مضى عام 2003 , آخذا معه نظام الطاغية صدام حسين , غير مأسوف عليه سوى من شقيقه التوأم النظام السوري ... هذا النظام الذي ينظر ألان برعب إلى عدوى الحالة العراقية وإمكان الشعب من الحصول على حقه في مجتمع ديمقراطي سليم ومعافى , خال من الفيروس العفلقي المتجسد في الممارسات الللانسانية ومصادرة ضمير وكرامة وحقوق المواطن . فما ان انهار حكم صدام البعثي فجأة وبشكل خاطف , حتى اصيب شقيقه السوري بالذهول والارتباك , فراح يتخبط على غير هدى , فيصافح الأمريكان تارة واصفا إياهم ب " الجيران " مطالبا بحق الجار على الجار .... وتارة أخرى يرفع من عقيرته بالعبارات القومية الطنانة المستهلكة الفارغة , مراهنا على فلول صدام وحرسه وعشائره وعناصر الإرهاب الدولي المتسللة عبر الأراضي السورية تحت سمع وبصر هذا النظام , وعاقدا تحالفا غير مقدسا مع تركية عدوة الأمس المرتبطة مع إسرائيل بحلف عسكري واقتصادي ـ بهدف إثارة الفتنة بين العراقيين من عرب وأكراد وتر كمان وآشوريين ....وكانت قمة المهزلة بعد اسر صدام وظهوره ذليلا جبانا خانعا , إلى ان ظهرت علينا صحيفة " البعث " الحكومية السورية مؤخرا بإحدى افتتاحياتها , تبشرنا بان سقوط هذا الطاغية قد " اثبت صحة نهج القائد الخالد حافظ الأسد " !!!
على أساس ان زمرة عفلق الموالية للبعث العراقي قد سبق طردها من سورية . ولكن هذه الصحيفة تتناسى حقائق معروفة وموثقة , أو ان الذاكرة قد خانت يتامى هذا النهج الخالد , مما يجدر بنا تذكيرهم بها .......
أولا . في الانقلاب
لقد جاء الرفاق البعثيون في كل من سورية والعراق بانقلاب عسكري عام 1963 سمي ب"الثورة المجيدة" . ولكن سرعان ما نشب الصراع بين الرفاق في سورية , بين مجموعة المدينية ـ السنية التي تزعمها الرئيس أمين الحافظ , وبين المجموعة الريفية ـ العلوية التي بإمرة الضابطين صلاح جديد وحافظ الأسد . أعقب إزاحة أمين الحافظ ومجموعته حركة تطهير واسعة شملت المراكز الحساسة التي كانت , تاريخيا , بيد العناصر المدينية ـ السنية ( ويمكن مراجعة كتاب الصحفي البريطاني باتريك سيل "حافظ الأسد والصراع على الشرق الأوسط و لمزيد من التفاصيل ) .
هذا النهج الطائفي الذي طوره الأسد بشكل واسع ومدروس بعد حركته الانقلابية و وجد له رد فعل معاكس لدى رفاقه المنافسين في العراق . ففي تموز 1968 قام هؤلاء بانقلاب حكومي تسلم على أثره اللواء البكر الرئاسة فيما صار قريبه صدام حسين نائبا له . وينقل على لسان قادة الانقلاب قولهم انهم جاؤوا إلى الحكم بهدف تعريب الأكراد والقضاء على الشيعة أو الحيلولة دونهم وتسلم المراكز الحساسة في السلطة و وبالرغم من انهم يشكلون غالبية سكان العراق العربي .
ثانيا . في الحكم
قامت مجموعة جديد ـ الأسد في البداية بتحريض الضباط المنتمين للريف ضد رفاقهم المنحدرين من اسر مدينية معروفة في دمشق و حماة و حلب و حمص و القامشلي و غيرها...و قد موهت أهدافها الطائفية بشعارات يسارية و تقدمية خادعة, حتى إذا تمكنت من إزاحة هؤلاء, فقد التفتت إلى الضباط الذين من أصول مذهبية درزية و إسماعيلية لتبعدهم بدورهم عن المراكز الحساسة في الجيش و الأمن و الحزب. ثم ما لبثت الأمور ان أخذت منحى آخر, باستيلاء جماعة ريف اللاذقية (القرداحة ولواحقها) على السلطة بقيادة الأسد وحصرها منذئذ بعائلته وأقاربه. نفس هذا الأسلوب في التآمر اتبعه فيما بعد صدام حسين, بأبعاده للعناصر المدينية عن الجيش و الأمن و الحزب بالتسريح والنفي و القتل السجن وخاصة أولئك المنحدرين من بغداد و الموصل و غيرها... لتوؤل من ثم معظم مناصب الدولة لجماعة ريف تكريت, و حصرها بعدئذ بعائلة صدام و أقاربه.
ثالثاً. في التحالف:
سبق لنا القول بأن مجموعة جديد_ الأسد الحزبية العسكرية,تقنعت بالشعارات اليسارية. و بعد تمكنها من السلطة حصلت على دعم سوفيتي وصيني وبدأت تتظاهر بالانفتاح على شيوعيي الداخل وكانوا ذوي جماهيرية ملحوظة آنذاك.
وبعد انقلاب الأسد, أقيمت جبهة متحالفة مع البعث ضمت إضافة للشيوعيين أحزاب ناصرية و اشتراكية عربية,مما أدى فورا إلى انشقا قات خطيرة في معظم هذه الأحزاب و خاصة تلك المتمتعة بالجماهير , والتي تفاقم وضعها الداخلي بالصراعات والكتل والانقسامات التي لعب النظام دورا خبيثا في تأجيجها . إلى ان أضحت هذه الأحزاب بعيدة تماما عن جماهيرها ومجرد أبواق للسلطة فيما قياداتها المترهلة تنعم بالمناصب الرمزية غير مبالية بمعاناة الناس .
وتجربة " التحالف " هذه استنسخها أيضا الرفاق العراقيين . غير أنها كانت اقل عمرا من مثيلتها في سورية , نظرا لافتقاد صدام بصورة خاصة للأناة والصبر وتميزه منذ البداية بعقلية أمنية مرتابة شرسة عملت على قضم صلاحيات رفاقه الموؤلين , فما بالك لالاحزاب الأخرى " الحليفة " .
رابعا . في الإرهاب
بعد عام واحد من استيلائهم على السلطة في سورية و انزل البعثيون الجيش إلى شوارع مدينة حماه لإرهاب المواطنين لمجرد قيامهم بالتظاهر السلمي احتجاجا على ما لمسوه من مس لمشاعرهم الدينية . ولكن موعد هذه المدينة العريقة مع المجزرة الشاملة المريعة و كان في عهد الأسد . ففي شباط 1982 وبعد مضايقات وإهانات واستفزازات لا تحتمل , مارستها الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع بحق المواطنين نساء ورجالا , انفجرت المدينة بانتفاضة عفوية ضد النظام ورموزه فرد عليها بوحشية فاقت التصور وشملت حتى النصارى والشيوعيين وبعض الخبراء الروس و وبحقد طائفي أعمى ومنفلت ( لمزيد من التفاصيل , كتاب "حوار حول سورية" للصحفي السوري محمود صادق ) . ولقد مثل هذه المجازر بدرجة اقل أو اكثر في مدن سورية أخرى كاللاذقية وحلب وادلب وسجن تدمر ... وخيم على البلاد طوال تلك الأعوام كابوس رهيب , حيث شمل القمع الوحشي القوى اليسارية المعارضة وخاصة حزب العمل الشيوعي والحزب الشيوعي ( المكتب السياسي ).
ألم يكن الأسد هنا أيضا أستاذا لصدام ؟ لقد تجلى إرهاب النظام العراقي كذلك بالإبادة الجماعية , كما في قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية عام 1988 وما تبعا في العام الذي تلاه من عمليات " الأنفال المرعبة " و ثم توجها بقمع انتفاضة وسط وجنوب العراق عام 1991 وخاصة في البصرة والنجف وكر بلاء . وكما استغل بعث سورية قوانين الطوارئ واحتلال إسرائيل للجولان للتغطية على جرائم الإبادة الجماعية و كذلك فعل صدام أثناء الحرب مع إيران ثم بعيد اجتياح الكويت .
خامسا . في الحروب :
بعد شهور قليلة من انقلا بهم , أرسل بعثيو سورية فرقة عسكرية مدرعة إلى شمال العراق لمساعدة رفاقهم المتورطين في حرب كردستان .... هذه الحرب الموجهة إلى شعب شريك للعرب تاريخيا وحضاريا ودينيا وضمن وطن واحد . وبعد عام آخر انزل نفس هذا الجيش إلى شوارع مدينة حماة لقمع أهلها , ثم عاد ليبيدهم بوحشية عام 1982 . فكيف كان أمر هذا الجيش مع إسرائيل ؟ .....
ان التطهيرات الواسعة التي قام بها البعثيون بعيد انقلابهم أضعفت قوة الجيش إلى حد كبيرة وخاصة بعسكرتهم لمعلمين ابتدائي وموظفين عادين ومنحهم رتبا كضباط عاملين ( ومعظمهم من ريف اللاذقية و طرطوس ) , بحجة تقوية الجيش بالعناصر البعثية ... وخسرت هكذا سورية حرب حزيران 1967 , لتفقد دون مقاومة تذكر وخلال ساعات قليلة هضبة الجولان بكاملها . كان وزير دفاعنا آنذاك اللواء حافظ الأسد ... , الذي منح نفسه على الأثر رتبة فريق ثم اعتلى سدة الرئاسة نظرا للانتصار الذي كلف خمسين ألف خيمة , على وصف الشاعر نزار قباني .... والجيش الذي كان يدمر مدينة حماة , انهار بعد أربعة اشهر في لبنان في حزيران 1982 , أمام العدو الإسرائيلي . ولا نحتاج إلى تكرار القصة المعروفة للجميع عن التدخل السوري المخزي في الأردن عام 1970 , وما تبعه من التدخل العسكري في لبنان عام 1976 والمستمر حتى الآن , وهو النظام الذي اسهم ياشعال وتأجيج نار الحرب الأهلية المدمرة بوقوفه تارة مع هذا الطرف وتارة في طرف خصمه ..... كل ذلك كان بسبب خوفه من النظام الديمقراطي الحر البرلماني في لبنان , من ان يغدو مثالا يتطلع أليه الشعب السوري ... ان نفس يافطة النظام السوري المهترئة المحافظة على عروبة لبنان ووحدته وسلامة أراضيه , يرفعا هذا النظام الآن بوجه العراقيين الطامحين لبناء مستقبل بلدهم ويعمل بلا كلل ليزرع الفتنة بين صفوف أطيافهم المختلفة تمهيدا لإشعال نار حرب أهلية مماثلة للحرب اللبنانية . نزعة العدوان والحرب والتدخل في شؤون الدول الأخرى , والرامية أصلا إلى الهاء الشعب عن أوضاعه المريرة بخلق مشاكل خارجية مفتعلة , تبرر استمرار الفقر والاستبداد وقوانين الطوارئ والعبث بميزانية البلاد وثرواتها . هذه النزعة وجدت لها هوى مماثلا في النفوس المريضة للبعث العراقي و وخاصة في عهد صدام فارس الأمة العربية , والذي راح يتنافس مع خصمه السوري في هذه المجال مدخلا البلاد في غمار أربعة حروب مدمرة مع الأكراد وإيران والكويت و... معركة أم ألحوا سم !!!التي انتهت بسقوطه المجلل بالعار .
وأخيرا . في المبادئ :
يقول عفلق ( مؤسس حزب البعث ) , ان حزبه رسالة لا نظرية سياسية . وقد حدد هو " رسالته الخالدة " بأهدافه الثلاثة : الوحدة والحرية والاشتراكية . فماذا تحقق على أرضية الواقع من تطبيق لهذه الأهداف على مدى أربعة عقود في كل من سورية والعراق ؟... ان الهدف الأول , الوحدة العربية , هو نظريا محور رسالة البعث , حتى ان القطب الآخر المؤسس للحزب صلاح البيطار , يقول : " فحزبنا هو دعوة اكثر من ان نسميه حزبا , دعوة قائمة على التوحيد القومي وعلى محاربة كل ما يعرقله " . لقد عجز البعث الحاكم في سورية والعراق عن تحقيق أي شكل من أشكال الوحدة بين القطرين أو أي تنسيق بينهما , بل وعلى العكس من ذلك كان الأمر . فقد دخلا في صراع مرير ومؤامرات لا تنتهي ضد بعضهما البعض وكان كل منهما يدعم خصوم الآخر , كما كان الأمر مع المعارضة وحروب لبنان وإيران والكويت . والمفارقة ان دولا عربية أخرى توصف بالرجعية , تمكنت من إنجاز وحدتها بنجاح وبازدهار و كما كان الحال مع الإمارات العربية واليمن لا بل البعث الحاكم في سورية والعراق فشل حتى في المحافظة على الوحدة الوطنية لكل من هذين القطرين فيما كان الأمر افضل حالا زمن الانتداب والحماية الأجنبية . فالنزعة العنصرية والطائفية والعشائرية البحتة المتأصلة في العقلية البعثية أدت إلى تفتيت الوحدة الوطنية وإثارة النعرات المذهبية والعرقية وتغيب الشعور الوطني بسحب الجنسية السورية والعراقية من مئات ألوف الأكراد والشيعة بحجة تابعيات أجنبية مزعومة .و أدهى ما انتهى أليه هذا التفكير الضيق المتخلف للبعث , هو توريث السلطة للأبناء فيما صار يدعى تدولا " ولي العهد الجديد " !!! .
أما بالنسبة لهدفي " الحرية والاشتراكية " في رسالة البعث الخالدة , فلا يحتاجا إلى تفنيد ومناقشة و لأنها حقيقة ساطعة وواضحة للجميع ما آل أليه التطبيق العملي في هذا المجال أيضا . بحيث ان سورية والعراق في ظل النظام البعثي ضربا أرقاما قياسية بين الأنظمة الديكتاتورية ان لجهة سوء التخطيط وفشل الاقتصاد والتجارة أم لجهة الفساد والنهب وتكبيل الحريات وإلغاء الديمقراطية ورزوح غالبية الشعب تحت معدل درجة الفقر في حين ان كلا البلدين من أغنى بلدان الشرق الأوسط سواء بالثروات الطبيعية والسياحية والطاقات الإبداعية العملية والثقافية والاقتصادية .
خالد محمد ـ كاتب مغترب من سورية