|
مبادئ لسياسة معارضة عقلانية في شروط الكفاف السياسي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2335 - 2008 / 7 / 7 - 11:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
السنوات الثمانية من المنقضية من الطور الجديد من العمل العام المستقل، والتي تجايل عمر عهد الرئيس بشار الأسد، كانت موسومة بسياسة منفعلة من قبل المعارضين السوريين. ففي طور أول امتد حتى عام 2005 هيمنت مقاربة إصلاحية، تغري النظام بالإصلاح لأن هذا أفضل لـ"الوطن"، وفيما بعد هيمنت مقاربة تغييرية امتزج في دوافعها شعور بعقم المقاربة الإصلاحية، وتقلقل أوضاع النظام بفعل الديناميات الإقليمية والدولية التي تلت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. اليوم، وبفعل تفجر أزمة العمل المعارض نتيجة التقاء ثلاثة عوامل: اعتقالات طالت ناشطين بارزين، وانشقاق سياسي وإيديولوجي زامنها، ووصول المقاربة التغييرية إلى طريق مسدود، تمس الحاجة إلى سياسة مختلفة أكثر اتساقا واستقلالية، وأقل انفعالا بسياسات فاعلين لا تأثير للنشاط المعارض على توجهاتهم، إن النظام ذاته أو قوى إقليمية ودولية تناوئه حينا وتتفق معه حينا آخر وتشبهه في جميع الأحيان. يمكننا اقتراح المبادئ الثلاثة التالية أسسا لسياسة مختلفة. يقضي المبدأ الأول بتفادي المجابهة مع النظام وتجنب ما قد يفضي إليها. فالقوة لعبة النظام ورياضته المفضلة. والانجرار إلى هذا الملعب هو ما يناسبه لأنه يحوز تفوقا حاسما لا جدال فيه. المشكلة هنا أن النظام قد يمارس القوة، ولطالما فعل، حتى حيال اعتراضات سياسية لم تسل بسببها نقطة واحدة من دماء السوريين أو غيرهم في أي يوم. فما معنى تجنب المجابهة في مثل هذه الحال؟ وهل يقع العبء في وجوب التجنب على معارضين لا يكاد يبقى لديهم ما يتنازلون عنه غير وجودهم، أم على نظام اتسم دوما بخشونة لعبه وانخفاض عريق لعتبة توسل العنف لديه؟ الأمر عسير فعلا. إلا أن عسره لا يمس حقيقة أن على الضعيف، وهو المتضرر الأول من أوضاع المجابهة، أن يساعد نفسه ويبحث عما يبقيه على قيد السياسة متجبنا القمع والاستقالة. وليس تجنب المجابهة ضروريا فقط لأن من شأن مجابهة غير متكافئة أن تبدد طاقات نادرة عند جهة قلما تمتعت بوفرة الطاقات، وإنما كذلك لأن لها مفعول ردعي: تضرب أنشط المعارضين فتشل من حولهم، وتعزل حركتهم ككل عن الجمهور العام. وهذا عكس المراد طبعا من سياسة معارضة متبصرة. ويوجب المبدأ الثاني ألا يقدم المعارضون أية تنازلات في شأن إعادة بناء الحياة السياسية على أسس ديمقراطية، تمكن أوسع قطاعات الجمهور من أن يكون له قول في الشأن العام، وكذلك في شأن تطوير معرفة ونقد راديكاليين لهياكل السلطة والثروة في البلد (مع اعتدال النبرة دوما). والمبدأ هذا مكمل للمبدأ الأول. فاجتناب المجابهة مشروط بعدم تقديم تنازلات، وإلا بات انهزاما واستسلاما. وعدم تقديم تنازلات يتوافق أكثر مع النجاح في تجنب المجابهة والقمع. أما الانجرار إلى المجابهة وعدم التنازل في مثل شرطنا فقد يخلق أوضاعا صعبة تشل العمل العارض أو تجبره على التنازل، أو تدفعه إلى التحدي والانزلاق نحو مجابهة جديدة انتحارية. ونفترض أن الجمع بين مبدئي تجنب المجابهة وعدم التنازل ممكن، وإن بصعوبة. فإذا أصرت السلطات على مواجهة وتحطيم أي نشاط معارض أو حتى مستقل، وقد كان الحال كذلك تقريبا في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، يغدو مبدأ عدم التنازل مبدأ قلبيا، أو مبدأ أضعف الإيمان. أي ينحصر تطبيقه على دائرة الحياة الخاصة. وهذه نتيجة نقبلها بلا تردد. ليس فقط ضناً بحياة وحرية وكرامة مواطنين "عامين" لكن ضعفاء، وإنما كذلك لأن من شأن خوض غمار مواجهة غير متكافئة، تتسبب حتما بآلام وفواجع كبيرة، أن يقسي القلوب ويوطن الحقد ونزعات الانتقام فيها. وهذا نذير بأن يتشكل المستقبل على صورة الماضي ومثاله، الأمر الذي يتعارض مع تطلعات المعارضين التحررية. في شروط أقل قسوة من عقدي القرن الماضي الختاميين قد يمكن الجمع بين مبدئي عدم التنازل وتجنب المجابهة بصورة أقل صعوبة. على أية حال إن مهمة السياسيين هي إيجاد مخارج من تناقضات لا مجال للتخلي عن أي من طرفيها. وهذا يحتاج إلى شجاعة مختلفة عن شجاعة عدم تقديم التنازلات، دون أن تكون أقل أهمية. المبدأ الثالث هو إعادة بناء العمل المعارض، مفهوما وفكرا وتنظيما وسياسة. هذا ميدان عمل أساسي كانت تحجبه أو تقلل من أهميته ثقافة سياسية صراعية، تعلي من قيمة "النضال" و"التحدي" و"الصلابة"، رغم أن حملتها في وضع يجعلهم أول المؤهلين للانكسار؛ ثقافة تطور أخلاقية محابية لتوجهاتها هذه، فتركز على "البطولة" و"الصمود" وتدين "الانهيار" و"التخاذل"... ثقافتنا السياسية هذه غير مؤهلة للتفكير في مواجهة متكاملة ناجحة مع الاستبداد، وهي أقل تأهيلا بعد لبناء منظمات وأحزاب وحركات معارضة متطورة أو قابلة للتطور. وحتى لو افترضنا أن مجابهة الاستبداد نجحت بمعجزة ما، فمن أين لحركة معارضة متداعية البنيان، تستغني بمجابهة الخصوم عن بناء الذات، أن تتصدى لأعباء ما بعد الاستبداد، أي بناء الديمقراطية؟ وقد ندرج ضمن المبدأ الثالث هذا وجوب تنقية أجواء العمل المعارض وتجنب الانجرار إلى خصومات داخله. فإذا كان تفادي مجابهة السلطات أمرا مرغوبا، فمن باب أولى يتعين تفادي توترات وصراعات جانبية في أوساط المعارضين. هذا فضلا عن أنه يمتنع الجمع بين عمل تحرري مخلص وبين أجواء مسمومة في أوساط الناشطين العامين. هل لسياسة منضبطة بمبادئ كهذه أن تكون مجدية؟ للأسف ليس لنا أن نتوقع كبير جدوى منها. فما يحكم بلا فاعلية العمل المعارض هو شروط الكفاف السياسي المفروضة منذ أمد يتجاوز عمر نحو 85% من السوريين. إلا أن رهانها أصلا لا يتجاوز إنقاذ فسحة لعمل وطني عام لم يلوثه الفساد ولا الاستبداد، قد تكون أساس أصلح لبناء وطني معافى ذات يوم. وهي إن لم تمكننا من التقدم في العمل التحرري، فإنها قد تحصننا من الانزلاق إلى الوحشية. *** قبل حين، وفي غير هذه الصفحة، كان كاتب هذه السطور اقترح رؤية لمواجهة إسرائيل من قبل أي طرف أو أطراف عربية ممكنة، تقوم على هذه المبادئ ذاتها: تجنب المواجهة، عدم تقديم تنازلات، البناء الداخلي. وحيال الواقعين تبدو الرؤية هذه ممكنة واقعيا، ومتسقة أو غير متناقضة ذاتيا. ولعل الأصل في صلاحية المبادئ ذاتها من أجل العمل المعارض كما من أجل مواجهة الواقعة الإسرائيلية هو الاختلال الهائل في موازين القوى لغير مصلحة الأطراف العربية والمعارضات الديمقراطية من جهة، وانعدام الثقة العميق وسوء الظن المجرب والمبرر بالطرف الأقوى في الحالين من جهة ثانية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خواطر في شأن نحوس الليبرالية العربية وسعودها
-
نظريات الفساد السوري وبرامجها العلاجية المقترحة
-
غسان المفح يحاور ياسين الحاج صالح
-
سورية والسير على قدم واحدة
-
أي موقع للسلطة الدينية الإسلامية في الدولة الحديثة، عندنا؟
-
المثقفون والمخابرات والمؤامرات والتنوير...
-
المثقفون السوريون والتفاوض السوري الإسرائيلي
-
الوطنية التخوينية والتدين التكفيري
-
أفحمتُه، أفحمناهم... النقاش كاستمرار للحرب بوسائل أخرى
-
في نقد الأهل وأهل النقد
-
لبنان: السهل والصعب والغريب!
-
لبنان، سورية، إسرائيل وفلسطين: -نماذج مثالية- لدول استثنائية
-
في شأن الإصلاح السياسي والهوية الوطنية في سورية
-
-التفاصلية- والعلمانية ونقد الشأن الإسلامي
-
حزب الله مقاوماً في .. بيروت
-
شتاينماير ضد كانط
-
جيل عربي ثالث أمام الواقعة الإسرائيلية
-
خبز شعير.. عربي
-
الأولوية، عربيا، للتقدم أم لمواجهة إسرائيل؟
-
الدين كحق من حقوق الإنسان
المزيد.....
-
تحليل: رسالة وراء استخدام روسيا المحتمل لصاروخ باليستي عابر
...
-
قرية في إيطاليا تعرض منازل بدولار واحد للأمريكيين الغاضبين م
...
-
ضوء أخضر أمريكي لإسرائيل لمواصلة المجازر في غزة؟
-
صحيفة الوطن : فرنسا تخسر سوق الجزائر لصادراتها من القمح اللي
...
-
غارات إسرائيلية دامية تسفر عن عشرات القتلى في قطاع غزة
-
فيديو يظهر اللحظات الأولى بعد قصف إسرائيلي على مدينة تدمر ال
...
-
-ذا ناشيونال إنترست-: مناورة -أتاكمس- لبايدن يمكن أن تنفجر ف
...
-
الكرملين: بوتين بحث هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي التوتر في
...
-
صور جديدة للشمس بدقة عالية
-
موسكو: قاعدة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا أصبحت على ق
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|