|
سياق الانسداد بالثقافة الجزائرية
أحمد التاوتي
الحوار المتمدن-العدد: 2330 - 2008 / 7 / 2 - 10:36
المحور:
المجتمع المدني
حديث الثقافة حساس بقدر ما يرتبط بالسياسة.. شائك ومتشعب بقدر ما يتصل بالمجتمع…، وغاية في الفوضوية بقدر ما يتماهى في العقول والأمزجة. لذلك سأدلف على مستويات متناظمة في الحدود .
أحاور ثقافتنا الأصلية.. وكذا الثقافات الرائجة.. أقيس درجة أصالتها بالمفهوم الذي أقترحه . وحتى لا تفقد الكتابة أصالتها وأنا أبحث في أصالة ثقافتنا، سأتجنّب المصطلحات الجاهزة إلا ما أقعده جريان التحليل على القافية.. سوف أملي بعض المفاهيم والمصطلحات الجديدة، حرصا على إنعتاق التحليل خارج أسوار ضبطنا المغلق. ضبط يساعد بدون شك على مزيد من التصور التصنيفي لعالم المعاني بمجرتنا، لولا أن النسق المفاهيمي السائد، المعلم والمؤيد بجيش الشعارات الزاخر، انتقل بالفعل من مهمة التفسير إلى مهمة التبرير. أمر طبيعي لانتقال الواقع من مظاهر كان قد انبرى إلى معالجتها أعزلا، فطور في أثناء ذلك، وبتفاعل معها، من أدواته النقدية، إلى مظاهر وظواهر هي اليوم نتاجا صرفا لقناديله.
أقول رأيي بصفتي موقع ما، أراوح في خانة من النسبي.. محمول بموقف ما، حسب المدارك والقناعات التي يصقلها ذلك الموقع. وبهذا اعتبرني على خطأ منذ البداية، محتمل الصواب… احتمال أضعه عند العقول الفاحصة النقدية من مثقفينا.. وكلي أمل في غد مشرق بالحوار الهادف .. ومسرف بنا في السلم .
ونبدأ مع الحدود… الأصيل من بين مظاهر الثقافة نحدده بجميع ما نشأ أو وفد أو ترعرع بصورة طبيعية في البيئة الاجتماعية استجابة لشروط وسياقات موضوعية جديدة عبر التاريخ. سواء كانت العوامل داخلية أو خارجية.. وهذا حال الثقافات الأصلية جميعا. ومنها الثقافات المحلية الايجابية باعتبارها نتاجا بشريا لعقول الناس بما يستجيب لحاجة، أو يطبع مرحلة.. على خلاف الثقافات المحلية السلبية التي تصف الخصوص فحسب.
والثقافات من نوع عابرات القارات، ومنها اللغات والأديان والاتجاهات الفكرية والسياسية و التكنولوجيا، و تهيؤات التنظيم المدنى..، فأصالتها في وطن معين ترهن هي الأخرى بشرط الدلوف والترعرع بصورة طبيعية في البيئة الاجتماعية استجابة لشروط وسياقات موضوعية، وإلا بقيت نتاجا غير مكيفا مع التربة المحلية، وبقي أم نضجه وسريانه المثمر معلقا كشأن الثقافات الدخيلة التي تصف نخبة أو طبقة فحسب. فالأصيل لا يعني غير الوافد بالضرورة، فقد يحقق الوافد اندماجه العفوي وتمكنه الغامر بالتربة المحلية كما حدث مع الجوانب التسييرية عزيزة الحاجة للثقافة الإدارية الحديثة ببلداننا. والدخيل لا يعني الوافد بالضرورة.. فقد يسفر تفكير الناس في موطنهم وبمطلق محليتهم عن ثقافة تتمنع بهم عن المسير.. وتأبى إلا أن تزج بهم في مسالك مسدودة.. وهذه تبقى دخيلة ما بقي الانسداد .. دخيلة على الإنسان باعتباره فكر يجري… ودخيلة على المجتمع باعتباره حركة نمو مطرد. فالأساس الحيوي الذي ينفخ روحا في الثقافة، هو الفكر والحركة. وأي عطل بهما أو توقف، يعتبر أمر طارئ ودخيل.. وتنقلب حينها جميع العناصر المكونة للثقافة إلى كوابح ومعوقات قاتلة.. فكثير من الثقافات أثمرت قديما وأعطت لوطننا أزهى أيامه، ولكن عندما خبت روحها فكرا وحركة أضحت منكرة. هذا التحديد يساعدنا على تجنب التصنيفات الدوغمائية للثقافات باللون والمذاق فحسب.
من هذا المدخل يمكن لنا، رصد ثلاثة أنواع من الثقافات الموجودة بوطننا.
أ ) الأصلي : وهو الثقافة الأساس بالتربة الوطنية، والتي تفاعلت مع قرون وأجيال بتعاقب الثقافات الوافدة، ثم اكتملت وانتهت إلى صورة من الصور بحيث لم تنقطع، ولا تزال على ترسبها وسكونيتها- ضميرا أخلاقيا لجميع السلوكيات والاتجاهات الثقافية السائدة التي تشكل ثقافتنا المحلية اليوم.
ب) الأصلي المنقطع : وهو الثقافات التي غمرت دورا حضاريا بالمنطقة، ثم انقضت لدى استيفاء شروطها المعرفية وعدم تجددها.. وهذه منقطعة وان بقيت مرتسمة بخيال الشعراء وطيبوا الخواطر، يستلهمونها خطابا بسلوك تحكمه الثقافة الأصلية غير المنقطعة.
جـ ) الوافد : وهو أية ثقافة وافدة …بغض النظر عن جهتها.. حيث أن مصدرها إما أن يكون من التاريخ، كشأن ثقافة أصلية منقطعة تريد العودة والتمكن.، أو من الجغرافيا كشأن ثقافة تعود في أصولها إلى مجتمعات أخرى مغايرة.
والأصيل من بين الثلاثة، هو الثقافة التي تفاعلت مع معطيات المجتمع الموضوعية، وعانقت اللحظة الحيوية في تفكير الناس الممتزج بالإيجابية السلوكية التي تحدد لها هويّة الوجودي الإنساني ، لا هويّة الخصوص المتحفي. وتستغرق خلاياها، وتتعهّدها بضخ الجدّة إيقاعا غير منقطع.. فإذا انقطع انقطعت أصالتها وأضحت أصلية. سواء كانت هذه الثقافة وافدة من التاريخ تأصّلت بالعودة، أو من الجغرافيا تأصّلت بالتمثيل.. أو كانت أصلية، ضميرا مشاعا في الحياة الاجتماعية، تأصّلت بالتجدّد فكرا وحركة.
و بعيدا عن السكونية الباهتة ونظريات الماهيات الثابتة التي لا تزال كامنة بوضعية "البوليس السري" خلف تصوراتنا.. وهي محترمة ولكن في مرحلتها التي استوفت بها غاياتها التقعيدية.. أي محترمة كحلقة من عمر العلم كانت ضرورية لمرامي محض اعتبارية توضيحية وفقط...‘ يمكن تقرير أن الأصالة في أية ثقافة، تقاس باللحظة الحيويّة التي تربط بين أسئلة الموقع في العالم وبين أجوبة الموقف من هذا العالم.. فبين الموقع والموقف مسافة تقتضي بفطرة الناس حركة… حركة تثمر اللحظة الحيوية التي ينظر في تأرجحها بين السلبية وبين الإيجابية.. كلما اقتربت من هذه أكثر كانت أصلية أكثر.. والإيجابية لا نقصد بها مودة هذه السنوات من فعل ثقافي.. أو مبادرة فعالة.. أو اكتساح الساحة.. أو دفع الوتيرة .. ولا أغرب من ذلك ؛ خلق ديناميكية ... هذا كثير… ما نعنيه هو استغراق الذات (الثقافة المحلية) لاستفهامات الحاضر من أجل تحقيق وقفة متّزنة أولا ، مع الاستشعار الكامل لعناصرها من خلال الجدل الضروري مع المحيط.. جدل اذا تم الاستشعار بدونه حقّقنا ما يشاع في أدبيّاتنا ومؤتمراتنا- مع التشجيع والتوصية – بالخصوصيّة. وهي الهويّة الناقصة التي تظهر في شكلين.
1- شكل مسالم : عبر المتاحف الجامدة (أثرياتنا)، أو عبر المتاحف الحية المتحركة (فعالياتنا الثقافية بنخبها المستفيدة. تتقدمها المؤسسات الوصية).
2- شكل عدواني عبر جميع الإحيائيات العرقية أو الجهوية أو الدينية العنيفة.. فما يسمّى بالخصوصية، هو آخر قلاع التحصين. ليس ضد الآخر.. ولكن ضد انتفاء بذرة الوجود الإنساني بالإنسان.. قامت بدورها كأوحد لوحة للنجاة بحر الاستعمار، ليس من الاستعمار فحسب، ولكن من عدم استشعار الوجود الإنساني أولا… وهو أمر خطير ، يسلم إلى المسخ كيفما اتفقت نزوات الآخر.
فالخصوصية لبنة أساس.. لكنها ليست كل شيء في تمام الهويّة.. هي الهويّة الناقصة للمواطن الناقص كما كان الحال.. ولذلك عصفت بنا الحيرة الثقافية مباشرة بعد الاستقلال وتحقيق المواطنة الكاملة. وحفاظا على أولويات هكذا رأيناها .. آثرنا تأجيل كل ما هو ثقافي استراتيجي إلى ما بعد التشييد.. وإلى ذلك الموعد - المستمر إلى اليوم - كان لابد للهياكل الثقافية من الاشتغال.. فانخرطنا في العمل على ما تبرره المرحلة آنذاك من إعادة الثقة للشعب بتاريخه.. ومن أنواع البرهنة للعالم العربي ولفرنسا بأننا لسنا أميين، وبأن تاريخنا حافل بالفتوحات العلمية والفكرية. وهذا عمل في ذاته مطلوب وبناء. ولقد أبدع فيه الكتاب والأساتذة المجاهدون، وأعطوه استيفاء مستحقا من خلال منشورات العقدين الأولين للاستقلال.. ولكنه يبقى عملا توضيحيا على هامش الخصوصية… مما جعل هذه الحركة الثقافية حركة لا تتمايز تماما – في جوهرها – عن ثقافة الحواشي التوضيحية على المتون كما قبل الاستعمار. ولأن الاستكمال الإيجابي للهوية لم يلغ وإنما أجل فقط ؛ ولأننا درجنا منذ البداية على العمل المهيكل والمراقب؛ تعاملنا بصورة تقزيمية وتشويهية أحيانا مع محاولات الاستكمال الفردية خارج الإطار المهيكل الذي احترم في مرحلته الأولى – المتواصلة إلى اليوم – نشر الكنوز الثقافية الوطنية، ورفعها عاليا كي يعرفها الشرق والغرب، وليس سوى ذلك. حدث مثلا مع مالك بن نبي – على عبثية المشروع- أو كاتب يسن أن فارقانا ولم يخلفا مدرسة أو حيوية ثقافية من عياريهما… هما وأضرابهما كثير، يمثلون بنشازهم الاستثناء المؤكد للقاعدة.
محاولات التأصيل : إرجاء محاولات الاستكمال الإيجابي للهوية، جعلنا نراوح منذ أزيد من أربعين سنة مع هويتنا الناقصة في سلوكين ؛ سلمي وصدامي . نغدو جميعا على جني رداءة قراءتها أو عرضها أو تمثيلها سلميا مرة ..، أو نقفز صداميّا مرة أخرى إلى جني عنف تكريسها. فإزاء ثقافتنا الأصلية، حاولنا- باستبعاد فلتات الاستثناء طبعا..؛ تشخيص ما يمكن أن يستوعب الأنساق الاجتماعية الجديدة/القديمة.. وكان ذلك ممكنا، ولقد حصل، ولكن بمقصدية ضيقة المجال، تمس الأنساق القبلية والجماعات وما بداخلها من مراكز التأثير ونقاط الاستقطاب فحسب.. وهذا مبلغ ما يمكن أن يقدمه موظفون للتفكير في عملية التعبئة الثقافية بدل التنمية الثقافية. وبقيت بدلك الثقافة الموجهة ثقافة دخيلة لم تتمكن بالشرط التأصيلي كما أوضحنا، وان تواصلت في شعارات وأدبيات المؤسسات والمنظمات. كما حاولنا في خط آخر تجاوزها (ثقافتنا الأصلية) في اصطحابها قليلا ما… وذلك في بوتقة صهر فيها امتداد جمعية العلماء ووافدات المشرق التقدمية… وتمثلنا حالا نوعا من التعالي على الشعب وثقافته الأساسية..، تعال غير مقصود، أثمرته الطبيعة الاستعجالية لعملية المثاقفة الطموحة سياسيا وأثرها على اجترار الواقع من جهة.. وفي الطبيعة الثورية المقتضاة من التوجه التقدمي الذي يشجب في عنفوان وثوقي مطبق جميع الأنساق الثقافية "الرجعية" من جهة أخرى. والمجتمعات لا تستأنف هكذا بالوصف المتعسف إلا في التجارب الاستعمارية البربرية التي شجبناها بالثورة المسلحة، ثم أعدنا إنتاجها بالثورة الثقافية.. مما أبقى ثقافة النهضة بأطيافها المختلفة دخيلة أيضا لم تتمكن بالشرط التأصيلي، وإن تواصلت في منشورات المؤتمرات والندوات وفي مطبوعات التعليم. ولعل الجناح المفرنس من الجيل الأول كان أقرب إلى إدراك الطبيعة الحيوية للثقافة الشعبية بفعل المجال المتاح غير المطروق.. ثم بفعل المثاقفة العمودية إذا عرفنا عن الاهتمام المبكر بهذه الثقافة للرواد الفرنسيين وما تركوه من اتجاه مخيالي قاهر للمثال. غير أن التوجه إلى الدفاع عن ثغور في الخريطة المحلية طغى على رحلة القراءة والبحث الحقيقيين.. بحيث تم ذلك التوجه حفاظا على ورقة إثبات للهوية في وجه الغرماء الثقافيين داخليا وخارجيا بدوائر التسيير والإدارة وتنشيط الحياة الثقافية ، مع رجال أقرب إلى المتعلمين المنخرطين في التسيير والتنشيط…
فمع هؤلاء أمعنّا في إبراز ثقافتنا الشعبية بغنيمة حرب تضاعف انتشارها بشكل مذهل بعد الاستقلال .؛ ووقفنا لتغليبها عند أمرين:
- إبراز الثقافة الأصلية كما أسلفنا في حلّتها السياحيّة، فأحلنا فعالياتنا الثقافية بأساتذتهم ومنشطيهم إلى متحف حي يسعى. - حصار التيار النهضوي الجارف ( التعريبي) بأصنافه في هيئات نظامية. وكان من اخطر أخطاء هذا التيار تجاوز أصحابه تمثيل المؤسسة التي تخدم الثقافة إلى تمثيل الثقافة، فقطعوا الطريق أمام انتشار الثقافة التي يخدمونها ويناضلون من اجلها … ذلك أن النقابي أو السياسي أو حتى الأكاديمي بأقصى مرمى نضالهم أو تنظيمهم أو تنظيرهم لا يعدون أن يؤسسوا ويهيكلوا وينافحوا في دوائر القرار من أجل مرسوم أو قرار لتجهيز وتمويل وهيكلة أو تشريع ونحوه.، ثم تبقى مسألة ذيوع الثقافة بعد ذلك مرهونة بإغرائها وجدّتها الأصليين في ذاتها.
حصار إجرائي يستعمل في جميع المجالات.. ولكن بمجال الثقافة كانت نتائجه مريرة . فقد عاينا بكل الدهشة تحول رجال من مشاريع نضالية رائدة إلى مذاريع نظامية قاطعة.
وعلى الرغم من ذلك ، أي من حصار التيار النهضوي المعرب، بقيت غنيمة الحرب بقاعة انتظار الجمركة التأصيلية قهرا عن اكتساحها الظاهر للإدارة. بقيت ثقافة دخيلة هي الأخرى، لم تتمكن ، وان تواصلت في المعارض و العروض ودواوين الهيئات والصحافة ، لسبب طبيعي هو وجود ثقافات مضمونية نظيرة في الساحة مع صعود جيل بأكمله من تكوين اللغة الثالثة حاصرهم في دوائر مزاجية تذمرية يومية لم تسعها سوى التهيؤات الصالونية في فسحات أحيانا مع العمق المحلي غير المؤبجد بالمرة.
وكان من التواضعات التلقائية أن عرف كلّ موقعه؛ هنا انشغال بامتيازات المؤسسات الحكومية مع ترتيب و تحفيز للثقافة الفرنسية.. وهناك انشغال بامتيازات الهيئات النظامية مع تمثيل وظيفي للثقافة العربية.
وانفلت الجيل الطيب من أيديهما معا… ولكن إلى من .. وإلى ماذا ..؟
... إلى الثقافات التي تستنكف النخبة بالعادة عن تمثيلها . وبالتالي تحافظ على إغرائها – ولقد أغرت و سلبت بالفعل - ، هي بطبيعتها البسيطة إلى أصحابها الحقيقيين، السائحون الغائصون في ثنايا المجتمع. وهذه منها ومنها… فمنها التي رسخت المجتمع في ثقافته الأصلية غير الأصيلة.. ومنها التي ألهبت وجدانه مع ثقافة أصلية منقطعة بدون تأصيل.. ومنها ما أطارت فؤاده مع ثقافة وافدة لم تتأصل.، ومنها ما أقعدته على رصيف ثقافة الغلابي يشقيّها المجوني أو الجنوني. لكل من هذه الثقافات رواد وفاعلون حقيقيون يملكون الهيئة والمواصفات.. هؤلاء تركوا وشأنهم ولم ينازعوا دورهم بالمجتمع ولم يهمّشوا..وإذا طورد بعضهم ، لم نسمع عن منازعتهم أدوارهم.. مما أبقى على الجدة الذاتية في ثقافاتهم ، وبالتالي في بريقها ومغناطيسيتها الخاصة. وكلمة – لم نسمع – بعيدة عن الواقع… ولست أدري كيف قفزت على السطر. فهل يعقل أن ينازع أوصياء الثقافة في بلدي القوال مديحه، أو الشيخات والشابات غنائهن.، أو العبوريين غرائبياتهم ، أو الشيوخ توعداتهم ، أو المشائخ شطحاتهم أو الأشياخ شفاهياتهم .. لا يعقل. فكلمة ( فن ( صنعة مقدسة في القاموس الشعبي.. ولكل فن شيخ.. أما كلمة ( شيخ )فجلل فوق الخيال. لقد عاش هؤلاء مشيخاتهم - كل في مجاله – بملإ الحياة .. وتربعوا نجوما في الحياة الاجتماعية.. وانتعش الشارع بخليط ساحر نقتصر على تحليل أشده أثرا على مجريات الأحداث.
ا- كلما حزب بنا أمر يخلط علينا أوراق الاستقرار والراحة إلى التواطؤ العام والشامل على نسق معين يعفي عن الجهد ويرشد المسايرة.، كلما حدث ذلك، دأبنا على العودة دائما- بدل المواجهة – إلى شيء مختلف. قد تغدو تعبئة الأسمال التقليدية مثلا نضرب بها إفرازات الجدل مع المحيط. ونفتح جبهات وهمية تنتج لنا مشاكل حقيقية. النسق المحلي في الثقافة الجزائرية، هل يمكن أن يترسب في عصر من العصور، أو في مرحلة من مراحل الدول؟.. بغض النظر عن العقائد الفكرية ، وهي ليست أنساقا باعتبارها متعالية عن الترسب الموقوف على جنس أو جغرافيا.، لكل زمن ولكل جيل نسقه الذي صنعته الظروف ونحتته سياقات موضوعية محددة.
أشياء كثيرة ومظاهر ثقافية وسلوكات وملامح اجتماعية متعددة وليدة الأمس القريب أو وليدة اللحظة قد تنخرط منذ الآن في تشكيل جنيني لنسق الغد القريب. فالثقافة المحلية هي الثقافة المحلية ، بأبسط ما تحمل الكلمة من دلالة.، حركة في الزمن، العقد الأول من الألف الثالثة بالضبط.. تجري في مكان، الجزائر بالضبط. تتفاعل بحيوية فكرية ترتبط وثيقا بجدل الموقع والموقف، فهذه ثلاثة أبعاد لا أتصور تشخيصا موضوعيا بدونها جميعا.
البعد الأول يعفي عن تكديس مشاكل الماضي المتجاوزة معرفيا بسوقنا الراهنة. والبعد الثاني يعفي عن المنشطات التي تسبق خطواتنا الحقيقية. والبعد الثالث بعفي عن الوقوف عند رسوم الذات وتكرار النسخ الميكانيكي الآيل إلى المحو. لكل جيل تعبيره، حاجاته ، اهتماماته وقدره. الواقع، إذا كنا نريد تشخيص ثقافة الجزائر كما هي عليه الآن فذلك مجال بكر لم يطرق بعد حتى من طرف المختصين إلا ما كان عرضا . فمسألة التشخيص؛ بعد مراعاة الأبعاد سالفة الذكر تبدأ باللغة أولا...ترشيد المصطلحات التي تصنع أفكارنا باستمرار. أقترح تعريف كلمة نسق بالتأهيل .. من أجل تموضع صارم منذ البداية على تصورات تسلم إلى تغيير.. النسق الاقتصادي مثلا هو التأهيل الاقتصادي… وهكذا. وإذا نظرنا من حولنا إلى المؤسسات الثقافية نجد أنها تهمل كثيرا تأهيلنا الاجتماعي الشامل في اشتغال مسايراتي مريح بما تمليه المواقع وحال الدنيا.. عمل لا يرحل في المكارم ليقعد مع ثقافة بائدة تصف أطعمة الجدة وكساء الخالة وحلق التسليم. لا تزال تلك الثقافة البائدة، تجرفها المؤسسات الوصية على الثقافة في شعاب المجتمع بطريقة قسرية قد تسلم إلى حالات أحار في تشخيصها منها: سياسيا..، تعمق القطيعة بين العقل الدستوري الناظر إلى تحديث المؤسسات وتكريس الثقافة الديمقراطية المدنية وبين العقل الاجتماعي المراد إبقاؤه مشدودا إلى آليات للتفكير صقلتها عجائبية القوال ( مساجدنا)، هالة القبيلة ( أحزابنا )، دهشة الفلكلور( حملاتنا)، وسحر الغموض ( بؤر القرار)... وعدم توافق العقلين المتآلفين بطريقة تلفيقية سياسوية بذوات الأفراد جميعا، يكرس باستمرار هذه الممارسة الديمقراطية الجميلة التي نعيشها. اجتماعيا..، بعد أن أحالت رجالات الثقافة وفعالياتها إلى محنّّطات متحفية متحركة.، يخشى على الجيل الممارس في مقاعد الدراسة وفي صفوف المنظمات والجمعيات من تشويش النموذج المدني.. نموذج – بدون شك- لا نراه رجلا آليا.. ولكنه مجموعة تراكيب ذكائية بأبعاد عقلية، عاطفية واجتماعية. وثقافيا.، يرسب الاهتمام في خانة من أدراج التاريخ.، إن بقيت في أحسن الأحوال مشعة بجدة ذاتية أصيلة، افتقرت إلى سياق موضوعي بالنسبة إلى الامتداد العالمي ، مجرى التاريخ القاهر اليوم... وهي بذلك تربك الخطوات وتصنع " العائدون" باستمرار، و ترسم بحسن النوايا إطارا مرجعيا وأفقا بأحمر الشفاه لثقافة نغازلها جميعا، فتقبرنا جميعا خارج العصر لأنها من هناك ، وخارج التاريخ لأننا من هنا.. بعبارة أوضح.، خارج الوجود. عباءة جدي إذن ، تبدو غير أصيلة بالمفهوم المقترح . وإن تواصلت في صدارة برامج تمثيليات الثقافة عبر الولايات، وفي تكتلات الزوايا، وفي حفريات الوزارات الوصية و مراكز البحوث.
ب ...أردنا الحياة .. أو استرجاع "دورنا في التاريخ"، كما يقول الخطبيون .فبدأنا بنبذ الأخر لننتهي طموحا إلى نسفه. والسبب الذي يلوح في أفق هذه المأساة ، هو التفكير من داخل الفقه الإسلامي المترسب في القرن الخامس.، والذي لا نجد فيه فتاوى خاصة بالنضال ومقارعة الأنظمة بالطرق السياسة، نظرا لكونه انطلق منذ التواضع الأموي الأول على عقيدة الإرجاء.. وهي عقيدة إذا أعطيناها صورتها السياسية ، و أفرغناها من مضمونها العقدي الذي لا نفهمه ، نجدها لا تعني شيئا آخر سوى هذه اللائكية غير المحبوبة في أدبياتنا.. هذا الأمر أدى بالضرورة لمن تشنج في القوالب " الوسيطية" إلى حالة لا يملك معها سوى إطلاق صفتي الكفر أو النفاق على خصومه السياسيين من أجل الحفاظ على الانسجام مع ضميره ومبادئه، ومن أجل الحفاظ على إيمانه بالنصوص التي يصدر عنها. لاحظوا هنا عاملي الصدق و الالتزام.. ولذلك نجدنا في بعض الحالات المعتدلة مع رجال مبادئ.. هامات نضالية بكل المعايير الشعبية لنموذج المروءة ... نموذج انجرف معه الكثير ممن يختارون الحق بالرجال بدل العكس. نحن الآن في طور مختلف.. وان خانتنا محدودية الرؤية الفقهية بتراثنا ، ونسبية الفهوم التفسيرية للنصوص، فلا يخوننا فسيح الفكر الإنساني الذي تجاوز اليوم بالكثير تراثنا الإسلامي في جميع الجوانب بما فيها الجوانب الأخلاقية ... فقد كنا نبدأ من " الأنا" لننتهي بصقله إلى أشف معاني الإنسانية، واستثمار قدراته في البناء بمظاهر الحياة وتفاصيلها جميعا.، وهناك ، وبدون قصد، نتيجة : نبهر الآخر، نغريه ونستوعبه.. أو هكذا عرفنا عن الدورة الحضارية الساحقة منذ فجر الأنوار. لكن الذي حدث ويحدث أسفا إلى الآن عكس ذلك تماما... ومن مختلف التيارات . شرائحية كانت أو عرقية، إثنية ، عقائدية حزبية أو حتى طبقية.. كل ذلك – طبعا- في مساحيق مؤسساتية مدنية... وبذلك بقيت جميع الإحيائيات الثقافية (القريبة والبعيدة، التاريخية والجغرافية، الاجتماعية والهوياتية). بقيت دخيلة لم تتمكن.. وإن تواصلت في منشورات الأحزاب وعرائض المحاكم وفي أشرطة النفير و الفضائيات المحمومة.
جـ قرأنا في كتب التاريخ عن الأسلاف.. وعن "دورة حضارية" ما فتأت أن انقطعت عن سماءنا إلى مواطن أخرى بالشمال- ووقفنا عند الموقف التالي : اعتقدنا في تواصلنا مع الميراث الحضاري المنقطع. وأغفلنا المرحلة الطويلة من القرون التي تمكنت فيها ثقافة مختلفة معياريا، وإن شابهتها أبجدية وطقوسا. اختلاف من الصنف المعياري الذي نقصد به رمزية السلوك وغائية الحياة. أي إدراك معرفي كامل، مطبق ومسيج... وكان من نتيجة ذلك الإغفال أن حلقنا سياسيا بلا وقود ، وعزلنا أنفسنا عن كياننا لإغفال تجديد ثقافتنا الأصلية التي نتنفسها وتملأ لحظاتنا وتفكيرنا الإحيائي نفسه وبهذا أسلمنا الإحيائية الإصلاحية السياسية نفسها إلى التواصل بدون تمكن ككل الثقافات الدخيلة. تواصل ببرلمان "الثالث المرفوع"، وجامعات "اللغة الثالثة"...
قصة عدم التمكن مع بقاء التواصل المسرحي الثقيل.، تعني شيئا واحدا فقط... الشعب في واد، وسائر النخب، المهيكلة منها والمشردة في واد. فالدوار الذي تعانيه المسألة الثقافية ببلدنا يعود إلى عدم تمكن ثقافة ما تمكنا بالشروط الموضوعية التي تعطي المجتمع توازنه وهويته . كل الثقافات الموجودة بالساحة الوطنية لا تزال في طور الشغب السياسي. مجتمعنا لا يملك ولا يعيش ثقافة أصيلة.. حقيقة مرة لست أكتشفها كما لا أرى المصلحة في عدم إثارتها . عندنا الثقافات الأصلية.. وهي جميع الحضارات التي مرت من هنا.، منتهية إلى شذرات في الفكر والسلوك كضمير خلفي مشترك غير مؤهل مدنيا. وهذه لا يمكن رصدها إلا على مستوى التشخيص الحفري ربطا بتأهيلنا الاجتماعي الراهن لو حدث وأن أحببنا تخليصها من عناصر موتها واستخلاص بذور تأهيلها للحياة. وعندنا الثقافات الوافدة. - منها التاريخية.. أصلية منقطعة تريد العودة ، ولا يمكن رصدها إلا على المستوى الواقعي (في وافديتها) ربطا كذلك بتأهيلنا الاجتماعي الراهن لوحدث وأن أحببنا تكريس جوهرها ثانية. ومنها الجغرافية.. وتخضع لنفس الشرط التأهيلي للتاريخية بإضافة جدل الجوهر والمنطلق للموقع والموقف.. وهنا ندخل في قريب من عمل المفاوضات السياسية التي تأخذ بعين الاعتبار أولويات السيادة... مع دائما- لضمان التأصيل- الربط الضروري بتأهيلنا الاجتماعي الراهن لو حدث وأن أحببنا الاستعارة. وأخيرا ، أنفاسنا..، ثقافة محلية.. تتعلق بالمستويات الدنيا للوجدان الاجتماعي.. هي الثقافة الشعبية السائدة التي تنعش الشارع بضمان قدر من الروتين والمعاش، في حظوظ أحيانا وزخارف تقفز بالخيال إلى حداثة وما بعد حداثة... هي الثقافة التي تشكلت برواسب الثقافات الأصلية والأصلية المنقطعة، وانتهت إليها مخاضات الثقافات الوافدة... هي تسري اليوم كضمير شعبي غير أصيل.، ليس لأنه مشوب بالوافد، ولكن لأنه أصلي في أساسه لم يتجدد، ووافد في بنائه لم يتمكن.
هذا ما يموج به الواقع كثقافات متربصة متناحرة لم تحقق أية واحدة منها تمكنا أصيلا.
والخطر الذي أتصوره هو أن المستوى النظري كما الواقع، خلو من ثقافة أصيلة يقدمها لنا.خطر يعود إلى الفراغ التوثيقي والتحليلي لتراثنا وثقافتنا الأصلية التي تعايش، تقاوم وتتجالد كما شاءت لها سادية الثقافات المتربصة. فقد مر - وإن اقتضابا - بأن هذه الثقافة طرقت لتوظيفها في حروب المواقع ولم تطرق بعد لذاتها. ومن جهة أخرى يعود إلى الفراغ التشخيصي للأنساق المحلية كما هي عليه الآن. ولا تجزي عن ذلك دراسات وصفية إحصائية تعودتها مؤسسات "دحر عجلة" التنمية بالبرمجة المؤقتة والسريعة. ففي عصر المعلومة وهرج الديمغرافيا ، لا نعدم استيفاء تاما لذلك. ما نحتاج إليه اليوم ، هو التشخيص أو القراءة الفلسفية لجميع تلك المؤشرات المصنفة والمرتبة بتوزيع حاجاتي أو هندسي في أفضل الحالات. وليس من نظر مختلف وثاقب في عمق المؤشرات. ليس من قراءة نقدية بجميع الأدوات العلمية والمولدات الفلسفية منبئة بآليات وقواعد الحركة للنسق المحلي . ولعلي هنا، ولشقاوة النقد عندنا، أبادر إلى الإلماع بأن الثقافات المتربصة والمتناحرة، لا أعتبرها وحشا، بل أجدها جميلة ولكن في سياقاتها. وليس من أي بؤس معها إذا كان انسكابا سننيا جدا و موضوعيا جدا في قوالب وسياقات الأنساق المحلية ربطا بتأهيلنا الاجتماعي الراهن، والراهن تدقيقا. وبدون ذلك ستبقى عبئا سياسيا شغبويا عاصفا كما هي الحال. و نبحر في فلك من رداءة أبدية.. ربانها كوالسة منظرون.، نقابيون أدباء ، و سماسرة مشرعون. فإلى تأهيلنا … في ارتساماته متعددة الأوجه بما يشكل النسق المحلي الراهن.. نسق يعرف ببداهة الشارع ولا يدرك بالتشخيص العلمي إلا بعد لأي لانعدام الاستكشاف الموضوعي والإزعاج الفلسفي . طبعا يتطلب ذلك جولات و مراجعات في التاريخ.. وشيء من الجمباز مع المفاهيم والمنظومات القيمية الجارية.
#أحمد_التاوتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشغب الفلسفي و الأمر الواقع
-
الشغب الفلسفي و الامر الواقع
-
الأسئلة القاتلة
المزيد.....
-
تصويت تاريخي: 172 دولة تدعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير
-
الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارا روسيا بشأن مكافحة ت
...
-
أثار غضبا في مصر.. أكاديمية تابعة للجامعة العربية تعلق على ر
...
-
السويد تعد مشروعا يشدد القيود على طالبي اللجوء
-
الأمم المتحدة:-إسرائيل-لا تزال ترفض جهود توصيل المساعدات لشم
...
-
المغرب وتونس والجزائر تصوت على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام وليبي
...
-
عراقجي يبحث مع ممثل امين عام الامم المتحدة محمد الحسان اوضاع
...
-
مفوضية اللاجئين: من المتوقع عودة مليون سوري إلى بلادهم في ال
...
-
مندوب ايران بالامم المتحدة: مستقبل سوريا يقرره الشعب السوري
...
-
مندوب ايران بالامم المتحدة: نطالب بانهاء الاحتلال للاراضي ال
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|