تنشيط العمل السياسي في القطاع الطلابي يعني تنشيط الوجه الطلابي للحياة السياسية,وبهذا المعنى فان واقع النشاط السياسي بين الطلبة هو جزء من واقع الحياة السياسية والحزبية بشكل عام, وفيها بعض الخصوصيات الناتجة عن ظروف الدراسة والمرحلة العمرية التي تلازم الجسم الطلابي.
إن هذه الحقيقة ثابتة تاريخيا, و يمكن مطالعتها في حالات المد و الجزر التي شهدها العمل السياسي بين الطلبة, إذ ظل مرتبطا بواقع الحياة السياسية العامة.
وسنسلط فيما يلي الضوء على التطور التاريخي للعمل السياسي بين الطلبة في الأردن بهدف الخروج منه ببعض الاستنتاجات المفيدة حول القضية مدار البحث:
نشطت الحركة الطلابية الأردنية في الخارج مبكرا, إذ كان لعدم وجود جامعات في الأردن واضطرار الطلبة الراغبين بمتابعة دراستهم الجامعية للالتحاق بجامعات الدول العربية المجاورة و بخاصة سوريا ولبنان ومصر, دور هام في الدفع باتجاه تشكيل تجمعات طلابية أردنية صغيرة منذ مطلع عقد الاربعينات من القرن العشرين عرفت بأسماء المدن والجامعات التي تواجدت فيها.
بعد ذلك , ومنذ عام 1951 تحديدا اخذ العمل الطلابي في داخل البلاد ينشط نتيجة ظهور الأحزاب السياسية العقائدية و بخاصة الحزب الشيوعي و حزب البعث و كذلك نتيجة توحيد الضفتين و اتساع حجم الجسم الطلابي وازدياد عدد المدارس. وقاد ذلك إلى تأسيس "مؤتمر الطلبة الأردنيين" ليكون أول تنظيم طلابي في البلاد وذلك في صيف عام 1953 بمباركة و إشراف غير معلن من حزبي البعث و الشيوعي.
ونتيجة لازمة عام 1957 تراجع العمل الطلابي في البلاد, كما لم يشفع له تأسيس الجامعة الأردنية عام 1962 و هي أول جامعة في الأردن .غير أن العمل الطلابي شهد ازدهارا وتطورا في الخارج حيث معظم الجسم الطلابي الدارس في الجامعات, فقد أسس البعثيون عام 1959 في القاهرة اتحادا جمع عددا من الروابط الطلابية التي كانت قائمة في الخارج, أسموه "الاتحاد العام لطلبة الأردن", و أسس الشيوعيون عام 1963 "اتحاد الطلبة الأردني" الذي جمع بشكل أساسي الروابط الطلابية الأردنية في أوروبا الشرقية.
في الفترة ما بين عامي 1967-1970 شهد العمل الطلابي السياسي في داخل البلاد وخاصة في الجامعة الأردنية شيئا من التطور بفعل الظروف الناشئة عن حرب حزيران 1967, وهكذا ظهرت فروع للاتحاديين سابقي الذكر(الاتحاد العام واتحاد الطلبة) في الداخل, كما ظهرت تنظيمات طلابية جديدة أهمها اتحاد طلبة الضفتين القريب من حركة فتح, والاتحاد الوطني لطلبة الأردن الذي أسسته الكوادر الطلابية للجبهة الشعبية وانحاز للجبهة الديمقراطية بعد انشقاق عام1969.
بعد عام 1970 تراجع العمل الطلابي السياسي في الداخل من جديد, فيما استمر نشاطه في الخارج حيث تمركز الاتحاد العام لطلبة الأردن في بغداد, فيما تمركز اتحاد الطلبة الأردني في براغ, وامتدت فروع الاتحادين لتشمل طلبة أردنيين يدرسون في بلدان عربية وأوروبية وآسيوية عديدة. وشهد كلا من الاتحادين عمليات توحيد وانشقاق متوالية بحسب تطور وتغير العلاقات بين القوى السياسية, حتى أن اتحاد الطلبة غير اسمه ليصير "الاتحاد الوطني لطلبة الأردن" عقب وحدة تياري الجبهة الديمقراطية والشيوعيين الطلابيين في عام 1977 بفعل تقارب الحركتين السياسيتين, وقد حافظ الاتحاد على اسمه الجديد حتى بعد انسحاب الجبهة الديمقراطية منذ عام 1983 في ضوء الخلاف السياسي بين الحركتين.
في الداخل ظل العمل الطلابي السياسي محدودا حتى مع ظهور جامعات جديدة وظهور أشكال من التنظيم الطلابي التابع للجامعات فيها. ومنذ منتصف الثمانينات اخذ ثقل الجسم الطلابي ينتقل إلى داخل البلاد فيما بدأ ينخفض عدد الطلبة الأردنيين الذين يلتحقون بجامعات في الخارج حيث التنظيمات الطلابية القوية, وذلك بسبب التوسع في التعليم الجامعي في الأردن. وهكذا أخذت تلك التنظيمات الطلابية تنكمش تدريجيا و تتحول إلى مجرد هياكل. أما في الداخل فان الميول الطلابية باتت تنحاز إلى الإخوان المسلمين الذين انتعش حضورهم الطلابي بشكل غير مسبوق.
في عام 1989 و في ظل أجواء الانفراج السياسي و تجميد حالة الأحكام العرفية, شهدت الحياة السياسية في البلاد نوعا من النشاط السياسي و الحزبي العلني, واستجاب الطلبة لهذا الواقع الجديد فانخرطوا في حوارات طلابية شاركت فيها مختلف التيارات بهدف الاتفاق على شكل التمثيل الطلابي المطلوب ليتناسب ومرحلة التحول الديمقراطي المعلن, وبعد اخذ ورد اتفقت معظم الأطراف على تشكيل هيئة طلابية شاملة ومستقلة وموحدة تشمل الطلبة الأردنيين الدارسين في كافة الجامعات و المعاهد و الكليات في الداخل والخارج اختير لها اسم "الاتحاد العام لطلبة الأردن" . وقدم هذا الاقتراح للاستفتاء في عدة مواقع جامعية ضمن صيغة "مبادرة الوحدة الطلابية" فنال الاقتراح في الجامعة الأردنية حيث قدمت المبادرة في نيسان عام 1990 موافقة 78% من الطلبة, ثم انتخبت اللجنة التحضيرية للاتحاد العام وانكشفت الانتخابات التي أجريت في عدد من المواقع التعليمية عن سيطرة مطلقة للإخوان المسلمين على الجسم الطلابي وانحسار كبير لوجود القوى اليسارية والقومية وبداية ظهور لتيار طلابي يتبنى الطروحات الحكومية.
لم تنجح اللجنة التحضيرية في تأسيس الاتحاد العام بسبب عدم الموافقة الحكومية عليه, وهنا استثمر الإخوان نفوذهم المطلق في الحركة الطلابية فاتفقوا مع إدارات الجامعات على إقامة اتحادات طلابية موقعيه في كل جامعة على حده, فظهر مجلس طلبة الجامعة الأردنية واتحاد طلبة جامعة اليرموك واتحاد طلبة جامعة العلوم والتكنولوجيا واتحاد طلبة جامعة مؤتة بين عامي 1992و1993, وتقوضت بذلك فكرة الاتحاد العام لطلبة الأردن.
بدت تلك الاتحادات الموقعية ضعيفة ومقيدة منذ ظهورها, غير أن إدارات الجامعات لم تكتف بذلك, فراحت بعد سنوات تغير أنظمة انتخاب اتحادات الطلبة , تارة تنظمها على أساس الصوت الواحد وأخرى على قاعدة تعيين نصف الأعضاء بمن فيهم رئيس الاتحاد. وان كانت سنوات النصف الثاني من التسعينات شهدت شيئا من النشاط المتناسب مع توجهات الإخوان المسلمين من جهة ومع التنافس بين التيار الذي نظم في "التجمع الوطني الطلابي الأردني"(وطن) من جهة ثانية, فان العمل الطلابي السياسي اتجه منذ مطلع القرن الجديد إلى التراجع الشديد والجمود و ربما الموت.
هذه السيرة المختصرة للعمل الطلابي السياسي الأردني تدل بوضوح على أن النشاط السياسي عند الطلبة هو انعكاس لواقع النشاط السياسي في الحياة العامة وفي المجتمع، فالميل السياسي الذي يسود في المجتمع في كل مرحلة هو الذي يسود بين الطلبة في الآن نفسه، كما أن مدى النشاط السياسي بين الطلبة يتناسب طردياً مع مداه في الحياة العامة. فالطلبة لا ينشطون سياسيا إلا حين تنشط الأحزاب السياسية فتقوم بجذب الطلبة ليصيروا أعضاء فيها ثم تدفعهم للعمل السياسي في الوسط الذي يعيشون فيه, أي الوسط الطلابي, فيتكون تيار طلابي قريب من أحد الأحزاب, أعضاؤه هم أعضاء الحزب ومناصروه هم مؤيدو الحزب والمتحمسون لأفكاره.
أما حين تموت الحياة السياسية العامة كما هو حاصل حاليا, و تكون الأحزاب السياسية هياكل و دكاكين و دواوين, فلا تلوموا الطلبة ,إذ من المهم أن نأخذ بالاعتبار ضعف الوعي السياسي في الفئة العمرية التي يتشكل منها الطلبة بسبب حداثة تجربتهم في الحياة العامة, وهذا أمر طبيعي فإذا لم تتوفر الجهة القادرة والجادة في الأخذ بأيديهم على طريق التنوير السياسي, ظلوا رهناً للحالة التي جاؤوا بها من المجتمع الجامد سياسيا إلى الجامعة.
غير أن من الخطأ انتظار انتعاش الأحزاب السياسية, فمن الممكن أن تكون الجهة القادرة على تنشيط العمل السياسي الطلابي هي الجامعة نفسها, إذا رغبت إدارتها بذلك حقا, فليس شرطا أن تكون الجهة التي تقدم التنوير السياسي للطلبة حزبا أو تنظيما , خاصة وأننا نعيش مرحلة تاريخية لا تتواءم تماما والظروف التي مرت بها الحركة الطلابية الناشطة سياسيا من قبل, وأهم ما في هذه المرحلة حالة تدفق المعلومات بفعل تطور الاتصالات الهائل, بشكل كرس قدرة الفرد وقوض قيمة الجماهير التي كانت عماد العمل السياسي. وهذا يعني أن العمل السياسي بحد ذاته يعيش حالياً مرحلة الاختناق لانه لا يمكن أن يتطور وينمو ويؤثر بواسطة الأفراد فقط, ما قد يعني ضرورة إعادة النظر بكثير من المفاهيم وقيم العمل العام الدارجة, وهو أمر ليس هينا بالمرة ويبدو أن لا أمل فيه, فهل يظل الواقع الطلابي رهنا لهكذا أحزاب ميئوس منها؟!
إن مدى جدية أية جهة في تنشيط الحياة السياسية الطلابية مرتبط بقدرتها على تحقيق شرطين اثنين متكاملين, هما في الواقع شروط إحياء العمل الطلابي السياسي, والطريق الوحيدة لتحقيق الغاية مدار البحث اليوم:
أولاً: التقدم بالصيغة التي تمثل الطلبة, أي تنشيط اتحادات الطلبة القائمة حاليا ورفع الأيدي عنها وتحسين صلاحياتها, حتى يصير الطلبة قادرين على التعبير عن حاجاتهم من خلالها وعن مواقفهم السياسية عبر نشاطاتها. والسماح لها بتنظيم نشاطات تثقيفية حقيقية واستضافة محاضرين ذوي فكر تنويري, وكذلك إعداد دورات ودردشات تدريبية تؤهل الطلبة للمشاركة في النشاطات العامة. وعلى الإدارات أن لا تتردد في ذلك, فالتردد والرغبة الحقيقية في تنشيط الطلبة سياسيا لا يجتمعان. والحقيقة أن هذه الخطوة إن حدثت لن تؤتي أكلها كاملا إلا بتشكيل اتحاد عام للطلبة, أي نقابة للطلبة, تمثل مصالحهم وتعبر عن مواقفهم وتكون تدريبا لهم على الممارسة الديمقراطية والعمل السياسي.
ثانيــــا: العمل على ترشيد الانفعالية عند الطلبة, وهي الناتجة عن حداثة التجربة في الحياة العامة وضعف الاطلاع على الأفكار السياسية المتنوعة, ما يجعل الطلبة في اكثر الأحيان يتصرفون بدافع من عواطفهم قبل تفكيرهم, وهو أمر يحدث عند معظم قطاعات المجتمع غير المثقفة, ونحسب لذلك أن طلبة الجامعات يجب أن لا يكونوا الا من تلك الفئة المثقفة القادرة على التفكير والنقد.
إن من معالم هذه الانفعالية الانغلاق أمام الآخر, ورفض التعرف على أفكاره, وشيوع فكرتي التكفير والتخوين بين المجموعات الطلابية, فمن يتبنى الطرح الإسلامي ينظر للآخر الذي يتبنى طروحات تسمى "وطنية" أو "يسارية" أو غيره باعتباره كافرا دون أن يدرس أفكاره وينقدها, فيما الآخر الذي يتبنى الطرح المسمى وطنيا –مثلاً- ينظر للآخر باعتباره خائنا ومشروع عميل, دون أن يقترب منه ويفهمه أيضا.
هذه المهمة لا يمكن إنجازها دون إشاعة ثقافة الديمقراطية بين الطلبة, وتنويرهم بمختلف مدارس الفكر السياسي تنويرا محايدا يهدف إلى تنشيط قدراتهم على التفكير والاختيار والنقد دون انطباعات مسبقة وملقنة.
أما كيف يتم ذلك, فهو الصعب عينه, وهو ما يفترض أن تعرفه الجامعات باعتبارها أولا مؤسسات تعليم, وقد نقترح تنظيم المحاضرات أو توزيع الكتيبات أو غيره, إلا أن الأمر على ما يبدو متصل بالعملية التعليمية نفسها التي تتهم بأنها تقوم على التلقين ولا تشجع التفكير المستقل.
غاية ما نرمي إليه هو إحياء النشاط السياسي في الوسط الطلابي لما في ذلك من انعكاس إيجابي يعارض حالة التخلف التي تعيشها المجتمعات العربية حاليا, فان تحقق ذلك بفعل نشاط إدارات الجامعات كان له انعكاسه وأثره الأكيد على مستقبل البلاد وفاعلية المواطن الذي يتأهل أولا (أو لا يتأهل) في الجامعات, وان تحقق بفعل نشاط الحياة الحزبية و السياسية العامة كان له انعكاسه وأثره على مستقبل البلاد وعلى حاضرها أيضـــا.