لقد تراجعت نسبياً، وربما مؤقتاً، في الشهرين الأخيرين، المخاطر الأمنية على لبنان، التي كانت تولدت بشكل أساسي عن الحرب الإمبريالية على العراق في الربيع الماضي، وما أحدثته من تعديلات عميقة في واقع المنطقة، ولا سيما مع نزول أكثر من 130 ألف جندي أميركي، عدا عشرات الألوف الأخرى من الجنود البريطانيين والإيطاليين والأستراليين وغيرهم، وذلك في بلد عربي قريب جداً. أما هذا التراجع فناجم بشكل أساسي عن مقاومة ضارية في البلد المذكور ساهم نموها في تخفيف الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي كانت بدأت تمارس على لبنان (كما على سوريا بوجه خاص).
بيد أن ما يزداد الآن خطورة، يوماً بعد يوم، إنما هو الواقع الاقتصادي – السياسي للبلد، في ظل أزمة مالية واقتصادية خانقة تهدد بانهياره. ولعل مشروع موازنة عام 2004 الذي اقر في مجلس الوزراء في أواخر تشرين الأول الماضي يعطي صورة واضحة عن المأزق الذي يعيشه البلد على هذا الصعيد، سواء من حيث مضمون ذلك المشروع الفعلي أو من حيث الطريقة التي رافقت إقراره.
وهو إذ يفضح مدى النفاق الذي انطوت عليه المدائح الطنانة للاتفاقات التي عقدت بين السلطة اللبنانية والأطراف المالية الأجنبية وبوجه خاص الأوروبية، في إطار ما عرف
بباريس2، قبل عام تقريباً، وأدت إلى منح
لبنان قروضاً بفوائد منخفضة نسبياً بلغت قيمتها 2.4 مليارات من الدولارات، إنما يكشف واقع أن عقد تلك الاتفاقات لم يكن اكثر من إمعان في سياسة الهروب إلى الأمام التي تعتمدها هذه السلطة- وهي سياسة لا شك في أن المسؤول الأساسي عن توريط البلد فيها إنما هو رئيس الحكومة الراهن، رفيق الحريري-، وبالتالي في تكبيل البلد بالمزيد من الديون، من دون أن يشكل ذلك خطوة على طريق التخلص من كابوس المديونية المتفاقم. هذا في وقت بات يجري الحديث فيه عن أنه، خلافاً لما تعترف به السلطات إلى الآن من أن الدين العام بلغ 32.5 مليار دولار، يعتبر عديدون، ومن بينهم خبراء اقتصاديون كالدكتور توفيق كسبار (النهار 28 تشرين الأول الماضي) ونواب، وحتى وزراء حاليون، كالوزير عبد الرحيم مراد، انه بلغ نحو 42 مليار دولار!!
وليس الوزير مراد هو وحده الذي يحمّل الحريري (السفير 17ت2) مسؤولية أساسية عن "الانحدار نحو الإفلاس المالي و(...) التدهور الاقتصادي"، بل بات معظم اللبنانيين يعرفون دوره، منذ بدء تعاقبه على تشكيل الحكومات عام 1992، في التضخم الكارثي للمديونية التي بلغت حدوداً لم يبلغها أي اقتصاد في العالم بأسره، إذا أخذنا بالحسبان حجم البلد وعدد سكانه، فضلاً عن دوره أيضا في تفاقم ظاهرة الفساد في الجسمين السياسي والإداري. وبالطبع، فإنه لم يكن ليتمكن من توريط الدولة والمجتمع اللبنانيين في هذا المسار الخطير لولا ما يجده من تواطؤ في التركيبة السياسية والواقع المترهل للسلطات الثلاث، الذي لم يعد يفسح في المجال أمام إمكانية إيجاد حلول مناسبة للأزمة المحلية المتفاقمة طالما هو قائم ويزداد ترهلاً.
بمعنى آخر، فان سياسة الحلول الوهمية هي بالضبط ما تحاول أن تخدرنا به الطغمة الحاكمة حالياً. وهي تصل في ذلك أحياناً إلى درجة مبكية مضحكة من الاستخفاف بعقول الناس، كما حصل حين ارتفعت صيحات مزارعي التفاح في تشرين الأول الماضي إزاء كساد مواسمهم، فردّ الرئيس الأعلى للبلد بأكل تفاحة (أو اكثر؟) خلال جلسة لمجلس الوزراء، هو ومن وافق على ذلك من الحاضرين، وبدعوة المواطنين إلى أن يفعلوا الشيء عينه!
هذا ونحاول أدناه إلقاء الضوء على الواقع المحزن الذي وصل إليه لبنان، مع لفت الانتباه إلى الأسباب الأهم التي تقف وراء هذا الواقع، ومن ثم تحديد المعالجات والردود الشعبية الممكنة لوقف الانحدار المتسارع نحو الهاوية.
أولاً : من الموازنة إلى الظواهر المرضية المتفاقمة في السياسة والإدارة
1 – موازنة أم انعدام كامل للتوازن؟
لقد وصف وزير المال ما قدمه إلى مجلس الوزراء في أواخر أيلول الماضي على انه "مشروع قانون موازنة واقعية هي اكثر الممكن واقل من الضروري". وفي الواقع، فإن ما لم ينجح المجلس في إقراره، بعد ذلك بشهر تقريباً، إلا بعد مشاحنات وخلافات عميقة، وبوجه خاص بعد ضغط كثيف مباشر من دمشق، إنما يعكس مدى الترهل واليأس في الوضع الاقتصادي المحلي، والخطر الجدي الذي يداهم الشعب اللبناني، الذي تدير شؤونه مافيا حقيقية غير مهتمة إلا بمصالحها الضيقة ومصالح الطبقة التي تنتمي إليها.
ففي حين تم تقدير الواردات الإجمالية للعام المقبل بـ 6400 مليار ليرة، بلغ مجموع المبالغ الملحوظة في مشروع الموازنة ما قيمته 9250 مليار ليرة لبنانية، من ضمنها 4300 مليار ليرة قيمة خدمة الدين لعام 2004 و 3400 مليار ليرة تشمل رواتب وأجور ومعاشات وعطاءات العاملين في القطاع العام. أما الإنفاق الاستثماري فلا يزيد على 614 مليار ليرة، أي تقريبا 6.6% من مجموع الموازنة. و هو الأمر الذي يعطي صورة تقريبية واضحة عن غياب الهم التنموي بصورة شبه مطلقة عن رؤية الفريق الحاكم.
اكثر من ذلك، فإن مشروع الموازنة يلحظ عجزاً يصل إلى 3300 مليار ليرة، أي حوالي 32.5% من مجموع الموازنة، علماً بأن هذا العجز سيكون أكبر حتماً، وبشكل ملحوظ، في نهاية عام 2004، بسبب الانفاقات التي تتم كل عام من خارج الموازنة، والتي جعلت العجز المقدر في نهاية العام الحالي يصل إلى 38% من موازنة هذا العام، في حين أن هذه الموازنة كانت تشير في الأصل إلى لا اكثر من 30% على هذا الصعيد. وهو ما يؤكد تالياً أن نسبة العجز للعام القادم ستضطر السلطة إلى سدها عن طريق المزيد من الاستدانة، وبمبالغ خيالية ضمن واقع البلد.
هذا وليس نافلاً توضيح حقيقة مفادها أن مشروع الموازنة الراهن إنما يظهر تخلياً عن واردات كان مفترضاً تحقيقها منذ سنوات هي واردات الأملاك البحرية والرسم المهني وفواتير المال العام غير المجباة، وغير ذلك، وهي تزيد على الـ135 مليار ليرة، علماً بأنه ليس هناك أي مبرر جدي لذلك، وأن هذا يندرج من حيث أسبابه الحقيقية في واقع الفساد والمحاباة الذي تعانيه الدولة والإدارة إجمالاً.
2 – الهدر والنهب وتدمير القطاع العام تمهيداً للخصخصة الشاملة
بعد أن كان جرى، على سبيل المثال لا الحصر، إنفاق اكثر من ملياري دولار على شركة كهرباء لبنان وتجهيزها وتحديثها في السنوات الماضية، وفي حين لا يفترض فقط أن تكفي نفسها، من حيث الواردات والإنفاق، بل أن تحقق للدولة أرباحا وافرة، نلاحظ أنها في حالة خسارة دائمة. وبالطبع فإن مرد ذلك، بوجه أخص، إلى الصفقات والعمولات واعمال التزوير في قيود الإنفاق، وغير ذلك من أشكال الفساد داخل المؤسسة، كما على صعيد وزارة الوصاية عليها، التي استقر فيها طويلاً الوزير السابق محمد عبد الحميد بيضون، ولم يهزه منها ما بلغه النهب والهدر في ظل قيادته هذا المرفق الحيوي جداً، بل فقط خلافات على تقاسم المغانم والاسلاب بينه وبين القطب السياسي المحسوب عليه، الذي يشكل، عدا ترؤسه حركة أمل الطائفية الرجعية، أحد أعمدة الثالوث الرئاسي.
هذا وقد شهد الصيف الماضي مسرحية ناقصة تمثلت في اتخاذ قرار بنزع التعليق على خطوط الشبكة الكهربائية في شتى أنحاء البلد، بحجة أن خسائر شركة الكهرباء ناجمة بوجه أخص عن هذه الظاهرة، وتمت الاستعانة لأجل إلغائها بقوى الأمن. لكن سرعان ما جرى إعلان الاستسلام، لأن التعليق كان يعاد ما أن تغادر القوى المكلفة بإزالته. وبالطبع كان يحصل ذلك لأن الكثير من المعلقين يستندون لدعم وغض نظر قوى أساسية في السلطة. ونحن نعني من بين أولئك المعلقين، بوجه أخص، مؤسسات خاصة وقوى وأفراداً من كبار المتمولين، الذين يستفيدون من الطاقة مجاناً، سواء في تشغيل مؤسساتهم أو في استهلاكهم المنزلي.
المهم انه تلا ذلك تقنين صارم لم يتوقف إلا بعد أن أقر مجلس الوزراء رصد مبلغ 25 مليون دولار للشركة، بذريعة شراء الفيول وغير ذلك من الاحتياجات لأجل تأمين التيار.
في كل حال إن ما يمكن الجزم به هو أن سياسة الهدر والنهب المخيفة هذه تتم على صعيد مختلف مؤسسات الدولة ومصالحها ومشاريعها، ومن ضمن ذلك في شتى مؤسسات القطاع العام. وذلك ليس فقط بهدف الإثراء غير المشروع وضمان تنفيعات للأزلام والمحاسيب ، بل أيضا لأجل إظهار تلك المؤسسات عاجزة باستمرار وستتعرض دوماً للخسارة، طالما هي بإدارة الدولة، وبالتالي تسهيل مرور مشاريع الخصـخصة، المنسجمة مع طغيان التوجهات النيوليبرالية، والاهتمام بتنفيذ وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين.
3 – المحاصصة الطائفية
مع أن البنية الطائفية للسلطة السياسية في البلد كانت تلعب دائماً دوراً مهماً جداً في التغطية على الكثير من التجاوزات والإساءات إلى المال العام، والى واقع البلد الاقتصادي، وتسهيل عملية الاهتراء، وأن ذلك تفاقم جداً خلال الحرب الأهلية، ولا سيما في رئاسة أمين الجميل، فإنه منذ استلام الرئيس السابق الياس الهراوي رئاسة الدولة في نهاية العام 89، بات واضحاً مدى التعفن في رأس الهرم، حيث فاحت الروائح الكريهة للمحاصصة الطائفية بسرعة قياسية، على صعيد الرئاسات الثلاث، بوجه أخص. وهي الطريقة التي لم يحدث تعديل نوعي فيها بعد مجيء الرئيس الحالي، على الرغم من وعود خطاب القسم في العام 1998، فكل شيء يمر عبر هذه القناة، إذا تم التوافق عليه، من أعلى قمم الإدارة وصولاً إلى آخر كاتب أو حتى حاجب في الإدارات. وإذا لم يتم التوافق فهو لا يمر ويبقى في ثلاجة الانتظار، كما الحال على سبيل المثال مع 83 ناجحاً في مباراة محصورة بين الموظفين جرت تحت إشراف مجلس الخدمة المدنية منذ اكثر من عام ونصف، وذلك لتعيين رؤساء دوائر في وزارات الدولة وإداراتها. وقد اقر مجلس الوزراء لائحة الناجحين هؤلاء، إلا انهم لا يزالون ينتظرون عبثاً مرسوم تعيينهم، بسبب الخلاف على الحصص بين المسؤولين ! وهذه نقطة من بحر!.
4 – الفساد المعمم
وهو حالة تخترق كامل جهاز الدولة، ومن الرأس المتعفن، المتمثل في مجمَّع المحاصصة الأعلى، مروراً بالوزارات المختلفة، وصولاً إلى المستويات الدنيا من الوظيفة، حيث تعم الرشوة والاختلاس والنهب، وشتى أشكال التحلل الوظيفي. وهو أمر يعرفه المواطنون بلا استثناء، غير أنه تتكشف الآن اكثر فأكثر أشكال أخرى من الفساد الذي لم يعد يمكن التستر عليه، كما كانت الحال سابقاً.
وإذا استثنينا فضيحة أموال صدام حسين، المتورط في إدخالها إلى لبنان رموز في أعلى مراتب السلطة، وضمن عائلات المتربعين فيها، والتي تم طمسها الآن، على الأقل مؤقتاً، لعل فضيحة بنك المدينة هي الأكثر إذهالا في الأشهر الأخيرة، بعد أن تسربت إلى الخارج، مرتبطة بقصص تبييض العملات، بمليارات الدولارات، واعطاء شيكات بلا رصيد بمئات الملايين، ناهيكم عن جرائم مالية عديدة أخرى. وهي كذلك بوجه أخص، بسبب ضلوع مسؤولين كبار في الدولة في التستر على ذلك لقاء عمولات ورشوات ضخمة لم تقتصر على أركان في السلطة التنفيذية، بل وصلت إلى أعلى مراتب الجسم القضائي، الأمر الذي جعل السلطة تضغط، في مرحلة من تطور التسربات، وتهديد أصحاب المصرف بكشف المتورطين، في الهرم السياسي والقضائي، من اجل لفلفة الموضوع. وهو ما يحصل الآن، بحيث يجري الاكتفاء بالملاحقات الأقل تعريضاً لاصحاب المصرف وشركائهم في الجرائم المالية للأذى، مع تأمين افضل شروط التوقيف لمن يتم إيقافه، فضلاً عن إمكان الإفراج عنهم بكفالات رمزية، كما الحال مع رنا قليلات التي أخلي سبيلها في تشرين الثاني الماضي بكفالة مقدارها مليون ليرة لبنانية فقط لا غير!
ثانياً : من فمكم أدينكم
في الرسالة التي وجهها العماد لحود إلى اللبنانيين في ذكرى الاستقلال، في 22 تشرين الثاني الماضي، يقول بالحرف:
"والمشكلة، بالتأكيد، ليست عند الناس بل في الدولة نفسها، بدءاً من التجاذب السياسي، إلى التحاصص الطائفي، إلى تبادل المصالح، وصولاً إلى الفساد الإداري، وحيث هموم الناس هي آخر ما يشعر به المسؤولون والسياسيون على مختلف المستويات".
وهذا الكلام، الذي يتلفظ به رئيس الجمهورية في السنة الأخيرة من ولايته- وفي حين باتت مكشوفة جداً مساعي التجديد، أو على الأقل التمديد، التي يقف وراءها العراب المتمثل بالنظام السوري-، مخرجاً من جعبته مجدداً ما كان طرحه يوم وصوله إلى منصبه الحالي، من توجهات إصلاحية سبق أن بدت فارغة تماماً، هذا الكلام إنما ينطبق بالفعل على من يرى انهم "المسؤولون والسياسيون على مختلف المستويات"، ولا سيما في قمة الهرم .
في ظل هذا الواقع بالضبط، يتم أيضاً ما تشير إليه رسالة لحود على صعيد هموم الناس التي هي "آخر ما يشعر به المسؤولون والسياسيون..." وهذا واضح في شتى المجالات، وإن كنا سنكتفي بالإشارة سريعاً إلى ما يلي:
أ – مشكلة الجامعة اللبنانية
فمنذ أسابيع طوال، وأساتذة الجامعة المضربون والمعتصمون يطرحون مطالبهم، سواء تعلقت بموضوع استقلالية هذه المؤسسة، التي باتت مذهلة أخبار تدخل السياسيين والقوى الضاغطة فيها، ليس فقط من داخل لبنان، بل حتى من الجوار!، أو تعلقت بصندوق التعاضد الخاص بها، وبقدرة الأساتذة على الاستشفاء، وما إلى ذلك. إلا أنه كان لافتاً كيف تعامل مجلس الوزراء بازدراء مع قضية الجامعة اللبنانية وأساتذتها، وبينهم نخبة من رموز البلد الثقافية والفكرية. فحتى أوائل كانون الأول لم يكن المجلس المذكور اهتم بعد بوضع هذه القضية على جدول أعمال أي من جلساته، تاركاً مع الأساتذة المـذكورين عشرات الآلاف من الطلاب خـارج الحرم الجـامعي. وحـين قـرر أخيرا مناقشة مطالب الأساتذة الجامعيين في جلـسة الأربعاء
3/12/2003؛ مكرهاً، جاءت القرارات التي اتخذها بصددها قاصرة جداً عن التصدي للموضوع بمعالجة جذرية تتناسب مع أهمية موقع ثقافي كالجامعة اللبنانية، الأمر الذي دفع الأساتذة المشار إليهم إلى اعتبار ما قدمه لهم مجلس الوزراء لا أكثر من "رشوة رخيصة" سارعوا إلى رفضها وقرروا تصعيد تحركهم. وفي الواقع إن طريقة التعامل هذه لدى السلطة العليا في البلد مع قضية بحساسية هذه القضية إنما تشكل وصمة عار على جبين دولة يدعو رئيسها الأعلى المواطنين، "وخصوصاً جيل الشباب إلى العمل والأمل"!!
ب – التآمر على الضمان الاجتماعي
وهو واقع بات يحس به، ليس فقط العمال والمستفيدون الآخرون من تقديمات الضمان، التي هي حقوقهم المشروعة، بل حتى قيادة الاتحاد العمالي العام، المحسوبة عملياً على أطراف أساسية في السلطة. ولا تكتفي الدولة بالامتناع عن دفع المتوجب عليها لصندوق الضمان، ويقدر اليوم بحوالي الألف ومئتي مليار ليرة لبنانية، بل هي تتصرف كما لو كانت تريد إلغاء الصندوق المشار إليه، وتغض النظر عن امتناع الكثير من المؤسسات الخاصة وأرباب العمل عن دفع ما عليهم من متأخرات للصندوق، فضلاً عن كونها سبق أن خفضت بصورة فاحشة إسهام هؤلاء في مالية الصندوق والنسبة المطلوب منهم دفعها عن العمال والمستخدمين لديها للصندوق المشار إليه. اكثر من ذلك فإنه من اللافت جداً ما يجري الحديث عنه من مشاريع لدى البعض لأجل خصخصة هذا الصندوق!
ج – الموقف من الصناعة والزراعة
في حين بات معروفاً أن العولمة الرأسمالية الراهنة ترمي في ما ترمي إليه إلى سيطرة الشركات متعددة الجنسية على اقتصاد العالم بأسره، وبوجه أخص في البلدان المتخلفة، نعرف أن الدولة اللبنانية تضع نفسها على طريق الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، مع ما يعنيه ذلك، في واقع الاقتصاد اللبناني، من ضربة قاصمة توجه إلى الإنتاج المحلي، سواء الصناعي منه أو الزراعي، بسبب عجزه عن الصمود في منافسة عارية مع إنتاج البلدان المتقدمة.
اكثر من ذلك، فإزاء التراجع العميق في الصناعة المحلية، وإغلاق عدد مهم من المصانع أبوابها وتسريح عمالها، لم تحاول الدولة بشتى مستوياتها الدفاع عن مصالح هؤلاء العمال، الذين باتوا في الشوارع، محرومين من أي ضمانات جدية، ومن أي إمكانية للحصول على عمل جديد. والاهم من ذلك انه على الرغم من مرور حوالي خمسين عاماً على صدور قانون العمل لا يجري أي تحرك جدي لتطوير هذا القانون بحيث يحمي مصالح الطبقة العاملة، ويضمن مستوى لائقاً لمعيشتها،ويصون جدياً استمرارية العمل، ويؤمن تعويضات حقيقية في حال التسريح، كما في ظروف طوارئ العمل. فضلاً عن أن الحد الأدنى للأجور، المقر منذ سنوات طويلة لا يتحرك بتاتاً لمواكبة تقلبات العملات،والتراجع المستمر للقدرة الشرائية للعملة الوطنية، ولا تصدر قوانين بالارتفاع به إلى المدى المعقول، وعلى الأقل إلى ذلك الذي يطرحه الاتحاد العمالي العام، بقيادته البائسة الراهنة.
وبخصوص المزارعين، لقد باتوا محرومين من أي حماية سواء على صعيد تكاليف زراعتهم، بخصوص الأسمدة والأدوية، أو على صعيد تسويق منتجاتهم، أو على صعيد حمايته من المنافسة داخل لبنان بالذات . وهو أمر يزداد تفاقما ويدفع عشرات الألوف من المزارعين إلى الهجرة، إذا أتيحت لهم فرصة ذلك، أو إلى النزوح إلى أطراف المدن، بانتظار أن يجدوا لهم موقعاً في أسواق العمل المدينية، القاصرة أصلا عن استيعاب ولو النزر اليسير من الأعداد الهائلة الحالية من العاطلين عن العمل.
إن المزارعين، هم أيضا، بحاجة إلى حلول لمشاكلهم اكثر جدية بالتأكيد من الحل الذي ابتدعه الرئيس لحود قبل أسابيع لقضية التفاح اللبناني!
لقد اكتفينا في هذه العجالة بهذه الإشارات المعبرة عن صورة الوضع المزرية، في ظل جمهورية الطائف، أو الجمهورية الثانية، بحسب المصطلح المعروف، التي باتت بحقّ جمهورية البؤس، ولا سيما إذا أخذنا بالحسبان أن اكثر من. 4% من اللبنانيين ( عدا السكان الآخرين، وبوجه خاص الفلسطينيين الذين يعانون في غالبيتهم ظروفاً معيشية غير إنسانية) إنما باتوا تحت حد الفقر، وأقرب إلى المجاعة، وأن البطالة تصل إلى حدود عالية جداً، ولا سيما على صعيد خريجي الجامعات، وكل هذا الجيل من الشباب الذي لا يجد أمامه سوى الهجرة كمنقذ للخلاص. وقد استنزفت هذه الأخيرة في العقدين الماضيين مئات الألوف من المواطنين، ومن بينهم نسبة عالية ممن يُسمّون بالأدمغة، ما يحرم البلد من عنصر أساسي هو بين الشروط الأهم لتنمية حقيقية تضعه في رحاب التقدم ومواكبة الثورات العلمية والتقنية المعاصرة، بدلاً من الانحدار إلى الحالة التي يعانيها الآن، والتي قد تؤدي، إذا ما استمرت السلطة بين يدي الجماعات المافيوية الطائفية المسيطرة إلى إعلان إفلاس البلد، ووضع المؤسسات المالية العالمية يدها على مقدراته، وعلى آليات اتخاذ القرار فيه.
ويبقى السؤال : ما العمل؟
لا شك أن لبنان في مأزق حقيقي، وتعطي تطورات الوضع فيه انطباعاً بأن ثمة جداراً محكم الانسداد أمامه. فالأزمة الخانقة، على المستوى المالي، تعيد إنتاج نفسها بلا انقطاع. ولا يبدو في الأفق أي بديل من ضمن البنى القائمة. وجو كهذا يسهل النوايا المعلنة لدى أطراف السلطة في تأبيد سلطتها بشكل أو بآخر. وهو ما يظهر إجمالا على مستوى الرئاستين الثانية والثالثة، اللتين تتجددان باستمرار لكل من رئيس حركة أمل نبيه بري، ورفيق الحريري (مع مرحلة قصيرة لا تتجاوز العامين حل فيها محل الأخير في رئاسة الحكومة الدكتور سليم الحص) وذلك منذ أوائل التسعينيات، في حين سبق أن جرى التمديد لرئيس الجمهورية السابق الهراوي، لثلاث سنوات، وينطرح الآن بقوة احتمال تكرار هذا المشهد مع الرئيس الحالي، ولا سيما أن ما بات " الناخب الأول" في موضوع الرئاسة الأولى في لبنان إنما هو النظام القائم في دمشق، وهو ميَّال إلى إغلاق الأبواب التي قد تدخل منها العفاريت ، وتترك مجالاً لظهور المخاطر والمفاجآت، ولا سيما في الظروف الإقليمية والعالمية الراهنة، بعد 11 أيلول 2001، من ثم احتلال العراق!
ومن البديهي أن بين الأسباب الأساسية للتعفن الذي يشهده البلد، وللازمة السياسة والاقتصادية والمالية التي يعيشها، أسبابا تعود إلى سلسلة من تداعيات وآثار الحرب الأهلية، وليس اقلها أهمية هيمنة دمشق على الحياة السياسية والإدارية في لبنان، بحيث يلعب ذلك دوراً طاغياً في توجيه ضربة قاسية إلى ذلك الحد الأدنى من الديمقراطية الشكلية الذي كان يعرفه المجتمع اللبناني قبل الحرب المذكورة، على ما كان يشوبه من عيوب. فلم يعد أمرا خافياً مدى التدخل من جانب دمشق، ليس فقط في وضع قوانين الانتخاب على اختلافها، بل أيضا في تشكيل اللوائح والتحكم بسير العملية الانتخابية أحيانا كثيرة، وحتى بنتائجها، ناهيكم عن الدور الذي تلعبه في تعزيز المحسوبية في الإدارة، بدلاً من اعتماد الكفاءة معياراً لاحتلال المناصب والمواقع والوظائف، في شتى المستويات.وبالأخص في المستويات العليا والمتوسطة.
ولسنا نبالغ إذا اعتبرنا أن هذا الوجود الطاغي ساهم في تعميق الانشطار الطائفي في البلد، وتكريسه اكثر فأكثر في الحياة السياسية، كما في الوعي السائد للناس الذي يزداد تشوهاً.
هذا وإذا كان الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، ونجاحه في إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، قد ساهم إلى حد بعيد في الإضعاف الشديد لوزن اليسار في الحياة السياسية والاجتماعية المحلية لصالح النمو المذهل للأحزاب والقوى الطائفية، إلا أن هذه الظاهرة استفادت أيضا من الدعم المؤثر الذي قدمته دمشق لحركة أمل على حساب قوى اليسار والديمقراطية في البلد، و من ضمن ذلك بوجه أخص خـلال المعركة الـوطنية ضد الاحـتلال الإسـرائيلي.
فإذا أضفنا إلى هذه النتيجة إسهام النظام السوري، سواء مباشرة، أو عبر أدواته في الساحة السياسية اللبنانية، في ضرب استقلالية الاتحاد العمالي العام، وتمثيله الطبقي والوطني، يمكن ان نفهم مدى التأثير الذي مارسه المذكور في شل، أو على الأقل، إضعاف عوامل أساسية كان من شأنها، لو بقيت على حيويتها، أن تحول دون وصول الترهل والانحطاط في الحياة السياسية والاجتماعية، وحتى الاقتصادية، إلى الدرجة الخطيرة التي وصلت إليها.
إننا لنعتقد بالتالي، أن ثمة الآن مهام أساسية ينبغي الاضطلاع بها وان ذلك قد يشكل على المديين المنظور والمتوسط رداً على الاهتراء الخطير الذي يعيشه الوضع العام للبلد في اتجاه لجم الاندفاع الراهن نحو الكارثة، وهي التالية:
1 – إعادة النظر كلياً في دور النظام السوري في الساحة اللبنانية نحو وضع حد لقدرة دمشق على التدخل سلباً في الحياة السياسية المحلية وفي أوضاع الإدارة اللبنانية.
2 – السعي لبلورة جبهة شعبية واسعة تضم قوى اليسار الديمقراطي الحزبية والنقابية، والهيئات الأهلية المتقدمة، على قاعدة برنامج حد أدنى، على الأقل، بين بنوده الأساسية:
أ – إعادة بناء الاتحاد العمالي العام، على أسس نقابية سليمة، وعلى قاعدة الاستقلال الطبقي، بعيدا عن سيطرة قوى السلطة القائمة والارتهان بتوجهاتها وما تمثله من مصالح.
ب – حماية القطاع العام من توجه السلطة الحالية إلى خصخصته، والبحث في افضل الوسائل لإدارته على أساس النزاهة ونظافة الكف والرقابة المشددة، لضمان الفعالية والمردود ولمنع الفساد.
ج – إصلاح القضاء، ونزع الحصانة عن كل من تحوم حولهم شبهات الفساد، ومحاكمتهم، وبالتالي استعادة أموال الدولة المنهوبة والمهدورة.
د – مصادرة الأملاك البحرية جميعاً وتحويلها إلى القطاع العام تحت الرقابة والمحاسبة الصارمتين.
ه - معالجة موضوع الدين العام من منظور مختلف تماماً عن السائد حالياً، ولا سيما ذلك الجزء منه العائد إلى المصارف المحلية، وهو يصل إلى حوالي 70% من ديون الدولة، والناجم في جزء أساسي منه عن الفوائد الفاحشة التي تقاضتها عن سندات الخزينة وغيرها من إصدارات الدولة في العقدين الأخيرين وكانت تصل في إحدى الفترات إلى 36%، واقتطاع ربع الدين العائد لهذه المصارف على الأقل، وتحويل الباقي إلى ديون بفائدة لا تتجاوز الاثنين بالمئة، وإمهال الدولة عشر سنوات لبدء تسديده، وذلك في الوقت عينه الذي يتم فيه وقف الاستدانة بالكامل، واعتماد ضريبة تصاعدية، اجتماعية حقاً، على الدخل.
أما بخصوص الجزء من الدين العائد لمصارف وجهات أجنبية، بما فيه للبنك الدولي، فثمة أهمية كبرى لانخراط لبنان جدياً في الحركة العالمية لإلغاء ديون العالم الثالث، وتقديم الدعم النشط للقوى التي تسعى لوضع هذا الخيار موضع التنفيذ.
و- وضع قانون انتخابات عصري وتقدمي وعلماني، واعتماد الدائرة الواحدة في كل لبنان، والتمثيل النسبي غير الطائفي.
إن الوضع في أقصى درجات الخطورة، إذا جرى الاستسلام إزاء عفونة الواقع الراهن، في حين يمكن الجزم بأن إنقاذ البلد لا يزال في المتناول. لكنه يتوقف على مدى الاستعداد، ومدى امتلاك الجرأة، لأجل إحداث تغيير جذري في معايير بلوغ قيادة البلد، واحتلال مواقع القرار فيه، وبالتالي إرسال المافيا الحاكمة الراهنة إلى مزابل التاريخ.