|
في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (1 )
ابراهيم ازروال
الحوار المتمدن-العدد: 2331 - 2008 / 7 / 3 - 10:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
والكلام، بعضه ألفاظ كمثل أشداق وحشية، وبعضه قيود لا لأعناق البشر وحدهم، بل كذلك لأعناق النجوم . أدونيس تنبأ أيها الأعمى
تعيش الفضاءات الثقافية الإسلامية، راهنا، حالة من التمزق الفكري والشيزوفرينيا الثقافية المعممة ونقض مهول في العقلانية المعلمنة والمجردة عن السمات اللاهوتية. لقد اختارت النخب الثقافية المعلمنة نسبيا والمنفتحة بدرجة أو بأخرى، على الثقافة الغربية وعلى مواقفها التحليلية والنقدية للظاهرة الدينية وللحدث المسيحي ولشخصية المسيح، عقد مصالحات جزئية مع التراث ومع النص المؤسس وتسريب المكتسبات الإبستيمية والمنهجية والإجرائية للعلوم الاجتماعية والإنسانية إلى التربة الإسلامية بكثير من الحذر ومن استعطاف المؤسسة الأرثوذكسية المهيمنة ثقافيا، والمتحالفة في الغالب مع السلطة السياسية، والمتغلغلة في الوجدان الجماهيري الميال إلى الأسطرة والأمثلة والانقياد للقادة الدينيين الكاريزميين. إلا أن التأويل التصالحي مع الذاكرة الثقافية ومع المخيال الديني ومع الوعي الجمعي، كثيرا ما قاد المفكرين الإصلاحيين إلى مواقع غير مريحة معرفيا ومنهجيا، والى وضعية سوسيو- سياسية مترنحة، مما أدى بالكثير منهم، إلى اعتناق المواضعات التراثية الأكثر سلفية ومنافاة لمقتضيات العصر، بعد انطفاء حماس البدايات، باسم التصالح مع العمق التراثي / التاريخي، وباسم الإخلاص للمثال والطوبى القرآنيين. سنركز في هذه المناولة على مؤلفات الدكتور عبد المجيد الشرفي وخصوصا على كتاب (الإسلام بين الرسالة والتاريخ )، بالنظر إلى غناها الدلالي واحتوائها على تركيب فكري خصب، وعلى محاولة تأويلية للجمع بين الدين والحداثة في عصر ما بعد الحداثة وانتهاء الزمان الثيولوجي /الايطيقي. هل أفلح الشرفي فيما فشل فيه الإصلاحيون ؟ سؤال سنجيب عنه، عبر استشكال نصوص للشرفي ونقد لمضامينها وإستراتيجيتها التأويلية ومؤداها الفكراني.
1-اللاهوت والناسوت: " إلا أن أحد الأقوال التي أوردها السيوطي في الإتقان يذهب إلى " أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلعم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب "، ولم ير في هذا القول كفرا أو مروقا من الدين. وهو في الحقيقة أقرب المواقف من المعقولية الحديثة، ولعله يصلح منطلقا لتفكير متجدد منسجم في الوحي، غير مقيد بالنظريات الموروثة بدعوى ما حصل حولها من إجماع، ويحافظ في القرآن على بعده الإلهي المفارق من دون تجسيم، وعلى بعده البشري الطبيعي بتاريخيته ونسبيته، غير فاصل بين البعدين أو مقص لأحدهما أو مضخم له على حساب الآخر، كما هو الشأن في التصور "السني" السالب النبي إرادته وملكاته. أليست غاية الرسالة إشراك الناس جميعا في تجربة الإلهي expérience du divin التي عاشها النبي بامتياز !" (- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .37-38) يعتقد الشرفي في إمكانية تجديد النظر في إشكالية مصدرية النص المؤسس، وإعادة مناقشة الرؤية السنية المهيمنة، وهي الرؤية السائدة والمتغلبة على باقي الرؤى منذ انتهاء فورة الفكر" العقلاني" في الإسلام الكلاسيكي وسيادة النظر السني بدءا بالمتوكل. كما يعتقد أن التمييز في القرآن بين المعنى الإلهي واللفظ النبوي، يعيد الفاعلية الاعتبارية لمؤسسة النبوية ولشخص النبي من جهة ويتفق مع المعقولية الحديثة من جهة أخرى. ولا ينسى أن يشير إلى انفتاح بعض المفكرين القدامى وسعيهم إلى عقلنة تشكل النص المرجعي عبر استلهام مفاهيم فلسفية وأراء برهانية ( الكندي والفارابي وابن سينا ... الخ ) والى تمسك المفكرين المعاصرين في الغالب بآراء سلفية موغلة في تقديس القرآن واستبعاد أي رؤية عقلانية له نظير ما قدم المفكر الباكستاني فضل الرحمان مثلا. والحقيقة أن تجديد التفكير في القرآن استنادا إلى الأطر الفكرية الحديثة، يستلزم الإشارة إلى نظرية خلق القرآن الاعتزالية. فالمعتزلة قالوا بخلق القرآن ، وانتمائه إلى مجال صفات الأفعال الإلهية لا إلى مجال صفات الذات. ومما لا شك فيه أن صفات الأفعال تمثل مجالا للتلاقي والتشارك بين الكائن المتعالي والعالم . فلا جدال في أن المعتزلة سعوا إلى عقلنة اللامعقول النصي بتأويل الكثير من المفاهيم اللاهوتية الإسلامية الغارقة في المتعاليات وإلى تدبر مفارقة النص للعالم من حيث المصدر ومن حيث البناء ومن حيث الدلالة تدبرا فكريا نظريا بعيدا عن سطوة التسليم السلفي. وقد عزا البعض فكرة التمييز بين الكلام المنزه والألفاظ التشبيهية إلى يوحنا الدمشقي : " وفي واقع الأمر ، فقد اعتمد يوحنا الدمشقي في " المناظرات " منهجا يفرق بين "كلمة " الله بمعنى " الخطاب " و" التفوه " به بمعنى " الألفاظ "، وكانت هذه المقاربة، تحديدا بمثابة البذرة الفلسفية التي زرعها الدمشقي في تربة المساجلات التي دارت رحاها بين أهل السنة والجهمية وصولا إلى المذهب الأشعري الذي وفق بين طرفي هذا الجدل بالقول إن خطاب الله قديم، بينما التلفظ بالقرآن مخلوق ". ( - دانييل ساهاس – الشخصية العربية في الجدال المسيحي مع الإسلام – الاجتهاد – العدد : 28- صيف – 1995- ص. 131) . والشرفي يسعى إلى الفصل بين المحتوى المعنوي الغيبي وبين الصياغة اللغوية النبوية للخطاب المفارق، أي إنه نسب الكلام إلى الكائن المتعالي والألفاظ إلى الكائن التاريخي المتمثل في النبي. وهذا الرأي التراثي، هو أحد الآراء المطروحة في الأدبيات الكلامية والفقهية القديمة. يقول السيوطي: " وقال غيره: في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اللفظ والمعنى، و أن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف منها بقدر جبل قاف، و أن تحت كل حرف منها معاني لا يحيط بها إلا الله. والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، و أنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب. وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: ( نزل به الروح الأمين، على قلبك ) [ الشعراء: 193-194]. والثالث : أن جبريل ألقى إليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية ، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك " (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 118) . ومن المؤكد أن السيوطي يتمسك بالرأي السلفي الرافض لأي تدخل أو صياغة نبوية للكلام المفارق لاعتبارات يوردها في قوله: " والسر في ذلك: أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه. وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظه الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف، فتأمل" (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 120) . يستند رفض السيوطي للصياغة النبوية للكلام المفارق القرآني إلى اختصاص هذا الكلام بالصفات التالية: 1- التعبد بلفظه، 2- الإعجاز بألفاظه، 3- تعدد دلالات حروفه. فهو لا يرفض فاعلية النبي وصياغته الذاتية للكلام المفارق، بل يربطها حصريا بالسنة، وفق ما هو معتمد لدى أهل السنة خصوصا بعد صياغة الشافعي للأصول في (الرسالة ). ومن هنا، فإن تمييز الشرفي بين الكلام المفارق المنزه وصياغته اللفظية التاريخية النسبية، هو استعادة بطرق أخرى، لتمييز القدماء بين الكلام المفارق في السنة وصياغته اللفظية واللغوية النبوية. لقد قاد الأزمة التشريعية وقلة نصوص الأحكام، الإسلام الكلاسيكي، إلى ابتداع نص متاخم للنص المؤسس، وإلى إضفاء صفات التقديس عليه، استنادا إلى تأويل تلويني لنصوص قرآنية مختارة بعناية فكرانية دقيقة. فقد ميزالقدماء بين المصدر المتعالي للسنة وصياغتها اللغوية البشرية، لفرض مصدر تشريعي آخر يسد ثغرة محدودية النصوص، ولفرض سلطات جديدة وتيارات جديرة في خضم صراع التأويلات بين التيارات الفكرية والسياسية المتطاحنة طيلة العصر الأموي والعباسي تخصيصا. ولا نعتقد أن نقل ذلك التمييز يمكن أن يستجيب لمعايير المعقولية الحديثة، كما يعتقد الشرفي، بالنظر إلى ما يلي: 1- قيام الرؤية الفكرية الحداثية على أرضية المحايثة والتاريخية، واستعمالها لجهاز مفهومي ولأطر ذهنية وفكرية منفصلة عن الأطر التصورية للفكرية اللاهوتية. فالتمييز بين المعنى الإلهي واللفظ النبوي في النص القرآني يقف على أرضية المفارقة أصلا ولا ينتمي إلى الإشكالية الحداثية القائلة بالتدبر المحايث المحض للنصوص، استنادا إلى منهجيات لسنية وفيلولوجية وسيميائية وتاريخية وأنثروبولوجية لا إلى مقررات المناهج الأصولية. 2- قيام التحليل المحايث العلماني للنصوص المقدسة على منهجية مختلفة عن المنهجية اللاهوتية الكلامية القائلة بالعقلنة والتسويغ العقلاني للعقائد الإيمانية الغيبية في حدود المسموح به لاهوتيا. وقد شكلت كتابات القديس أوغسطينوس والقديس طوماس الاكويني وموسى بن ميمون والجويني والغزالي والطوسي نماذج كلاسيكية في هذا السياق. 3- قيام المقاربة الحديثة للنصوص المقدسة على تغيير في المنظور وزاوية الرؤية والجهاز المفهومي والمنهجي. فالانطلاق من المنظور اللاهوتي لا يؤدي إلا إلى إجابات غيرعلمية وغير تاريخية مهما كانت الرغبة الإصلاحية للمؤول متأججة واستراتيجيته التأويلية معقدة ومركبة. ويمثل (القرآن والكتاب) لمحمد شحرور و(مفهوم النص ) لنصر حامد أبو زيد نموذجين دالين على صعوبة إقرار تمييزات بين الزماني ( الرسالة / الأحكام ) واللازماني / المطلق ( القرآن / النبوة ) وإقرار تاريخية النص في نهاية المطاف التحليلي. 4- يطرح التمييز السابق إشكاليات عويصة من الناحية الكلامية. فتمتيع الشخص المؤسس بالصياغة اللغوية للمعاني المتعالية ينطوي على إشراكه في الكلام المتعالي. والإشراك يعني، هنا، الانتقال بالشخص المؤسس من دور الوسيط الرسالي إلى دور الشريك الرسالي. وهذا الاستنتاج مخالف لقواعد الاعتقاد الإسلامي المعروفة وللأطروحة الإصلاحية القائلة بانتفاء الوسطاء في الاعتقاد الإسلامي كلية. علاوة على ذلك فإننا لا نعتقد أن قناعات الشرفي الواردة في كتابه المنقود تنحو هذا المنحى في النظر إلى الرسالة المحمدية " كما انه لا مجال لتناسي ما لم يفتأ الوحي يكرره المرة تلو المرة من أن محمدا أرسل مثل سائر الرسل وأنزل معه ما أنزل معهم من الكتاب " ليقوم الناس بالقسط " ، ليس سوى مذكر وشهيد وبشير ونذير ...." (- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .78) . 2-النقد التاريخي للنصوص المؤسسة: " فإذا كان مصير الرسالة المحمدية مختلفا عن مصير رسالتي موسى وعيسى، حيث لم تدون التوراة إلا بعد قرون عديدة من موت موسى وإثر الأسر البابلي، ولم يدون الإنجيل إلا في روايات مختلفة لم تحتفظ منها الكنيسة إلا بأربع وامتزج فيها ما بلغه عيسى بأخبار حياته وكرازته، بينما دونت رسالة محمد بعيد وفاته وفصل فيها بين ما بلغه وما تعلق بسيرته، فتوافرت في المصحف من ضمانات الصحة ما لم يتوافرلما دون من الرسالتين السابقتين، فإن ذلك لا يعني اختلافا جوهريا في نوعية الرسالات الثلاث وفي المشاكل التي يثيرها التعامل معها، لا سيما بعد انتقالها من الشفوي إلى المكتوب، من القرآن إلى المصحف ".(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .43-44). يبدي الشرفي جسارة واضحة في التعامل مع الكتاب المقدس مثل حنفي والنيهوم والطالبي، إلا أن تلك الجسارة ليست، تحقيقا، إلا إقرارا بالدغمائيات الأصولية المعهودة في أوساط الأرثوذوكسيات الإسلامية. فالإقرار بتحريفية الكتاب المقدس، في السياق الإصلاحي، هو تأكيد لتسرب اليقينيات الوثوقية للاعتقاد الإسلامي إلى صفوف الإصلاحيين، وعدم قدرتهم على إعمال النظر المنهجي في النصوص المؤسسة والتجارب القدسانية المعيارية بله استشكال الأصول المقررة في أوساط أمة الدعوة. فمن السمات المائزة للإصلاحية الإسلامية، هي تجريمها الشعوري أو اللاشعوري للتوراة والتلمود والأناجيل اليسوعية، وعدم تدبرها على نحو عقلاني لإنجازات النقد التاريخي للكتاب المقدس. والواقع أن مقررات الشاهد هي فكرانية كلامية، ولا تجد سندا معتبرا حتى في المصادر المرجعية الإسلامية بله المصادر العلمية الحديثة. " ومن المشكل على هذا الأصل ما ذكره الإمام فخر الدين، قال : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن، وهو في غاية الصعوبة لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلا في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن، فإنكاره يوجب الكفر. وإن قلنا : لم يكن حاصلا في ذلك الزمان، فيلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل. قال: وإلا غلب على الظن أن نقل هذا المذهب، فيلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل. قال: وإلا غلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة ". (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 203) . فالموقف العلمي يستلزم فحص النصوص المعيارية بدون استثناء وإخضاعها لقواعد النقد التاريخي بدون مفاضلات عقدية أو ثيولوجية أو طائفية من الطراز المعهود في كتابات الإصلاحيين الإسلاميين بدءا بالطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وانتهاء إلى النيهوم وحنفي والجابري والطالبي. فالحقيقة أن الإصلاحي لا يولي العناية الكافية للنقد التاريخي للكتاب المقدس. فهو يعتقد أن إشكالية ذلك النقد تقع خارج مجاله التداولي وخارج التناظر الفكري في الفضاء الثقافي الإسلامي. كما أن النتائج النقدية ، لتلك الكتابات الاستشكالية بله النقضية لشرعية وصلاحية الكتاب المقدس تدغدغ حساسيته العقدية وتساعده على تجاوز جروحه النرجسية وعلى الرد على الاستشراق الكلاسيكي والحديث المفكك لمفاصل الاعتقاد الإسلامي، ولأركان الثقافة الإسلامية عموما ( نيولدكه ورينان ورودنسون وكيطاني ........الخ ). فالنقد التاريخي للعهد القديم والعهد الجديد ينعكس ضرورة على القرآن، بالنظر إلى اشتراك هذه المصادر الاعتقادية في الثيمات والعوالم التداولية وفي اعتمادها على تأويل نص العالم ونص الإنسان ونص المفارق من منظور المفارقة. وبناءا على ما تقدم، فإن التشكيك في وثاقة النص التوراتي والنص الإنجيلي، تشكيك متعد وليس لازما كما يعتقد الشرفي وحنفي والعشماوي والجابري. والواقع أن كتابات كمال صليبي " التوراة جاءت من شبه الجزيرة العربية " و"خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل " و"عودة إلى التوراة جاءت من جزيرة العرب " وشفيق مقار " السحر في التوراة والعهد القديم " وسيد القمني " النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة " ومحمد سعيد العشماوي " الأصول المصرية لليهودية " تمثل عينات ونماذج لأبحاث نقدية غيرت الكثير من المسلمات اللاهوتية عن التوراة والعهد القديم. ولا نعتقد أن نتائج هذه الأبحاث محصورة في التراث اليهودي، بل هي تمس التراث المسيحي والإسلامي، مادامت تمس الأصول المشتركة بين العقائد الثلاث. فقد تمكن هؤلاء الباحثون من إقامة الأدلة اللغوية أو التاريخية أو النصية أو الأركيولوجية على التعالق النصي القائم بين التوراة والعهد القديم والنصوص المقدسة للثقافات والعقائد الوثنية القديمة بالشرق الأوسط القديم. وذهب كمال صليبي وزياد منى إلى إعادة قراءة جغرافية التوراة والى استشكال الكثير من اليقينيات الرائجة عن الفكر التوحيدي والتاريخ النبوي وعن الفضاء الأصلي للدراما الإبراهيمية: "المنطقي إذن هو أن إله عرب الجاهلية ود، هو نفسه داود التوراة، والذي لم يكن ووفق قناعتي شخصا حقيقيا، وإنما أحد آلهة المعبد الوثني لبعض تجمعات بني إسرائيل قبيل تحولهم للتوحيد " . (- زياد منى – جغرافية التوراة – مصر وبنو إسرائيل في عسير – رياض الريس للكتب والنشر – الطبعة الأولى – يناير – 1994- ص 36) . وعليه، فإن إثارة وثاقة النصوص المقدسة تطرح إشكاليات صادمة للوعي والوجدان التوحيديين طالما أنها تمس الفكرية الكتابية في الصميم. فالواجب المعرفي يقتضي، والحال هذه، لا إعفاء النص القرآني من القراءة العلمية المطبقة على الكتاب المقدس والتأكيد على استثنائيته التاريخية والثيولوجية ، كما يعتقد الجابري والشرفي والنيهوم وحنفي، بل استكشافه، تكوينا وتاريخا ودلالة وتداولا، من خلال مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية المعمول بها في الجامعات ومراكز الأبحاث الراقية. نقرأ في( الإتقان في علوم قرآن ): " قلت : قد ورد من طريق آخر أخرجه ابن الضريس في فضائله : حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا هوذة بن خليفة ، حدثنا عوف ، عن محمد بن سيرين ، عن عكرمة ، قال : لما كان بعد بيعة أبي بكر ، قعد علي بن أبي طالب في بيته ، فقيل لأبي بكر : قد كره بيعتك ، فأرسل إليه ، فقال : أكرهت بيعتي . قال : لا والله ، قال : ما قعدك عني ؟ قال: رأيت كتاب الله يزاد فيه، فحدثت نفسي ألا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر: فإنك نعم ما رأيت ". (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 155) . ألا يدل هذا النص على صعوبة الإقرار بالوثاقة النصية للنص ؟ 3- الرسالة بين الإتباع والإبداع: "...هل أرادت الرسالة المحمدية أن تقف بالإنسان عند حد معين لا يتجاوزه ؟ هل سعت فعلا إلى وسم ما أمرت به وأرشدت إليه بالإطلاقية ؟ أو هل سعت بالعكس من ذلك إلى وسم ما أمرت به و أرشدت إليه بالإطلاقية ؟ أو هل سعت بالعكس من ذلك إلى أن تفتح للإنسان آفاقا رحبة وتحمله المسؤولية كاملة في كيفية العبادة وفي تنظيم شؤون حياته كلها ، وهو حر لا رقيب عليه سوى ضميره ؟ وهنا يتعين الرجوع إلى وجه الرسالة الثاني ، ذاك الذي طمسه التاريخ وأنكر طاقاته الإبداعية ، فلم يتعود المسلمون كشفه والتنقيب عن خفاياه وأسراره ودلالاته ، ولم يتفطنوا في الأغلب حتى إلى وجوده ذاته ، لا لتقصير منهم أو عجز أو ما أشبه ذلك ، بل لأن ظروفهم وطبيعة ثقافتهم لم تكن تسمح لهم إلا بما اهتدوا إليه وطبقوه ".(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 87) . يعتقد الشرفي أن تقريظ الرسالة المحمدية والإشادة بنقط تميزها قياسا إلى الرسالات السابقة وتأويل ختم النبوة بما يوافق أنسنة الإنسان وتحريره من الآلية الكهنوتية ومن تكرارية الطقوس والاستعادات البعدية المتواترة للأحداث المؤسسة يمكن أن تشكل طريق تحرير الوعي والضمير الإسلاميين من ثقل المؤسسة الكهنوتية ومن صلابة المنظومة الطقوسية الإسلامية. ومن المحقق أن المقصد الفكراني للإصلاحية الإسلامية يقودها إلى التخليط الفكري، مادامت تصر ، أحيانا ، على القفز على محتويات النصوص وعلى إضفاء معاني معزولة عن مؤدى الألفاظ القرآنية وعن مؤدى المساق والسياق النصيين. فالفضاء الدلالي للقرآن، مؤثث بهيمنة الإلهي وبتغييب الإنساني، وبربط الحضور الإنسان الممكن والمعتبر ، شرعيا ، بالانخراط في التاريخ القيامي عبر الطاعة المطلقة لله ، وأداء الطقوس بأمانة ، وأداء واجب الشهادة والمساهمة في الجهاد القتالي عند الاقتضاء . تتمثل الخاصيات الجوهرية للرسالة المحمدية في اعتقادنا فيما يلي: 1- تعريب" التاريخ" النبوي الإسرائيلي بإدراج طقس الحج في الجغرافيا الطقوسية للمنظومة الشعائرية الكتابية مثلا . 2- إغلاق المسار المفتوح " للتاريخ" النبوي ودمغه بالخاصية المحمدية " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " (الفتح: 10) " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " ( آل عمران: 31 ). 3- كوننة "التاريخ" الإسرائيلي المعرب عبر الجهاد الدعوي والقتالي. لقد تم ذلك عبر التركيز على ثلاثة وسائط: 1- وساطة الشخص المؤسس أي محمد بدلالة الشهادة الإيمانية الإسلامية، 2- وساطة الأمة العربية باعتبارها حاملة اللغة والثقافة العربية وراية الجهاد المؤسس، 3- وساطة الأمة الإسلامية بمثابتها حاملة العقيدة ورافعة الجهاد الممتد في الزمان والمكان. وقد اتخذت صياغة الطقوس العبادية أهمية جوهرية في الحين المحمدي بالنظر إلى قيمتها في تعزيز الوحدة المجتمعية وفي تحقيق التناغم بين الجسد الفردي والجماعي من جهة والمثال الغيبي من جهة أخرى. فالصلاة الإسلامية هي عنوان التسليم بالفكرة المفارقة وإخضاع الزمان الفردي للزمان القدسي / الجماعي، وإخضاع الجسد الفردي المشدود إلى الغرائزي وإلى الثقافي المفتوح ، إلى الانضباط اللاهوتي / السياسي الرافض لأي صياغة ذاتية للجسد وللعلائق بين الأجساد . فالعبادة ليست إلا وسما للجسد، بوشم الغيب، أي نقلا منهجيا له من جدلية الطبيعي والثقافي إلى جدلية اللاهوت والسياسة الاسكاتولوجية. فالإسلام لم يغلق التاريخ النبوي ليفتح حيز التفريد العقدي والايطيقي والروحي للأفراد ، بل ليعلن انسداد الآفاق الروحية للإنسانية باكتمال المسار الديني الممتد من آدم إلى محمد. فلم يتبق للإنسان إلا التوقف أمام انجازات ما سماه ابن عربي بنبوة التعريف ونبوة التشريع، مليا ، والاقتداء بهديها ، دون أي بحث ذاتي أو فردي ، يعيد تحريك التاريخ الروحي من جديد للإنسانية من جديد. أليست البابية والبهائية ضحية الامتلاء الدلالي للأصول ؟ والأكثر من هذا ، فرغم امتلاء الدين بالخطابات والمقررات اليقينية، إلا أن مساحات من الحيرة الميتافيزيقية تبقى بلا حل . " ينبغي للعبد أن يعتقد أن أعماله لم توصله إلى نيل المقامات ، وإنما أوصله إلى ذلك رحمته به ، الذي أعطاه التوفيق للعمل والقدرة عليه والثواب ، كما قال " صلى الله عليه وسلم " : ( لا يدخل أحد الجنة بعمل ، - قيل له : - ولا أنت يا رسول الله - ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته )، والله أعلم". ( محيي الدين بن عربي – المسائل لإيضاح المسائل – تحقيق : قاسم محمد عباس – المدى – دمشق – سورية – الطبعة الأولى -2004- ص .130). وتسهم تدافعات الأدلة والأدلة المضادة في النص المؤسس ، إلى تمزق كبير في النفس لا يتحمل المؤمن وقعه إلا بالترجيح بين الدلالات إن كان متكلما ، أو بإغراق النفس بالقياسات إن كان فقيها ، أو بالانقطاع عن الخلق جملة إن كان صوفيا . " ومنه [ ما ] روى عمرو بن مهاجر قال: بلغ عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – أن غيلان القدري يقول في القدر، فبعث إليه فحجبه أياما، ثم أدخله عليه فقال يا غيلان !ما هذا الذي بلغني عنك ؟ قال عمرو بن مهاجر: فأشرت إليه ألا يقول شيئا. قال فقال : نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل يقول : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ، إنا هديناه السبيل إما شاكرا أو كفورا . ) [ الإنسان : 1-3] قال عمر : اقرأ إلى آخر السورة : ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، إن الله كان عليما حكيما ، يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) [ الإنسان : -30-31] ثم قال : ما تقول يا غيلان ؟ قال أقول : قد كنت أعمى فبصرتني ، و أصم فأسمعتني ، وضالا فهديتني . فقال عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا وإلا فاصلبه !..." (- الشاطبي- الاعتصام – تحقيق : هاني الحاج – المكتبة التوفيقية – الجزء الأول – ص. 68-69). وهذان النصان دالان على التشوش الفكري والأخلاقي الملازم لكل اعتقاد، رغم ارتفاع النبرة الوثوقية والتأكيد على حسن العمل المؤدي إلى سعادة الدارين. فإذا انتهى الفقه والتصوف إلى التماس العزاء في الرحمة ، مع رسم المسارات النجاتية فيهما بدقة، فكيف يقول الشرفي بانفتاح الطريق الروحي في الإسلامي وبفتح ختم النبوة، مسار التاريخ أمام الإنسان لتقرير مصيره ؟
#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جودة التعليم-نحو قطيعة لغوية مع الإكليروس اللغوي
-
المحرقة المغربية - تأملات في تراجيديا العصر الطحلبي
-
أندريه كونت- سبونفيل-فضيلة التسامح
-
في نقد الخطاب الاصلاحي -( نموذج الصادق النيهوم )
-
في نقد الفكر الاصلاحي - (نموذج الصادق النيهوم )
-
في نقد الخطاب الاصلاحي -( نموذج حسن حنفي )
-
في نقد الخطاب الإصلاحي-( الجابري والعشماوي )
-
الفكر المغربي وثقافة حقوق الإنسان
-
قراءة في - هكذا أقرأ ما بعد التفكيك - لعلي حرب- حين يصير الت
...
-
شيزوفرينيا ثقافية
-
الإشكالية الدينية في خطاب الحداثيين المغاربة-( نموذج الجابري
...
-
واقع الثقافة بسوس-قراءة في وقائع نصف قرن
-
من سوس العالمة إلى سوس العلمية
-
تأملات في مطلب الحكم الذاتي لسوس الكبير
-
الأخلاق والعقل-التسويغ العقلاني للأخلاق
-
تأملات في المعضلة العراقية
-
نحو فكر مغاربي مختلف بالكلية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|