية" للذات.4
من هنا نجد عددا من الدوال تبتعد عن مدلولاتها صوب مدلولات عدة جديدة ويجد القارئ نفسه أمام عوالم كثيفة تنبني على رموز يجهد للقبض على دلالاتها، كرمز "الماء" في النصين الأولين : "الحلم" و"الإمبراطور". أو "الضوء" في نص "توق" أو "دخان" في نص "سحابة دخان" أو يجد القارئ نفسه أمام عوالم مغرقة في الرمزية كنص "سياف" تماما كما يجد نفسه أمام عوالم مكشوفة يسهل التقاط رسائلها : نص "المريد".
· الشخصية :
تغيب الحبكة (بمفهومها التقليدي) أحيانا، ويغيب الحدث لصالح الحضور القوي للشخصية، سواء في النصوص التي تكون فيها هذه الشخصية ساردا بضمير المتكلم أو النصوص التي يضطلع بالحكي عن الشخصية، سارد موضوعي.
وإذا ما تتبعنا مسار هذه الشخصيات ورصدنا وضعياتها فإننا سنكتشف الحالات التالية :
1- شخصيات في لحظة بحث عن / أو انشغال بمجهول، بمعنى، لا يحس بضرورة الوصول إليه إلا هي. تحاول الشخصية في قصة "حلم" استرجاع أو تذكر الحلم وفك رموزه أو فهم رسالته ص 10. ويحاول الأطفال الثلاثة في قصة "توق" اكتشاف مصدر الضوء وسره ص 41 ويجهد السارد دون جدوى لمعرفة سر أو سبب الدخان المتصاعد نحو السماء، وسط المدينة (ص 49). دخان لم يره مرافقه في السيارة (المنشغل بقراءة الجريدة وبما يقع في فلسطين) ولا مستخدم محطة البنزين.
2- شخصيات في لحظة تأمل أو رصد لما يقع حولها دون أن تنخرط فيه،فهي إما مقتعدة كرسيا في المقهى قصة "فارس" وقصة "توقع" أو على طريق سفر في حافلة،
" قصة شيء من الوجل". ورغم ما تتسم به هذه الأمكنة من انفتاح وعمومية إلا أن الشخصية تعيش وحدتها وعزلتها، ترهف السمع لهواجسها، تنقل الخارج (أو تتخيله أحيانا، "قصة فارس") كما ينطبع في ذهنها أو وجدانها، وكما تلتقطه حواسها. خارج لا تغيره وإن اكتشفت تناقضاته وزيف قيمه، قصة "المريد".
3- شخصيات / أطفال، يقتنصون لحظة فرح. فالطفل في قصة "فرح جديد" ينسل من بين أترابه الذين يقضي معهم العطلة الصيفية في البادية، (ص 38) ويبتعد ليعيش لحظة ذهول وفرح بعد لقاء "فارسة أحلامه" ص 40. هذا الذهول الفردي سيطول في قصة "لحظات لا مثيل لها" أمام اكتشاف جماعي "لجسد المرأة " الجسد السافر أمام أعيننا العطشى" ص 71.
وفي قصة انتظار يعيش الطفل حالة / حالات انتظار للأب الذي قد يأتي "في كل وقت" ص 46، ويصيبه "تيار الفرح" ص 48 بعد لقاء لطالما نسجت الأم خيوطه.
وإن كنا لم نستطع أن نتتبع كل شخصيات نصوص المجموعة، إلا أنه يمكننا الوصول، من الأمثلة السابقة إلى الخلاصات التالية :
- لاتبرح الشخصية "جدران الذات" بل "المستويات السفلى للذات، كما يقول بورزفور، مستويات الحلم واللا شعور"5
- تعيش الشخصية وحدتها وعزلتها حتى وسط الجماعة وفي أماكن تتسم بالانتفاح والعمومية.
- تعيش لحظة سكون ولافعل.
- لا تحمل اسما في الغالب أو ملامح خاصة.
- تقلق، وتنشغل بالبحث عن الغامض، والمجهول أو عن المعنى الذي لا تحس بوجوده إلا هي...
- علاقتها بالخارج لا تتعدى الاكتشاف الأول، الرصد أو المراقبة، أو التوقع والانتظار.
- تلتقط كل شيء من خلال المشاعر والأحاسيس، فينعكس الخارج على الداخل إما فرحا (وحدها الطفولة مرتبطة بالفرح) أو حزنا أو شرودا أو ذهولا أو قلقا ...
فهل تعكس هذه الشخصية القصصية، الذات المثقفة المتعالية ؟ أم الذات العاجزة المحبطة ؟ أم أن المسألة لا تتعدى اختيارا واعيا للمرواحة داخل هذه الذات واعتزال الواقع، وقضاياه، بعد أن تعقد وفقد وضوحه واختلطت مفاهيمه وتزيفت قيمه ....
هل هذا النوع من الكتابة له علاقة بالواقع الاقتصادي، الاجتماعي والتاريخي أم أن له علاقة بالواقع القصصي، وبخصوصية الكتابة الابداعية عموما والقصصية خصوصا. ولابد هنا أن نفتح قوسا لنشير إلى أن مصطفى لغتيري قد حاول ، مؤخرا ، مغادرة هذا الداخل صوب الخارج في روايته "رجال وكلاب "6.
وأخيرا يحق لنا أن نتساءل عن هذا " الدخول إلى الذات" الذي نلمسه في الكتابة القصصية الحالية، هل هو استمرار لنفس الكتابة منذ السبعينات أم أنه عودة جديدة وبملامح جديدة ولأسباب جديدة أيضا ؟
أسئلة يمكننا طرحها، لكن لا يمكننا الإجابة عنها من خلال مجموعة قصصية واحدة أو حتى مجموعتين أو ثلاثة بل من خلال مشروع قرائي متكامل....
الهوامش :
1- "شي ء من الوجل." ط.2004 مطبعة القرويين.
2 - الزرافة المشتعلة. ط 2000 شركة التوزيع والنشر المدارس ص 28.
3 - دراسات في القصة العربية "وقائع ندوة مكناس" 1986 مؤسسة الأبحاث العربية ص72
4 - نقلا عن العوفي، نفس المصدر ص 80.
5- المرجع السابق ص 29.
6- رجال وكلاب. ط 2007 عن إفريقيا الشرق.
#سلمى_براهمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|