|
الدين والسياسية .. المشكلة .. الحل
نجيب غلاب
الحوار المتمدن-العدد: 2332 - 2008 / 7 / 4 - 10:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الدين سواء كان سماويا كالمسيحية والإسلام واليهودية أو وثني كالهندوسية والبوذية شكل ومازال قوة فاعلة توظف من قبل الراغبين في الحصول على السلطة بهدف التأثير على الجمهور لمواجهة منافسيهم أو أعدائهم، ورغم توظيف الجمهور في الصراع إلا أن القوة السياسية تصب في نهاية المطاف لصالح النخب الموظفة للدين. والواقع العالمي الراهن يؤكد أن الدين قوة جبارة يلعب دورا بارزا في تحريك إرادة الشعوب وبعث روح المقاومة والتحدي لديها، وهذا دفع الكثير من السياسيين لاستخدام الدين لتبرير سياساتهم، ورغم خطورة توظيف الدين في الصراع على المصالح، باعتبار ذلك انتهازية سياسية يتم من خلالها استغلال مشاعر الناس ودفعهم لتأييد السياسات، إلا أن المشكلة الكبرى تكمن في تحويل السياسة إلى دين كما هو الحال لدى الحركات الأصولية التي تعيد تفسير الدين وتقدم قراءات للواقع من خلال ذلك التفسير لتصبح تلك القراءات ايدولوجياً دينية مغلقة وتتحول السياسة في بنيتها إلى ممارسة دينية، ونتيجة لذلك تغدو ممارسة السياسة فرض على كل مؤمن يبحث عن خلاصه ليس الدنيوي فحسب بل والأخروي، ومن يعمل عكس ذلك فأنه يدخل دائرة الكفر. ولأن الحركات الأصولية المؤدلجة تحمل نفس التبريرات، وبحكم التناقض فيما بينها ونتيجة قناعة كل أصولية أن فهمها للواقع يمثل حقائق نهائية ومطلقة، فأن الصراع يكون نتاج حتمي، ويتم قبول الصراع في بنية الفكر الأصولي كأمر حتمي للصراع الأبدي بين الحق والباطل، وما يذكي أوار الصراع أن كل أصولية تعتبر نفسها الفرقة الناجية. والأصولية التي تمارس السياسة كدين لدي أعضائها قناعة جازمة أن استخدام السلطة السياسية في خدمة الفكرة الدينية واجب ديني، ولان المؤدلج يهيمن عليه اعتقاد انه ممثل الإرادة الإلهية، وان مسئوليته تتمحور في إقامة الدين، فأن كل أصولية تسعى للسيطرة على الدولة، وعندما تعجز عن السيطرة وفق آليات سلمية فأنها تلجأ للقوة، وإذا سيطرت على الدولة فأنها تحولها إلى أداة لقسر الناس على رؤيتها، وتعمل على تنميط أفراد المجتمع وفق نموذجها الأصولي، وفي هذه الحالة ونتيجة لطبيعة التنوع في المجتمع، فأن السياسة تصبح مجال للصراع العنيف وقوة قاهرة للآخر. وعبر التاريخ كانت الأفكار السياسية المؤسسة على رؤية دينية صارمة، تحمل في بنيتها القهر والجبر والتسلط والاستبداد بأعلى صوره، لأن الأصولية المسيسة تحول الدين من قناعة ذاتيه إلى قوة قاهرة لإرادة الإفراد، وهذا بطبيعة الحال يتناقض مع المسلمات الأساسية للدين كما هي في مصادره الأولية والتي تؤسس للحرية كمدخل جوهري لبناء القناعات، ويتناقض أيضا مع السياسة كمجال يقوم على الحوار والنقاش والاختيار الحر. ففي العالم الإسلامي فسرت الأصولية المؤدلجة الدين بطريقتها وجعلت تفسيرها هو الدين، فأصبحت السياسية لدى الشيعي التابع لنظرية ولاية الفقيه دين خالص، ولا يختلف الأمر فيما يخص المذهب السني فمع انتشار الايدولوجيا الاسلاموية أصبحت السياسية بناء عقدي وعبادة دينية بمقام الجهاد في سبيل الله. وما عمق من إشكالية توظيف الدين في السياسة رد فعل الحاكم المسلم لمواجهة الحركات الأسلاموية، فالحاكم يرى ان الدين الذي يقدمه الحركي متناقض مع صحيح الدين، وتصبح المؤسسة الدينية التقليدية كفيلة بمواجهة الإسلام الحركي وتخطئة مسلكه، فتنال دعم الحاكم ويصبح الزعيم المؤمن شعار لمواجهة القوى الأصولية ذات المطالب السياسية، فتعيد المؤسسة الرسمية صياغة أصولية بطريقة مختلفة لكنها في نتائجها تعمل هي الأخرى على تحويل الدين إلى أيديولوجيا سياسية لتصبح هي الدين ومن يخالفها كافر، أي أن الحاكم في مواجهة الأصولية يسهم في خلق أصولية. كيف يمكن حل هذه الإشكالية العويصة؟ الواقع يؤكد أن فصل الدين عن الحياة في العالم الإسلامي يمثل مشكلة كبيرة، وأغلب المحاولات كانت فاشلة، لذا فان الحل يكمن بفصل السياسة عن الدين، بما لا ينفي الدين، بحيث تمارس السياسة باسم السياسة لا باسم الدين، أي ان يناضل كل فرد أو جماعة من أجل قيم عقلانية تهدف لتحقيق مصالح الأفراد والمجموع بإبعادها المادية والمعنوية. وعزل المسألة الدينية كمجال ثقافي، عن السلطة السياسية كمجال للصراع على المصالح، لا يعني تناقض الدولة مع الدين، فالسياسي الساعي للسيطرة على القوة السياسية لا يرفض الدين ولا يقف ضده، ولكنه يمارس السياسة باسم السياسة لا باسم الدين، وذلك من خلال برنامج يدافع عنه، والبرنامج قد يكون ذا مضمون ديني لكن دون التأكيد ان برنامجه حق مطلق، ولكنه أكثر صوابا في معالجة مشاكل الواقع من وجهة نظر أصحابه. وفصل مجال الدين عن مجال السياسية لا يعني أيضاً استبعاد الدين وعزلة عن حركة الحياة، فالقوى السياسية هي تعبير عن المجتمع، وقواه الحية عندما تتصارع على الموارد، لابد أن تكون محكومة بالثقافة المهيمنة على المجتمع، فإذا كان الدين محدد جوهري في ثقافة المجتمع وسلوكه فان قرارات الأفراد وصانعي القرار لابد ان تتأثر بتلك الثقافة. وهذه الطريقة تحرر الدين من الاستغلال وتجعله قادرا على التوائم مع مصالح الناس وحاجتهم، كما أنها تتجاوز إشكالية التناقض بين السياسة والدين، وتحرر الدين من الوعي الأصولي المؤدلج الذي يقدم الدين كبنية ماضوية مغلقة، وأيديولوجيا فكرية نهائية، وتحويل الدين إلى إيديولوجيا شوه الدين وأخرجه من مساراته الطبيعية وجعل منه رؤية منغلقة على العصر والتطورات، وهذا بطبيعة الحال يقتل طاقات التجديد ويضعف الدين ويعزله عن الحياة ويجعله دين جامد، ليصبح المجتمع في هذه الحالة لكي يواجه حاجاته مضطرا لتجاوز الدين. مشكلة الوعي الأصولي الكبرى أنه يحول الدين من قوة جامعة للناس لا خلاف حول مبادئه رغم تعدد التفسيرات والاتجاهات الفكرية داخلة، إلى قوة مشتته ومفككه للمجتمع، ويجعل القيم الدينية محل خلاف ونزاع وصراع، لأن القوى الأصولية المؤدلجة تعمل على فرض رؤيتها الدينية على المجتمع، وهنا ينتج صراع لا على الموارد بل حول القيم الدينية وتصبح محل خلاف، وهذا يقود نحو التكفير والإلغاء، ويدخل المجتمع في صراعات وتناقضات عميقة فالقوى الأخرى في المجتمع ترفع السلاح نفسه لتقاوم باسم الدين القوى الأصولية الأخرى، والحل في هذه الحالة لحسم الصراع هو استبعاد الدين من الحياة نهائيا لصالح أصولية علمانية متطرفة. أما عندما يتم ممارسة السياسية باسم مصالح الناس وحاجاتهم لا باسم الدين، فأن ذلك لن يؤدي إلى تجاوز الدين، فبحكم تدين المجتمع الصانع للدولة، فإن الماسكين على القوة فيها، لا يمكنهم تجاوز الدين عند صنع السياسات، فشرعية العاملين في الدولة مرتبطة بحرية اختيار الناس لهم، هنا يصبح الحاكم ملزم بالاستجابة لرغبات الناس وحاجاتهم المادية والمعنوية، وهذا الاستجابة ليست مبنية على رؤية إيديولوجية بل على رؤية تفهم الواقع كما هو وهذا ما يجعل منها استجابة متوافقة مع طبيعة الناس وفلسفتهم للحياة ومع مصالحهم كما أنها استجابة مرنة ومنفتحة على واقعها المحلي والعالمي، وهذا بطبيعة الحال يسهم في جعل الدين متوافق مع التطورات ويجعله قادرا على التوائم مع الواقع المعاصر ويساعد على تحقيق مصالح الناس. أما عندما يتحرك السياسي باسم الدين للسيطرة على الدولة فانه يفقد الدولة معناها الحقيقي، وتتحول الدولة إلى قيمة دينية، وأداة بيد رجل الدين، كما أن السياسية عندما تصبح دين تتحول الدولة إلى قوة قاهرة للمجتمع باسم العقيدة، وتصبح الدولة دولة عقيدة، وهذا يمثل أعظم مداخل الاستبداد لأنه يلغي فكرة الحرية لصالح رؤية إطلاقية لا تعبر عن حقيقة الدين، وإنما عن رؤية من أدلج الدين وجعل منه سياسية، وفي هذه الحالة الأفراد مجبرون على أتباع الحاكم لا باعتباره معبر عن مصالحهم ولكن باعتباره ممثل الشريعة والعقيدة ومعبر عن إرادة الله وتصبح طاعته واجبة بصرف النظر عن انسجامها مع حاجات الناس ومصالحهم. على ما يبدو أن القوى الاسلاموية في ظل هيمنة الوعي الأصولي عليها لا يمكنها أن تدرك بأن الدولة قيمة مجردة محايدة، وأداة بيد المجتمع لتحقيق فلسفته ورؤيته في الحياة، وعندما تعجز الدولة عن القيام بوظائفها، فان الخلل ليس بالدولة وإنما بآلية إدارتها، واستخدام الدين من قبل الإسلاميين لمواجهة النخب الحاكمة يقوي من هيمنة النخبة ويضعف الدين ويحاصر تطور المجتمع وتقدمه. فالمشكلة ليست بتغيير النخبة المهيمنة بنخبة متدينة تحكم باسم الدين لأنها مع الوقت تخلق مصالحها وتفسد القيمة الدينية وتشوه الدين وتفقد هيبته في المجتمع، والحل يكمن بإعادة الاعتبار لمفهوم الدولة باعتبارها تعبير عن حاجة المجتمع، والتعامل مع الدولة كمسألة بشرية عقلية وأداة تنظيمية، وظيفتها تحقيق مصالح الناس بأبعادها المعنوية والمادية. لذا على الجميع أن يناضلوا من أجل حرية المجتمع وقيام الآليات التي تجعل من السياسية مؤسسة على الاختيار الحر. في تصوري إن المتدين الحقيقي في ظل تجربتنا التاريخية وواقعنا الراهن والذي يريد لدينه الفلاح والصلاح والنصر عليه أن يتحرك في المجال المستقل عن صراع السياسيين ويتحول إلى داعية إصلاحي في مجال الأخلاق والاجتهاد في كافة المجالات وان يطور رؤى فكرية إبداعية تنسجم وتتطور مع حراك المجتمع ويترك السياسي يختار البرامج التي تناسبه باسم السياسة لا الدين والحرية هي الكفيلة بجعل المجتمع يختار ما يناسبه.
#نجيب_غلاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاسلام السياسي وتناقضات الفكر والسلوك مع ديمقراطية
-
انثى من جنون
-
الاصوليه وخطرها على السلم الاجتماعي
-
ثقافة جديدة من أجل مجتمع حُر: الوعي التقليدي في مواجهة العصر
-
إشكالية السياسة في الايديولوجيات الأصولية
-
إشكاليات التحول الديمقراطي في اليمن
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|