الانتخابات كمظهر من مظاهر الديمقراطية هي حلم العلمانيين الذي طال انتظاره، وهي بالتالي الوسيلة الوحيدة القادرة، على انتشالنا من مخالب مستبد جديد يتربص خلف ضباب الأزمة التي نعيشها الآن. لكننا رغم هذا لا نخوضها بأي ثمن وبأي شكل.. وإلا ما فرقنا عن أي دولة من دول الأنظمة المستبدة التي تجاورنا من بعيد أو قريب، في كل هذه الدول يمُارس شكل من أشكال الانتخاب، لكنها تظل أنظمة مستبدة. لهذه اللعبة التي تكاد تكون مقدسة الآن من الجميع قواعد وأصول.. سوف لا أتطرق إلى مشكلة الملايين العراقية المشتتة في المنافي والمحرومين من أي بطاقة تموين أو حتى بطاقة هوية، وبالتالي سيحرمون من الحق في المشاركة في الانتخابات، ولا أعيد تلاوة مصيبة المدن التي يسودها الدمار والخراب، تحت شعارات مقاومة المحتل وطرد الصليبين، والتي كلها تضم أبناء الطائفة السنية.. ولا أتكلم عن مناطق الأكراد وآليتهم في الانتخاب المشكوك في نزاهتها، الآلية التي جعلت الناخبين مناصفة بين حزبين من بين كل الأحزاب والتلاوين السياسية.. ولا عن المرأة العراقية المستبعدة كلياً، وبتعضيد هذه المرة من مجلس الحكم، عبر قراره سيء الصيت بإلغاء قانون الأحوال الشخصية، وتلك الحملة الشعواء التي تخاض ضد النساء، من أجل ركنهن في البيوت وداخل زنازين الحجاب، ومحصلة هذه الحملة أنتجت لنا (تلك المؤودة التي سئلت بأي ذنب قتلت)، وإذا كانت تلك المؤودة قد وجدت في الماضي البعيد في الإسلام نصيراً لها، هي الآن مؤودة من الإسلام نفسه عبر تحالفه مع أحط تقاليد وعادات العشائر..لا يُنتظر من مؤودة أن تخوض انتخابات بحرية وإرادة ومسؤولة، ما بالك إذا كانت كما يقال عنها الآن تمثل أكثر من نصف المجتمع.. أقول سأركن كل هذه الاعتراضات التي واحدة منها تكفي للتشكيك بنزاهة أي انتخابات.. وسأتطرق فقط إلى قاعدة واحدة أجدها أكثر أهمية في أي انتخابات، تلك هي قاعدة أو مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين. أين هو تكافؤ الفرص بين أحزاب وتنظيمات ما زالت تلملم أشلاءها، بعد تعرضها لحملة اجتثاث ندر مثيلاً لها في التاريخ، حملة كانت نتيجتها المنطقية حرمان الشعب بتكويناته المختلفة من سلاحه في مقاومة الاستبداد، ولجوئه أخيراً إلى الدين.. والدين خير عزاء لمن لا عزاء له.. أحزاب لم تجد بعد مقراً لها، وإن وجدته قد لا تجد بدل إيجاره لمدة طويلة.. وتجمعات دينية طائفية لها في كل تجمع سكاني مقر أو أثنين، على عدد بيوت العبادة التي تحولت إلى مقرات ومراكز حزبية لهذه الجماعات التي ملئت البلد ضجيجاً، وفوضى منذ سقوط النظام وإلى الآن.. أين هو تكافؤ الفرص في انتخابات، ستخاض من على منابر ومراكز انتخابية، محتكرة كلياً لهذه الجماعات بفعل سيطرتهم واستحواذهم على كل بيوت العبادة على طول البلد وعرضه، إذا كان للنظام السابق منظمة حزبية في كل تجمع سكاني صغير، الآن لهذه الجماعات أكثر من مركز ومقر في نفس المساحة، مضافاً إليها العدد الكبير من مقرات الحكومة السابقة التي تم الاستيلاء عليها وتحويلها إلى مراكز لهم.. سيقال لي أمامكم الشوارع، نظموا التجمعات والمسيرات والبلد مزدهر بالساحات العامة.. أمامكم حديقة الأمة، ساحة الفردوس.. ساحة الشهداء.. ضفاف القناة من الشمال إلى الجنوب، المناطق الجرداء المكشوفة خارج المدن.. إذهبوا وروجوا لأنفسكم، لنرى هل سيتبعكم أحد يا علمانيين.. وأقول لهم: صدقتم سوف لن يتبعنا أحد.. لأن هذا الأحد الذي لا يجد قوت يومه في ظل الظروف الشاذة الحالية، لا يأخذه البطر للبحث عن تلك التجمعات، هذا فيما لو توفر للعلمانيين ما يسددون به فواتير هذه التجمعات.. هذا الأحد يا مولاي الديمقراطي الجديد ببساطة سيلجأ إلى أقرب جامع له، يصلي ركعتين وينتظر المقسوم، من تلك الميزانيات الضخمة التي تأتي من الخمس والنذور وهدايا الأضرحة المقدسة، إضافة إلى تصرفكم بالمسروقات التي أعادها الناس إلى الجوامع أثناء حملة الفرهود.. هذا إذا استثنينا الدعم الخارجي الذي يصلكم بشكل من الاشكال من الجارة الصديقة اللدودة إيران.. للعلم هذا ليس احتمال أو شك، بل أن إيران تحكم الآن في البصرة والعمارة وتوابعها، وبمعرفة البريطانيين هناك.. هكذا ميزانية وهكذا بنية تحتية حزبية قادرة على اكتساح كل شيء. رغم افتقاركم للرؤية المستقبلية والبرنامج الواضح، ربما باستثناء ذلك الشعار العتيد العمومي الذي يقول (نعم.. نعم.. للإسلام) لكن أي إسلام، وأي حل وأي مشاكل ستتصدون لها، كل هذا غير مفهوم، لأن الذي أمامنا إسلامات وليس إسلام واحد، إسلامات على عدد المراجع والشيوخ والحجج.. ولكل شريعته وفتاواه الخاصة به.. لكن المفهوم والواضح من خطابكم أنكم تستهدفون ثلاث ظواهر، هي: سفور النساء، شرب الخمر، والغناء.. على خلفية تقول لو قضيت على رؤوس الشيطان الثلاثة هذه، انك ستربح الدنيا والآخرة.. هكذا ستحلون مشاكل البلد.. كيف نضمن نزاهة الانتخابات التي تطالبون بها الآن وبصوت عال والمستبد المتربع على المنبر بعمامته منتظراً أمام أعيننا.. هل سنسلم رقابنا وبإرادتنا هذه المرة لسكاكين الاستبداد الديني، وهو أسوأ أنواع الاستبداد لاختلاطه بالمقدس.. أجدها مخاطرة يا سادتي.. بل لا مسؤولية تجاه البلد ومصالحه، التي تقف على رأسها قضية إعادة أعماره، حل مشكلة ديونه، استنهاض اقتصاده من تحت الرماد، والتحكم بمسؤولية بثرواته الطبيعية.. وأخيراً إيجاد وسائل براغماتية مناسبة للتعامل مع المحتل الذي سوف لا يكون من السذاجة.. هكذا خضت الحرب، وشاكست العالم كله، وقدمت الضحايا من الرجال والنساء، والبلايين من الدولارات كل هذا هدية وصدقة لله تعالى.. وجزائي في الآخرة.. لا يا سادتي، هذا المحتل ببساطة هو لا يعرف شيء اسمه آخرة، هذا يؤمن بالدفع مقدماً وفي الحياة.. بأي وسائل ستتعاملون معه وجيشه رابض على أرضنا، وليس لنا جيش ولا سلاح غير سلاح الخردة من مخلفات النظام السابق.. ألا يستطيع ببساطة اللعب على وتر الطائفية، لإقصاء الجميع.. ؟
لا بد من سياسة واقعية مبنية على حسابات الربح والخسارة، سياسة تخوضها حكومة مهنية تعتمد على أسس علمية وليست خيالية، أسس هاجسها يكون إذا كان لا بد من الخسارة فلتكن أقل الخسارة.. البلد بحاجة إلى سنوات لغرض لملمة جراحه.. وتهيئة البنية التحتية المناسبة للديمقراطية القادمة.. أما الخوف من التشكيك بشرعية المجلس القادم وحكومته، فالأمر باعتقادي سوف لا يختلف عن التشكيك بشرعية أي نتيجة تأتي بها الانتخابات التي تطالبون بخوضها الآن بأي ثمن وبأي شكل.. الأمر يتطلب مسؤولية تجاه البلد ككل وليس تجاه الطائفة أو العرق أو الدين.. كفانا ظلماً لأنفسنا.. كفانا ونحن نقدم العون تلو العون لأعدائنا على أنفسنا.. أنكم تخدعون الناس بالقول لهم: أنكم جربتم العلمانية ورأيتم نتجائجها الكارثية وكأن صدام حسين كان علمانياً.. وما لكم الآن سوى الإسلام.. يا سادتي لقد تم تجريب الإسلام وفق ما تنادون به أنتم الآن وفشل.. ولكم في واقع إيران الحالي عبرة وموعظة حسنة لو أحسنتم القراءة.
23-12-2004