|
معارك كارل ماركس الفكرية والسياسية
خليل البيطار
الحوار المتمدن-العدد: 2336 - 2008 / 7 / 8 - 11:23
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ظلت كتابات ماركس واستنتاجاته ومعاركه الفكرية محط اهتمام الباحثين في أرجاء العالم، منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا، وظلت مرشدة وملهمة للتيارات اليسارية والديمقراطية والتحررية في العالم كله. فقد استطاع تمثل أفكار عصر الأنوار، ومتابعة نتائج الاكتشافات العلمية ونقد آراء الفلاسفة والسلطات القامعة. ويعود الفضل له ولرفيقه إنجلز في بيان النظريات والمسلمات التي شاخت، وبضمنها ما شاخ من أفكارهما بعد مرور سنوات على نشرها. وكتاب (كارل ماركس أو فكر العالم) الذي أعده جاك أتالي وترجمه عن الفرنسية محمد صبح، وصدر عن دار كنعان بدمشق عام 2008 بكلمة غلاف للدكتور فيصل دراج، ليس عرضاً تقليدياً لسيرة حياة ماركس، ولكنه رصد علمي لمحطات رحلة حياته الحافلة بالسجالات والغوص في عمق أسباب البؤس الإنساني، وللمؤثرات الاجتماعية والثقافية ومسارات الصراعات الطبقية على وعي الرجل ونشاطه واكتشافاته وكتاباته. إذ يضعنا المؤلف في فصول الكتاب السبعة أمام شخصية متعددة الاهتمامات، متقدة النشاط وحاضرة في مركز الصراع الاجتماعي ودوائر التأثير في اتجاهاته. فهو الفيلسوف والثوري الأوربي وزعيم الاشتراكية الدولية، والاقتصادي المحلل لاقتصاد الدولة الإمبراطورية في القرن التاسع عشر بريطانيا. وهو شخصية مؤثرة على النشاط العلمي والنقابي والسياسي، في ألمانيا وأوربا كلها. وقد عرّضه نشاطه لألوان من التضييق والرقابة والمساءلة والمحاكمات والسجن والتخفي. وعانى هو وأسرته ألوان الفاقة، واضطره ذلك إلى طلب العون من أصدقائه، ومن بينهم إنجلز ولاسال. واضطره الأمر أحياناً إلى تأجيل إكمال مخطوطات كتبها، فأرسل مقالات إلى الصحف من أجل تأمين نفقات العيش. ولماركس الفضل في كشف أهمية الرأسمالية وجبروتها ووحشيتها. فالإنتاج الرأسمالي يخلق العمل الفائق والقيمة، ويخلق في الوقت نفسه منظومة استغلال كلي، فهو يحضر ويكبل في آن معاً. وقدم ماركس لمؤلف الرأسمال الذي استغرقه عشرين عاماً من التفكير والتنسيق والكتابة. يقول: (كما أنه لا يحكم على فرد من الفكرة التي يكونها عن نفسه، لا يمكن الحكم على عصر انقلابات كهذا من وعيه بنفسه، بل يجب على العكس تفسير هذا الوعي بتناقضات الحياة المادية، وبالصراع الواقع بين القوى المنتجة الاجتماعية وعلاقات الإنتاج، فلا تزول بنية اجتماعية أبداً قبل أن تتطور كل القوى المنتجة التي تتسع لها هذه البنية، وما من علاقات إنتاج جديدة ومتفوقة تقوضها قبل أن تنشأ ظروف الوجود المادي لهذه العلاقات في قلب المجتمع القديم. ولهذا السبب لا تضطلع الإنسانية أبداً إلا بمهمات تستطيع تحقيقها). وعند إقامته في بريطانيا، ودراسة الاقتصاد الإنكليزي، وتنظيم الحلقات النقابية والعمالية لم ترْتَبْ الشرطة البريطانية بهذا المراسل الألماني، فهو ليس عدواً للتاج البريطاني، وكتبه القليلة لا تباع، ولا يضع مؤسسات البلاد موضع اتهام، ولا يميل إلى العنف. ولكنه في الوقت نفسه كان محطة يمر بها كل مثقف وقائد نقابي في أوربا أو أمريكا، كما روى بول لافارغ الذي غدا أمين سره وصهره، وهو طالب طب من كوبا. وكتب رواية أظهر فيها جوانب حياته، وقال: كان دماغه كسفينة حربية لا تزال في المرفأ، لكنها تحت ضغط البخار جاهزة للانطلاق في أي اتجاه وسط محيط الفكر. وأصبح العمل لديه ولعاً يستغرقه إلى الحد الذي ينسيه أوقات الطعام. وكان يخوض مع زائريه حوارات حول أدباء أوربا الكبار بلزاك وسرفانتس وكالديرون وتورجينف، ويكلم زائريه بلغات بلدانهم التي أتقنها. لقد عارض ماركس نقل مقر الجمعية الدولية للشغيلة إلى سويسرا باقتراح من أنصار باكونين، لأنه (رأى أن الوضع في القارة غير موات لتغيير هذا)، ولأن بريطانيا هي عاصمة الرأسمال، مع علمه بأن عمالها مروّضون، ولكن لا مجال لإبعاد الجمعية عنها وعن إشرافه عليها. ولم تتوقف المعارك الطبقية والسياسية التي خاضها ماركس ضد الرأسمالية من جهة وضد الفوضوية في صفوف الاشتراكية الدولية التي مثلها باكونين من جهة ثانية. وقد ساهمت الفوضوية في إعاقة النشاط الجماعي لمندوبي الشغيلة في أوربا وأمريكا. واضطر ماركس في مؤتمر لاهاي عام نقل 1872 إلى اقتراح نقل مقرها إلى الولايات المتحدة، وأقر المؤتمر الاقتراح رغم معارضة باكونين ومناصريه. عمل ماركس مراسلاً ومحرراً في عدد من الصحف، ومن بينها: نيويورك وديلي تريبيون، لاليبرتيه دو بروكسل، لاغازيت رينان. وكان تلميذاً لفويرباخ ومعجباً بكتاباته ومنتقداً له في الوقت نفسه. وقد قال موزس هس لأحد أصدقائه عام 1842 عن ماركس: تستطيع أن تتهيأ للقاء الفيلسوف العظيم: وربما الحقيقي الوحيد في الجيل الحالي. تخيل روسو وفولتير وهولباخ وليسنغ وهاينه وهيغل مجتمعين في شخص واحد: أقول مجتمعين وليسوا متجاورين، فلديك الدكتور ماركس. وقد هجا ماركس أفكار الفوضوية التي تطالب بامتناع العمال عن مقاربة السياسة ـ ورأى أن واجب الطبقة العاملة خوض المعارك في الميدانين السياسي والاجتماعي على السواء كي يتداعى المجتمع القديم. كان ماركس معجباً ببلزاك صاحب (الملهاة الإنسانية)، وكان يعتزم وضع كتاب عنها، ووضع عدداً من الكتب الفلسفية والنقدية الأخرى. وتغدو نظرية صراع الطبقات التي اكتشفها ماركس، ونظرية الانتخاب الطبيعي التي اكتشفها داروين، ونظرية الترموديناميك التي ترصد تحولات المادة، أهم النظريات التي تتحدث عن طفرات كبرى، وتغيرات متناهية الصغر وزمن يجري نحو الحرية، على حد تعبير ماركس والتكيف الأفضل، كما رأى داروين. في 14 آذار عام 1883 قضى ماركس بمرض السل، وكان إلى جانبه رفيق دربه لأربعة عقود فريدريك إنجلز، وقد شيّعه أحد عشر شخصاً من أفراد أسرته وتلامذته. وابَّنه إنجلز بكلمة قال فيها: إن ماركس في كل الميادين التي درسها، وقد درس منها الكثير وبعمق، وحتى في الرياضيات، قام باكتشافات، إذ كان العلم دينامية تاريخية وقوة ثورية، وفيما وراء ابتهاجه باكتشاف قوانين نظرية لا يمكن توقع نتائجها إلا بصعوبة، كان أيضاً طرفاً فاعلاً في التغيير الثوري ضمن الصناعة، لأنه كان أولاً وقبل كل شيء ثورياً، وكانت رسالته في الحياة الإسهام بشكل أو بآخر في تقويض المجتمع الرأسمالي والمؤسسات التي خلقها من أجل تحرير البروليتاريا الحديثة التي كان أول من حدد شروط تحررها. وكتب عديدون عن حياته وإسهاماته النظرية والعملية، ومن بينهم ليبكنيخت وميهرنغ، ونيكولايسكي وإنجلز ولينين. وقد اشترك إنجلز معه في إعداد البيان الشيوعي، كما أكمل بعض مخطوطاته. أسلوب الكتاب يجمع بين البحث العلمي والسرد المشوق للتفاصيل الصغيرة وتأثيرها على وعي الإنسان. وأهميته تكمن في أن مؤلفه لم يكن متعاطفاً مع الماركسية، ولكنه اكتشف ببصيرته النافذة أن الماركسية ما زالت إلى يومنا منهجاً نظرياً أساسياً لا يمكن إنكاره، وأنها تساعد على إصلاح الواقع الإنساني، وهو إصلاح لا يستقيم دون الاستفادة من تاريخ الماركسية في وجهيه النظري والعملي معاً على حد تعبير د. فيصل دراج. وفي ظل هيمنة اقتصاد السوق، ونمط الإنتاج المعولم، وأساليب المضاربة العابرة للحدود والقارات، وفي ظل تسليع البشر وصعوبة تحديد تخوم الطبقات الاجتماعية تظل أفكار ماركس وإضاءات من أغناها وتمثلها في عدد من بلدان العالم، مصدراً للمعرفة والفهم والكفاح الإنساني النبيل من أجل مجتمعات تسودها العدالة والكرامة والفاعلية.
#خليل_البيطار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أكادير: احتجاجات وإضراب عام للعاملات العمال الزراعيين باشتوك
...
-
بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع
-
فرنسا: هل ستتخلى زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان عن تهديدها
...
-
فرنسا: مارين لوبان تهدد باسقاط الحكومة، واليسار يستعد لخلافت
...
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأوروغواي
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأورغواي خلال الجولة الثا
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|