لقد أوحى عنوان مقالة ياسين الحاج صالح "أفق مراجعة الإشكالية القومية " بإمكانية مراجعة منهجية لواحدة من أخطر مسائل العرب النظرية والعملية وهي المسألة القومية العربية. وعندما تصفحت المقالة وقرأتها تبين أن هاجس المقالة يبتعد عن هم مراجعة كهذه ، بل هي أي المقالة واقعة في مصيدة دائرة مسحورة اسمها "الديمقراطية" . وضمن هذه الدائرة لا تقوم قيامة لدول من دون الديمقراطية ولا لشعوب ولا لأفراد ، ولا لثقافات الخ..
وبهذا الدوران في حلقة سحر لفظة الديمقراطية لم يستطع الصديق ياسين الحاج صالح تجاوز السطح السياسي لطرح المسألة ، مع أنه مطلوب اليوم فتح حوار منهجي وبشكل ابتدائي حولها
وبعد :
كيف لأُفق أن يتشكل بخصوص مراجعة مسألة بهذه الأهمية؟ حسب ما يتساءل الحاج صالح.
قد يكون الفشل أحد شروط هذا التشكُّل . نعم فشل مشاريع التوحيد العربي وفي أساسها فشل مشاريع التحديث العربي. أي فشل تصنيع عربي على شاكلة بلد متطور من الناحية الصناعية كألمانية و الولايات المتحدة والصين وروسيا الخ.. الفشل هو فشل الحركات والمشاريع وبالتالي قصور في الصياغات النظرية وخطأها أحياناً . فشل التحديث العربي هو في أساس التفكير في فتح أفق مراجعة مسألة التوحيد القومي العربي
الشرط الثاني لفتح أفق مراجعة كهذه حصول مدّ جماهيري عربي مؤسس تاريخياً يدفع نحو مراجعات ويدعم تطورات نظرية وفكرية متقدمة. وباعتبار أننا لا نغتبط بمدٍّ كهذا بل العكس هو القائم حيث نعبر خريف مرحلة البورجوازية "القومية" أو ما يمكن تسميته خريف الحركات القوموية يكون الشرط الأول – مسألة الفشل- هو الدافع لفتح آفاق مراجعة منهجية نقدية وتاريخية للمسألة القومية العربية.
المطلوب مراجعة تاريخية نقدية قائمة على فشل مشاريع التحديث العربي الثلاثة والتي زامنت العصر البورجوازي : المشروع الأول جاء في المرحلة الصناعية للرأسمالية الأوربية (1770-1870) عبر تجربة محمد علي في مصر والتي انتهت جوهرياً باحتلال مصر من قبل بريطانيا سنة 1882 ، والثانية جاءت مع المرحلة الاحتكارية وهيمنة رأس المال المالي أي مع الطور الإمبريالي في الرأسمالية وطغيان الاستعمار المباشر للولايات العربية العثمانية حيث حكم هذه الولايات بالوكالة أعيان المدن السورية والملَّاك العقاري في مصر من أصول تركية وشركسية وألبانية في رأس هذه الطبقة
انتهت هذه المرحلة بمحاولة "تعريب" نظم الحكم عبر ضباط الجيش من أصول بورجوازية صغيرة ومتوسطة ، ذات الأصول الريفية في معظمها . قد يعترض بعض القراء على استخدام مصطلحات مثل بورجوازية صغيرة وغيرها . أقول بشكل أولي : ليس لدينا حتى الآن مصطلح أكثر فاعلية للوصول إلى غرض الفكرة.
انتهت هذه المرحلة البورجوازية "القومية" بالاستبداد السياسي وبالمجتمع المجوف سياسياً وإلى الاحتلال الأميركي المباشر للعراق واحتلاله العملي للخليج العربي.
عاصرت التجربتين الثانية والثالثة الاحتلال الصهيوني لفلسطين ، أي عاصرتا قيام دولة إسرائيل في فلسطين . بينما عاصرت التجربة الأولى خريف السيطرة العثمانية على الأقاليم العربية .
المطلوب صياغة منهجية واضحة للمسألة القومية العربية في التحديث والتوحيد القومي . والصياغة ليس لعباً بالألفاظ ولا رسماً للحروف بل هي تحديد للقوى الاجتماعية وللطبقات والأيديولوجيات المرشحة بعد الفشل المذكور لرسم هذا الأفق وقيادة تحرك باتجاهه . والقيادة بالمعنى التاريخي ليست السيطرة على سلطة الدولة مع أنها ستؤول إلى هذه السيطرة ولكنها أكثر من ذلك وأبعد . المقصود بالقيادة هو طبيعة القوى الاجتماعية المرشحة بع الفشل المذكور للهيمنة على مشروع التحديث العربي .
يُرجع الحاج صالح الفشل السابق إلى عجز الدولة العربية بكل أشكالها السابقة والقائمة (دولة محمد علي دولة الأعيان الليبرالية الرثة دولة البورجوازية "القومية") أن تكون حديثة وبالتالي عجزها أن تكون حتى "وطنية" فما بالك بأن تكون قومية التحرك والنزوع .
لكن ما معنى أن تكون دولة حديثة ؟ يستشف من كلام الحاج صالح أن تكون دولة كالدول الأوربية في القرنين التاسع عشر والعشرين . أيضاً ما معنى أن تكون الدولة ديمقراطية وحديثة؟
هذا يعني أمرين : أنها تعبر عن سيادة وطنية ذات مشروعية تاريخية وذات مشروع تاريخي قادرة على إنجاز التحديث وتطوير التصنيع على شاكلة بلد متطور صناعياً، وقادرة على شد روابط الأمة في دولة من الطراز البورجوازي الأوربي أو من الطراز الاشتراكي الصيني الخ.. (دولة-أمة) . إذاً هذا يعني أنها دولة تُعبِّر سياسياً عن هيمنة طبقة متقدمة تاريخياً مع تحالفاتها مع طبقات أخرى قادرة هذه الطبقة على إنجاز مهام ديمقراطية تاريخية كالتحديث الاجتماعي والصناعي والتوحيد القومي الديمقراطي . أما الشكل السياسي لهذه الدولة (ديمقراطية، استبدادية ، بيروقراطية ، بسماركية ، فاشية ، بونابرتية الخ..) فهذا ما تبين على الأقل في تجارب التحديث في القرن التاسع عشر أنه غير مهم لإنجاز هذا التحديث.
نشهد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ثلاث تجارب أُنجز خلالها تحديث وتوحيد قومي تحت هيمنة البورجوازية المتأخرة ألمانيا، إيطاليا، اليابان لقد أنجزت هذه المهام الديمقراطية التاريخية في التحديث والتصنيع تحت قيادة بيروقراطيات تتحالف فيها البورجوازية المتأخرة لكن المهيمنة بحكم الصعود التاريخي لبورجوازيات الأقطار الأوربية الأخرى . لقد دفع تأخر هذه البورجوازيات خاصة الأوربية منها ، وتزامن تحركها مع الصعود الاجتماعي والسياسي للبروليتاريا الأوربية دفعها للتحالف مع القوى الاقطاعية القديمة وبالتالي حرمها من أن تأخذ أشكالاً ديمقراطية ويعقوبية (التحالف مع الفلاحين) على الطريقة الفرنسية . أيضاً لم يمنع الشكل الاستبدادي والبيروقراطي روسيا من إنجاز تحديث وتصنيع تحت هيمنة بروليتارية وسيطرة بيروقراطية مستبدة في القرن العشرين ، وقد تكرر الأمر في الصين الحديثة تحت هيمنة بروليتارية وحكم الحزب الواحد.
هذه التجارب الكبيرة تطرح مسألة منهجية في مقاربة التحديث العربي والتوحيد القومي العربي الديمقراطي، ألا وهي انتقال الهيمنة التاريخية بشكل مبدأي أي احتمالي وإمْكانيّ وليس فِعليّ بعدُ من البورجوازية كطبقة عالمية وقطرية إلى البروليتاريا كطبقة عالمية وقطرية رغم استمرار انقسام الطبقة العاملة العالمية بفعل الشرط الإمبريالي. بما يعنيه من تحمُّل بروليتاريا الأطراف الرأسمالية مهام أكثر تعقيداً ويتطلب تحالفاً شعبياً أوسع وأشمل .
من هنا المسألة الأساس في طرح إشكالية المسألة القومية العربية الديمقراطية ومسألة التحديث والتصنيع ، هو في طرح سؤال الطبقة المرشحة للهيمنة مبدئياً والقوى الاجتماعية المتحالفة لإنجاز هذه المهام التاريخية الديمقراطية . وفي طرح سؤال الإديولوجيا المرشحة لإدارة هذه الهيمنة . ومن بعد ذلك الشكل السياسي للدولة الجديدة ، وهذا الشكل سوف تحدده شروط الصراع الداخلية والخارجية .
نعود إلى ياسين حيث يقول : "الأمة علاقة وليست كياناً" ونفهم من سياق كلامه أن الأمة علاقة ديمقراطية وليست بنية سياسية استبدادية . أي تظهر الأمة هنا علاقة سياسية اختيارية "طبيعية" متميزة عن الدولة كبنية سياسية ، وعن الحركة القومية الحديثة كحزب سياسي ينزع لبناء دولة من طراز حديث، سواء أكان بورجوازياً أم بروليتاريا. لكن الحاج صالح يعود فيخلط الأوراق من جديد ويهدم قلعة الرَّمل التي بناها ، خاصة بعد أن بدا أنه راح يفرِّق بين الُأمَّة من جهة والقومية الحديثة من الجهة الأخرى. وبين الأمَّة كعلاقة للجماعة البشرية وبين الدولة كبنية فوقية وعلاقة سياسية واقتصادية قد لا تشترط توفر وجود الأمَّة كعلاقة للجماعة من أجل قيام الدولة مثال الدولة الأميركية ، والأمة كعلاقة ثقافية وتاريخية قد لا تتوج ببناء الدولة الحديثة.
وفي نكوصه وهدمه لقلعة الرمل صرح الحاج صالح بالقول : "الأمة نظام حكم ديمقراطي ورابطة سياسية مدنية" قبل أن تكون رابطة ثقافية أو لغوية . لقد عدنا إلى ستالين وتعريفه للأمة . حيث الأمة رابطة سياسية واقتصادية أي دولة ، ومع غياب الدولة تذوب الأمة حسب هذه النظرة. الأمة بهذا التصريح من الحاج صالح والمستند ضمنياً على فكرة ستالين باتت دولة ونظاماً سياسياً ، وكون الحاج صالح على عكس ستالين مسحور بالديمقراطية كلفظ فبالضرورة المباشرة سوف تكون الدولة الأمة مدنيّة أي تتمتع بمجتمع مدني على الطراز الأوربي وديمقراطية من الناحية السياسية كشكل لحكم بورجوازية صناعية منتجة وحديثة .
إن تقديم الحاج صالح للأمة على أنها متماثلة مع الدولة الحديثة ومع الديمقراطية السياسية كشكل لهذه الدولة ومع المجتمع المدني كشكل اجتماعي واقتصادي إديولوجي تماثلاً مباشراً ، يعني أنه هدم الافتراض المثمر الذي ألمح إليه في بداية مقالته والتي مفاده أن الأُمَّة علاقة وليست كياناً.
هذه المماثلة الخاطئة قادت الحاج صالح إلى مماثلة أخرى خاطئة بين الدولة العربية الحديثة المفترضة وبين تقدم هيمنة البورجوازية العربية الطرفية الرثة .
وينتهي صالح بفعل تأثير السحر إلى حكمة بالغة الأهمية وتاريخية تقول : "ببساطة-وأرجو أن تلاحظوا ببساطة هذه- الديمقراطية في عصرنا ليست الصعيد الوحيد لحكم الأمم ، بل لوجود الأمم بالذات "! إذاً حسب الحكمة السالفة الذكر لا وجود للأمة من دون دولة ذات شكل ديمقراطي تحديداً ، ولا وجود للأمة من دون الديمقراطية البورجوازية الحديثة.
إن مماثلة الأمة بالدولة وبشكل مباشر وبضرورة مباشرة بعيدة عن الشرط التاريخي هو الذي جعل أمر الأمة ووجودها مرهون بالديمقراطية الحديثة وبالتالي بوجود الدولة الحديثة. وهذا أمر خاطئ. ومثال ذلك أنه توجد أمم من دون دولة جامعة فهناك أتراكاً في البلقان وأكراداً في تركيا وعرباً في إيران وعرباً في تركيا ، وللعرب كجماعة كبيرة مستقرة أُمّة لكن من دون دولة قومية واحدة.هذه الوحدة أو التماثل بين الأمة كعناصر مبعثرة من لغة ووجدان جمعي تاريخي وثقافة وأرض تاريخية للجماعة العربية من جهة وبين الدولة كرابطة سياسية وسوق اقتصادية داخلية ليست مباشرة ولا بدهية في التاريخ الفعلي للبشر. أيضاً لم تكن الديمقراطية السياسية كشكل من أشكال سيطرة وهيمنة طبقة هي السائدة على طول خط التاريخ البشري. فتجربة التوحيد الألماني والإيطالي والياباني في القرن التاسع عشر لم تكن تأخذ الشكل الديمقراطي السياسي. كذلك فإن التحديث والتصنيع الروسيين لم يتم إنجازهما تحت راية شكل ديمقراطي للدولة البروليتارية المبقرطة . والتحديث والوحدة الصينية لم يتم إنجازهما تحت راية التعددية السياسية بل تحت راية الحزب الواحد. لقد أنجزت الحكومات المستبدة مهمات ديمقراطية تاريخية كالبسماركية والبيروقراطية السوفييتية . وقد فرقنا في مقالة لنا لم تنشر بعد بين الديمقراطية السياسية كأحد أشكال ديكتاتورية طبقة سواء أكانت بروليتارية أم بورجوازية وبين المهمة التاريخية الديمقراطية كالتحديث والتصنيع والوحدة القومية . وهي مهام يطرحها سير التاريخ على أفراد الأمة وطبقاتها . وإنجاز هذه المهمات مشروط بالزمان والمكان وبجدل وتركز التاريخ العالمي في بؤر قومية.
إن الطرح السياسوي المسحور بمصطلح الديمقراطية كمصطلح يتوجب ضبطه نقدياً لن يستطيع حل مشكل صياغة المسألة القومية العربية الديمقراطية (كمهمة) ، لكنه يستطيع فتح حوار منتج حولها .
*****************
أفق مراجعة الإشكالية القومية
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=13529