كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 2339 - 2008 / 7 / 11 - 11:10
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
منظور الدكتور فاضل الجلبي اللاإنساني للجادرجي الإنسان!
ربما يتساءل البعض لِمَ يأخذ الدكتور كاظم حبيب على عاتقه مهمة الرد أو مناقشة الأفكار التي يطرحها الدكتور فاضل الجلبي عن الأستاذ الراحل كامل الجادرجي والحركة الوطنية العراقية , هل أصبح من أتباع الجادرجي أو هل يريد الالتحاق بالحزب الوطني الديمقراطي؟ ربما أخيب ظن البعض الذين فسروا مناقشاتي تفسيراً خاطئاً حين أقول لهم : لا هذا ولا ذاك , رغم احترامي الكامل لمدرسة الجادرجي الديمقراطية وتقديري الكبير لدوره , إضافة إلى احترامي للحزب الوطني الديمقراطي الذي أتمنى له النجاح في مرحلة النضال الجديدة.
لا يخفى عل من يعرفني أني أقف بشكل حاسم في صف اليسار الديمقراطي حيث كان يقف الأستاذ كامل الجادرجي والكثير من ساسة العراق الديمقراطيين أولاً , ثم أعتبر نفسي جزءاً من الحركة الوطنية والديمقراطية العراقية , سواء حين كنت عضواً في الحزب الشيوعي العراقي أم حين أصبحت مستقلاً منذ سنوات , التي ناضلت منذ العهد الملكي ولا تزال تناضل في سبيل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والسيادة الوطنية للعراق وشعب العراق ثانياً , وأني حريص كل الحرص على الدفاع عن المناضلين وكرامتهم الذين ضحوا بحياتهم في سبيل هذا الشعب أو الذين عانوا من عنت النظم السابقة ويواجهون التشويه والإساءة حالياً , سواء أكانوا من الحزب الشيوعي أو الحزب الوطني الديمقراطي أو من قوى وأحزاب مناضلة أخرى أم من شخصيات وطنية مستقلة , ثالثاً , ولأن الدكتور الجلبي تجاوز بشغف فاضح على الكثير من قيم الحركة الوطنية والديمقراطية العراقية وأحزابها وشخصياتها الديمقراطية في نهج الكتابة التي اتبعها وفي طريقة تعامله مع التراث الديمقراطي والمدرسة الديمقراطية العراقية الحديثة ورئيسها كامل الجادرجي , إذ بدا لي أشبه بفيل دخل في دكان مليء بالتحف الزجاجية الجميلة وحطم الكثير من محتويات الدكان الرائعة خامساً رابعاً , كما أن استقلالي الفكري والسياسي يسمح لي بحرية واسعة في تناول مثل هذه الأمور خامساً. أكرر بأن لم يبق في العمر ما يدعو إلى تغيير هويتي الفكرية والسياسية , كما أن قناعتي العلمية هي الآن أكثر رسوخاً بصواب الفكر والمنهج المادي الجدلي الذي أحمله وبالنضال من اجل العدالة الاجتماعية المقترنة بالحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعلمانية واحترام إرادة الشعب وطموحاته. وهي في هذا تقترب ولا تبتعد من حيث الجوهر عن الفكر الديمقراطي التقدمي الذي حمله وحلم به وعمل ناضل من أجله الأستاذ الراحل كامل الجادرجي.
إن ما أثارني حقاً في مقالات الدكتور فاضل الجلبي وحفزني للكتابة هي تلك النزعة القومية الاستعلائية اللاإنسانية الموجهة ضد الجادرجي والبحث عن أصله وأرستقراطيته وكلمة البگ التي يدعي الجلبي انه كان يطالب الناس في أن تقترن باسمه حين الحديث معه.
بعد مرور ما يقرب من ستة عقود على مشاركتي في العمل والنضال السياسي العراقي ومشاركتي المتواضعة في الحركة الوطنية العراقية والمعارضة العراقية , أفاجأ بمن يتحرى عن اصل كامل الجادرجي وعن لقبه "الجادرجي" وهل هي كلمة ناشئة أو معبرة عن مركز وظيفي رفيع لدى الإنكشاريين , وهل هو نفسه إنكشاري , أم أنه من العراقيين أو العرب أم من هو؟ صحيح هناك بعض من كتب عن ذلك في مذكراته , ولكن هل يحق لإنسان ليبرالي يدعي الديمقراطية ويأخذ على الآخرين ضعف ديمقراطيتهم أن يحاسب الإنسان الوطني والديمقراطي العراقي المولود أباً عن جد وأجداد في العراق عن أصله ومنحدره القومي والقبلي وما إلى ذلك؟ ألا يكفي السيد الجلبي أن يكون الجادرجي مولوداً في العراق ويحمل شهادة الجنسية العراقية ومشارك في ثورة العشرين وفي أحداث العراق لنصف قرن بالتمام والكمال؟ هل حقاً أن اصل الإنسان القبلي والقومي هو جوهر الإنسان وقيمته الحقيقية؟
لن أدافع عن أصل كامل الجادرجي , سواء أكان عربياً أم تركياً أم فارسياً أم إنكشارياً ومن أية قومية أخرى انحدر , لأن الأصل عندي هو الإنسان وليس غير الإنسان , ولا يمكن أن يفكر في الأصل إلا النازيون والشوفينيون والعنصريون الذين يجدون في الإثنيات الأخرى غير العربية قيمة أقل من قيمة القومية العربية وقدر أحط من العرب , وكذا الحال بالنسبة للقوميين الشوفينيين الفرس أو الترك أو غيرهم في نظرتهم إلى القوميات الأخرى , في حين أن الإنسان الديمقراطي والتقدمي لا ينظر إلى الإنسان إلا باعتباره قيمة أساسية ومضمون هذا الإنسان الفكري والسياسي هو الذي يرفع من تقدير الناس لعلمه وحكمته أو العكس. كان الرصافي مثلاً يدعو الأستاذ كامل بالخيام ترجمة لكلمة الجادرجي, وهو صديق للجادرجي وأتمنه على أهم وأرفع وأفضل ما قدمه الرصافي من كتابات نثرية. وفسر البعض كلمة الجادرجي بناصب الخيام من كلمة الجادر أي الخيمة أو العباءة التي تستخدم من قبل النسوة في إيران. ولكن هل كان اللقب يوماً معياراً للإنسان؟ كنت أتمنى أن يربأ بنفسه لدكتور الجلبي عن هذا الموضوع ولا ينحدر إلى هذا المستوى من المناقشة , إذ أنها ثرثرة فارغة ومعيبة. إذا كانت الكتابة من نحاس وليس من فضة , فالكف عنها من ذهب!
يقول الجلبي أن الجادرجي كان يرفض الحديث مع من لا يسميه بالبگ. أشك في ذلك لا لأني لا أريد تصديق الجلبي , بل لأن الجادرجي أكبر وارفع بكثير جداً من ذلك , ولأن كل الدلائل تشير إلى ان الراحل لم يستخدم ذلك لا في تذييل مقالاته ولا في ما صدر له من كتب ولا في الرسائل التي كان يوجهها للآخرين أو للبلاط الملکی أو لرئیس مجلس الوزراء , بل كان يذيل رسائله الموجهة إلى البلاط او مجلس الوزراء باسمه المجرد من اي لقب , علماً بأنه كان يحمل من حيث المبدأ صفة معالي بسبب استيزاره في العراق. نعم كان البعض يناديه بکامل بگ , ولكن لم يكن هذا يرفع من قدره أو يقلل منها حين لا ينادونه بذلك. حيم زرناه في مقر الجریدة کنا نقول له استاذ كامل ولم يطرأ في بالنا أن نناديه بكامل بگ. كم يحار الإنسان في مواجهة مثل هذه المسائل الصغيرة التي يثيرها بعض الأفراد ضد الأستاذ كامل الجادرجي , كم هو صغير ذلك الذي يثير مثل هذه المسائل!
يتحدث الجلبي عن الراحل بقوله أنه كان أرستقراطياً , لأنه كان في دعوته بمناسبة زواجه يقدم الأردوف كمقدمة لوجبة الطعام الرئيسية على الطريقة الفرنسية. هل يستطيع بمثل هذا القول أن يثير الناس البسطاء ضد الجادرجي. هل في هذا ذميمة أم ماذا؟ لا أجد ما يبرر أن اذكره مرة أخرى بضرورة الابتعاد عن شخصنة المسائل , إذ يمكن أن يذكره المرء بالذبابة التي يحملها ليل نهار في ياقة قميصه بدلاً من ربطة العنق , وهي رمز من رموز الارستقراطية الأوروبية , رغم كونها ذبابة.
يتحدث عن عدم تواضع وتعالي الجادرجي. أعتقد بان الجادرجي لم يكن متعالياً , بل كان واثقاً من نفسه ومتعد برأيه. تجربتنا معه غير ذلك. تشير زوجة الشهيد سلام عادل , ثمينة ناجي يوسف (أم إيمان) , حين تعود بها الذاكرة إلى فترة ما بعد ثورة تموز 1958 أن الشخصية الوطنية الأستاذ كامل الجادرجي كان يقوم بزيارات منتظمة إلى الرفيق الشهيد سلام عادل , السكرتير الأول للحزب الشيوعي العراقي , في بيته وكان البحث يجري بينهما حول الوضع في العراق وسياسة قاسم , وكان الهاجس الكبير لدى الجادرجي الذي كان يصارح به سلام عادل يتعلق بخشيته من دور العسكر والذهنية العسكرية في الحكومة العراقية والتي يصعب تغييرها والعواقب والمخاطر المحتملة على مسيرة الثورة, كما كان يرى , ولم يخطئ التقدير. وكان سلام عادل يتعاطف معه ويرى رأيه. هذا ما كانت تذكره الرفيقة أم إيمان. إن مثل هذه الزيارات لا تعبر عن غرور و رغم أن الجادرجي كان أكبر سناً من سلام عادل , بل تجسد ممارسة طبيعية بين سياسيين يحتل كل منهما موقع المسؤولية في حزبه ويعملان معاً في اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني التي تفتت تدريجاً.
لقد كان الجادرجي يحترم أخوته في النضال , سواء كانوا قادة وأعضاء في حزبه أم الأحزاب الأخرى , وكذلك كان يحترم المسؤولين في الحكم حين يحترمون الشعب. ويتجلى ذلك في المذكرات التي كان يوجهها إليهم. ولكن لم يكن ليسكت أو يحترم أولئك الذين لم يحترموا إرادة الشعب ووجهوا نيران أسلحة شرطتهم إلى صدور المناضلين من اجل حقوق الشعب , سواء أكان هذا المسؤول عبد الإله أم نوري السعيد أم صالح جبر أم كائن من كان. كما لا يمكن لإنسان مثل كامل الجادرجي أن يحترم قاض لا يتعامل باستقلالية عن السلطة التنفيذية ويخضع لإرادتها في إصدار الأحكام ضد المناضلين. كم كان جميلاً وكم كنت أتمنى على الجلبي أن يبتعد عن إثارة مثل هذه الأمور التي لا تضر الجادرجي , بل تجسد طبيعة الجلبي وتعامله مع المسؤولين باعتباره موظفاً , في حين كان الجادرجي يتعامل كسياسي ديمقراطي يدافع مع أخوته الآخرين في الأحزاب الأخرى عن حقوق الشعب واسترداد إرادته وحقوقه المشروعة المغتصبة من الحكام البغاة في العهد الملكي أو فيما بعد.
ولا بد لي أن أشير أيضاً إلى ان الجادرجي أبعد من أن يطلق على نفسه أب أو صانع ثورة تموز 1954 , وهو الرجل الذي أدرك بعمق أن الثورات لا تصنع من أحد , بل هي نتاج عن نضوج مستلزمات التغيير الذاتية والموضوعية واستعداد المجتمع لا في قبول التغيير , بل وفي دعمه وإنجاحه. لقد كان الجادرجي واحداً من أبرز الشخصيات الوطنية العراقية المشاركة في التهيئة والتحضير للثورة , سواء بنضاله اليومي أم بكتاباته وصحافة حزبه أو بقيادة حزبه إلى جبهة الاتحاد الوطني ومشاركة الحزب الوطني الديمقراطي في دعم الثورة وإسنادها والمساهمة بانتصارها. ولا يمكن لإنسان مثقف مثل الجلبي أن يفسر ما قالته السيدة أم رفعة الموجوعة بابنها رفعة حين أرادوا اعتقاله: أنكم بصاية أبوه جئتم إلى الحكم , بأن لا بد وأن الجادرجي كان هو الذي أدخل هذه الفكرة إلى بيته ولهذا ذكرتها السيدة الراحلة أم رفعة زوجة الأستاذ الراحل كامل الجادرجي في مخاطبة الشرطة.
وأخيراً أتمنى أن لا أكون قد أسأت إلى الدكتور فاضل الجلبي من حيث لا أدري ولا اقصد ذلك , إذ كان همي أن أجلب انتباهه إلى ضرورة الموضوعية والإنصاف والاعتدال في تناول القضايا الحساسة التي تتعلق بكرامة الآخر وتراثه وتاريخه. وأتمنى على الدكتور الجلبي أن يعيد النظر بجدية في ما طرحه من أفكار ومستعد للقاء به لمناقشة موضوعاته التي تستوجب النقاش. ولكي يطلع قراء مقالاتي على مقالات الدكتور فاضل الجلبي أرسلتها لمن طلبها مني ولبعض المواقع التي طلب قراؤها الإطلاع عل مقالات الجلبي , كما أرسلت مقالات السيدة بلقيس شرارة التي ناقشت وردت فيها على أفكار الجلبي إلى من طلبها من أيضاً.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟