بداية لا بد من القول أن مفهوم " الديمقراطية " مثله مثل أي مفهوم أخر وثيق الصلة بموضوعه، وعندما يتغير الموضوع تتغير الدلالة الاصطلاحية للمفهوم. وبالنسبة للديمقراطية تحديدا كان ثمة فارق كبير دائما بين الصورة -الحلم لها كمفهوم وبين شكل وجودها الواقعي ولا يزال هذا الفارق موجودا حتى الآن في عصر الرأسمالية العالمية. ربما كان هذا من طبيعة المغامرة الذهنية للإنسان التي تجعله ينسج أحلامه بصورة أكثر كمالا لكن ما إن تستفيق هذه الأحلام في واقع معين حتى تكتشف أن أجزاء منها قد فُقدت. لذلك لا بد من التمييز في موضوع الديمقراطية بين مبادئ الديمقراطية، وبين الشكل الذي تظهر به هذه المبادئ في واقع محدد.
على مستوى المبادئ فإننا نرى أن الديمقراطية تتحدد إيجابيا على شكل إعلان مبادئ، يتضمن جميع الحقوق الطبيعية للإنسان من حقوق مدنية وسياسية، واقتصادية واجتماعية، وثقافية، وغيرها من حقوق اشتملت عليها شرعة حقوق الإنسان العالمية التي صادقت عليها أغلب الدول العربية، وقد وجدنا أن الحقوق المدنية والسياسية منها على وجه الخصوص قابلة للتطبيق، ويكاد لا يخلو منها في الوقت الراهن أي دستور من الدساتير العربية عداك عن تبنيها من مختلف القوى الاجتماعية والسياسية المعارضة.
لكن إذا نظرنا إلى هذه المبادئ في إطار الشروط التاريخية القائمة في سورية فإن الديمقراطية تكاد تتحدد بها سلبا. بمعنى أن الشروط التاريخية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا تزال غير ناضجة لاحتواء الديمقراطية بصورة إيجابية. فالفارق لا يزال كبيرا بين الحديث عن الديمقراطية، أو تبنيها اللفظي، أو الورقي، وبين ما هو قائم منها فعلا. والقياس هنا ليس ما هو موجود في أوربا، بل ما هو معلن ومتبنى في البرامج والمشاريع السياسية، سواء للأنظمة الحاكمة، أم للقوى السياسية المعارضة.
فعلى الرغم من أن سورية قد قطعت أشواطا على طريق إنجاز التحول الصناعي والتحديث، وعلى الرغم أيضا من انتشار التعليم، وانخراط المرأة في العمل العام، وتشكل الهياكل الطبقية، والأحزاب السياسية، والمنظمات النقابية وغيرها، مما يشكل مقدمات أساسية للمشاركة السياسية للمواطنين، إلا أن الديمقراطية لا تزال تتعثر. إن البحث المعمق عن أسباب ذلك قادنا إلى التشديد على المسائل الثلاث الآتية:
المسالة الأولى ذات طابع تاريخي، بمعنى أن النظر في تاريخنا القديم والحديث يبين لنا أنه تاريخ الدولة المركزية الشمولية، فليس في تاريخنا تقاليد ديمقراطية يعتد بها.
المسألة الثانية تتعلق بطبيعة البنية المجتمعية ذاتها. فالنظر إلى الديمقراطية من زاوية أشكال الوجود الاجتماعي القائمة يبين أنها لاتزال تتحدد بها سلبا. فالمصالح الاجتماعية والطبقية والفئوية وحتى الفردية منها تشترطها المحددات الطائفية أو المذهبية أو القبلية أو العشائرية أو الجهوية أو الإثنية، أي كل ما ينتمي إلى العلاقات الشخصانية ويعززها. بكلام آخر إن نمو العلاقات الرأسمالية لم يصهر البنية المجتمعية على قاعدة وطنية بسبب الطابع الخاص للرأسمالية الطرفية وشروط تصير الطبقات الاجتماعية والأحزاب السياسية والنخب الاجتماعية والحضور الكثيف للتراث في الوعي الاجتماعي العام. لذلك كله لا يزال مجتمعنا يفتقر إلى الندية في العلاقات القائمة بين مختلف أشكال الوجود الاجتماعي، ولا تشترط بعضها بعضا بصورة إيجابية، بل سلبيا، أي أن كل منها يحاول نفي الآخر لكي يؤكد وجوده ويدافع عن مصالحه. إن منطق المساومات التاريخية والحلول الوسط لا يزال غريبا عن مجتمعنا إلى حد بعيد.
المسألة الثالثة وتتعلق بدور العسكر في السياسة. من حيث المبدأ يبرز الدور السياسي للعسكر في ظروف التخلف وهو ليس سلبيا على طول الخط، غير أنه في منطقتنا العربية يكاد يكون حاسما في جميع المجالات وخصوصا في المجال السياسي، ويغلب عليه الطابع السلبي بصورة عامة.
لقد تهيأت فرصة تاريخية وربما نادرة لكي تلعب القوى العسكرية، وغير العسكرية، دورا إيجابيا في نهضة سورية وتقدمها، تمثلت في التحدي الصهيوني المباشر لها في عقر دارها وأمام أنظارها. لكن بدلا من العمل على امتلاك عناصر القوة بالمعنى العام والشامل؛ أي الحضاري، وبالأخص منها إعادة النظر في البناء الاجتماعي، والحياة السياسية، وطراز الدولة القائمة، بما يخلق الأطر المناسبة للتقدم الصناعي والتنمية الشاملة، فإنها عملت على تدعيم أركان النظام الحاكم، و تعظيم الدور الأمني للدولة، مما خلق في المحصلة مناخاً ملائما لانتشار الفساد وتعميمه، وغياب المحاسبة، وتراجع الاهتمام بالقضايا الوطنية والقومية.
ومما زاد المسألة تعقيدا وإشكالية هو أن المصالح الإمبريالية في منطقتنا لم تكن تتعارض مع البنى الاجتماعية القائمة ولا مع طراز الحياة السياسية السائدة، وليس لها حساسية خاصة تجاه العسكر،ودورهم السياسي المباشر .
إن تجاوز هذا الواقع الموضوعي المعقد، لا يكون إلا من خلال الديمقراطية، وهذا بدوره يتطلب وعيا استثنائيا من قبل النخب السياسية الوطنية والحركات الجماهيرية، وتفعيل التحولات الجارية على طريق الديمقراطية، بحيث تصبح عضوية لا رجعة عنها. لكن ذلك سوف يطرح بإلحاح تساؤلات عدة حول نوع الديمقراطية المطلوبة والطريق إلى تحقيقها وبأية وسائل.
بداية لا بد من التشديد على أن الرهان على تأمين الشروط الموضوعية للديمقراطية، من حيث إنجاز الانقلاب الصناعي بالمعنى التاريخي، وتحقيق التنمية الشاملة..الخ هو رهان بلا جدوى في ظروف العولمة، لأن المدخل إلى ذلك قد اختلف باختلاف الشروط، والظروف التاريخية.
في البلدان الأوربية تكفلت حركة رأس المال بصهر البنية الاجتماعية وإعادة تشكيلها على أسس وطنية جديدة، أي أن المصالح الاقتصادية، وما نسجته من علاقات وروابط في المجتمع لعبت الدور الحاسم في إزاحة البنى الاجتماعية الاقتصادية الإقطاعية، وكل ما ينتمي إلى ما قبل الرأسمالية، من حقل الممارسات السياسية، أو أضعفت دورها في الحياة السياسية العامة.
لكن في ظروف التخلف عموما وفي ظروف سورية على وجه الخصوص فإن الرهان الأكبر هو على دور العامل السياسي في إنجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية، وخلق الظروف التي تجعل الديمقراطية تتحدد إيجابيا. بكلام آخر إن الديمقراطية هي المدخل الوحيد السليم لإعادة بناء المجتمع على أساس من المصالح الموضوعية، التي تتلاءم مع منطق التاريخ في هذه المرحلة، بدلا من العلاقات والروابط الشخصانية. وكلما تعززت الديمقراطية في المجتمع كلما خلقت إمكانيات أكبر لاستنهاض مختلف القوى الاجتماعية لتلعب دورها في التنمية الشاملة وإنجاز مهام التحرير وتحقيق الوحدة القومية.
لكن مَنْ سوف يُقنع مَنْ بضرورة هذا المدخل الديمقراطي لإنجاز هذه المهام الوطنية والقومية الكبيرة ؟ وعلى افتراض أن هنالك قوى اجتماعية وسياسية ترفع راية التغيير الديمقراطي، وهي قوى موجودة فعلا، سواء في داخل حزب النظام وجبهته، أو في المعارضة، فإن من أولى واجباتها أن تحاول إقناع القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى، وخصوصا تلك التي في موقع الحكم أن مصالحها المشروعة لن تتهدد في ظروف الديمقراطية.
وثانيا؛ عليها أن تتبع نهجا تكتيكيا حوارياً متدرجا، في خطابها السياسي الموجه إلى الأنظمة الحاكمة يركز أكثر ما يركز على ضرورة احترام حقوق الإنسان، والحريات العامة، وعلى توسيع الهوامش الديمقراطية، وأن تتخلى عن الخطاب التخويني التكفيري، الذي لا طائل منه، ولسان حالها يردد " لعلى قريشاً تدرك أن مصالحها هي في الإسلام ". وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من المناخ الدولي ومن تجارب الشعوب الأخرى التي سبقتنا إلى الديمقراطية، مع أنها قد تكون أكثر تخلفا منا، وبصورة خاصة تجارب الدول الإسلامية في جنوب شرق أسيا.
وثالثا؛ أن تركز على تعميم وتطوير الحياة الديمقراطية في داخل الأحزاب السياسية والنقابات، وفي غيرها من المنظمات المدنية، أو الأهلية القائمة. فلا يمكن مطالبة المختلف بالديمقراطية، إذا كنت أنت نفسك لا تحترمها، ولا تطبقها في حياتك الحزبية، أو المدنية.
ورابعاً؛ التشديد على ضرورة وأهمية الحفاظ على السلم الأهلي، وعلى الاستقرار، وعلى قوة الدولة ومنعتها، في إطار القانون والمؤسسات، وعلى ضرورة احترام القوانين والعمل على تطويرها بالطرق المشروعة، ورفض أي خيار غير سلمي، والتركيز على لغة الحوار انطلاقا من أن لا أحد يملك الحقيقة كاملة، والتعامل بندية، ورفض مقولة العدو في إطار المجتمع، واستبدالها بمقولة الخصم السياسي، أو صاحب الرأي المختلف .
وخامسا؛ يجب عدم الخوف والتوجس من احتمال انتعاش وبروز بعض القوى غير الديمقراطية، أو تلك التي تريد المحافظة على الأطر الأهلية للحياة الاجتماعية، فهذا الاحتمال قد يكون لا مفر منه، لكنه مع ذلك سوف يكون من طبيعة انتقالية، سرعان ما يضعف ويتلاشى مع تعمق الحياة المدنية، وزوال الخوف، واستقرار دولة المؤسسات والقانون.
بعد هذه الوصفة الوعظية ألا يجب علينا تحديد النموذج الديمقراطي الذي نريده ؟ ألم نقل أن الديمقراطية هي دائما واقعية ؟؛ أي ليس هناك ديمقراطية حقيقية بالمعنى المعياري ؟. بكلام آخر هل علينا أن نهدم ما بدأته الأنظمة من انفتاح، وتوسيع لهوامش الحرية والمشاركة أم البناء عليها ؟ قد يكون الجواب عن هذه الأسئلة بديهيا، مع انه ليس كذلك تماما. بالنسبة إلينا الخيار الديمقراطي الذي ننشده في صورته الناضجة هو الخيار الذي يسمح لجميع التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أن تعبر عن نفسها في مختلف مستويات السلطة. يقوم اختيارنا الديمقراطي هذا على اقتناعنا بأن إشكالية الديمقراطية في سورية تكمن في ضرورة الوحدة العضوية الوظيفية بين الديمقراطية في المجال الاقتصادي والاجتماعي، والديمقراطية في الحقل السياسي . فالعلاقة بين الديمقراطية بما هي نظام في الحكم أو نمط حياة -لا فرق - وبين أسسها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي علاقة دائرية يلعب فيها السياسي دورا محفزا ومحرضا في ظروفنا الخاصة بشرط وعي ضرورتها.
على هذا الطريق فإن إلغاء الأحكام العرفية، ورفع حالة الطوارئ خطوة، وخلق هوامش للحرية المدنية والسياسية إجراء هام، ونموذج ديمقراطي على الطريقة المصرية أو الأردنية نقلة نوعية، لكن في النهاية لا بديل عن دولة المؤسسات والقانون، واحترام حقوق الإنسان كاملة، وخصوصا حقوقه المدنية والسياسية، وصولا إلى تبادل السلطة سلميا عبر صناديق الاقتراع، من خلال إجراء انتخابات دورية نزيهة وشفافة، مما يخلق وضعا ديناميا يسمح باستقصاء المثل والمبادئ الديمقراطية في الواقع السوري، في ضوء قيمنا وأهدافنا الوطنية والقومية.