من المعروف أنه يتحتم قيام أي معادلة بشرط وجود طرفين اثنين، شقين . حتى وإن كان الشق الأول متكوناً من العديد من العناصر، المختلفة القيم والإشارات والشق الثاني لا أكثر ولا أقل من صفر. ونستطيع لدراسة الاستبداد، رياضياً، نحن الشعراء ! أن نفترض عدداً من المعادلات البسيطة وشبه البسيطة:
1- / الاستبداد = الضحية / أي بصورة إنشائية: وجود الاستبداد = وجود الضحية. وإذا أردنا نقل شقي المعادلة إلى طرف واحد، تتحول ذات المعادلة إلى شكل آخر، فيصير لدينا:
2- /الاستبداد – الضحية = صفر / أي أن حالة الاستبداد، إن نقصت حالة الضحية تصير صفراً، أي عدماً، أي لا تنوجد .
3- / الاستبداد + الضحية = صفر/ وهنا ندفع بمعادلتنا إلى مستوى أقل بساطة، فالضحية هنا تأخذ قيمة الاستبداد سالباً، أي / الضحية = - الاستبداد / فتصبح المعادلة / الاستبداد + ( - الاستبداد ) = صفر . ولا أظن أحداً يماري في هذا.
4- / الاستبداد × الضحية = صفر / أي: جيوش مهمتها الأولى حماية الأنظمة والقصر الجمهوري تتموقع عند مداخل العواصم + فروع أمن ذات أسماء عجيبة مثل فرع أمن كالاكوتا وأرقام وصل آخر من سمعت به! إلى رقم 1000!! ولا أظنه أعلى رقم + خوف + تحريات واستدعاءات واعتقالات ( أخبرني أحد جيراني أنهم سألوه عن شخص يحمل ذات اسمي، شاعر وكاتب. فأجابهم: منذر مصري الذي تسألون عنه بالتأكيد شخص آخر، أما جاري منذر مصري هذا فلا علاقة له لا بالشعر ولا بالأدب فكيف بالسياسة! الرجل مشجع زملكاوي مية بالمية يلحق بفريق كرة قدم الزمالك من الاسكندرية إلى طنطا + نظام جبار في الداخل، لا يعطي انتباهاً لأي عرض مصالحة مع شعبه، وملطشة في الخارج، يُهدد ويعتدى عليه وتُفرض بحقه عقوبات رادعة ولا يسوؤه أن يقدم كل أنواع التنازلات بشرط وحيد هو أن يكون حدودها المحافظة على بقائه + محاكم استثنائية يتم تعيين قضاة لها ليسوا حقوقيين ولا علاقة لهم بالجسم القضائي + سجون ذات تاريخ نضالي عريق+ منع مغادرة حتى للدول الشقيقة + نفي قهري لسنين وعقود + عدم إعطاء جوازات سفر للعودة حتى لأبناء المنفيين القصّر ... /
5- / الضحية تقسيم الاستبداد = صفر / أي : نهب على مستوى الوطن + أرانب ( بالتعبير المصري ) + أبناء مسؤولين كبروا وشبّوا، فتعلّموا وتهذّبوا، وتحولوا من تشفيط السيارات إلى تشفيط أموال الناس + ودائع في البنوك السويسرية ( تبقى هي الأشد أماناً ) + الرجل غير المناسب في المكان المناسب والرجل المناسب في المكان غير المناسب كنقل مقر إقامة وعمل دكتور في الاقتصاد إلى المكان الذي لا يحتاج فيه المرء لأي تدبير اقتصادي + رشاوى صغيرة لتمشاية الحال وكبيرة لتمشاية المال + فساد + فقر غير مدقع والحمد لله + بطالة + هجرة ( من استطاع إليها سبيلاً ) + ... /
6- / الاستبداد أُسّ الضحية = لا نهاية / وفي هذا تفسير للصعوبة التي تواجه الجميع عند محاولة التنبؤ بنهاية ما، طبيعية أم غير طبيعية، للنظام الاستبدادي. هو الذي يعمل لأن يبقى حاكماً أبدياً بلا نهاية. مبدداً ومبيداً بكل الوسائط أي بديل أو فرصة ولادة أي بديل محتمل له، البديل الذي على كل نظام وطني تامين وجوده، لأنه يعول على وجود البدائل تداول السلطة وانتقال البلد من طور على طور بشكل أمين وسلمي + حزب حاكم يقود الدولة والشعب بمادة في الدستور يتهم بالاعتداء على الدستور كل من يطالب بتعديلها أو يطالب من يحق له تعديلها بتعديلها، حتى وإن كان من أعضاء مجلس الأمة + أحزاب موالية تابعة تقع مقراتها في بناء حكومي واحد، تأخذ لوحات سياراتها وكوبونات البنزين ومازوت التدفئة من الحزب الحاكم + أحزاب معارضة مخونة ومحظورة، يدخل أعضاؤها وأصدقاء أعضائها إلى السجون لمجرد دفع اشتراك أو قراءة نشرة أو شرب كوب شاي في جلسة + اتحادات ونقابات طورت وحدثت عملها النضالي إلى رفع يافطات شجب من يطلب منه أن تشجب وتأيييييييييييييد من يطلب منه أن يؤيد وترديد الشعارات المطلبية بأنه لا يوجد شيء يحق لأحد أن يطالب به، فأبو العمال وأبو الفلاحين وأبو كل أبناء الشهداء والمعلم والأول والأخير، والمناضل الأول باني تونس الحديثة الحبيب بورقيبة قد أعطى كل شيء + قضاء عقائدي، للسيد قانون وللسيدة عدالة! لحيتان طويلتان تتدليان كستارتين تصلان إلى الأرض + نزعات قومية وطائفية وفئوية في وطن يجعل من كل اختلاف فيه دعوة للتفرقة بدل أن يصهرها ( لا أدري إن كانت الكلمة المناسبة )جميعها في بوتقة المواطنية والمستقبل + سبع أوثمان وحدات وطنية ..
المعادلات الست في كافة أشكالها ومختلف شروحاتها، رغم ما يبدو في ظاهرها من تضادات وتناقضات، ليست سوى معادلة واحدة، واضحة ربما لحد الابتذال. ولا حاجة لل 200 ألى 500 سوريالي الذين يتابعون مثل هذه المقالات أن يقوم أحدُ ما بتفسيرها لهم، كما فعلت لتوي. إذ أنها جميعها لا أكثر من لقطات من زوايا مختلفة لصورة حدث واجتمع فيها الاستبداد والضحية معاً. غير أنها جميعها أيضاً، تتشارك في مفارقة أساسية، مشكلة أساسية، وهي أن حالة الضحية في أي منها، لا يمكن تشخيصها إلا بمجموعة من الناس، كتلة كبيرة من البشر، كالشعب أو البلد مثلاً، بينما حالة الاستبداد، يستبد بتشخيصها فرد واحد، واحد أحد. حتى وإن تشارك بالاستبداد معه، أو أعانوه على استبداده، أبناؤه وأخوته وأبناء عمه / هنا يحلو للمرء أن يتذكر التعبير الطريف الذي كان تشاوشيسكو يفسر به حيازة عائلته على كل السلطات والمناصب في رومانيا الشيوعية، وهو : ( إنه قدر تشاوشيسكو وعائلته أن يضعوا أنفسهم جميعاً في خدمة رومانيا والشعب الروماني ) هم الذين كانوا على وشك أن ينجحوا في تحويل الشعب الروماني إلى خدم / أو كانت أدوات استبداده، حزباً، أو طائفة، أو عشيرة... ذلك أن حالة الاستبداد بذاتها تحتاج، بالضرورة، لأن تمثل بفرد، بالمستبد الفرد. وكلُّ تلك، الجماعات، المؤسسات، الهيئات، التي تعمل مع المستبد، لا يمكن لها أن توجد، ثم أن تستمر في عملها الاستبدادي، إن لم يكن لها، إن لم تعين، إن لم تدفع كل ما يجري، من كل الجهات، في مجرى خلق المستبد. وهذا، ما يمكن أن نطلق عليه، أن نسميه: نظام الاستبداد. وهنا تظهر إحدى الجدليات الغامضة لهذا النظام، الجدلية العليا، جدلية الحكم لاستبدادي. وهي أنه بقدر ما يحتاج المستبد لهذه الجماعات والهيئات والمؤسسات، لأنه من المستحيل أن يقوم بكل مهام استبداده لوحده، بقدر ما تكون، بذات الوقت، بأِشد الحاجة إليه. وأنه في حال اضطرار هذه الجماعات والهيئات والمؤسسات إلى إزاحة مستبدها، الأمر الصعب والنادر الحدوث، نتيجة وقوعها، مثلاً، بخطر مؤكد بسبب استمرار وجوده، أو حين ينحرف استبداده ويمسها، إلى الدرجة التي يهدد بها وجودها، أقول في حال اضطرارها وقدرتها أن تقوم بهذه الإزاحة، أو، إذا أردنا أن نأخذ بالحسبان كافة الاحتمالات، بسبب غياب المستبد بصورة مفاجئة، أو حتى بسبب غيابه بصورة طبيعية، فإنها سرعان ما تعين بديلاً عنه مستبداً جديداً. فالفراغ الذي يتركه المستبد يجب سدُّه، لا بشهور أو أسابيع أو أيام، بل مباشرة، بساعات ودقائق إن أمكن. أمر كهذا، في نظام يعمل على تأجيل كل شيء حتى إعادة جزء مستحل من أرضه، لا يحتمل أي تأجيل، لأن كل شيء في النظام الاستبدادي يتوقف على وجود المستبد. وإن لم يكن هذا البديل المُنصَّب، المستبد الجديد، مهيئاً مسبقاً لأن يكون مستبداً كاملاً، فهي تعمل، بالوتيرة التي تلائمها، وغالباً ما تكون أسرع ما يمكن، لتصل به إلى حالة الاستبداد المطلوبة، ذلك لأنه لا ينفع معها غير المستبد القوي القادر الكامل أو القريب جداً من الكمال.
يلحق بغموض الجدلية العليا للحكم الاستبدادي، أي علاقة المستبد مع دائرته من المستبدين، رغم هذا التبسيط، شبه الميكانيكي، الذي حاولت به توصيفها، غموضٌ آخر في الصورة ذاتها. وذلك عند محاولتنا تحديد مركز الاستبداد، أين يقع المحرق الحقيقي للاستبداد، أو على طريقة الأسئلة التي يستخدمها في التحليل والتركيب الدكتور طيب تيزيني، يأتي سؤال: هل الاستبداد ينبع، ينبلج، من مركز الدائرة، ثم يشع على أطرافها، في طريقه من محيطه القريب إلى محيطه البعيد ثم إلى العالم؟ أم أن الدائرة كلها، كقرص شمس لاهب، تشتعل استبداداً ؟ وأظن أنه يمكنني هنا أن أورد ما قرأته مرة في أحد كتب اسحق دويتشر، أنه عندما مات ستالين، بكت شعوب الاتحاد السوفيتي دموعاً سخية لفقدانها ستالين ( أبو الشعوب الرحيم )، الذي كانوا يلجئون إليه ويستنجدون به من ظلم بيريا ( وزير الداخلية ). إلا أن بيريا، بعد موت ستالين مباشرة، أطلق مئات ألوف المواطنين من السجون ومعسكرات الاعتقال والعمل الإجباري، ومنهم الأطباء العشرة المساكين الذين اعتقلهم ستالين خلال مرضه الأخير، بحجة ضلوعهم بمؤامرة عليه، لمجرد نصحهم إياه، حفاظأً على صحته، بالراحة وعدم إرهاق نفسه بأمور الحكم. إلا أنه بمزيد من الحفر ، النبش ، في غموض صورة الحكم الاستبدادي، يطلع لنا سؤال عويص آخر، وهو السؤال الشهير الذي يعيي أغلب المهتمين، ويتفنن في الإجابة عليه القليل منهم: من يصدر القرار في الحكم الاستبدادي ؟ من له الكلمة الفصل ؟ أو كيف يصار إلى اتخاذ هذا القرار وليس ذاك ؟ وهنا تبدأ أعجب التخيلات والتهيؤات الذهنية بالشيوع بين الجميع، هذه التخيلات التي تنوس بين لتصور الشائع، أن المستبد لا يسمع من أحد شيئاً، لا يقبل نصيحة ولا تهمه استشارة، أو ربما يستمع لهذا وذاك من المقربين والخلَّص، ولكنه لا يعمل إلا ما في رأسه، إلى تصور آخر لا يقل عن سابقه شيوعاً، أكثر من يتناقله هم أولئك الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة في تفسير التاريخ والعالم وكل شيء، وهو أنه هناك لجنة سرية مؤلفة من أربعة أشخاص أو سبعة أو اثني عشر شخصاً، لا أحد يعرفهم، وإن كان هناك من يورد اسم هذا وذاك من باب الظن، ولا يظهر منهم للعيان، عند الاضطرار والملمات الكبرى، غير المستبد ذاته، رأس جبل الجليد الطافي فوقهم، والذي يعتمر قبعة، لا أحد يدري ماذا يخبئ تحتها. أو ربما يقال إن المستبد يستمع ويستجيب فقط لأمه، أو إنه عبد مطيع لزوجته، ويعطى مثلاً على ذلك المرحوم تشاوشيسكو، بأنه كان متفرغاً للسياسة الخارجية، بينما زوجته قائمة على رأس عملها، ليل نهار، تدير أمور المجتمع. وقبله كان خوان بيرون الديكتاتور الأرجنتيني زوج إيفيتا معبودة الشعب، التي أعطت لزوجها سر النجاح ، وذلك برمي سترته على كتفه والاكتفاء بالقميص الأبيض المفتوح الصدر والمرفوع الكمِّين أثناء مخاطبته الحشود، ولما ماتت إيفيتا تزوج بيرون من امرأة أخرى وسلمها منصب رئاسة مجلس وزراء الأرجنتين، وهو ما لم تكن تحلم به إيفيتا الأسطورة نفسها.
كل هذا عن المستبد وهو فرد. فكيف إذن عن الضحية. التي، كما ذكرنا، للأسف، لا بدَّ وأن تكون جماعة. رغم أنه يمكننا أن نوصم بالمستبد من يستبد حتى بشخصٍ واحد. كما يحصل للعشاق مثلاً، حين يستبد العاشق بالمعشوق، أو العكس، أو عندما يستبد كلٌّ منهما بالآخر، وهذا لَعُمري! أجمل وأروع استبداد. ولكن مستبدنا، المستبد الذي نتكلم عنه، الطاغية في قصص كافكانا زكريا تامر أو قصائد نزيه أبو عفش الذي لا يُشبَّه لأحد، ويحتل مكانته الرفيعة هذه عن جدارة واستحقاق، هو من تكون ضحيته كتلة كبيرة من البشر، كبيرة لدرجة يمكن بها أن تكون الشعب بكامله ( أعود وأردد هذا ) أو أغلبيته. لأنه لو كان الأمر معكوساً، أو نسبياً، كأن تقتصر الضحية على عدد معين من الناس، بينما البقية، النسبة الأكبر من الشعب، لم يقع عليها إي استبداد، وتعيش بنعيم المستبد، لكان الأمر تطبيقاً لتلك الدعوة التي ما زال البعض يؤمن بها، وهي أنه من الجيد، بل من المطلوب، أن يُضحَّى بالبعض من أجل الكلّ. وهذا يقودنا إلى، ما جعلنا ندعي بأننا من أصحاب النظريات، وأطلقنا عليه في العنوان: نظرية الضحية. النظرية التي، لا أقل ولا أكثر انتشاراً وشيوعاً، من معادلة الاستبداد ذاتها. وهي، كما هو واضح، تأتي من أحد طرفي كل الأشكال المفترضة لتلك المعادلة. أو بالتحديد العنصر الثاني اللازم دائماً لها. إلا أن الضحية، هي من يلعب، هذه المرة، دور البطولة الأولى. فإذا قمنا بتثبيت فرضية المستبد الفرد، وحرَّكنا عنصر الضحية ضمن مختلف احتمالاتها وهيئاتها، فإننا سنختلف كثيراً في تحديد هذه الاحتمالات ورسم هذه الهيئات، إي بما يتعلق بماهية الضحية ونوع إشاراتها. ويعود هذا الاختلاف لطبيعة فهم كل منا لعلاقة الكل بالجزء، الشعب بالحاكم. فبعضنا يؤمن ب ( كما أنتم يولى عليكم ) ويستطيع أن يقدم من الحجج والبراهين ما يدعم فكرته ويؤكدها، حتى أنه يدفع بتفكيره إلى أن أي مجتمع مهما كانت تركيبته، هو المسؤول عن حاله، والحاكم ليس إلا نتاج هذه الحال، وصورة عنه.ومنا من يؤمن بأن الحاكم، قدر محتوم لا مهرب منه ولا انفكاك عنه ، فإما أن يكون صالحاً وعادلاً، وإما أن يكون طاغية ومستبداً. والأفضل هو من يجمع الاستبداد والعدل معاً، أي ما يسمى المستبد العادل، والذي يجب ضمه كرابع المستحيلات، حسب رأيي، الغول والعنقاء والخل الوفي! ورغم أن هذا ينطبق أكثر ما ينطبق على نظام الحكم الوراثي، والملكي المطلق، فإن لدى أنصار هذا الرأي ذات الميل لتعميمه على كافة أنواع الأنظمة والحكام. ومنّا من يرى أن الحاكم، وإن كان في البداية نتاج شعبه، وحامل صورته، فإنه ما أن يصير حاكماً، حتى ينفصم عن المجتمع، ويتحول إلى قدر أصم، قاطعاً عراه مع حامله الاجتماعي والسياسي إلا بما يخدم تسلطه وبقاءه. أي يصير عمله الأساس التحكم بأوصال المجتمع بتحريكها أو تثبيتها حسب ما يراه هو ويفكر به هو، لا ما يراه ويفكر فيه المجتمع الكثيرة عيونه وعقوله، وحسب مصلحته التي تبتلع مصالح الناس حتى تصير, بعرفه، مصالح الناس داخل مصلحته، في بطنها. ويؤدي، مرة أخرى، هذا الخلاف في الفهم إلى الخلاف في نظرية الضحية. حيث يرى أصحاب ( كما أنتم يولّى عليكم ) بأنه لا يمكن بهذه البساطة اعتبار الشعب، المجتمع..... ضحية للمستبد، لأنه هو من خلقه وهو من قام بتربيته، وهو من قبل بتسنمه الحكم، وهو من يبقيه حاكماً مطلقاً، يمارس عليه فساده واستبداده. وذلك لأنه قادر، بعرفهم، لو أراد، أن يقوم بعكس ذلك. فلا يقبل بأن يرشي ولا أن يرتشي، ولا يغض عن حقٍ من حقوقه، ولا يرضى بظلم أو مذلة، ويجاهر برأيه، ويقول لا عندما يريد أن يقول لا، ونعم عندما يريد أن يقول نعم، عندما يخير !! بين قول لا ونعم.
أما أصحاب نظرية الضحية التي أشرنا لها، من يؤمنون بأن النظام الاستبدادي، المشخص بالمستبد الفرد، ينتج ضحايا جماعية. فهم يتدرجون في تعدادهم لضحايا المستبد، صعوداً من الشعب كل الشعب، الشريحة الأعرض للضحية، حتى يصلوا إلى ما يمكن اعتباره حدوداً، يرسمها خط رفيع، يفصل المستبَدَّ بهم عن المستبِد وأدواته من مؤسسات وهيئات وجماعات، التي يمكن اعتبارها بحكم المستبدة. وهنا يجرُّ أصحاب هذه النظرية خطوط حدودهم لتشمل: طائفة المستبد، أو عشيرته ( ما دمنا نحن العرب كما تبين في العراق لم نصل لحالة المجتمع بعد، وما زلنا عبارة عن خليط غير متجانس، بالصفات أم بالأهداف، من طوائف وعشائر وقوميات ) وهم يرون أن المستبد لم يقدم لهذه الطائفة أو العشيرة التي ينتمي إليها، غير فرصة أن يكون أبناؤها خداماً وجنود ومخبرين عنده، وحراساً مخلصين على وجوده ومصالحه، وذلك بما يوحي لها بارتباط مصيرها بمصيره، وبما يزرع في داخلها من خوف من الآخرين وعداء لهم، وما يسخو به على دائرة منها، قد تضيق وقد وتتسع، من مكاسب مادية ومعنوية، وبما يدفعها للقيام به من أعمال وتصرفات، تعمق الهوة بينها وبين قطاعات وفئات الشعب. وإذا تجاوزنا حدود الطائفة أو العشيرة، فإن نظرية الضحية قد تشمل المؤسسات الكبرى الهيكلية التي يقوم عليها نظام المستبد، كالجيش مثلاً، وهنا يتنوع مفهوم الضحية ليصيب ماهية المؤسسة ووظيفتها، بقدر ما يصيب أفرادها، أو الكتلة الكبيرة من أفرادها. والبعض قد يجد حتى في أجهزة المخابرات ضحية أخرى للمستبد، بكونها أدوات للاستبداد لا أكثر، يتصرف بها كما تقتضي مصالحه دون أي اعتبار آخر، ويكلفها بالقيام بأبغض وأكره المهام، وفي المقابل يحرص أفرادها على حمل ربطة خبز من أفران الدولة تحت آباطهم وهم منصرفين عند نهاية الدوام إلى بيوتهم بين أقارب وجيران يبادلونهم التحيات والسؤال عن العائلة والأولاد، وهم يكنون الخشية منهم والعداء وربما الكراهية لهم، ما عدا من يثبت، عند الأزمات، صدق جيرته وقرابته. وربما أهم وأشد النقاط إشكالية في هذه النظرية، هي اعتبار الحزب الحاكم، أو على الأصح، حزب الحاكم، إحدى الضحايا الكبرى للمستبد، علماً بأن المستبد كان دائماً حريصاً على حزبه وابناً باراً له بالدم والخدمة ، فمن يستطيع أن يقول أن ستالين و ماوتسي تونغ لم يكونا شيوعيين.. أو أن صدام حسين ليس بعثياً ؟ ويبرر التضحويون تصنيفهم لكل هذه المؤسسات كضحايا للاستبداد، بكون المستفيدين من الاستبداد فيها ليسوا أكثر من نسبة ضئيلة، لا تزيد عن 10 % على أكبر تقدير. كما أنه لا يوجد ما يمنع المستبد، كما ألمحنا سابقاً، أن يمارس حتى على هذه ال 10% استبداده الخاص بها، وهذا يصل بنا إلى تصور تدرج تنازلي للاستبداد، مقابل التصور التصاعدي للضحية، وفي التدرج التنازلي للاستبداد، يهبط الاستبداد درجة درجة من الأعلى للأسفل، فكل درجة، تستبد بالدرجة التي تحتها. وفي هذا التصور نرى أن الطبقة الدنيا ، القاعدة ، يستبد بها،ولا تستبد بأحد، والطبقة العليا، رأس الهرم، تستبد ولا يستبد بها.وقد رأينا، بالأبيض والأسود، كيف قام صدام حسين بأحد اجتماعات القيادات الحزبية، بتسمية بعض من رفاق الطريق في عداد الخونة للثورة والحزب. كما قرأنا كيف قام ستالين بتصفية جميع أعضاء مجلس السوفييت الذين شاركوا بالثورة، حتى الثانويين منهم. وذلك بعد أن صفى ( جسدياً )بتهمة الخيانة والعمالة للخارج !! أعضاء المكتب السياسي للحزب، البلاشفة الكبار رفاق لينين، زينوفيف وكامنييف وبوخارين ... وتروتسكي وهو في منفاه بالمكسيك ، واحداً واحداً. وبعكس هذا المنوال، يمكننا أن نتصور في التدرج التصاعدي للضحية، أن الضحية تبدأ من القاعدة وتصعد درجةً درجةً من الأسفل إلى الأعلى، فكل درجة من درجات المجتمع، ضحية للدرجة أو للدرجات التي فوقها، وقد يندفع أصحاب نظرية الضحية ليرفعوا درجات الضحية حتى يصلوا إلى طائفة المستبد وعشيرته، لا بل حتى يصلوا إلى عائلته، الزوجة المسكينة والأبناء، الذين يمكن أن يدفعوا حياتهم ثمناً لاستبداد آبائهم، كما حصل لعدي وقصي ابني صدام حسين. والحقيقة أنه مهما برر التضحويون نظريتهم، آخذين بالاعتبار الظروف والعوامل الاجتماعية والنفسية والسياسية التي تحيط بالظاهرة، وبكونها تساعد على قبول فكرة المصالحة وتصب في محاولة تجنيب المجتمع المرور في مرحلة تصفية الحسابات والأعمال الانتقامية، التي أحسب أن على الجميع العمل على عدم الانزلاق في هاويتها. فإنها في النهاية، لا تجد مفراً من أن تنحو منحى كاريكاتورياً مضحكاً. لأنه عملاً بهذا التدرج، يمكن أن يصل مفهوم الضحية إلى اعتبار المستبد ذاته، الذي هو رأس الهرم الاستبدادي، مستبد المستبدين، الضحية الأولى لاستبداده. كأن يقال إن الإنسان فيه ضحية المستبد الذي تلبسه، أو إنه، من كان يكن، ضحية النظام الاستبدادي الذي لا مجال لحكم بلد معين بسواه ! فقرص الشمس الملتهب ذاك، الذي شبهنا به دائرة الاستبداد، هو من يستبد بصاحبه ويقضي عليه شيئاً فشياً باستنفاذه كل مادته، أو ربما بانفجار شديد يحوله إلى شظايا وغبار. كما حصل مع كاليغولا وموسوليني وهتلر وعبد الكريم قاسم وأنور السادات وتشاوشيسكو وصدام حسين ( بابا نويل العراق ) على تنوع نهاياتهم الوخيمة. ولكن، في المقابل، لم تكن هكذا هي نهايات ستالين وماوتسي تونغ وكيم جونغ إيل وغيرهم من أباء الشعوب وبابا نويلات البلاد السعيدة.