تصاعدت وتيرة الضغوط التي أخذت تمارسها الأحزاب الإسلامية الشيعية ، ومن يدعون أنفسهم بأتباع الحوزة وأتباع مقتدى الصدر من أجل أجراء الانتخابات للمجلس التشريعي قبل انتقال السلطة من قوات الاحتلال إلى العراقيين على الرغم من عدم توفر الظروف اللازمة لإجراء مثل هذه الانتخابات .
فكيف يمكن إجراء الانتخابات في ظل الوضع الأمني المتردي والجرائم التي نشهدها كل يوم من تفجير السيارات المفخخة ،والاغتيالات وجرائم السلب وتهديد المواطنين؟
وكيف يمكن أجراء الانتخابات من دون إجراء تعداد سكاني جديد ؟ وهل بالإمكان أجراء التعداد في ظل الانفلات الأمني الذي نشهده اليوم ؟ ومن الذي يضمن سلامة التعداد وسلامة المواطنين من وقوع الاعتداءات والجرائم التي يرتكبها أعوان النظام المقبور ؟
كيف يمكن أجراء الانتخابات وما يزيد على أربعة ملايين عراقي في المنافي ؟وهل يمكن تجاوز هذا الرقم الذي يتضمن نسبة عالية جداً من المثقفين العراقيين الذي غادروا العراق إلى دول اللجوء المختلفة بسبب معارضتهم لنظام الدكتاتور صدام حسين وهرباً من بطشه ؟
وهل يستعجل الإسلاميون أجراء الانتخابات قبل عودة هذه الملايين ،أو على الأقل ضمان مشاركتهم في أي انتخابات تُجرى ؟وهل يخشى الإسلام السياسي تأثير هذه الملايين التي عاشت ردحاً من الزمن في البلدان الغربية وتشربت بالفكر الديمقراطي السائد فيها والحقوق والحريات التي يتمتع بها المواطن بصرف النظر عن دينه وقوميته ولونه وجنسه والتي ربما يعتبرها البعض [سموم الحضارة الغربية ] !!
إن هذا الإصرار من قبل القوى الإسلامية على إجراء الانتخابات قبل تسليم مقاليد السلطة للعراقيين لا يهدف إلا إلى الرغبة بالإستئثار بالسلطة وإقامة دولة إسلامية على غرار جمهورية إيران الإسلامية وتشريع دستور يتفق مع توجهاتهم الاسلامية ، والحيلولة دون تشريع دستور ديمقراطي يؤمن الحقوق والحريات العامة للمواطنين ،مستغلين الظروف الحالية التي خلقها النظام المقبور والتي أوصلت شعبنا إلى حالة من اليأس القاتل الناجم عن انهيار أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بسبب حروبه الإجرامية والحصار الجائر الذي عاش في ظله شعبنا أكثر من 12 عاماً من البؤس والفاقة والأمراض والرعب ،فلم يبقَ أمام المواطنين من مخلّص لهم من تلك الحال سوى اللجوء إلى الله عز وجل من خلال التدين لكي يزيح عنهم كابوس صدام حسين الذي أذاقهم من الويلات والمصائب ما يعجز القلم عن وصفها .
ولقد وجدت القوى الإسلامية ضالتها في استغلال الظروف الحالية فلجأت إلى الشارع من خلال المظاهرات التي سيرتها خلال الأيام القليلة الماضية في البصرة وبغداد وبعض المدن الأخرى ،محاولين فرض أمر واقع قبل أن يتمكن أبناء شعبنا من أن يعي حقيقة وتطورات الأوضاع السائدة ،والأخطار التي تهدد مستقبل الديمقراطية التي تخطط هذه القوى لاغتيالها في مهدها لكي تكون النتيجة خروج شعبنا من قمقم الفاشية البعثية ليقع فريسة طغيان نظام طائفي كالنظام الإيراني الذي سلب شعبه كافة حقوقه الديمقراطية وحرياته العامة .
ولا شك أن بوادر هذا التوجه قد ظهرت جلية في إصدار مجلس الحكم ، وبغياب العديد من أعضائه القرار رقم 137 ،والمتضمن إلغاء قانون الأحوال المدنية الذي أصدره الشهيد عبد الكريم قاسم ،والذي لم يجرأ انقلابيوا 8 شباط على إلغائه فأجروا بعض التعديلات عليه بضغط من عبد السلام عارف ، وإحلال الشريعة الإسلامية بدلاً عنه من دون أن يكلفوا أنفسهم استشارة حتى وزير العدل المسؤول المباشر عن دراسة مشاريع القوانين ، مما أثار موجة واسعة من الاحتجاجات على هذا القرار من قبل أكثر من ثمانين منظمة نسائية ، وسائر القوى الديمقراطية والعديد من أعضاء مجلس الحكم والوزراء .
هذا هو أول الغيث الذي ينتظره شعبنا من إخواننا وهم لم يستلموا الحكم بعد فماذا سيتخذون من إجراءات ،ويصدرون من قوانين لو استلموا الحكم غداً !! .
أن من يتابع تطور الأحداث على الساحة السياسية والإعلامية يتلمس بشكل جلي النشاطات الإيرانية والإعلام الإيراني والتدخلات ، ورفع بعض الشعارات الطائفية في المظاهرات التي شهدتها البصرة وبغداد في دعم وإسناد توجهات الأحزاب الطائفية الشيعية في هذا المجال مستهدفين وأد أي توجه ديمقراطي في العراق والذي يسبب لهم القلق على مستقبل نظامهم حيث تتصاعد المعارضة الشعبية الإيرانية له وتتطلع للتخلص من نظام الحكم الإيراني الذي سلبهم كافة حقوقهم الديمقراطية وحرياتهم العامة ، وما الانشقاق في صفوف قادة إيران إلى محافظين وإصلاحيين والصراع الدائر بين الطرفين إلا دليلاً صارخاً على تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعب الإيراني والذي أخذ يصّعد من كفاحه من أجل الحرية والديمقراطية التي حُرم منها منذ عام 1978 حتى يومنا هذا .
إن هذا التوجه الطائفي الذي نشهده اليوم يتناقض تناقضاً كلياً مع مصلحة الشعب ، ويدق إسفيناً في وحدتنا الوطنية التي نحن بأمس الحاجة إليها لكي نحمي التوجه الديمقراطي الذي افتقده الشعب طوال عقود عديدة ، ولتضميد جراحات شعبنا ،وإعادة بناء البنية التحتية لعراقنا العزيز ،وهو يشكل تخلي عن الشعارات التي رفعتها هذه القوى قبل سقوط النظام الصدامي في إقامة الديمقراطية والعمل الوطني المشترك والتعاون التام مع مختلف القوى الوطنية الأخرى لبناء العراق الجديد ، عراقاً خالياً من القهر والاستبداد ومصادرة الحريات العامة باسم الدين هذه المرة .
أننا جميعاً نحترم ديننا الإسلامي الحنيف وفي الوقت نفسه نحترم سائر الأديان الأخرى وهو الرابط الذي يربط الجميع بالخالق ، لكننا نرفض في الوقت نفسه فرض أجندة الإسلام السياسي على أبناء شعبنا والحيلولة دون قيام نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد ،وما جرى في البصرة من تجاوزات واعتداءات على المسيحيين ومحاولة إجبارهم على تغيير دينهم والاعتداء على البنات والنساء لفرض الحجاب عليهم بالقوة ،وتفجير محلات بيع المشروبات الكحولية وقتل أصحابها هي ناقوس خطر يدق بأعلى صوته محذراً من خطورة ما يخطط لشعبنا ، ويدعو سائر القوى الديمقراطية لليقظة والحذر .
أن إعادة بناء العراق يحتاج إلى تكاتف جهود كل القوى التي ناضلت ضد النظام الصدامي البغيض من كل الاتجاهات الإسلامية والقومية والديمقراطية والشيوعية ، والمستقلين الذين يمثلون جانباً كبيراً من قوى شعبنا الطامحين في بناء عراق جديد ينعم فيه شعبنا بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي أقرها الإعلان العالمي الصادر عن هيئة الأمم المتحدة .
إن أية محاولة للاستئثار بالسلطة من أي فئة كانت سيشكل بكل تأكيد عامل تخريب وهدم ينعكس سلبياً على مستقبل شعبنا ووطننا .
كما إن هذا التوجه سوف يؤدي بلا أدنى شك إلى رد فعل من جانب القوى الأخرى ، فكما هو ثابت أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس في الاتجاه مما يهدد في قيام صراع طائفي لا يستفيد منه أحداً ويصيب شعبنا بالضرر البليغ .
وبالأمس قام أنصار السيد مقتدى الصدر بمظاهرة في بغداد تندد بالفدرالية دون التفكير بمدى الضرر الذي يلحقه هذا الشعار بالوحدة الوطنية ، فالفدرالية أمر اتفقت عليه سائر الأحزاب الوطنية مبدئياً ، وأن شكل هذه الفدرالية وشروطها وقواعدها يحدده المجلس التأسيسي القادم الذي سينتخبه الشعب بكل حرية ،والذي يضمن صيانة وحدة العراق وضمان العيش المشترك فيه للعرب والأكراد والتركمان والكلدو آشوريين وسائر الأقليات الأخرى متآخية في هذا الوطن الذي هو وطن الجميع ،فلماذا هذا الاستعجال في طرح هذا الشعار الذي يستفز مشاعر إخوتنا الأكراد !!، بل ويمزق الوحدة الوطنية !! .
ومن جهة أخرى هل يعتقد الأخوة في الأحزاب الإسلامية الشيعية أن الولايات المتحدة التي ضحت بالمئات من أرواح جنودها ودفعت العشرات من مليارات الدولارات لتكاليف الحرب التي انتهت بإسقاط النظام الصدامي يمكن أن تسمح بإقامة نظام إسلامي طائفي قريب من النظام الإيراني ؟
لماذا لا نتعلم الدرس من أحداث انتفاضة آذار المجيدة عام 1991 عندما تم رفع الشعارات الطائفية وصور الخميني في تلك الانتفاضة مما جعل الولايات المتحدة تقرر الوقوف إلى جانب النظام الصدامي على أن تسلم الحكم لنظام طائفي موالٍ لإيران !!
أن الولايات المتحدة لم تجيّش جيوشها وتضحي بأبنائها وأموالها لسواد عيون العراقيين ، بل لها أجندتها الخاصة وأهدافها البعيدة المدى السياسية منها والاقتصادية ليس في العراق فحسب بل في سائر منطقة الشرق الأوسط خاصة والعالم بوجه عام ، وينبغي علينا أن ندرك أن العالم اليوم يعيش العصر الأمريكي دون منازع وأن الولايات المتحدة تحدت العالم أجمع ،وتجاوزت الأمم المتحدة ومجلس الأمن ،وشنت الحرب على العراق ،وأسقطت النظام الصدامي ، وأمس وقف الرئيس بوش يخطب أمام الكونكرس عن حالة الإتحاد قائلاً :
[ إن الولايات المتحدة لا تأخذ الأذن من أحد لشن الحرب على الإرهاب ] وفي هذا تذكير للجميع من أن الولايات المتحدة لن تخرج قواتها من العراق إلا بعد إكمال مهمتها كما قال بوش نفسه يوم أمس .
أن من يتجاهل هذه الحال يسعى لإطالة أيام الاحتلال شاء أم أبى ،وعليه أن يدرك إن الحال قد تغير في عالم اليوم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يقف نداً للتطلعات الأمريكية للهيمنة على العالم ، ودخل بالتعاون مع الصين في الحرب الفيتنامية التي استمرت سنوات عديدة واستنزفت من الطاقات البشرية والمادية ما أجبر الولايات المتحدة الخروج من فيتنام في نهاية الأمر .لكن الأوضاع اليوم قد تغيرت تماماً فلم يعد الإتحاد السوفيتي موجوداً ، وانكفأت حكومة الصين نحو الاهتمام بتطوير بلادها وبناء صناعاتها ورفع مستوى حياة شعبها مبتعدة عن ممارسة أي تأثير بارز على الساحة العالمية ، وتجنب الدخول في صراعات مع الولايات المتحدة .
وأخيراً رجائي من الأخوة في الأحزاب الإسلامية الشيعية أن لا يساورها أدنى شك بأني احمل بواعث طائفية فأنا أشعر وبكل جوارحي بأنني شيعي وسني ، عربي وكردي وتركماني مسلم ،و أخ للمسيحي والصابئي واليزيدي ، فأنا عراقي وحسب أقدس وحدتنا الوطنية ،وأسعى بكل ما أستطيع من أجل حرية وطني وازدهاره ، وتأمين الحياة الحرة الكريمة والعيش الرغيد لشعبنا ، والسعي لمنع أي صراع بين القوى الوطنية والحرص الشديد على جمع شملها حول قواسم مشتركة يتفق عليها الجميع وتؤمن مصالح شعبنا ووطننا ،والله من وراء القصد .