صادفت في 21/1/2004 الذكرى الثمانين لوفاة ف.أ.لينين، العَلَم الماركسي الثوري، وقائد ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى ومؤسس الاتحاد السوفييتي وواضع الأسس الفكرية للبناء الاشتراكي ومبادئ التنظيم الشيوعي من نوع جديد. ورغم مرور ثمانين سنة على وفاته، وبالرغم من انهيار نمط البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي، فإن الاهمية لدور لينين في تاريخ تطور البشرية الحضاري، كمفكر نظري وقائد عملي في نفس الوقت، لا تزال الى يومنا هذا تحظى باهتمام ليس فقط من يواصلون حمل الراية الطبقية الثورية من الشيوعيين بل حتى الد اعداء الشيوعية من الذين يحاولون تقزيم الدور التاريخي للينين كوسيلة في هجومهم المنهجي على الشيوعية وعلى الفكر الماركسي - اللينيني وكأنه قد انهى رسالته التاريخية وفشل في ايجاد نموذج بديل لمجتمع الاستغلال الرأسمالي، نموذج مجتمع ارقى حضاريًا واكثر عدالة اجتماعية، مجتمع يوفر السعادة للانسان والحرية والدمقراطية والمساواة.
لن أتطرق في سياق هذه المعالجة السريعة الى مختلف اسهامات لينين في تطوير واثراء الفكر الماركسي الثوري، وعبقريته في الربط بين الفكر والممارسة في ظل الظروف والتطورات والمتغيرات الحاصلة والمرتقبة في حينه محليًا في الاتحاد السوفييتي وعالميًا، كما لن أتطرق الى التشويه الذي حصل بعد وفاة لينين للفكر الماركسي وما عكسه من ممارسات في عملية البناء الاشتراكي، وقاد في نهاية المطاف الى انهيار النظام في اول بلد اشتراكي. وسأركز بالأساس على بعض أوجه اللينينية التي لا تزال الى يومنا هذا مثار جدل وصراع خاصة مع اعداء الشيوعية اعداء الفكر الطبقي الثوري الماركسي.
* الموقف اللينيني من الدمقراطية:
انطلاقًا من موقفه الماركسي الطبقي وادراكه لحقيقة ان الدمقراطية عبارة عن شكل من أشكال السلطة، وأن المجتمع الجديد الذي انتصرت فيه ثورة العمال والفلاحين بحاجة موضوعيًا الى نمط جديد من الدمقراطية يختلف جذريًا من حيث مضمونه ومدلوله الطبقي عن الدمقراطية البرجوازية التي تخدم في نهاية المطاف مصالح نظام استغلال الانسان لأخيه الانسان، نظام خدمة مصالح أرباب الرأسمال اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وفي وقت يحرم فيه العاملون وغالبية الجماهير الشعبية من حقوق الانسان الاولية (البطالة والفقر والتمييز في توزيعة الدخل القومي) ويعانون من مختلف مظاهر التمييز الطبقي والعنصري والديني والجنسي بين الرجل والمرأة. تحدث لينين في العديد من مؤلفاته النظرية، "موضوعات نيسان" الدولة والثورة" وغيرهما عن اسس وطابع ومدلول الدمقراطية الاشتراكية السياسي والطبقي الاجتماعي، عن دمقراطية تطلق الحريات للجماهير ولمشاركة الملايين في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وعلى مختلف المستويات والصعد والمتعلق بدفع عجلة تطور مجتمعها الذي يسير على سكة بناء الاشتراكية في شتى المجالات. ولم يكتف لينين وحزبه الشيوعي بصياغة الأسس النظرية للدمقراطية الاشتراكية بل طور أرقى نمط دمقراطي حتى يومنا هذا، عن طريق السوفييتات (المجالس) المنتخبة من القاعدة وحتى القمة، من مكان العمل الى المؤسسة التعليمية الى جمعيات المزارعين ومجلس القرية ومجالس المدن ومجالس الجنود والمقاطعات و"الدوما" - البرلمان - انتخابات مباشرة وسرية خاضعة بشكل دائم للمراقبة والمساءلة والمحاسبة من قبل الجماهير التي انتجتها. فهذه الجماهير الشعبية الواسعة، التي كان لها مصلحة في الثورة الجديدة، شاركت بملايينها وبشكل خلاق ليس فقط في صيانة هذه الثورة التي اراد في حينه وينستون تشرتشل الانجليزي "القضاء على البيضة قبل ان تفقس"، بل صنعت المعجزات. فخلال اقل من عقد، من عهد لينين، انتقلت روسيا المتخلفة صناعيًا والتي شغلت قبل ثورة اكتوبر المكان الـ - 13 في تدريج الدول الصناعية، الى دولة تتطور صناعيًا بعد انجاز مشروع كهربة الاتحاد السوفييتي لتحتل المكانة الثانية بعد الولايات المتحدة. ولم يقتصر الأمر على التصنيع والكهربة، بل رافق ذلك ثورة ثقافية حيث أصبح العلم في متناول الجميع ومجانيًا، والثقافة في متناول الجميع، وثورة صحية حيث اصبحت الخدمات الصحية مجانيًا وفي خدمة الجميع وبمساواة.
والسؤال الذي نطرحه، الدمقراطية في نهاية المطاف، لمن وتخدم مصلحة من؟ ونمط الدمقراطية الاشتراكية الذي تجسد على شكل السوفييتات اجاب على هذين السؤالين بأن الدمقراطية للجماهير الشعبية ولخدمة مصلحتهم التي لا تنفصم وبعلاقة جدلية عن ومع المجتمع الذي يبنون أسسه، المجتمع الاشتراكي المنشود.
المنظرون البرجوازيون وخدامهم من الساسة وغيرهم يعملون على تشويه حقائق ومضامين الدمقراطية الاشتراكية باختزالها بأحد مظاهرها، بمظهرها السياسي، وانه في عهد لينين غابت التعددية السياسية الحزبية. وهذا محض افتراء على الواقع وعلى التاريخ. ففي السنوات الاولى للثورة كانت التعددية السياسية قائمة من خلال تشكيلة مختلفة من الاحزاب السياسية من حزب المناشفة الى حزب "الاسيريم" - الاشتراكيون الثوريون، وحزب الفلاحين وغيرهم، ولكن لجوء هذه الاحزاب الى المعسكر المعادي للثورة بامتشاق السلاح الى جانب ابان التدخل الاجنبي لدفن الثورة افقدهم شرعيتهم. هذا اضافة الى ان لينين ومن خلال سياسة "النيب" - سياسة اقتصادية جديدة، قد سمح في مطلع العشرينيات، وقبل وفاته بثلاث سنوات، بالتعددية الاقتصادية، بنشاط ستة انماط اقتصادية - اجتماعية - ستة اشكال من الملكية الخاصة والفردية والجماعية - كمقدمة لظهور وتطور تعددية سياسية، ولكن الموت لم يمهله لاتمام مشروعه المتكامل الاقتصادي والسياسي.
وما حدث بعد لينين في العهد الستاليني هو ما حذر منه لينين وهو على فراش المرض عشية موته، بأن تكون البيروقراطية البديل للدمقراطية، فقد قال لينين لمن حوله من الرفاق في حينه "اذا كتب على الاشتراكية في بلادنا بالموت فسيكون ذلك بسبب البيروقراطية". وهذا ما حدث للاسف.
* الموقف من اللينينية:
ان اكثر السهام الموجهة ضد الماركسية كمنهج ونهج ثوري لمعرفة وتغيير الواقع، لتغيير المجتمع جذريًا تنطلق تحت يافطة محاربة اللينينية، تارة تحت ستار وضع لينين وستالين في قالب واحد، وانه لا فرق بينهما، وتارة تحت ستار ان اسم لينين سطع اكثر من غيره من قادة ماركسيين من شتى البلدان، لأنه من الاتحاد السوفييتي، اول بلد يسير على طريق بناء الاشتراكية، وكدولة عظمى، ولهذا جرى املاء سوفييتي باقران اللينينية بالماركسية.
وما نود تأكيده ان الماركسية ليست دينًا او عقيدة جامدة، بل هي علم ومنهج ونهج ثوري في مركزها منهجها الجدلي الذي يضيء الطريق في كيفية التوجه لمعرفة العالم المحيط، ظواهره وخفاياه وآفاقه المرتقبة، وانه بناء على هذه المعرفة النضال ثوريًا من خلال الاخذ بالاعتبار درجة تطور العوامل الذاتية وما يحيطها من عوامل موضوعية لتغيير هذا العالم، المجتمع جذريًا وبشكل يقضي على جوهر الاستغلال الرأسمالي ومظاهر موبقاته المختلفة من تمييز اجتماعي وعنصري وقومي الخ.
استنادًا الى المنهج الجدلي الماركسي طور لينين في مطلع القرن العشرين الفكر الماركسي ليس فقط بتجسيده على الارض بنجاح ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى، بل كان هذا التجسيد نتاج محصلة فكرية طور من خلالها لينين وعلى قاعدة دراسة علمية للمتغيرات الحاصلة على ساحة التطور العالمي الرأسمالي "قانون التفاوت في درجات التطور الاقتصادي والسياسي في العالم الرأسمالي" الذي بموجبه بنى برنامجه الثوري بامكانية انتصار الثورة الاشتراكية في بلد واحد اولا، في اضعف حلقة في السلسلة الرأسمالية، وجسد هذا القانون في روسيا الحلقة الضعيفة وانتصرت الثورة. لينين طور افكار ماركس على قاعدة التحولات في شكل الملكية ونشاط الرأسمال في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من خلال مؤلفه "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية". صحيح انه حدثت تغيرات كبيرة في بنية الرأسمال وشكل الملكية وبنية الطبقة الكادحة، طبقة العاملين في ظل العولمة الراهنة وتطور الثورة العلمية - التقنية والمعلوماتية، ولكن ذلك لا يقلل من اهمية موروث لينين الفكري عن المرحلة الامبريالية، خاصة، كما قلنا ان المنتوج الفكري ليس كتابًا دينيًا، بل منارة يهدي السبيل الى كيفية التناول الماركسي - اللينيني لقضايا الواقع المحيط، كيف يتعامل مع حقائق الواقع وما هي استنتاجاته. فاليوم في ظل العولمة الرأسمالية وحتى في ارقى بلدانه تطورًا عصريًا تنعدم العدالة الاجتماعية وتبرز مختلف اشكال القهر والتمييز الامر الذي يعكس حقيقة انه لا مفر للبشرية من النضال لانجاز مجتمع بديل تسوده العدالة الاجتماعية، كما يعكس حقيقة انه ما دام هنالك ظالم ومظلوم فلا مفر موضوعيًا من وجود نشاط حزب ثوري شيوعي ماركسي - لينيني يناضل لازالة الغبن متعدد الجوانب ومن اجل مجتمع العدالة والحرية الحقيقية الاشتراكي.
ان مساهمة لينين الكبيرة في تطوير الفكر الماركسي انه ربط جدليًا بين النظرية الثورية والممارسة الثورية، وان النظرية الثورية بحاجة الى حزب ثوري لتجسيدها جماهيريًا، حزب يختلف بفكره وبتنظيمه عن الاحزاب الاشتراكية الدمقراطية الاصلاحية والانتهازية التي تدور في فلك العمل على تجميل صورة الرأسمالية من خلال نضالات الاصلاحات في اطار النظام دون المس بجوهره الاستغلالي. فللينين الفضل في صياغة المبادئ الاساسية لحزب من نوع جديد في مركزها مبدا المركزية الدمقراطية التي تجمع بين متناقضين في وحدة جدلية بين المركزية في الالتزام بالتنفيذ وبين الحرية الدمقراطية باعطاء القواعد المشاركة في صياغة القرار وتنفيذه (هذا الموضوع يحتاج الى معالجة خاصة). فبفضل الدمقراطية المركزية يصان الحزب من داء دكاكين "حارة كل مين ايدو الو" ومن التعددية التنظيمية في داخله مع اعطاء الحرية الكاملة لكل من يريد بابداء رأيه في اطار تنظيمه. والقوى المعادية للشيوعية والماركسية تحارب اللينينية لانها تريد للاحزاب الشيوعية ان تتخلى عن ما يميزها من فكر وتنظيم يميزها عن الآخرين.