كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 2333 - 2008 / 7 / 5 - 10:32
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
الحلقة الثانية
الجلبي ومآخذه الفكرية على الجادرجي!
كتب الدكتور فاضل الجلبي في مقالاته المشار إليها في الحلقة الأولى انتقاداً لاذعاً موجهاً إلى فكر وممارسات الأستاذ كامل الجادرجي بسبب تبنيه مبادئ الفكر الاشتراكي الديمقراطي "المستورد والغريب عن تربة الوطن" والذي "لا يتناغم مع الواقع العراقي" , كما اعتبر بأن تبني الحزب الوطني الديمقراطي لهذا الفكر لم ينشأ عن قناعة القيادة بهذا النهج بل بسبب تسلط الجادرجي على قيادة الحزب وفرض فلسفة حزب العمال البريطاني على الحزب الوطني الديمقراطي في أعقاب الحرب العالمية الثانية, أي بعد عام 1946 حين بدأ الحوار حول برنامج الحزب وفلسفته واتجاه نشاطه. ونسى أو تناسى تبني الأستاذ الراحل محمد حديد لنفس الفكر والآراء وإلى حدود مقاربة أيضاً تبناها الأستاذ الراحل حسين جميل. ثم راح يؤكد لنا بأن وجهة نظر الجادرجي نحو الاشتراكية الديمقراطية كانت لا تعني عملياً سوى انفصامه عن الواقع الاجتماعي السياسي السائد في العراق .
وتتبادر إلى ذهن الإنسان وهو يقرأ النص التالي للدكتور فاضل الجلبي الكثير من الأسئلة , إذ يكتب الجلبي:
"وهناك قضية جديرة بالذكر وردت في مذكرات الجادرجي، أشارت إلى تسلط الرجل على الحزب، وعدم قبوله برأي الأكثرية، مثلما تقتضي القواعد الديموقراطية ، كما أشارت إلى انفصامه عن الواقع الاجتماعي السياسي في العراق ، عندما أخذ ينادي بشعارات غير قابلة للتطبيق في البلد ، وهي اقتراحه على اللجنة العليا للحزب تبني الديموقراطية الاشتراكية على طريقة حزب العمال البريطاني شعاراً للحزب. كانت الأكثرية ضد الاقتراح بسبب اختلاف الظروف الاجتماعية بين العراق وبريطانيا، ولذلك لا يمكن تبنيها كمنهاج قابل للتطبيق. وبدلاً من خضوع الجادرجي لرأي الغالبية، بحسب مفاهيم الديموقراطية ، قدم استقالته من اللجنة احتجاجاً ، واعتكف في داره ، ولم يرجع إلى الحزب إلا بعد وساطات كثيرة من شخصيات في الحزب ، وانتهى الأمر بفرض رأيه. لكن المعروف أن حزب العمال البريطاني ، الذي تبنى الديموقراطية الاشتراكية ، لم يكن إلا ثمرة لآراء مجموعة من المفكرين والمثقفين اليساريين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، على رأسهم جورج برناردشو وبياتريس وموريس دوب وغيرهم. وكان هؤلاء يؤمنون بالماركسية نظرية ، ولكنهم يعتقدون بأنها غير قابلة للتطبيق في بريطانيا ، من خلال الثورة ، وإنما من خلال العمل الديموقراطي ، ومحاولة الوصول إلى الحكم من طريق الانتخابات ، واستعمال ضغوط العمال ، الذين كانوا يمثلون الطبقة الأكبر في المجتمع البريطاني" .
يثير هذا النص أسئلة كثيرة تستوجب المناقشة , منها مثلاً: هل فرض الجادرجي هذه المسالة الفكرية حقاً على الحزب أم كانت هناك اختلافات جزئية , أم أنها كانت بين محاولات يسارية وأخرى يمينية اعتبرها متطرفة وحاول الدفاع عن مواقع اليسار الوسط في الحزب وقيادته ؟ وهل كان هناك انفصام بين الفكر الذي حمله الجادرجي والواقع العراقي حينذاك؟ وهل عاش الجلبي الصراعات الفكرية والسياسية التي كانت تدور في أوساط جماعة الأهالي ومنهج "الشعبية" والكراس الذي أعده في حينها عبد الفتاح إبراهيم في الثلاثينات من القرن الماضي؟ وهل عاش الصراع الذي برز أيضاً قبل تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي في إطار نفس المجموعة وفي سنوات الحرب العالمية الثانية ومن ثم في فترة تأسيس الحزب في العام 1946 وما بعده , وخاصة حين برزت الأجنحة وتبلورت أفكارها في تيارات فكرية وسياسية ثلاثة خلال الأعوام اللاحقة؟
كلنا يعرف بأن فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي كانت خصبة في اتجاهاتها الفكرية وفي النقاشات التي كانت تدور بين مثقفي تلك الفترة وأعضاء جماعة الأهالي والشعبية ومن ثم في الحزب الوطني الديمقراطي وكذلك في الساحة السياسية العراقية وبين المثقفين الديمقراطيين. وإذا كانت الفترة الأولى قد نشّطت النقاشات والخلافات بين الأستاذ الراحل عبد الفتاح إبراهيم وعبد القادر إسماعيل من جهة , وبين الأستاذ الراحل كامل الجادرجي ومحمد حديد وحسين جميل وآخرين من مناضلي جماعة الأهالي والشعبية والكراس الذي صدر عنهم لتوضيح أهداف الشعبية , فأن الفترة اللاحقة برزت وجوه وشخصيات أخرى نشطت في الصراع الفكري داخل الحزب الوطني الديمقراطي وحوله. لا أدري إن كان الدكتور فاضل الجلبي قد عاصر هذه الفترة وتعرف أو اطلع على تلك الصراعات التي كانت تدور في الحزب الوطني الديمقراطي في النصف الثاني من الأربعينات بين القوى اليسارية في التيار الماركسي وبين قوى التيار الإصلاحي الديمقراطي في الحزب الوطني الديمقراطي والتي فرضت عليهم التزام وجهة معينة لضمان الحفاظ على التمايز بين أهداف وسياسات وأساليب عمل وخطاب الحزب الشيوعي من جهة , وأهداف وأساليب وأدوات عمل وخطاب يسار الوسط في الحزب الوطني الديمقراطي في حينها من جهة أخرى , وبين أهداف وأساليب عمل وخطاب القوى اليمينية في داخل الحزب الوطني الديمقراطي وحوله من جهة ثالثة , ليعبر الحزب عن فكر إصلاحي ديمقراطي تقدمي (يسار الوسط) , إذ كان الصراع في هذه الفترة شديداً ورياح اليسار الماركسي كانت جارفةً في سنوات الأربعينيات وفي أعقاب سقوط الدولة النازية الألمانية والدولة الفاشية الإيطالية والدولة العسكرية اليابانية لصالح انتصار الديمقراطية في العالم التي عبرت عن وجسدت تحالف بين العالم الرأسمالي والدولة الاشتراكية الوحيدة حينذاك , وأعني بها الاتحاد السوفييتي في مواجهة الفاشية على الصعيد العالمي , ثم تشكل المعسكر الاشتراكي؟
نحن أمام رؤية يتبناها فاضل الجلبي مفادها أن الجادرجي عمل على فرض الاشتراكية الديمقراطية على الحزب أولاً , وأن قائد الحزب الوطني الديمقراطي كان مصاباً بانفصام عن الواقع الاجتماع والسياسي العراقي ثانياً, فهل هذه الرؤية صحيحة؟
لم يكن الأستاذ كامل الجادرجي ماركسياً أو لينينياً , بل كان ديمقراطياً تبنى الفكر الاشتراكي الديمقراطي واعتمد المنهج المادي الجدلي في تحليل أوضاع العراق الملموسة ووضع برنامج حزبه للنضال في سبيل تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي في العراق. وحين تبنى الفكر الاشتراكي الديمقراطي لم يطرح شعارات تطالب بالاشتراكية في العراق ولم يسبح في أحلام وردية , كما يريد أن يصورها لنا الدكتور فاضل الجلبي , بل كان يطالب ويناضل من أجل تحقيق أهداف تنسجم تمام الانسجام مع تلك المرحلة النضالية للشعب العراقي , وكانت مسائل الحرية والديمقراطية والإصلاح الديمقراطي للاقتصاد والمجتمع وإدارة الدولة وحل مشكلة الأرض وتوفير الخدمات العامة كالصحة والتعليم والنقل والمواصلات والعمل للعاطلين وحرية التنظيم والإضراب والتظاهر وحرية الكلمة والنشر, هي التي تقف في واجهة مطالب الشعب العاجلة التي تبناها الحزب الوطني الديمقراطي حينذاك والتي تنسجم تمام الانسجام مع الدستور العراقي الذي اقر وصودق عليه في العام 1925. وهي أهداف عامة وسليمة لتلك المرحلة ولم تبتعد بأي حال عن الواقع العراقي حينذاك. إلا أن النخبة الحاكمة كانت تجد فيها ابتعاداً عن الواقع لأنها كانت نخبة فاسدة وغير راغبة في الإصلاح واعتبرت ما يطرحه الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي خروجاً عن المألوف. والغريب أن الدكتور فاضل الجلبي لم ينتقد السياسي العراقي الراحل صالح جبر على تبنيه الاشتراكية في تسمية حزبه بـ"حزب الأمة الاشتراكي" في حين وجه الإساءة تلو الإساءة في مقالته المشار إليها في أعلاه للأستاذ الراحل الجادرجي لأنه تبنى شعار الاشتراكية الديمقراطية!
لم تعن الاشتراكية في مفهوم الجادرجي مضمونها الذي يرد في الفكر الشيوعي أو الفكر الماركسي - اللينيني , بل كانت تعني عنده العدالة الاجتماعية في خطوطها العامة وفي إطار الممكن والمتاح في أوضاع العراق الملموسة حينذاك حين كان الفقر مدقعاً والبؤس طاغياً والبطالة واسعة والفجوة بين الغنى والفقر آخذة بالتنامي مع ضعف كبير في حجم ومكانة ودور الطبقة الوسطى , بالرغم من توفر إمكانيات مالية غير قليلة وثروة نفطية قابلة للاستخدام وزيادة الإيرادات. ومن هنا كان الجادرجي يقف إلى جانب تولي الحكومة العراقية عمليات التنقيب عن النفط واستخراجه وتصديره أو تكريره واستخدامه في التنمية , كما كانت له مواقفه في حل مشكلة الأرض ومعالجة الإقطاعيات الكبيرة لصالح الفلاحين وفقراء الريف. فمن يقرأ برنامج الحزب الوطني الديمقراطي من جهة , وبرنامج حزب العمال البريطاني حينذاك من جهة أخرى , ومن يقرأ مذكراته , سيجد الفرق شاسعاً بين الأهداف التي عبر عنها حزب العمال البريطاني الذي تبنى الاشتراكية الديمقراطية وبين أهداف الحزب الوطني الديمقراطي كما ترد في برنامجه وتستند إلى الفكر الاشتراكي الديمقراطي. والسبب في هذا التباين بسيط جداً هو اختلاف ظروف البلدين والتباين في مستوى تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج والتطور التقني والعلمي والسلوك اليومي, وباختصار كبير , البون الشاسع بين الوعي الاجتماعي والسياسي والمستوى الحضاري للشعبين والبلدين حينذاك. الجلبي يرى الفارق بين البلدين , ولكنه لا يريد أن يرى الفارق بين الأهداف , بل يرى تبني المبادئ العامة للاشتراكية الديمقراطية فقط , ويرى ذلك خطأ. وفي هذا يكمن الفارق بين فكر الجادرجي النير والإنساني , وبين الفكر الذي يحمله الدكتور الجلبي.
ولهذا لا يمكن الادعاء بأن كامل الجادرجي كان يريد تطبيق برنامج حزب العمال البريطاني في العراق , بل كان يريد الاستفادة من فلسفة حزب العمال البريطاني في إرساء الأسس القويمة للحزب الوطني الديمقراطي وتعبئة الناس من أوساط شعبية مختلفة حول الحزب , وبشكل خاص الفئات الوسطى والمثقفين والطلبة وأوساط من البرجوازية الصغيرة وموظفي الدولة والعمال. ومن هنا لا يمكن وصم كامل الجادرجي بأنه عاش انفصاماً مع الواقع الاجتماعي – السياسي السائد في العراق , بل أرى أنه عاش اندماجاً في واقع الشعب وتفاعلاً مع مطالبه الأساسية حينذاك وفي الوجهة التي يفترض سير الحزب عليها. ورغم الاختلاف بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي من حيث الفلسفة والمنهج العملي , فأن الحزبين طرحا في ما يخص المسألة الوطنية والقضايا الداخلية شعارات وطنية متقاربة في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية , مع اختلاف واضح في أساليب وأدوات العمل , ومع اختلاف أكثر بروزاً في الموقف الدولي ومن العلاقة مع الاتحاد السوفييتي والحزب الشيوعي السوفييتي. ولا يمكن لأي سياسي منصف أن يقول عن فترة فهد بأن شعارات فهد الخاصة بالقضايا الوطنية العراقية الداخلية والملموسة كانت تعيش حالة انفصام مع الواقع لأن فهد تبنى الفكر الشيوعي أو الماركسية – اللينينية. وكلا الحزبين لم يطالبا بالقضاء عل الملكية , بل كانا يسعيان إلى تغيير الوضع من داخل النظام الملكي القائم , إذ كانت النداءات تتوجه للبلاط الملكي بشكل مباشر. ويمكن أن يقال نفس القول بالنسبة لشعارات الحزب الوطني الديمقراطي الخاص بالعراق والعالم العربي والعالم. والرسائل التي كان الأستاذ الجادرجي أو قيادة الحزب الوطني الديمقراطي التي كانت تقدم إلى البلاط (الوصي عبد الإله , وفيما بعد الملك فيصل) تطالب باتخاذ البلاط إجراءات لمعالجة اختلالات في الوضع القائم قبل أن يستفحل ويقود على وثبات وانتفاضات أو ثورات. ويبدو لي بأن الوضع مع البلاط كان أشبه بمضمون المقولة الشعبية "المتحدث هندي والسامع أهل الجريبات" أو "صم بكم عمي فهم لا يفقهون" , إذ لم يكن البلاط يأخذ بنظر الاعتبار والاهتمام ما تطرحه المعارضة , مما كان يقود , ثم قاد فعلاً إلى العديد من الوثبات والانتفاضات ثم الثورة التي أطاحت بالحكم والدولة الملكية.
لقد برز الخلاف في اللجنة الإدارية المركزية للحزب الوطني الديمقراطي حول تحديد فلسفة الحزب ونهجه وكانت النقاشات التي جرت في عشر جلسات متتالية تدور حول هذا الموضوع. وكان هناك اختلاف واضح بين ثلاثة تيارات: اليسار واليمين ويسار الوسط. وإذ كان اليسار الماركسي في الحزب الوطني الديمقراطي يريد ابعد مما ذهب إليه كامل الجادرجي , الذي مثل في أهدافه وشعاراته وسياساته يسار الوسط ومعه محمد حديد وحسين جميل وغيرهما , كان التيار اليميني يريد دفع الحزب الوطني الديمقراطي سياسياً واجتماعياً باتجاه الابتعاد عن الفلسفة والمنهج اللذين طرحهما كامل الجادرجي. وحين مرت عشر جلسات لم يتوصل المؤتمر إلى رؤية مشتركة , والتقى اليسار واليمين في رفض ما طرحه الأستاذ الراحل الجادرجي بالأكثرية , قرر تقديم استقالته من الحزب. علماً بأن الاتجاه اليساري كان مرفوضاً من الأكثرية وكذلك الاتجاه اليميني. وهنا بدت الصورة واضحة بأن النقاشات لن تقود إلى نتيجة تخدم مصلحة الحزب الوطني الديمقراطي. والسؤال الطبيعي هو: لماذا قرر الجادرجي تقديم استقالته؟ يبدو لي أن القرار تضمن ثلاثة احتمالات أو كلها مجتمعة , وهي:
1. ممارسة الضغط على قيادة الحزب لكي تتوصل بعد خوض عشر جلسات مرهقة من النقاشات إلى قرار واضح يضمن للحزب فلسفته ونهجه الديمقراطي التقدمي.
2. إبداء عدم الارتياح من التيارين اليساري واليميني في قيادة الحزب لكونهما شكلا ضغطاً كبيراً على قيادة الحزب باتجاه الأخذ برأييهما , مما وجد فيه الجادرجي مصادرة لليسار الوسط في الحزب واقتراب غير مسؤول من الحزب الشيوعي العراقي والماركسية اللينينية من جهة , أو اقتراب غير مسؤول من النخبة الحاكمة التي لا يطمئن إليها الشعب ولا يثق بسياساتها ووعودها ولا يريد الاقتراب منها من جهة ثانية. ورغم التباين بين اليسار واليمين في قيادة الحزب الوطني الديمقراطي , إلا أنهما اتفقا على خذل مقترحات كامل الجادرجي ومن يؤيده , ومنهم محمد حديد وحسين جميل على سبيل المثال لا الحصر.
3. وكان من حق الجادرجي أن يمارس حقه في الاستقالة , سواء أكان جاداً بها أم لممارسة الضغط على القيادة. ولا يمكن لأحد أن يسحب منه هذا الحق و يطعن به لممارسته له أو يعتبر ممارسة هذا الحق استبداداً وتسلطاً , كما عبر عن ذلك بشكل مجحف الدكتور الجلبي.
جاء في كتاب "مذكرات كامل الجادرجي وتاريخ الحزب الوطني الديمقراطي" بهذا الصدد ما يلي:
"من الممكن أن يقال أن الحزب تكون على أساس الاشتراكية الديمقراطية بل من الممكن أن يقال أن (جماعة الأهالي) الأولى تكونت على أساس من الاشتراكية , ولكن تحديد تلك الاشتراكية في أية حال من تلك الحالات من الصعوبة بمكان. ولو عاد المرء إلى مفهوم الاشتراكية في مبادئ (شعبية) لوجده يضطرب كثيراً بين الماركسية والمادية والنظريات الديمقراطية وحتى المثالية أيضاً في بعض الأحيان. ومما لا شك فيه أن الأمر تغير كثيراً عام 1946 عندما تكون الحزب الوطني الديمقراطي , فقد كانت هذه الحالة تتميز :
1. بتحديد فلسفة الشيوعيين ومن ثم بشكل عكسي بتحديد الخلافات المبدئية بين التقدميين الآخرين والشيوعيين.
2. استطاعت صوت الأهالي أن تشق لها طريقاً فكرياً متميزاً عن الطريق الفكري الشيوعي يعتمد على الديمقراطية كأساس , وعلى الاشتراكية بقدر ما تعطي من حلول اقتصادية واجتماعية لمشاكل العراق.
3. وأخيراً تتميز بوجود أفكار اشتراكية وديمقراطية محددة لدى رئيس الحزب كامل الجادرجي كانت واضحة في كتاباته , وكان يختلف في أفكاره عن بقية أعضاء قيادة الحزب , فكانت هناك اتجاهات أكثر يمينية مما كان يؤمن به , وكانت هناك اتجاهات أكثر يسارية بقدر ما تقترب من الشيوعية- مما يؤمن به. وعلى كل حال كان الجادرجي قريباً من كل من محمد حديد وحسين جميل بالدرجة الأولى , ثم من زكي عبد الوهاب وطلعت الشيباني بالدرجة الثانية , من الناحية الفكرية" .
لقد كان الجادرجي يسعى بكل السبل المتاحة والمشروعة إلى تمييز نفسه وحزبه عن الحزب الشيوعي العراقي وعن الماركسيين اليساريين في حزبه ومنهم الشهيد الراحل الأستاذ كامل قزانجي , على سبيل المثال لا الحصر , وهي مسألة مشروعة من حيث المبدأ , كما كان يريد أن يميز نفسه وحزبه عن اليمين في الحزب وعلاقة ذلك اليمين بالسلطة السياسية وبقوى قومية يمينية أيضاً , وهي مسألة مشروعة أيضاً. وقد تبنى الاشتراكية الديمقراطية عن قناعة فكرية وسياسية ولم يكن يسعى إلى تطبيقها في العراق , كما هي في بريطانيا ومن جانب حزب العمال البريطاني , بل كان يدرك بعمق البون الشاسع بين البلدين. ومن خلال معلوماتي , وقد أشرنا إلى ذلك في كتاب "فهد والحركة الوطنية في العراق" , أعرف بأن الحزب الشيوعي العراق كان يسعى للتأثير على سياسة ومواقف الحزب الوطني الديمقراطي من خلال المجموعة الماركسية فيه بأمل دفعه باتجاه سياسة الحزب والتحالف معه والتأثير على قاعدته. وأي عضو في الحزب الشيوعي كان يعرف هذا التوجه الذي تجلى في حضور شيوعيين إلى اجتماعات الحزب الوطني الديمقراطي للتأثير على قاعدة الحزب حينذاك , سواء أكان برفع الشعارات أم عبر الهتافات. وكان الجادرجي بحسه السياسي يدرك ذلك ويعمل على تجنبه , لكي لا يبدو متطابقاً مع الحزب الشيوعي في ما يسعى إليه أو يقع تحت تأثيره , إذ لكل حزب فلسفته ومنهجه وبرنامجه وقاعدته الاجتماعية والسياسية.
من جانبي أرى بجلاء بان الأستاذ الجادرجي كان يدرك بوضوح الفجوة الحضارية ومستوى التطور في كل من العراق وبريطانيا لصالح الأخيرة , ولكنه كان يريد أن يأخذ من الاشتراكية الديمقراطية طابعها الفلسفي والإنساني والاجتماعي والعلماني وبعض الجوانب الاقتصادية التي تتناغم مع الوضع في العراق. فالمبادئ شيء وسبل ممارستها وأشكال تطبيقها في ظروف مختلفة شيء آخر تماماً إذ أن ذلك يخضع لقوانين التطور الاجتماعية والقوانين الاقتصادية الموضوعية وليس لإرادة الفرد أو رغباته. إلا أن الدكتور فاضل الجلبي لا يريد أن يرى ذلك ولا يرغب في سماعه أو لا يدركه في أحسن الاحتمالات , ولكن عليه ومن واجبه أن يسمعه ويفكر به!
كم كان حرياً بالجلبي أن يعود إلى برنامج الأهالي وكراس الشعبية وإلى برنامج الحزب الوطني الديمقراطي ليدرسها بعناية ويتحرى عن التمايز في ما بينها , ويطلع على الموقف بكل جوانبه لا أن يأخذ مقطعاً من هذا الكتاب ونقداً من كتاب آخر ليكون له رأياً مبتسراً وملتبساً حتى على صاحبه , أي على الجلبي ذاته. كم كان حرياً به وهو يريد تقديم تجربة ودروساً للأجيال القادمة بالديمقراطية أن يبدو أكثر ديمقراطية وأكثر حصافة وأكثر حيادية بالبحث وأعمق تدقيقاً في التجربة التي يتحدث عنها ولم يعشها شخصياً. لست معنياً في مدى كراهية الجلبي للفكر الاشتراكي أو للعدالة الاجتماعية , فهذه قضيته الشخصية ولا أحد يعاتبه أو يلومه عليه , ولكن عليه أيضاً حين يبحث في التاريخ أن تكون الاستقامة والموضوعية والحِرَفية في البحث والتدقيق رائده , وليس السعي وراء النقد لأغراض النقد لا غير أو بهدف الإساءة رغم محاولاته الخائبة في التغطية على ما يريد الوصول إليه من خلال الإشارة إلى جوانب إيجابية معينة في الجادرجي حين كتب يقول:
" كان الجادرجي أيام ذلك الحكم زعيماً للمعارضة السياسية له ولعب دوراً كبيراً في تأجيج الرأي العام ضده وكان له مركز مرموق بين الطبقة المتوسطة في العراق باعتباره يمثل تياراً وسطاً بين الشيوعيين والمحافظين مما أكسبه شعبية كبيرة. أتذكر مشهداً مؤثراً عام 1954 يشير إلي مدي شعبية الجادرجي آنذاك عندما سمحت الحكومة بإجراء انتخابات حرة تمت في حزيران في بغداد ومناطق أخري من العراق دخلت فيها الأحزاب المعارضة في جبهة واحدة. كان ذلك المشهد في الانتخابات التي تم ترشيح الجادرجي فيها عن منطقة بغداد الثالثة ضمن الحملة الانتخابية التي جرت في سوق الصفافير وكان ذلك مساءً حيث كانت الإضاءة بالمصابيح المحمولة وما قامت الجماهير المحتشدة من هتافات مؤثرة حين دخل الجادرجي محاطاً بجماعة يفسحوا له الطريق من كثرة الناس المتواجدين والحماس الكبير في تأييده". [راجع: فاضل الجلبي. "دور خلافي للجادرجي في ثورة تموز العراقية" جريدة الزمان اللندنية. 8/6/2008]. إن لا يقدم هنا شيئاً جديداً بل يطرح أمراً واقعاً , ولكن الجديد هو في استخدام هذا الغطاء لشن الهجوم بشراسة غير معهودة.
لم يكن هذا المديح إلا لذر الرماد في العيون لكي تسمح له هذه الفقرة مهاجمة الجادرجي بأبشع التهم والكلمات والإساءات الشخصية التي لا تمت إلى البحث بصلة مباشرة أو غير مباشرة ولا تصمد أمام الواقع العملي حينذاك والتي سنأتي إلى مناقشتها في قادم الحلقات.
كانت فترة الثلاثينيات من القرن الماضي مسرحاً لأربعة اتجاهات فكرية وسياسية مهيمنة على الساحة السياسية العراقية , وهي:
الفكر الماركسي- اللينيني ممثلاً بالحزب الشيوعي العراقي وفيما بعد ببعض الكتل والقوى السياسية وخاصة في الأربعينيات مثل حزب الشعب للأستاذ الراحل عزيز شريف مثلاً ؛ الفكر القومي النازي ممثلاً ببعض الجماعات التي تجلت في حزب الشعب والعقداء الأربعة والگيلاني وفيما بعد حزب الاستقلال باتجاه فكري قومي يميني بشكل عام ؛ الفكر الإصلاحي للديمقراطية الاشتراكية ممثلاً بجماعة الأهالي والشعبية وقبل ذاك الحزب الوطني لمحمد جعفر أبو التمن , ومن ثم الحزب الوطني الديمقراطي في الأربعينيات : وأخيراً الفكر الرجعي التقليدي ممثلاً بالنخبة الحاكمة حينذاك وبعض القوى الدينية متمثلة بالإخوان المسلمين محمد محمود الصواف وحزب التحرير الإسلامي ممثلاً بالراحل الشهيد عبد العزيز البدري, وفيما بعد بالحزبين المعروفين الاتحاد الدستوري لرئيسه نوري السعيد وحزب الأمة الاشتراكي لرئيسه صالح جبر (أوائل الخمسينيات , ولكن كانت لهما كتلتان قبل ذاك أيضاً). وكان جو المثقفين العام والطلبة وأوساط من الفئة الوسطى وأوساط أخرى من البرجوازية الصغيرة قد توزعت على هذه التيارات. وحافظت الأوساط العمالية المشاركة في النشاط السياسي بعيداً عن التيار القومي النازي بشكل عام , ولكنها كانت قريبة جداً من الحزب الشيوعي العراقي والذي وجد تعبيره في الحركة النقابية العراقية وفي الحركة الطلابية على سبيل المثال لا الحصر. ولعب التياران الماركسي والإصلاحي الديمقراطي دوراً أساسياً في تعبئة الناس ضد النازية والفاشية من جهة , ومن أجل الديمقراطية والإصلاح الاجتماعي من جهة أخرى. وقد ساهم جماعة الأهالي والشعبية والأستاذ كامل الجادرجي بدور مهم وواسع , إلى جانب الحزب الشيوعي في فضح النازية والكشف عن أهدافها وجوهرها العنصري والعنفي.
وحين نقوم بدراسة الوضع في هذه الفترة الغنية بالأحداث, علينا أن لا نسقط أوضاع تلك الفترة التي كانت تتحمل وجود تلك التيارات , ولكن بشكل خاص التيارين الماركسي والإصلاحي , على هذه الفترة الراهنة التي تشهد ردة فكرية وسياسية وثقافية عميقة وشاملة لأسباب كثيرة , وخاصة بسبب السيطرة الطويلة الأمد للنخبة الفاشية الصدامية على السلطة وممارستها كل الموبقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والحروب الداخلية والخارجية والعنصرية والطائفية السياسية المقيتتين في البلاد. العراق يعيش ردة فكرية عميقة ستأخذ فترة طويلة قبل أن يشفى الشعب منها ويتعافى بالاتجاهات الفكرية والسياسية الديمقراطية ورفض العنصرية والطائفية السياسية.
من المعروف عن الأستاذ الجادرجي أنه كان مرهف الحس وشديد الحساسية وسريع التأثر, كما كان يمارس الاعتكاف حين لا يعجبه أمر ما من حزبه أو من قيادة الحزب , كما كان يقرر مع قيادة الحزب توقف الحزب عن النشاط السياسي أو يوقف صدور الجريدة حين كان يجد إصراراً من الحكم على مطاردة المناضلين وتعريضهم للاضطهاد , بأمل وهدف عدم تعريضهم لعواقب غير إنسانية. وكانت هذه الحالة موقع نقد من جانب القوى السياسية الأخرى أو بعض الشخصيات السياسية. وكان الحزب الشيوعي يمارس النقد إزاء الحزب الوطني الديمقراطي والأستاذ الجادرجي بشأن هذه القضية الأخيرة أيضاً , حيث تكررت في بعض المناسبات. وهو أمر لا بد من توجيه النقد له من وجهة نظري , ولكني أبقى احترم وجهة نظر الأستاذ الجادرجي , إذ كانت له مبرراته حين كان يعمد إلى الاعتكاف أو إيقاف نشاط الحزب باعتباره عملاً احتجاجياً سلبياً , بدلاً من أن يخوض الصراع الإيجابي. إن احترامي لموقفه وموقف الحزب الذي يقوده نابع من قناعتي بحق أي إنسان أن يقدم استقالته من أي حزب كان حين يلاحظ بأن الحزب لا يأخذ بالمبادئ التي ناضل أو يناضل من أجلها , خاصة إذا كان رئيساً للحزب وفي بلد مثل العراق وفي إطار العلاقات المعروفة في البلاد أولاً , وحقه في الاعتكاف أيضاً ليجنب نفسه وحزبه بعض المطبات والمشكلات المحتملة التي يمكن تجاوزها ثانياًُ, كما أن من حق الحزب أن يوقف نشاطه متى شاء والعودة إليه متى شاء , فهو أمر يخص الحزب ذاته وليس غيره. وكان على الآخرين أن يقبلوا الاستقالة أو يرفضوها مثلاً , بالارتباط مع مواقفهم الفكرية والسياسية , ولكنهم طلبوا منه العودة واتفقوا معه , واستقال غيره من الحزب ومارس الآخر حقه أيضاً. من الممكن أن يكون الاعتكاف أو (الزعل) أحد أساليب ممارسة الضغط , ولكن هذه العادة موجودة لدى أغلب السياسيين العراقيين إن لم نقل كلهم , واليوم تمارس أيضاً من جانب السياسيين العراقيين , رغم أنها عادة غير محمودة.
إن ما كتبه الدكتور فاضل الجلبي بعيد كل البعد عن المعالجة الفكرية الهادئة والرصينة لفكر الجادرجي وممارساته السياسية , فهي إدانات لا غير. والرجل يتشبث بالمظاهر من الأمور ولا يغوص في عمق الإشكاليات التي كان يعيشها الشعب العراقي وكانت المعارضة تعاني منها والتي كانت تتطلب منها اتخاذ مواقف عملية لصالح المجتمع والعدالة الاجتماعية ولصالح التخلص من الثلاثي الرهيب : الفقر والجهل والمرض , حيث كانت هي السمات السائدة التي ميزت العراق في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي , بل حتى السنوات التي سبقت ثورة تموز 1958 وما بعدها أيضاً.
3/7/2008 كاظم حبيب
الحلقة الثالثة
موقف الجلبي من حركة بكر صدقي ومن موقف الجادرجي منها
خريف العام 2008 ستحل الذكرى السنوية ألـ72 على انقلاب الفريق بكر صدقي العسكري , كما حلت قبل عدة أسابيع الذكرى السنوية ألـ67 على انقلاب العقداء الأربعة ورشيد عالي الگيلاني والشيخ محمد أمين الحسيني مفتي الدير الفلسطينية. وهما حركتان انقلابيتان نفذتهما وحدات عسكرية من الجيش العراقي بالتعاون مع قوى سياسية مدنية. واليوم ندين هذين الانقلابين لأنهما أسسا لعمليات ومحاولات انقلابية عسكرية لاحقة من جهة , وساهمتا بالسماح للقوات المسلحة العراقية بالتدخل المباشر في النشاط السياسي والتأثير على الحياة المدنية العراقية من جهة أخرى , رغم التمييز بين طبعتيهما والوجهة التي كانتا تسعيان إليهما والقوى المدنية التي كانت تقف خلف كل منهما. والإدانة الحالية سليمة من أجل أن نرفض المحاولات والعمليات الانقلابية في الوقت الحاضر وفي المستقبل أيضاً , ولكن لا يعفينا من إدانة السياسات التي مارسها نظام الحكم حينذاك والنخبة الحاكمة التي أدت إلى التفكير بعملية انقلابين وتنفيذها فعلاً.
إن صواب الإدانة لا يحرمنا من حق دراسة طبيعة هاتين الحركتين والعوامل التي أدت إليهما والاختلاف بين طبيعتهما , ثم نحاول أن نتبين من خلال ذلك موقف الأستاذ الجادرجي من الحركتين , إضافة إلى موقف الحزب الشيوعي العراقي منهما أيضاً.
انقلاب الفريق بكر صدقي العسكري
تشير معطيات الفترة التي سبقت وقوع الانقلاب إلى تنامي عجز القوى السياسية الحاكمة عن إيجاد معالجات جادة للأوضاع السياسية حينذاك وإلى تردي الحالة الاقتصادية , رغم انتهاء الأزمة العامة للرأسمالية منذ ثلاث سنوات وتأثيراتها على الواقع العراقي حينذاك , وزيادة موارد العراق المالية من إنتاج وتصدير النفط الخام وتنامي الحركات السياسية في كل من كُردستان وشمال العراق عموماً , وبشكل خاص الحركات الكردية والآشورية والإيزيدية , والحركات العشائرية في مناطق الوسط والجنوب , إضافة إلى المضابط والمذكرات الاحتجاجية التي رفعها رجال الدين وقوى المعارضة السياسية إلى الملك غازي والضربات العسكرية القاسية والعنف الدموي الاستبدادي الذي مارسته الحكومة العراقية إزاء تلك الحركات دون أن تبذل الجهود السياسية العقلانية لمعالجة الوضع سياسياً وديمقراطياً. وكان الجيش هو الأداة الفعلية لممارسة تلك السياسة إزاء الحركات الست التي حصلت في غضون عشرين شهراً وقوبلت بالحديد والنار . وكان الفريق بكر صدقي هو القائد العسكري الذي لعب دوراً بارزاً في قيادة تلك الوحدات العسكرية والتصدي الشرس لتلك الحركات وأوقع بأتباعها خسائر فادحة بتشجيع ومساندة وتحريض مستمر من جانب رشيد عالي الگيلاني الذي كان في أوقات حدوث بعضها رئيساً للوزراء وفي أوقات وقوع بعضها الأخر وزيراً للداخلية . كما لوحظ في هذه الفترة إلى بروز حالة من التمايز أكبر وأكثر من السابق , والتي لم تكن ملموسة قبل ذاك , بين النخبة الحاكمة وبين قوى المعارضة السياسية , أي حصول استقطاب كان يقود إلى مزيد من الخصام في ظل غياب الديمقراطية وتزييف الانتخابات وإرادة الناس.
وإزاء هذا الوضع السياسي والاقتصادي المعقد, إضافة إلى التدخل الفظ من جانب بريطانيا والسفارة البريطانية في الشؤون العراقية , قامت بعض فصائل الجيش العراقي بقيادة الفريق بكر صدقي , وكان طه الهاشمي في حينها نائباً للقائد العام وكان خارج العراق , وبدعم مباشر من قائد الفرقة الأولى الفريق عبد اللطيف نوري وقائد القوة الجوية محمد علي جواد , بحركة عسكرية انقلابية فرضت على الملك غازي أن يطلب من رئيس الوزراء ياسين الهاشمي تقديم استقالته وأن يعهد بتشكيل الوزارة الجديدة إلى حكمة سليمان , إذ كان الأخير عضواً قيادياً التحق حديثاً بجماعة الأهالي وأصبح صلة الوصل بالقيادة العسكرية , وبشكل خاص بالفريق بكر صدقي والفريق عبد اللطيف نوري. ويبدو أن التهديد بدخول بغداد من جانب وحدات في الجيش العراقي قد أثار غضب وزير الدفاع حينذاك , الفريق جعفر العسكري , فطلب من الملك غازي كتابة رسالة إلى بكر صدقي ليأخذها بنفسه إليه , باعتباره مسؤولاً عنه وزميلاً له ومن أبناء بلدة واحدة (عسكر) في كُردستان العراق. أرسل بكر صدقي مجموعة عسكرية لاستقبال وزير الدفاع وإيصاله إلى قائد الانقلاب. وفي الطريق إليه غدرت به هذه المجموعة وارتكبت جريمة قتله. وكل الدلائل تشير إلى أن قتله قد تم بأمر مباشر صادر عن قائد الانقلاب بكر صدقي العسكري. وقد أشاعت هذه الجريمة غير المعهودة الرعب في نفوس الكثيرين ممن كانوا على خلاف مع قادة الانقلاب. وكان هذا أول انقلاب عسكري يحدث في العراق وفي العالم العربي في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وقيام الدول الوطنية الجديدة. ولهذا وقفت العديد من الصحف العربية في الأقطار العربية ضد هذا الانقلاب , باعتباره أدخل تقليداً وأسلوباً جديداً في العمل السياسي يمكن أن يجهض الاتجاهات البرلمانية والديمقراطية في البلاد ويتجاوز على الحياة الدستورية , رغم السياسات غير الديمقراطية التي كانت تمارسها حكومات تلك الفترة في العراق. وكانت على حق في ذلك , رغم أن بعضها لم يشجب سياسات الحكومة العراقية السابقة ولم يقف إلى جانب مطالب الشعب العادلة.
وشكلت الوزارة الجديدة على النحو الآتي:
حكمة سليمان رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية (جماعة الأهالي)
محمد جعفر أبو التمن وزيراً للمالية (جماعة الأهالي)
كامل الچادرچي وزيراً للاقتصاد والأشغال العامة (جماعة الأهالي)
يوسف عز الدين إبراهيم وزيراً للمعارف (جماعة الأهالي)
صالح جبر وزيراً للعدل
الدكتور ناجي الأصيل وزيراً للشؤون الخارجية
الفريق عبد اللطيف نوري وزيراً للدفاع
احتفظ الفريق بكر صدقي برئاسة أركان الجيش العراقي , وكان القائد الفعلي للحكومة وقراراتها واتجاهات نشاطها , رغم أنه لم يكن رئيسها. واضطر رئيس الوزراء المستقيل قسراً , ياسين الهاشمي , على مغادرة البلاد إلى منفاه في بيروت , حيث توفي فيها في نفس العام.
وجد الانقلاب التأييد ليس من جماعة الأهالي ,التي كانت مشاركة في العملية الانقلابية , حسب , بل إلى تأييد الحزب الشيوعي العراقي واليسار العراقي بشكل عام. ولم تفلح اعتراضات الأستاذ الراحل عبد الفتاح إبراهيم على مشاركة جماعة الأهالي في العملية الانقلابية بثني القيادة عن رأيها , مما دعاه إلى الابتعاد التدريجي عن الجماعة. وقد أورد الدكتور خالد التميمي نصاً من مذكرة قدمها عبد الفتاح إبراهيم إلى قيادة جماعة الأهالي معرباً عن رفضه لما وقع , حيث كتب يقول: "أنكم حطمتم حركتنا عندما مكنتم الجيش من حيازة السلطة , ولسوف تدفعون ثمن ذلك" . وانسجاماً مع هذا الموقف رفض تسلم أي حقيبة وزارية , بل كانت بداية الافتراق عن جماعة الأهالي. وأصدرت الجماعة الرافضة للانقلاب بياناً تدعو فيه "الأهلين" إلى القيام بمظاهرة كبرى لتحقيق مطالب الشعب التالية:
1. إزالة آثار الظلم الماضي.
2. تقوية الجيش تقوية عامة؟
3. العفو العام عن المسجونين السياسيين.
4. فتح النقابات والصحف التي أغلقتها الحكومات السابقة.
5. تخفيف ويلات الفقر , وإيجاد الأعمال للعاطلين , وتشجيع الصناعة المحلية.
6. توحيد الحركات الشعبية في الأقطار العربية لتأمين تقدم هذه البلاد.
7. التساوي في الحقوق بين العراقيين , والتمسك بوحدتهم , ونشر الثقافة والوقاية الصحية في جميع العراق" , وقد وقع البيان باسم "جمعية الإصلاح التقدمي الوطني".
لقد حصل الانقلابيون على تأييد الشيوعيين والحركة النقابية , إضافة إلى أوساط واسعة من السكان , خاصة وأن الحكومة الجديدة بدأت باتخاذ جملة من الإجراءات التي ساعدت على تنشيط هذا التأييد , إذ أطلقت بحدود معينة الحريات الديمقراطية , كما قام جعفر أبو التمن بإلقاء بيان الوزارة الجديدة من الإذاعة في الخامس من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1936 , معبراً فيه عن جملة من المطالب التي كانت تتبناها قوى المعارضة السياسية وتطالب بها الجماهير الشعبية. وقبل ذاك بيومين , أي في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر , نظمت مظاهرة حاشدة ببغداد تأييداً للحكومة وسياساتها الجديدة , كما حصلت تجمعات ومظاهرات تأييد في مناطق شعبية وفقيرة في بغداد وفي مدن عراقية أخرى.
شكل الانقلاب الأول من نوعه في الدول العربية حدثاً جديداً في الحياة السياسية العراقية اختلف في محتواه واتجاهاته عن ثورة العشرين التي كانت قد توجهت ضد المحتلين الأجانب وفي سبيل إقامة دولة عراقية مستقلة وذات سيادة , وعبرت في الوقت نفسه عن الخشية من الحداثة القادمة من الغرب إلى البلاد التي كانت تعيش في ظلمات العهد العثماني , وخاصة من جانب المؤسسات الدينية. وكان الانقلاب تجاوزاً فظاً على مضمون الدستور العراقي والقوانين السارية المفعول والقانون الخاص بالقوات المسلحة العراقية. وكانت الحجة في ذلك أن الوزارات السابقة هي التي تجاوزت على الدستور , وهي التي استخدمت الجيش لقمع الحركات السياسية , وهي التي فرضت على الشعب معاهدة 1930 وامتياز النفط الخام وغير ذلك , وبالتالي كان لا بد من وضع حدٍ لهذه التجاوزات. ولكن الانقلاب وقع على أيدي البعض من أولئك الذين كانوا أدوات فعلية في القوات المسلحة لضرب الحركات السياسية في العراق والذين حصلوا على ترقيات في السلم العسكري وعلى أوسمة حكومية تقديراً لهم على القسوة الشرسة التي استخدموها والحقد الأعمى الذي وجهوا به العمليات العسكرية للقضاء على تلك الحركات بحجة حماية وحدة العراق ونظامه السياسي.
حصل الانقلاب على وفق اتفاق بين غالبية قيادة جماعة الأهالي والمجموعة العسكرية التي نفذته , وهو الموقف الذي رفضه في حينها البعض القليل من جماعة الأهالي. وقد أيد الحزب الشيوعي العراق هذا الانقلاب أيضاً بسبب قناعة حصلت لديه بأن في مقدور هذا الانقلاب أن يوقف مطاردة الشيوعيين ويطلق الحريات الديمقراطية بسبب مشاركة وتأييد جماعة الأهالي له. والوثائق المتوفرة تشير إلى أن هذا التأييد قد اقترن بإصدار بيانات ومنشورات تؤكد المطالب التي يسعى الشيوعيون إلى تحقيقها ويدعون الحكومة للأخذ بها . وتجلى ذلك في البيان الذي وقعته مجموعة من الماركسيين والشيوعيين , إضافة إلى انعكاس ذلك في الشعارات التي سجلها المتظاهرون على لافتاتهم , والتي حملت ضمن ما حملت الموقف المناهض للفاشية والنازية , ومنها شعار "تسقط الفاشية المجرمة". وقد أغضب هذا الشعار القائم بالأعمال الألماني حينذاك الدكتور فريتس گروبا , وأوصل احتجاجه إلى الفريق بكر صدقي وحكومة حكمة سليمان . ولا بد من الإشارة إلى أن موقف الحزب الشيوعي من هذا الانقلاب كان خاطئاً آیضاٌ.
ومما هو جدير بالإشارة إلى أن الخطاب الذي ألقاه محمد جعفر أبو التمن تجاوز الحديث عن معاهدة 1930 , كما لم يتطرق إلى العلاقة مع بريطانيا العظمى , بل جاء معبراً عن الرغبة في الإصلاح في مختلف المجالات وإدانة شديدة للحكومة السابقة , إضافة إلى تأكيده أهمية المساواة بين المواطنين وبعيداً عن التمييز أو التفرقة بين المواطنين , إذ قال "… , وليعلم كل فرد من أبناء البلاد وسكانها , بأن الحكومة ساهرة في سبيل المحافظة على أموالهم , ونفوسهم , وحرياتهم , واحترام معابدهم , ومشاعرهم الدينية , بدون التفريق بين الأديان والمذاهب , بعد قضائها على عهد الاضطهادات , وسلب الحريات والتجاوزات" . ولكن البيان الحكومي , الذي لم يتطرق إلى معاهدة 1930 , أكد بصدد العلاقة مع بريطانيا بما يلي: "(أ) تعزيز روح التآزر بين العراق وبريطانيا العظمى , والعمل المتواصل لتأمين أقصى الفوائد مالياً , واقتصادياً , وعسكرياً , من الحلف العراقي - البريطاني" . ولا شك في أن هذا الموقف الرسمي لم يكن يعبر عن حقيقة موقف هذه المجموعة المناهض للمعاهدة والهيمنة البريطانية على العراق , رغم التحول النسبي في واقع العراق بعد دخوله عصبة الأمم , أي أن السيطرة الاستعمارية أصبحت غير مباشرة , بل كان يستهدف عدم إثارة بريطانيا وتحييد بعض القوى العراقية المساندة لوجودها في العراق. ويتجلى هذا الموقف التساومي أيضاً في قضية الأرض الزراعية , إذ لم يتطرق البيان الحكومي لقضية الأرض الزراعية ولم يتحرش بالإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية. في حين تضمن خطاب محمد جعفر أبو التمن هذه المسألة وأكد ما يلي: "ولقد أعزمت الحكومة على إيجاد المال لغرض إعمار الأراضي بصورة عامة , وتوزيع الأراضي الأميرية غير المملوكة , وغير المفوضة بالطابو , وغير المزروعة منها على أبناء البلاد , كما تقتضيه المصلحة العامة , مع مراعاة العرف والعادة بصورة خاصة , …" . وهنا يتبين لنا أيضاً أن جماعة الأهالي التي شاركت في الحكم لم تكن تفكر باتخاذ موقف مناسب من قضية الأرض الزراعية أو من إعادة النظر بقوانين داوسن الخاصة بالأراضي الأميرية التي منحت باللزمة أو التي فوضت بالطابو أو التي ملكت لشيوخ العشائر وكبار ملاكي الأراضي الزراعية. ولقد وردت في منهاج الوزارة فقرة مهمة ولأول مرة حين طرحت مسألة إقامة قطاع اقتصادي حكومي , إلى جانب القطاع الخاص , في فروع الصناعة وتكرير النفط الخام , حيث ورد "… , والقيام بالصناعات النباتية من قبل الحكومة مباشرة على أساس تجاري , للاستفادة من أكثر المنتوجات الزراعية وتأسيس المشاريع الصناعية اللازمة لسد حاجات القطر في البضائع التي يمكن صنعها في العراق: كتعدين النفط بالقيام بمصفى النفط , والقيام بصورة عامة بالأعمال اللازمة لاستثمار مرافق البلاد , وزيادة الإنتاج" . ولكن جماعة الأهالي كانت في المقالات التي نشرتها على صفحات جريدة الأهالي قبل ذاك تقف بوضوح ضد الإقطاعية وضد قانون دعاوى العشائر وإلى جانب توزيع الأراضي على الفلاحين.
ولكن المهم في خطاب محمد جعفر أبو التمن والمنهاج الوزاري أنهما قد تضمنا فقرات تشير إلى رغبتهما المعلنة بإيلاء اهتمام خاص بقضايا الناس الفقراء والمعوزين وذوي الدخل المحدود من جهة , وإدانة الرشوة والغنى غير المشروع وفساد الأجهزة وعدم قيامها بواجباتها إزاء المجتمع من جهة أخرى , مما ساهم في حصول تأييد واسع من الشارع العراقي للحكومة , ودفع إلى تقديم "ثلاثة عشر مندوباً طلباً إلى رئاسة مجلس النواب بتاريخ 6 آذار سنة 1937م اقترحوا فيه أن تسن الحكومة قانوناً "تؤلف بموجبه لجنة تحقيق لتحصي الثروات الموجودة لدى الوزراء السابقين وموظفي الدولة , وتحقق عن مصادرها وكيفية الحصول عليها فإذا ما وجد أنها أو أي قسم منها حصل أو نما بطرق غير مشروعة لها علاقة بمناصبهم أو بعامل النفوذ الذي تمتع به أصحاب تلك الثروات من وراء تقلدهم منصباً أو وظيفة فتصادر تلك الثروات وتطبق عليهم أحكام القوانين المرعية" . ولكن لم يفسح النواب لهذا المشروع بالمرور , إذ أن هذه الفكرة العادلة , كما يشير السيد عبد الرزاق الحسني بحق , "كانت تمس معظم من تقلد المناصب الوزارية في العراق" .
يبدو لنا اليوم بأن المشاركة أو تأييد الانقلاب العسكري حينذاك لم يكن سليماً , إذ أرسى أجواء جديدة غير صحية في الساحة السياسية العراقية , بغض النظر عن طبيعة القائمين به. إذ أن ما ترتب عن ذلك الانقلاب في الحياة السياسية العراقية كان سلبياً ودفع باتجاهات أكثر عدوانية إزاء الحريات الديمقراطية وإزاء قوى المعارضة الديمقراطية , كما ساهم في خلق استقطابات جديدة في ما بين القوى السياسية العراقية. لقد كان تجاوزاً على الدستور , رغم التجاوزات التي سبقته من جانب النخبة الحاكمة والقوى الاستعمارية التي كانت تساندها في سياساتها ضد القوى الديمقراطية وتشويه مضامين الدستور أو التي ساعدتها في وضع تشريعات مناهضة للمجتمع المدني والحياة الديمقراطية.
لقد نشطت جماعة الأهالي على الصعيدين الرسمي والشعبي وقدمت طلباً للحصول على موافقة بتأسيس حزب جديد باسم "جمعية الإصلاح الشعبي , والذي أجيز فعلاً في شهر تشرين الثاني من عام 1936. ويبدو أن قوة وجود الحزب في الحكم والشخصيات التي كانت في قيادته شجعت بعض أعضاء الحكومة إلى الانتماء لهذا الحزب أيضاً , ومنهم الفريق عبد اللطيف نوري , وزير الدفاع , والدكتور ناجي الأصيل , وزير الشؤون الخارجية , إضافة إلى جعفر أبو التمن . ولكن هذا الوجود القوي في وزارة حكمة سليمان لم يكن منسجماً مع واقع تأثيرهم في السياسة الجارية فعلياً والتي تراجعت تدريجاً عن الأهداف التي طرحتها في البداية , رغم الإشاعات التي كانت تروج والقائلة بأن الغالبية العظمى منهم يرتبطون بالشيوعية أو أنهم يميلون إلى الكُرد , إذ كان بكر صدقي العسكري كرديا. وبدأت عملية التراجع في الجو الديمقراطي وسيادة أجواء الفردية والاستبداد في سلوك وممارسات بكر صدقي , الذي كان يحتل مكاناً أساسياً وحاسماً في السياسة اليومية. وساعد الاتجاه الاستبدادي الجديد لبكر صدقي الجماعات القومية التي عارضت الانقلاب , بسبب بعض المواقف التي أخذتها على البيان الوزاري , وبسبب التأييد الذي حظي به الانقلاب من جماعة الأهالي والشيوعيين واليساريين عموماً , على استخدام صحافتها , الاستقلال والمثنى , لترويج الاتجاهات والأفكار المناهضة لوزارة حكمة سليمان ولقائد الانقلاب بكر صدقي. وأصبحتا مركز جذب واستقطاب لكل القوى التي تضررت من انقلاب بكر صدقي , وتلك التي تعرضت لضرباته العسكرية حتى قبل الانقلاب , أي شيوخ بعض العشائر العراقية وجمهرة من كبار ملاكي الأراضي. يضاف إلى ذلك أن جماعة الضباط الشريفيين كانت تسعى بكل السبل وبالتعاون مع بريطانيا إلى إيجاد السبل للخلاص من هذه الوزارة , رغم أنها من الناحية العملية لم تحمل العداء الفعلي لبريطانيا , ولكنها بدأت بمغازلة ألمانيا الهتلرية عبر القنصل العام الألماني في بغداد حينذاك .
واستثمرت القوى المناهضة لحكومة الانقلاب مجموعة من الإجراءات التي مارستها الحكومة والتي كانت مخيبة جداً لآمال الشعب بها , لإضعافها وإنزال الضربة بها , ومنها:
- عدم البدء بتطبيق فعلي للمضامين الأساسية التي وردت في البيان الوزاري , والذي كما يبدو , كان يعبر عن طموحات جماعة الأهالي ومن ثم جمعية الإصلاح الشعبي , التي أصبحت فيما بعد "حزب الإصلاح الشعبي" وانتمى إليه جميع الوزراء في ما عدا رئيس الوزراء. ولكن البيان الوزاري لم يكن يعبر في حقيقة الأمر عن أهداف بكر صدقي أو حكمة سليمان عملياً.
- الانفراد بالسلطة من جانب رئيس أركان الجيش بعيداً عن إرادة الوزارة أو بعض الوزراء , وكثرة الأخطاء التي ارتكبها وكانت تحسب على مجلس الوزراء , رغم عدم علم البعض منهم أو كلهم بها , أوجد فجوة بين أعضاء الحكومة من جهة , ورئيس الانقلاب وصاحبه رئيس الحكومة من جهة أخرى .
- الأساليب غير الديمقراطية والقمعية وسياسة الانتقام التي مارسها الحكم إزاء قوى المعارضة , ومنها مثلاً إسقاط الجنسية عن عبد القادر إسماعيل بدعوى كونه من أصل هندي.
وقاد هذا الوضع إلى تقديم أربعة من أعضاء الحكومة استقالتهم , وهم : كامل الچادرچي ويوسف عز الدين إبراهيم ومحمد جعفر أبو التمن وصالح جبر. وثلاثة من الأربعة هم من جماعة الأهالي ومن الحزب الذي تشكل باسم حزب الإصلاح الشعبي. وقد بادرت الحكومة إلى نفي مجموعة من السياسيين من أعضاء الوزارة المستقيلين , كما ترك كامل الچادرچي العراق قاصداً قبرص باتجاه احتجاجي ضد سياسات الحكم وخشية من احتمال اعتقاله أو إلحاق الأذى الأكبر به .
لقد لعبت عوامل كثيرة أخرى في إضعاف قوى الانقلاب والحكم القائم وساعدت على إنزال الضربة القاتلة بالحكم حين تم اغتيال بكر صدقي ومحمد على جواد قائد القوة الجوية في الموصل. إذ بعد الاغتيال أصبح أمر سقوط الوزارة مطروحا على بساط البحث. وتم ذلك فعلا باستقالة وزارة حكمة سليمان وتكليف جميل المدفعي بتشكيل وزارته الجديدة , الذي دشن عهده بحل المجلس النيابي وانتخاب مجلس جديد وتنظيم هجوم واسع وشرس ضد القوى الديمقراطية , وضد الشيوعيين منهم بشكل خاص , وإحالة عدد كبير من الضباط المتعاونين مع بكر صدقي على التقاعد على أساس "إبعاد الجيش عن السياسة" .
كيف كان موقف الأستاذ الراحل الجادرجي من هذا الانقلاب؟
لقد كان الجادرجي عضواً في قيادة جماعة الأهالي , التي وافقت على تأييد الانقلاب بعد مفاتحة حكمة سليمان لها وإعلامها بوجود قرار من بكر صدقي العسكري وعبد اللطيف نوري بالقيام بانقلاب معد له سلفاً. تغلبوا على الشكوك التي راودتهم في احتمال بروز اتجاه استبدادي عسكري في ممارسة الحكم , إلا أن الوعد بأن الحكم سيكون بيد المدنيين , كما يبدو من تركيبة الحكومة , أقنعهم بالمشاركة فيه. شارك كامل الجارجي في الحكومة وساهم في أعمالها, ثم تيقن له مع وزراء آخرين من حزبه , بأن سياسة الحكومة لا تمثل نهج حزبه والطموحات التي حركته لتأييد الانقلاب , وبالتالي استقال من الحكومة وبدأ يمارس النشاط ضدها ولم يعد الحزب مسؤولاً عن تلك الوزارة التي انتهت بمقتل بكر صدقي العسكري. أشعر دون تحفظ بأن مواقف جماعة الأهالي والأستاذ كامل الجادرجي والحزب الشيوعي العراقي لم يكن حينذاك صحيحاً بتأييدهم للانقلاب العسكري , إذ كانت البداية لسلسلة من الانقلابات ومحاولات الانقلاب خلال الفترة الواقعة بين 1936-1958. ولكن علينا أن نتعامل مع هذا الموقف في أطار الأوضاع التي سادت المنطقة والعالم حينذاك وفي ظل الحركات السياسية والثورية التي كانت تؤيد العمليات الانقلابية والثورات للتخلص من النظم الرجعية الحاكمة وتلك التي كانت تصادر الحريات الديمقراطية وتغيب حقوق الإنسان وحريته. وبقدر ما كان موقف التأييد للانقلاب خاطئاً , كانت الاستقالة من الوزارة عملاً صائباً احتجاجاً على سياسات العنف التي مارستها وفي غير مصلحة الشعب وبعيداً عن البرنامج الذي طرحته جماعة الأهالي وحزب الإصلاح الشعبي من خلال بيانات وتصريحات محمد جعفر أبو التمن.
ويبدو لي ولمن يقرأ مقال فاضل الجلبي يقتنع بوجود غرض غير سليم وموقف أكثر من كونه غير ودي من الأستاذ كامل الجادرجي حين اتهمه وحده ودون غيره بمسؤولية تخريب الحياة السياسية في العراق وينسى أو يتناسى نظام الحكم والنخبة الحاكمة , كما ينسى مشاركة غالبية جماعة الأهالي في الانقلاب. أن المسؤول الحقيقي الأول والرئيسي عن تخريب الحياة السياسية وتشويه الدستور والديمقراطية وتزوير الحياة البرلمانية لم تكن جماعة الأهالي ولم يكن كامل الجادرجي , بل كانت النخبة الحاكمة , كانت السلطة السياسية ومن كان يقف خلفها ويساندها من الاستعمار البريطاني حينذاك , وهي التي أوجدت ظروف مناسبة للتفكير بالقيام بانقلاب عسكري ضدها , وهي التي دفعت ببكر صدقي العسكري إلى مركز القيادة العسكرية ومنحته رتبة فريق بسبب ضرباته العسكرية المشينة ضد الحركات السياسية للقوميات الأخرى وضد الحركات العشائرية في الوسط والجنوب.
ولكن حين نقيم عمل ما لا بد لنا أن نتعرف على دواعي ذلك العمل من جهة , وما قام به من أعمال حين تسلم مسؤولية معينة وما خلص إليه في المحصلة النهائية من جهة ثانية. لقد كان كامل الجاردجي من المؤمنين بالثورة استناداً إلى التزامه بالفكر الاشتراكي الديمقراطي , ولهذا اعتبر الانقلاب هو الطريق السليم في ظل تلك الظروف الذي سيفتح آفاقاً رحية لعملية تغيير واسعة وثورية في الدولة والمجتمع العراقي. وقد كتب عن قناعته بالفكر الاشتراكي الديمقراطي يقول: "... إن الاشتراكيين الديمقراطيين يعتبرون الثورة مشروعة لإزالة نظام حكم رجعي للمجيء بنظام تقدمي على شرط أن تكون الوسائل الديمقراطية متعذرة .." [جريدة صوت الأهالي في 2 كانون الثاني 1946, استناداً لما ورد في كتاب الدكتور محمد الدليمي عن كامل الجادرجي. "
وحين أصبح وزيراً للاقتصاد مارس سياسة اقتصادية وطنية وذات مضمون اجتماعي تقدمي تجلت في موقفه من اقتصاد النفط العراقي وضرورة جعل مديرية أمور النفط تحت إشراف وزارته وأهمية وضرورة تولي العراق مسؤولية عمليات التنقيب واستخراج وتصدير النفط الخام , وضرورة تغيير شروط امتياز النفط مع الشركات الأجنبية وتدريب الكوادر الفنية ...الخ , ثم موقفه من قانون العمل لعام 1936 وضرورة الالتزام بنصوصه وأهمية العناية بالعمال وتحسين أحوالهم المعاشية ومنحهم أجورهم الاعتيادية خلال العطل الرسمية والتعويض عند الإصابة في أوقات العمل , كما بدأ بتنفيذ مشروع مد سكك حديد بين بيجي وتل كوتشك ... الخ
ثم حين تبين له بأن الأمور تسير بالاتجاه الخاطئ والخطر لم يتوان عن تقديم استقالته والتحريض ضد حكومة حكمة سليمان والدعوة إلى انسحاب جماعة الأهالي من مجلس النواب ... الخ.
إن النقد الذي يوجه لجماعة الأهالي والأستاذ كامل الجادرجي بسبب مشاركتهما وتأييدهما لانقلاب بكر صدقي أمر وارد ومقبول , كما أرى , بغض النظر عن قائل هذا النقد, إذ أن الممارسة أرست أساساً غير سليم لعمليات مماثلة لاحقاً. وأرى بان الأستاذ الجادرجي قد تعلم الكثير من هذا الموقف وحافظ عليه طوال الفترة اللاحقة إلى حين تشكيل جبهة الاتحاد الوطني التي ضمت جميع أطراف الحركة الوطنية العراقية والتي قررت بالإجماع خوض النضال لإسقاط الحكومة وتغيير الوضع القائم في العراق , واتفقت في ذلك مع تنظيم الضباط الأحرار في القوات المسلحة للتخلص من نظام الحكم الذي لم يحترم الإنسان ودستور البلاد ومصالح العراق. ولكن الجادرجي رفض المساومة والمشاركة في حكومة يبقى زمام الأمور بيد قائد الانتفاضة العسكرية , إذ أدرك بحسه الديمقراطي العواقب المحتملة من وراء ذلك. وسنتطرق إلى ثورة تموز في حلقة أخرى من هذه السلسلة من المقالات.
3/7/2008 كاظم حبيب
انتهت هذه الحلقة وستليها الحلقة الرابعة
الحلقة الرابعة
الجلبي والجادرجي ومسألة تأميم النفط في العراق
يوجه الدكتور فاضل الجلبي نقداً شديداً إلى الأستاذ الجادرجي بسبب رفعه شعار تأميم النفط العراقي , فهل الجلبي على حق في نقده أم أنه كان وسيبقى بعيداً كل البعد عن الشعب العراقي واتجاهات تفكيره وأهدافه وأوضاع الفئات الكادحة المالية التي كانت تستوجب زيادة حصة العراق من عوائد النفط الخام لعل جزءاً من تلك العوائد يصب في صالح تلك الفئات وخدمة المجتمع حتى في ظل الحكم الرجعي حينذاك؟ وهل كان الجلبي بعيداً كل البعد أيضاً عن الحركة السياسية الوطنية العراقية التي كانت تطالب بذلك؟ هذا ما سأحاول مناقشته في هذه الحلقة وفي ظروف العراق والدول المحيطة به حينذاك.
تحت وطأة عوامل كثيرة , منها وجود القوات البريطانية في العراق ومشكلة ولاية الموصل ومستقبلها في ظل الصراع حولها بين بقايا الدولة العثمانية (تركيا) وبين العراق وموقف الكُرد حينذاك ومناقشات القانون الأساسي (الدستور) والرغبة في إنهاء الانتداب البريطاني على العراق , وافق الحكام في عهد الملك فيصل الأول على شيئين كبيرين لصالح بريطانيا هما: معاهدة 1930 التي عدلت عدة مرات ثم أقرت في العام 1930 , واتفاقية امتياز النفط الخام مع الكارتيل العالمي حيث وزعت الحصص بين شركات بريطانية وأمريكية وفرنسية على قدم المساواة 23,75% لكل منها , وإبقاء 5% لصالح الوسيط الأرمني ومن رعايا الدولة العثمانية كالوست سركيس كولبنكيان. وكانت شروط الاتفاقية مجحفة حقاً بحق العراق وفي غير صالح الشعب , حيث قررت الاتفاقية حصول العراق على 4 شلنات فقط عن كل برميل نفط يصدر من جانب شركة نفط العاق الاحتكارية. ولولا ذكاء وحصافة ودور ساسون حسقيل , وزير المالية في الوزارات الثلاث التي ترأسها السيد عبد الرحمن النقيب , إذ كان عضواً في الوفد المفاوض , لما حصل العراق على أربع شلنات ذهب بل أربع شلنات عملة عادية فقط.
تركز مطلب العراق على حق المناصفة في تقسيم الأرباح بين العراق وشركات النفط الاحتكارية وحق العراق في المشاركة برأسمال شركات النفط العاملة في العراق, إضافة إلى المشاركة الفعلية في إدارة الشركات العاملة في العراق. ورُفضت أغلب تلك الشروط ابتداءً. ولكن الأحداث المتتالية التي وقعت في إيران وتأميم صناعة النفط في إيران من جانب حكومة مصدق في شهر مايس/أيار 1951 من جهة, ونشر الاتفاقية التي عقدت بين المملكة العربية السعودية وشركة البترول العربية الأمريكية (أرامكو) عام 1951 التي قضت بتقسيم الأرباح التي تجنيها الشركة مناصفة مع الحكومة العربية السعودية من جهة أخرى, إضافة إلى الأوضاع المتوترة في الساحة السياسية العراقية وتصاعد المطالبة بتأميم النفط, إذ خشيت شركات البترول الدولية أن حمى التأميم ستصل إلى الشعب والمعارضة في العراق على نطاق أوسع مما تم حتى الآن من جهة ثالثة , أجبرت تلك الشركات على الموافقة وعقد اتفاقية جديدة بالشروط التي طرحها الطرف العراقي تقريباً, وصادق عليها البرلمان العراقي بتاريخ 17 شباط/فبراير 1952, على أن يسري مفعولها من 1/1/1951 . واعتمدت الاتفاقية الجديدة مبدأ المناصفة في الأرباح المتحققة من استخراج وتصدير النفط الخام العراقي, إضافة إلى عدد من المسائل الأخرى, ومنها: أن يتمثل العراق بمندوبين في المجلس الدائم للمديرين في الشركات الثلاث العراقية والموصل والبصرة, وأن يشترك مندوبان عراقيان في إدارة الشركة, وأن يوافق وزير الاقتصاد على تعيين الخبراء والفنيين الأجانب في الشركات الثلاث, وأن تؤسس الشركات مدارس تدريبية لتدريب العراقيين على المهن والنواحي الصناعية والفنية للنفط, وأن ترسل 50 طالباً عراقياً سنوياً يدرسون على حساب الشركة في المعاهد والجامعات البريطانية. كما نجحت الحكومة العراقية في تثبيت بعض النصوص التي تضمن للدولة العراقية دخلاً مالياً يساعد على تنفيذ المشاريع التي كانت تريد تنفيذها, بغض النظر عن طبيعة تلك المشاريع, حيث ورد النص التالي: "أن تتعهد الشركات منفردة ومجتمعة بأن حصة الحكومة العراقية لن تقل عن 20 مليون دينار سنوياً خلال السنتين 1953 و1954 ولن تقل عن 25 مليون دينار خلال 1955 وكل سنة تليها" . ورغم ذلك فأن الشعب العراقي والمعارضة العراقية اعتبرت تلك الاتفاقية مجحفة بحق الشعب والاقتصاد العراقي, وهو ما تؤكده بنود الاتفاقية عموماً, خاصة وأن تلك الشركات كانت قد ساهمت فعلاً بنهب شديد للموارد النفطية خلال الفترة السابقة بعد أن فرضت سعراً واطئاً جداً للبرميل الواحد, أشرنا إليه سابقاً. وفي العام 1952 أنهت الحكومة العراقية امتياز شركة نفط خانقين وفق الاتفاق الموقع عليه من الطرفين في 25/12/1951. وبموجب هذا الاتفاق "انتقلت مسؤولية إنتاج النفط من حقل النفطخانة وتكريره وتسويقه إلى الحكومة العراقية, كما انتقلت إلى الحكومة أيضاً كافة حقوق الشركة وموجوداتها في العراق على أن تستمر الشركة بإنتاج وتكرير وتوزيع المنتجات النفطية نيابة عن الحكومة العراقية لمدة عشر سنوات" . وفي الفترة ذاتها "اشترت الحكومة بموجب هذا الاتفاق حقوق والتزامات شركة نفط الرافدين المحدودة أيضاً والتي استمرت بعمليات توزيع المنتجات النفطية حتى عام 1959 عندما قامت الحكومة بإنهاء العقد المبرم بهذا الشأن وقامت بتأسيس "مصلحة توزيع المنتجات النفطية" . وخلال الفترة الواقعة بين 1951-1958 كانت حصيلة استخراج وتصدير النفط الخام على النحو الآتي:
استخراج وتصدير النفط الخام العراقي والعوائد المالية للحكومة العراقية
خلال الفترة 1950-1958
السنة العوائد المالية ألف د. عراقي الكمية المنتجة/ ألف طن* الكمية المصدرة / ألف طن* الرقم القياسي لتطور العوائد الرقم القياسي لتطور الصادرات
1950 6.885 6.545 6.032 100,0 100,0
1951 14.668 8,554 7.952 213,0 131,8
1952 33.122 18.548 17.699 481,1 293,4
1953 51.258 27.741 27.014 744,5 447,8
1954 57.712 30.150 29.273 838.2 485,3
1955 73.743 33.144 31.644 1071,0 524,6
1956 68.859 30.819 29.162 1000,0 483,5
1957 48.920 21.577 19.926 710,5 330,3
1958 79.888 35.129 33.258 1160,3 551,4
Quelle: Zain Al-Abidin, Khalid Hamid. Zur Rolle und Problematik des Staates und des Staatssektors in der Industrie des Irak. Dissertation. Hochschule fuer Oekonomie. Berlin. 1966. Anhang Nr. 10.
* أرقام إنتاج وتصدير النفط الخام وكذلك العوائد مقربة.
إن إلقاء نظرة سريعة على الجدول والمخطط في أعلاه يساعد الباحث على تسجيل الملاحظات الأساسية التالية في ضوء الأوضاع السياسية التي كانت تمر بها منطقة الشرق الأوسط حينذاك:
• كان إنتاج النفط العراقي في عام 1950 منخفضاً جداً بالقياس إلى إمكانيات العراق الفعلية على التصدير من جهة , وإمكانيات السوق الدولية على استيعاب المزيد من النفط الخام , إلا أن الشركات النفطية كانت تفضل تأمين تصدير كميات معينة منه للحفاظ على أسعار عالية للنفط عموماً لكي تحقق لها أرباحاً عالية, خاصة وأنها كانت لا تدفع مبالغ عالية لأصحاب الأرض والنفط الفعليين لا في العراق حسب, بل وبالنسبة للبلدان الأخرى المنتجة للنفط أيضاً. وكان هذا يعني أن البلدان المنتجة للنفط والبلدان المستهلكة له كانت تتحمل خسارة كبيرة, في حين كانت الشركات المهيمنة على النفط والمحتكرة له ولأسعاره تحقق الأرباح العالية على حساب المنتجين والمستهلكين للنفط في آن واحد.
• وبعد أن أممت حكومة د. مصدق الوطنية صناعة النفط في إيران في عام 1951 بالرغم من معارضة الشركات الأجنبية واحتجاجها الشديد, قررت شركات البترول الاحتكارية الدولية مقاطعة النفط الإيراني, وبالتالي تقلص الإنتاج في إيران. ودفع هذا الواقع شركات النفط الأجنبية إلى زيادة إنتاج وتصدير النفط العراقي للتعويض عن نفط إيران المتوقف. وأدى هذا إلى حصول قفزة كبيرة نسبياً في إنتاج وتصدير النفط الخام العراقي, في حين عانى الشعب الإيراني واقتصاده من عنت وتحكم تلك الشركات. ولم تعبر الحكومة العراقية في ذلك أي تضامن مع الشعب الإيراني وحكومته , في حين تجلى التضامن في موقف المعارضة العراقية حين ألحّت بشعاراتها على التأميم.
• وإذ عرف إنتاج وتصدير النفط العراقي في عام 1956 أعلى مستوى له, فأن عملية تأميم قناة السويس وما ارتبط بها من فعاليات سياسية احتجاجية على العدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر, بما فيها انتفاضة عام 1956 قد أدى إلى تراجع إنتاج وتصدير النفط الخام العراقي في عام 1957. وتواصل هذا التراجع حتى نهاية عام 1958.
• ويمكن من خلال هاتين الظاهرتين أن نتبين مدى ارتباط إنتاج وتصدير النفط الخام بالأحداث السياسية وبمصالح شركات النفط الأجنبية, إذ أنها كانت قادرة على التأثير المباشر على اقتصاد واتجاهات التنمية في البلدان المنتجة للنفط من خلال زيادة أو تخفيض الإنتاج والتصدير أولاً, وعبر رفع أو تخفيض أسعار النفط دولياً ثانياً, والتي كانت بدورها تعني زيادة أو تقليص العوائد المالية السنوية التي يمكن أن تتحقق لهذا البلد النفطي أو ذاك. وكانت مثل هذه السياسات تنعكس بشكل مباشر على اقتصاد البلاد وعلى التصنيع وتحديث الزراعة وتطوير الخدمات وعلى مستوى البطالة والتشغيل ومستوى حياة ومعيشة الغالبية العظمى من السكان.
• ويشير الجدول أيضاً إلى زيادة عوائد العراق المالية بشكل عام, وأنها كانت خاضعة, من حيث الزيادة أو الانخفاض لثلاثة عوامل, وهي:
- زيادة الإنتاج والتصدير السنوي؛
- وزيادة حصة العراق على أساس المناصفة في الأرباح؛
- وبسبب ارتفاع أسعار النفط الخام أو انخفاضه أحياناً أيضاً.
وهي العوامل التي كانت تتحكم بها شركات النفط الأجنبية والأحداث السياسية في المنطقة والعالم.
لم يكن هذا المنجز النسبي ناجم عن سياسة الحكومة العراقية , بل نتيجة منطقية لنضال قوى المعارضة السياسية التي طرحت شعار التأميم. وقد كان لقرار التأميم تأثيره الإيجابي المباشر على الحركة الوطنية العراقية وحرك الشارع العراقي باتجاه المطالبة بالتأميم. وقد اقترن ذلك بانتفاضة العام 1952 الوطنية. وكان من بين القوى المطالبة بالتأميم الحزب الوطني الديمقراطي ورئيسه الأستاذ كامل الجادرجي , إضافة إلى حزب الاستقلال والحزب الشيوعي العراقي وشخصيات وطنية وتقدمية أخرى. كانت المطالبة بتأميم النفط الخام في العراق في العام 1951 و1952 ذات بعدين لم يستطع خبير النفط الراهن فهمها حين ذاك , إذ لم تكن له صلة , كما يبدو , بالحركة السياسية الوطنية العراقية : البعد الأول تأييد إيران وسياسة الدكتور محمد مصدق النفطية الوطنية إزاء شركات النفط التي رفضت التفاوض لتحسين شروط الاتفاقية وتخفيف الضغط عنه , والبعد الثاني كان باتجاه الضغط على شركات النفط الاحتكارية بأقصى الأهداف ليفرض عليها إعادة النظر بالاتفاقية لتحقيق مصالح العراق بشكل أفضل. وقد تحقق هذا فعلاً حين بادرت شركات النفط وتحت ضغط التأميم في إيران والحركة الوطنية العراقية , بمن فيهم مساهمة الأستاذ كامل الجادرجي والحزب الشيوعي العراقي وغيره من القوى والأحزاب , إلى الموافقة على الدخول بمفاوضات ومنح العراق المناصفة في تقسيم الإيراد (العائد) المتأتي من تصدير النفط الخام العراقي. وكان هذا بمثابة مكسب كبير للحركة الوطنية العراقية , ولم يحصل عبثاً , بل بفعل النضال الوطني الذي خاضته الحركة الوطنية العراقية كلها , ومنها الحزب الوطني الديمقراطي والأستاذ كامل الجادرجي. ومن المؤسف حقاً أن نجح التآمر الثلاثي الأمريكي – البريطاني – الفرنسي وبالتعاون مع القوى الرجعية وبعض القوات المسلحة بقيادة الجنرال زاهدي , ضد حكومة مصدق وتم إسقاطها في العام 1953.
ومشكلة الدكتور فاضل الجلبي في موضوع النفط لا يقتصر على موقفه من قضية التأميم التي طرحها الأستاذ كامل الجادرجي أو حزبه ,وهو حزب ديمقراطي تقدمي يقف في يسار الوسط في العراق حينذاك , بل كانت له مواقف مماثلة في فترات لاحقة من موضوع النفط وإزاء القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي أصدره عبد الكريم قاسم. ففي الندوة التي أقيمت في لندنبتاريخ 16/3/2007 قدم فيها الجلبي محاضرة بعنوان "الدستور, قانون النفط والسياسة النفطية في العراق" وكنت مستمعاً فيها. ثم نشرت مقالاً حول ما جرى في الندوة أشرت فيه بشأن هذه النقطة ما يلي:
"قسم الدكتور الجلبي محاضرته إلى جزئين, جزء تاريخي, ثم جزء خاص بقانون النفط وحدد بحثه بثلاث نقاط: الجانب الدستوري والسياسة النفطية وكيفية وضع النفط في خدمة الاقتصاد.
- أشار ابتداءً إلى أن تاريخ استثمار النفط في العراق يؤكد تعرضه إلى تهميش فعلي من جانب شركات النفط الأجنبية بالمقارنة مع صيغة التعامل مع نفط الدول الأخرى في المنطقة, سواء أكان ذلك من حيث التنقيب أو الاستخراج أو التصدير, وبالتالي قلة الموارد المالية المتأتية من استخراجه وتصديره. وقد تواصل هذا التهميش طيلة فترة عمل الشركات الأجنبية في العراق.
- هاجم بشدة سياسة قاسم النفطية وصب جام غضبه على القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي تم بموجبه استرداد الدولة العراقية 99,5 % من الأراضي التي كانت قد وضعت تحت تصرف شركات النفط الأجنبية ولم تستثمرها طيلة الفترة المنصرمة, التي تمتد إلى عدة عقود, رغم اعترافه بتهميش الشركات الأجنبية لنفط العراق. واعتبر هذا القانون أصل البلاء. (ومن المعروف أن الدكتور فاضل الجلبي أعتبر قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958, وهو قانون برجوازي وطني وديمقراطي, بمثابة الطامة الكبرى وأصل البلاء في العراق أيضاً. وقد جاء ذلك في ندوة عقدت في فيينا كنت حاضراً فيها وخالفته الرأي ودخلت معه بحوار. وكانت جمهرة من السياسيين والاقتصاديين العراقيين مشاركة في هذا اللقاء, ومنهم الدكتور أحمد الجلبي, الدكتور فاروق برتو, الدكتور عباس النصراوي, نوري عبد الرزاق حسين, الدكتور سنان الشبيبي, الدكتور وليد خدوري, الدكتور مهدي الحافظ وأديب الجادر وآخرون).
- مدح سياسة صدام حسين في مجال النفط الخام, حيث اعتبرها فترة ازدهار العراق حتى العام 1980, ثم بدأ التدهور مع بدء الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت ...الخ. وأشار إلى أن معدل دخل الفرد الواحد في العام 1980 بلغ أكثر من 4000 دولاراً وانخفض في العام 2006 إلى مستوى الدول الفقيرة في العالم."
كما كانت له مواقفه إزاء التأميم الذي نقل مورد النفط الخام من الشركات الاحتكارية إلى الدولة العراقية , رغم الممارسات الاستبدادية التي مارسها النظام الدكتاتوري لحزب البعث في التصرف بموارد النفط الخام. إلا أن التأميم كان مطلب الشعب كله وكل القوى السياسية الأساسية , ما عدا بعض خبراء النفط الذين كانوا على صلة وثيقة بشركات النفط حينذاك.
واليوم يقف الدكتور فاضل الجلبي , بخلاف الحركة الوطنية العراقية كلها , إلى جانب منح عقود المشاركة بالإنتاج في مجال النفط الخام للشركات الأجنبية دون التمييز بين طبيعة العقود التي يفترض أن تعقد مع الشركات الأجنبية وطبيعة الحقول التي يراد استخراج النفط منها: هل هي حقول مكتشفة ومنتجة أو جاهزة للإنتاج , أم أنها ارض غير مكتشفة يراد التنقيب عن النفط الخام فيها ثم البدء باستخراجه وتصديره , والتي تستوجب الكثير من رؤوس الأموال والخبرة الفنية ...الخ. إذ جاء في رسالة موجهة إلى رئيس البرلمان العراقي جواباً عن استفسار له حول عقود المشاركة بالإنتاج فيقول فيها:
"1- طبيعة عقد المشاركة في الإنتاج:
هو عقد تجاري طويل الأمد بين مستثمر أجنبي والجهة الحكومية المختصة بالعراق للاستثمار في القطاع النفطي وتطويره من دون المساس بسيادة الحكومة على مواردها النفطية، والتي تضمن لها السيطرة على قرارات الاستثمار والتصدير وحقها في نقض القرارات التي تأخذها الشركة بهذا الشأن، وذلك عكس عقود امتيازات النفط التي تم تأميمها في السبعينيات من القرن الماضي. ويتوقف أمد العقد على اتفاق الطرفين. وبالنسبة للعقود، التي تم التفاوض بشأنها بين الحكومة السابقة والشركات الأجنبية الكبرى، فأن مدة العقد عشرين عاماً، يجوز تمديدها لمدة خمسة أعوام باتفاق الطرفين.
إن الميزة الهامة، التي تجنيها شركات النفط من هذه العقود هو ضمان احتجازها لفترة طويلة من النفط الخام، مما يساعدها على تثبيت مركزها المالي، وبالنسبة لها فأن ذلك أهم من الربح الذي يتم تحقيقه من البرميل الواحد، الذي تأخذه كحصة من الإنتاج. لقد أصبحت مسألة ضمان الوصول إلى احتياطي للشركات مهمة جداً في الآونة الأخيرة، بعد انحدارها بسبب احتجاز الجزء الأعظم من الاحتياطي العالمي من قبل شركات النفط الوطنية في الدخول الأعضاء في منظمة (الأوبك). غير أنه مثل هذا الاحتجاز للاحتياطي إذ ينفع الشركات ليس من شأنه الأضرار بمصالح العراق النفطية، مادام لا يمس قيمة البرميل المنتج بموجب الأسعار العالمية".
ولكن كم هو مناف للحقيقة هذا الجواب من جانب الدكتور فاضل الجلبي يكشف عنه الخبير النفطي المتميز الأستاذ فؤاد قاسم الأمير في المقالة التي كتبها وأرفقها برسالة موجهة إلى رئيس المجلس النيابي حيث رد فيها بشكل مفحم على أراء الخبير النفطي الذي عبر ومثَّل عملياً في أطروحاته هذه ليس الطرف العراقي ومصالحه بل شركات النفط الاحتكارية ومصالحها بصورة غير مباشرة , شاء ذلك أم أبى , إذ جاء في رسالة الزميل الأمير ما يلي: "إن رسالة الدكتور فاضل الجلبي ليست نصيحة صادقة من خبير، بل أقرب ما تكون من مصيدة مسوّق لعقود المشاركة بالإنتاج، بغض النظر عن فائدة أم ضرر هذه العقود. يؤسفني أن عرضه لم يكن منصفا أو صادقا فيما طرحه من استنتاجات ونصائح، إذ أن كل خبراء العالم المحايدين يعرفون ضرر عقود المشاركة بالإنتاج خصوصا بالنسبة إلى الحقول المكتشفة. إن كل ما جاء بالرسالة ليس بصحيح ولا ذا فائدة للعراق، فهو من القلائل جدا من الذين يغردون خارج سرب الخبراء العراقيين". [رسالة مفتوحة من الزميل الخبير النفطي فؤاد الأمير إلى رئيس مجلس النواب يفند فيها اقتراحات خطيرة لفاضل الجلبي حول قانون النفط.
ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه على أنفسنا , لماذا يغرد هذا الخبير وحده خارج السرب ؟ وهل يعقل أنه لا يفهم المصيدة التي يراد دفع العراق إليها والخسائر الفادحة التي تترتب عنها على العراق ولصالح شركات النفط الاحتكارية؟ أترك الإجابة عن هذا السؤال لكل مواطنة ومواطن عراقي له معرفة أولية بقضايا النفط لكي يربط بين موقفه المناهض لفكرة التأميم التي طرحها الأستاذ كامل الجاردجي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ومن القانون رقم 80 لسنة 1961 وموقفه الراهن من عقود المشاركة بالإنتاج.
من اليسير أن نعرف بأن خبراء النفط في العالم ينصحون بأن من مصلحة العراق عدم عقد اتفاقيات مشاركة بالإنتاج بصدد الحقول المنتجة أو المكتشفة حتى لو كانت بحاجة إلى تطوير , ولكن يمكن عقد مثل هذه الاتفاقيات في ارض لم يكتشف النفط فيها حتى الآن , حيث الحاجة إلى رؤوس أموال كبيرة وخبرة فنية مثلاً , رغم أن التنقيب عن النفط الخام في العراق مضمون جداً , حيث تشير الدراسات المتوفرة عن العراق وبقية بلدان العالم إلى أن معدل العثور على النفط في العراق هو 7 من 10 تنقيبات , في حين أن المعدل العالمي هو 1 من 10 تنقيبات. وهنا يمكن رؤية الفارق الكبير جداً في التكاليف. ولو كان الجادرجي حياً بيننا اليوم لرفض ما يريده الجلبي وأيد ما تطالب به الحركة الوطنية العراقية , وهذا هو الفرق بين الاثنين وما يميز أحدهما عن الآخر.
لم يكن الدكتور الجلبي يقف على أرض صلبة بل هشة تماماً , رغم أن من حقه اتخاذ هذا الموقف , ولكن لم يتطابق , كما أرى , مع المصالح العراقية حين عارض الأستاذ الجادرجي ووصفه بالتطرف بسبب طرحه فكرة تأميم النفط الخام في البلاد. أرجو أن يعيد النظر بموقفه هذا , إذ أن آخر كتاباته تثير زوبعة في فنجان وتحاول البروز المتأخر سياسياً على حساب قامات متماسكة لشخصيات وطنية ناضلت في سبيل قضايا الشعب العادلة وضحت في سبيلها وتحملت الكثير مما لم يعشها ولم يذق مرارتها الجلبي أبداً. وهو اليوم يقف على نفس الأرضية , ولكنها أكثر هشاشة وأكثر تعارضاً مع كل خبراء النفط في العراق والعالم حين يطالب بالتوقيع على عقود المشاركة بالإنتاج في أرضٍ منتجة للنفط فعلاً أو في أرض اكتشف النفط فيها وتحتاج إلى تطوير. ولا يختلف الأمر من حيث المبدأ حتى لو وقع المسؤولون العراقيون تحت ضغوط معينة اتفاقيات من النوع الذي ينصح به الدكتور فاضل الجلبي , إذ سيكون الشعب ضده وضد من يوقع على مثل هذه الاتفاقيات التي هي في غير مصلحة العراق ويسعى إلى تغييرها.
31/6/2008 كاظم حبيب
انتهى المقال وتتبعه مقالات أخرى في الأسبوع القادم.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟