|
من أجل إعادة التأسيس المعرفي لفكرة اليسار
حميد باجو
الحوار المتمدن-العدد: 2327 - 2008 / 6 / 29 - 10:41
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
بمناسبة لقاء نظمه فضاء الحوار اليساري بالدار البيضاء، كان موضوعه: ماذا يعني اليسار اليوم؟ حاولت أن أطرح بعض الأسئلة حول العلاقة بين تطور العلوم، خاصة الفيزياء، وبين النظريات الفكرية التي تأسس عليها اليسار، وعلى رأسها الماركسية، لكن أحد الأصدقاء من المثقفين الحاضرين، استغرب أن تكون هناك أي علاقة ما بين نيوتن وماركس، أو ما بين آينشتاين وأي مناضل يساري مغربي مثلا، كابراهام السرفاتي أو غيره. وفي نقاش سابق مع صديق آخر مهتم بالفلسفة، أنكر أن تكون هناك أية علاقة ما بين تطور العلوم الدقيقة وتطور الفلسفة أو العلوم الإنسانية الأخرى. وفي الحقيقة بقيت متعجبا: كيف يفهم هؤلاء الفلسفة أو الفكر النظري بشكل عام. فعلا أنا لم يسبق لي أن درست الفلسفة بشكل أكاديمي أو تحت إشراف أي أستاذ متخصص، غير أن قراءاتي المتنوعة جعلتني أنتقل ما بين التخصصات كلها، من علم الاقتصاد الذي هو تخصصي الأصلي، حتى فلسفة العلوم والتاريخ ومختلف النظريات التي عرفها الفكر الإنساني، وأطلع على أهم الاكتشافات الكبرى التي عرفتها الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا أو السيبرنيتيك ... ألخ، وإذا كان من خلاصة وصلت إليها من خلال هذا الانتقال ما بين التخصصات المتباعدة، هو أن كل العلوم مهما تنوعت، لا بد وأن يجمعها شيئ مشترك في النهاية ، هو ما يصطلح عليه بالباراديغم أو الأنموذج. فالأساس الذي يقف وراء كل هذه العلوم والأفكار والنظريات ، ليس في النهاية سوى الدماغ البشري نفسه الذي أنتجها. وهذا الأخير لا ينطلق من فراغ، وإنما هو بالضرورة نتاج لتنشئة اجتماعية معينة خضع لها الإنسان المفكر أو العالم منذ ولادته، وقولبت ذهنيته أو طريقة رؤيته للأشياء بما لا يخرج عن الرؤية العامة التي تتحكم في طريقة تفكير كل أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه. إنها ، ما يطلق عليه : النظرة للعالم la vision du monde. هذه الواقعة وغيرها هو ما جعلني أكثر اقتناعا، بأنه من دون الرجوع إلى الأسس المعرفية نفسها التي تأسس عليها اليسار، فإنه سيصعب علينا حتى التفكير في إعادة إحياء هذا اليسار . لأن لكل واحد منا أصبح له يساره الخاص. ارتأيت أن تكون البداية في هذا المقال، بالتذكير ببعض المحطات الفاصلة في تاريخ الفكر البشري، وكيف ارتبطت فكرة اليسار حين نشأتها، ببعض هذه المحطات بالذات. ثم أن أصل بعد ذلك إلى آخر المحطات في تطور العلوم الدقيقة، والتحديات التي صار يطرحها ذلك على كل من لا يزال يحسب نفسه على اليسار. إن الكل يعرف أن تأسيس اليسار في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، قد تم في البداية، على يد من يعرفون يالاشتراكيين الطوباويين، أمثال سيسموندي وبرودون وغيرهما، ثم ماركس فيما بعد صاحب نظرية الاشتراكية العلمية، وأنه قد جاء نتيجة للتقاء ثلاث تيارات مختلفة: تيار الليبرالية السياسية التي رفعت الثورة الفرنسية لواءها، وتيار النضال النقابي الاجتماعي الذي ابتدعه العمال الإنجليز في خضم الثورة الصناعية الصاعدة في بلدهم آنذاك، ثم تيار الفلسفة الألمانية التي طورت فكرة التقدم التاريخي ورائدها في ذلك، هيجل. غير أنه إذا كانت فكرة الديمقراطية السياسية لم تكن جديدة، وهي صيغة في الحكم قد جربت منذ عهد أثينا، وأن فكرة التضامن الاجتماعي سبق وأن ناضلت عديد من الحركات الاجتماعية والإنسية سابقا من أجلها، و على رأسها الحركات الإصلاحية الدينية، فإن ما جد في تلك الفترة هو نظرية هيجل حول التطور التصاعدي أو التقدمي للتاريخ، وأن لهذا الأخير غاية سامية يسير حتما نحوها هي تحقيق الفكرة المطلقة. وهنا بيت القصيد بالنسبة إلينا. فهل نستطيع حقا فهم محفزات هذا الإبداع الفكري الهائل الذي أنجزه هيجل، إذا نحن لم نضعه في إطار الرؤية الجديدة للعالم التي مهد لها آنذاك نيوتن باكتشافاته الهائلة في علم الفيزياء؟ للإجابة عن ذلك، سنكون مضطرين للعودة إلى المراحل السابقة عنه، لنحاول تتبع العلاقة ما بين العلوم الدقيقة من جهة والعلوم الإنسانية من جهة ثانية، أو بين الفيزياء بالتخصيص والفلسفة، أو بين الفيزياء واللاهوت. يعرف المختصون كيف أن النقاش بدأ في أصله عند فلاسفة الإغريق، منذ طاليس من القرن السادس ق.م، حول علاقة العالم بالآلهة أو القوى الفوقية، أو حول أصل العالم و العناصر التي يتكون منها، أو حول حركته أو ثباته، أو طريقة انتظام مكوناته ..... ألخ. ونشير هنا إلى نظريتين اثنتين فقط، من النظريات الفيزيائية المؤسسة التي أنتجها الإغريق في هذا المجال: النظرية الذرية أو الجزء الذي لا يتجزأ لديموقريط، و نظرية بطليموس حول بناء الكون وثباته. فلا أحد يمكن له أن ينكر، أن كل ما كتب بعد هذه الفترة وإلى حدود الثورة الكوبرنيكية – باستثناءات قليلة جدا تؤكد القاعدة العامة- إنما كان خاضعا أو واقعا تحت تأثير هاتين النظريتين سواء عن وعي أو عدم وعي. فالفيلسوف أو اللاهوتي أو أي منظر آخر مهما كان تخصصه، كان يبدأ في كتابته أو تنظيره، وهو واضعا نصب عينيه ومتيقنا أن العالم، إنما يتكون من ذرات أو جزيئات صغيرة لا يمكن في حدود معينة، تجزيئها إلى ما هو أصغر، وأن هذا العالم ثابت في مكانه على شكل دائرة كبيرة تحتل الأرض موقع المركز منه، وأن الكواكب والأجرام الأخرى كلها تدور حول هذا المركز. هكذا كان المفكر أو الإنسان بشكل عام، ينظر إلى الكون المحيط به، ولم يكن له من خيار آخر غير ذلك، لأن البيئة التي نشأ فيها لم تكن تتوفر على أية رؤية أخرى للعالم غير هذه. هذه الرؤية نفسها هي التي سيستخدمها المفكر في معالجته لقضايا أخرى اجتماعية مثلا، أو سياسية أو لاهوتية ... ولهذا لا يمكن أبدا فهم النظريات الفلسفية أو الكلامية أو اللاهوتية التي ظهرت في تلك الفترة سواء عند المسيحيين أو المسلمين، خارج هذه الرؤية للعالم. فالباراديغم الفيزيائي البطليمي (نسبة إلى بطليموس) هو الذي بقي يحكم مجمل الفكر الإنساني إلى حدود مجيء كوبرنيك في القرن الرابع عشر. هذا الأخير بقياساته وملاحظاته لحركة الشمس والكواكب الأخرى، سيحدث خلخلة مدوية في تلك الرؤية السائدة للعالم، بتأكيده أن مركز الكون ليس الأرض وإنما الشمس، وأن الأرض ليست منبسطة ولكن كروية الشكل. والجميع يعرف مثلا، أنه لولا هذه النظرية الأخيرة، لما خطر على بال كولومبوس أن يبحر إلى الهند الموجودة في الشرق، باتباع طريق تتجه نحو الغرب. و قد كانت النتيجة أن ارتبك كل من سبق وأن أسس نظرياته وإيديولوجياته بناءا على الرؤية القديمة، وفي المقدمة رجال الكنيسة. فكانت المحاكمات المشهورة والثورات الدينية والتشكيك في كل اليقينيات، إلى أن جاء فيلسوف جديد هو ديكارت، الذي حاول أن يوجد للفكر الإنساني نقطة ارتكاز جديدة يطمئن إليها فتنقذه من حيرته، وهي نقطة لا توجد لا في الأرض ولا في السماء وإنما في ذاته نفسها، أو ما برهن عليه بالكوجيتو. غير أن نظرية كوبرنيك، والتي تبناها بعده جاليليو وبرونو، وإن نجحت في تحويل مركز الكون من الأرض إلى الشمس، فهي قد أبقت عليه ثابتا في مكانه لا يتحرك، إذ صورته وكأنه ساعة كبيرة معلقة في الخواء، عقاربها هي الأجرام – ومن بينها الأرض- التي تدور بانتظام حول المركز حيث توجد الشمس. ولأن أجهزة الرصد الفلكية كانت قد تطورت كثيرا في القرون التي تلت عصر كوبرنيك، وأصبحت أكثر دقة، فقد جاء اسحق نيوتن في القرن الثامن عشر، ليؤكد فكرة كوبرنيك عن النظام الدقيق الذي تعمل به ساعة الكون، بفضل الجاذبية التي تربط بوثاق متين بين كل مكوناته، لكن ليضيف على ذلك، أن هذه الساعة غير ثابتة في مكان واحد، ولكنها تتحرك وتنتقل على خط مستقيم، وبحسب سرعة ثابتة ومضبوطة. هذه النظرية الفيزيائية الجديدة المبنية على الحتمية والنمطية في الحركة، هي التي ستعيد للفكر الإنساني طمأنينته التي افتقدها بعد كوبرنيك، وتنقذه من حيرته. وتؤسس للباراديغم الجديد، حيث كل شيئ، وإن كان يتحرك، فبانتظام ووتيرة مضبوطة، ولا شيئ يقع عبثا. إنها الرؤية الجديدة للعالم التي سيحاول كل الفلاسفة اللاحقين وكل المفكرين والاهوتيين إعادة التأقلم معها، فيتكلم البعض عن الإرادة الإلهية الخارقة المتجلية في دقة نظام الكون، ويرى البعض الآخر في ذلك، القوانين الطبيعية الثابتة التي لا يمكن تخطيئها ولا ثنيها عن مسارها الحتمي. في حضن هذه الرؤية الجديدة، سترعرع ما يعرف بالنظريات الميكانيكية والعلموية والإقتصادوية ....، التي ستحاول نقل المنهج الميكانيكي الدقيق لعمل نظام الكون والطبيعة، وتعميمه على باقي المجالات التاريخية والاجتماعية، فيبدع أوغست كونت مثلا،نظريته الوضعانية الطامحة لتأسيس علم الاجتماع على قواعد علمية صارمة. وبنفس المنطق سيعمل هيجل على تقديم تصور تقدمي للتاريخ، باعتباره خطا تصاعديا، ينتقل في كل مرة، من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى على سلم الارتقاء الحضاري، حتى يصل في النهاية إلى تحقيق غايته القصوى المتمثلة في الفكرة المطلقة، أي تحقيق السعادة الكلية للبشرية أو ما يماثل الجنة في العالم الأرضي قبل انتظار العالم الأخروي. وهي الرؤية التطورية نفسها التي كانت بعض ملامحها قد بدأت تظهر عند علماء الطبيعيات منذ لامارك، قبل أن يثبتها ويدققها شارل داروين في العقد السابع من القرن التاسع عشر. غير أن هيجل هنا، وإن كان في النهاية ابنا للرؤية النيوتينية للكون، فهو أضاف إبداعا جديدا، أن التطور وإن كان يسير بشكل حتمي نحو الأمام، فهو قد يتبع طرقا ليست بالضرورة مستقيمة، ولكنها تمر بمنعرجات هي ما يعبر عنه بالجدلية، تلك النظرية التي سبق وأن اهتدى إليها زينون الإيلي الإغريقي منذ القرن الخامس ق.م، فأعاد هيجل إحياءها. إذن هذا هو الإطار الفكري العام أو الباراديغم أو الرؤية للعالم، التي ولد في أحضانها اليسار، وظهر أكثر جلاءا في نظرية الاشتراكية العلمية الماركسية. فماركس لم يقم في الأخير سوى بمحاولة إسقاط الرؤية الفيزيائية للعالم كما بلورها نيوتن، متوسطا في ذلك نظرية هيجل عن التاريخ، على ميادين الاجتماع والاقتصاد والتاريخ. وكل من لا يزال لصيقا بالنظرية الماركسية في صيغتها الأصلية، فإنما هو فقط لا يزال سجينا ومحدودا في رؤيته للعالم بفيزياء نيوتن من القرن الثامن عشر. وما لا يريد بعض الدوغمائيين من اليسار الانتباه إليه، هو أن النظريات العلمية، وفي مقدمتها الفيزياء، قد حققت قفزات هائلة منذ ذلك التاريخ، وقلبت رأسا على عقب، عديدا من الرؤى والتصورات للعالم التي ظهرت لاحقا. بدأ الأمر مع ماكس بلانك وماكسويل وغيرهما آواخر القرن التاسع عشر، الذين أثاروا مشكلة طبيعة المادة نفسها، أو ما كانت النظرية الذرية تعتقده منذ ديموقريط، بأنها تتكون من ذرات غير قابلة للتجزيئ، وطرحوا إشكالية العلاقة ما بين هذه الأخيرة، وبين الضوء. ثم جاء دور أينشتاين لاحقا، ليشكك في حتمية قوانين نيوتن، ويؤكد أن السرعة التي يتحرك بها الكون إنما هي نسبية ومتغيرة، وليست قارة أو ثابتة. وهذا فتح الطريق لهيزنبرج في العقد الثالث من القرن العشرين، ليفجر ما تبقى من اليقينيات عند البعض، ويعلن أن ليس هناك أية حقيقة مطلقة، أو أن أية حقيقة لا يمكن أن تكون إلا احتمالية. وعلى نهجه سار أيضا، علماء فيزياء الكوانتا، لاستكشاف ما قد تحتويه تلك الجسيمات المتناهية في الصغر ما تحت الإلكترون أو البروتون أو النيوترون، من أسرار وخبايا. لم يكن هذا الإتجاه نحو النقد والتشكيك في كل اليقينيات، مقتصرا على الفيزياء والعلوم الدقيقة فقط . بل انبرى عدد من الفلاسفة والمفكرين منذ زمن مبكر، لنقد مسلمات الفكر الغربي. بدأ ذلك مع كانط الذي ميز ما بين العقل الخالص والعقل العملي، ثم نيتشه الذي سخر من عقلانية الفكر الأنواري. وهو الاتجاه الذي أعطاه فرويد، في بداية القرن الماضي، دفعة قوية حين كشف عن حقيقة ارتباط العقل باللاشعور غير العقلاني. وفي العشرينات من نفس القرن، وعلى إثر الفظائع التي ارتكبت في الحرب العالمية الأولى، كانت مدرسة فرانكفورت المنحدرة من اليسار الألماني، تدشن لتجربة جديدة تروم إعادة النظر في مجمل الفكر الماركسي كما عرف لحدود تلك الفترة. لكن العصر الذهبي الحقيقي للتيارات والمدارس النقدية والتشكيكية، إنما سيبدأ مع مطلع الستينات، مع ماركوز أولا، المنحدر من مدرسة فرانكفورت ، ثم مع ميشيل فوكو بالخصوص ، الذي سيفتح الطريق لكل من سيعرفون لاحقا بالتفكيكيين أو الاختلافيين أو ما بعد الحداثيين، أمثال دولوز وليوطار وديريدا... هؤلاء الذين سيسخرون معاولهم لهدم كل ما يعتبرونه أنساقا شمولية أو مذاهب كليانية، فيهاجمون الماركسية والعقلانية والبنيوية ...، ويرفعون لواء الدفاع عن الحق في الاختلاف وعن التعددية وعن نسبية الحقيقة و حتى عن غياب أي معنى حقيقي للأفكار والأشياء. وإذا ما نحن ربطنا تلك الهجمة التي أصابت في الصميم، أهم المرجعيات أو المقومات الفكرية، التي تأسس عليها اليسار، مع الفشل الذريع الذي مني به النموذج الاشتراكي المطبق في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الأخرى، سنقدر عمق الخيبة وهول الصدمة التي تعرض لها كل من بقي يؤمن بمشروع اليسار. ولا نستغرب بعد ذلك، لماذا وصل الحلم اليساري إلى هذا الحد من الضمور، ومن فقدان الثقة فيه، بعد أن بقي لعقود طويلة هو المغذي الرئيسي لكل الأحلام والآمال المعلقة على المستقبل. لكن هل ينتهي الحلم اليساري فعلا وندفنه إلى ما لا رجعة، ومن ثم ننظر إلى هذا التكالب الواقع علينا حاليا، سواء من طرف الرأسمالية المتوحشة أو من الأصولية، وكأنه قدر لا مفر منه، ما علينا سوى الاستسلام له؟ ذلك ما لا يمكن القبول به بسهولة، خاصة وأن وقائع التاريخ تثبت عكس ذلك. فاليسار وبتعريف مبسط، لم يكن في واقع الأمر، سوى ترجمة واستجابة في مرحلة تاريخية معينة، لتطلعات البشرية نحو مجتمع أكثر عدالة وأكثر رأفة بأفراده. مع العلم أن هذه الأخيرة، سبق وأن جربت عبر تاريخها الطويل، العديد من أشكال التعبيرات السياسية والإيديولوجية والمذهبية، أو ما عرف بالحركات الإنسية عبر التاريخ، بأمل العثور عمن يمكن أن يستجيب لتطلعاتها هذه. حتى أن بعض التعبيرات منها، وصلت إلى حد نفي إمكانية تحقيق هذه العدالة في الدار الدنيا، وبالتالي محاولة إقناع الناس بضرورة تأجيل ذلك حتى الدار الآخرة. ولهذا، فما دامت هذه التطلعات قائمة، والبشرية أو فئات منها على الأقل، تنتظر من يخلصها، فإن لليسار دائما وظيفة ومسؤولية يجب أن يتحملها. لكن هنا نصل إلى صلب الموضوع الذي يهمنا: كيف يمكن لليسار أن ينهض من جديد للقيام بدوره؟ فكما هو معروف، أن ما ساعد على ميلاد اليسار وبروزه على مسرح التاريخ منذ منتصف القرن التاسع عشر ، و من تم تسلم راية النضال الاجتماعي بدلا عن الحركات الإنسية والدينية القديمة، هو في قدرته على الإستفادة من الحقائق العلمية التي ظهرت آنذاك. فقد قام ماركس و انجلز، وقبلهما هيجل وفيورباخ ....، باستلهام هذه االحقائق الأخيرة، من أجل بلورة تصورات جديدة عن التاريخ والمجتمع، تتماشى والتطلعات الاجتماعية نحو العدالة، لأكثر الطبقات تضررا من الثورة الصناعية، المتمثلة آنذاك في البروليتاريا. أي أن هذا المزج الخلاق، ما بين تطلعات هذه الطبقة الأخيرة، وبين التصورات الأكثر تقدما، عن التاريخ المستلهمة من الاكتشافات العلمية الجديدة، هو ما أعطى اليسار ذلك الزخم، وجعله يتحول إلى فاعل رئيسي في التاريخ لما يناهز قرنا ونصف. لكن، هل نفس العناصر التي يتكون منها المجتمع، ونفس المعطيات العلمية التي سبق وأن اعتمدها اليساريون الرواد، لا زالت هي نفسها، حتى يكون لذلك المزج أعلاه، مفعوله المستمر لحد الآن؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، نحن اليساريون في مطلع القرن الواحد والعشرين. نعم سنستمر في حمل مشعل النضال الاجتماعي، والسعي إلى التجاوب مع تطلعات الفئات الأكثر تضررا في عصرنا. ولكن عن أي فئات نتحدث، وعلى أساس أية معطيات علمية، سنبني تصوراتنا الجديدة عن التاريخ والمجتمع؟ الحتمية النيوتونية قد انتهت منذ زمن بعيد، ومعها غائية التاريخ كما تخيلها هيجل. ولقد برهنت لنا الفيزياء الحديثة لما بعد آينشتاين، أن ليس هناك حقيقة مطلقة، وبالتالي لا يوجد أي خط مستقيم ومعروف يسير عليه التاريخ، ولا غاية معلومة مسبقا قد يصل إليها يوما. وبالتالي بأي حق سنستمر نحن في إيهام أنفسنا والآخرين معنا، بأننا حتما سنحقق المجتمع الاشتراكي، وأن الرأسمالية منهزمة لا محالة؟ على أساس أي حقائق علمية سنبقى نروج لهذه النبوؤات؟ أليس الأمر لا يختلف هنا في شيئ، عن نبوؤات اللاهوتيين الذين يبشروننا بحياة ثانية في الدار الآخرة؟ قد تبدو الصورة قاتمة حين نطرح هذه التساؤلات، وكأننا فقط ضيعنا أكثر من قرن ونصف من عمر البشرية في الجري وراء سراب اسمه مجتمع اشتراكي يخلو من الاستغلال ومن الطبقية. إن هذا ما انتهى إليه بالفعل، الكثير من اليساريين الذين تخلوا عن أحلامهم. بل ولأن وقع الخيبة كان شديدا عليهم ، فقد تفرقوا في كل الاتجاهات، وانصرف البعض منهم في شبه انتقام من الماضي, يفند كل الأحلام الممكن الاستمرار في حملها عن المستقبل، وهدم كل ما يعتبرونه أنساقا كبرى أو نظريات أو إيديولوجيات قد تصلح لتعبئة المواطنين. فقد بالغ مثلا، من يعرفون بما بعد الحداثيين، في هذا الاتجاه كثيرا ، بمبرر الدفاع عن الحق في الاختلاف، وذلك إلى حد الترويج للعبثية ونفي وجود أي معنى أو حقيقة يمكن الارتكان إليها كما الأمر عند ديريدا مثلا، أو بالإعلاء من شأن بعض الخصوصيات المناقضة أحيانا للعقل والعقلانية. والخلاصة، أن اليسار إنما يجد نفسه اليوم واقفا، بين هاذين الحدين: حد الدوغمائية واليقينية المتوارثة من القرن التاسع عشر، والتي تجد مبررها في فيزياء نيوتن، وحد النسبية المطلقة والتشكيكية التي انتعشت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، والتي تأخذ سندها العلمي من فيزياء آينشتاين، أو نظرية اللايقين لهيزنبرج وغيره من فيزيائيي الكوانتا. وهو بهذا، عليه أن يبحث ما بين هاذين الحدين بالضبط، ، عن نقطة انطلاق جديدة، قد تكون قاعدته لإعادة تأسيس تصوراته عن التاريخ والمجتمع. ولن يكون هذا الاختيار، مجرد اختيار عشوائي أو إرادوي، ولكن سيرا على نهج مؤسسي اليسار الأوائل، بالاعتماد بالضرورة، على آخر الاكتشافات العلمية، وخاصة ما وصلت إليه في السنوات الأخيرة، علوم الفيزياء والبيولوجيا والذكاء الإصطناعي. و نحن نكتفي هنا بإيراد بعض النماذج من النظريات الجديدة في هذه المجالات، على أن نعود إليها لاحقا يالتفصيل . أولى هذه النظريات: - النظرية العامة للأنظمة، la théorie générale des systèmes التي تطورت بداية في علم السيبرنيتيك، قبل أن تمتد إلى مختلف العلوم، وميزتها أنها تقترح إطارا عاما لمقاربة كل الظواهر الكونية الموجودة والممكن تخيلها، من ظواهر الفيزياء إلى ظواهر التاريخ أو المجتمع أو الثقافة .... فبحسب هذه النظرية، أن الأصل في كل هذه الظواهر، إنما هو اندراجها في إطار نفس النظام الكوني الوحيد والشامل، والذي ينطبق على أجزاءه بالضرورة، ما ينطبق على كله. - نظرية التعقيد، théorie de la complexité والتي توضح كيف تنحو مختلف الأنظمة الموجودة، خاصة منها الأنظمة الحية: البيولوجية أو الاجتماعية أو الذهنية والثقافية، إلى التعقد والتطور حسب ميكانيزمات معينة، هي على العموم من ثلات أصناف: تعقيد تكاثري أو أفقي، وتعقيد وظيفي أو تخصصي، ثم تعقيد بنائي أو سلّمي . وكما هو معروف، فقد لعبت البيولوجيا دورا رئيسيا في إنضاج هذه النظرية، بعد أن أعادت صياغة نظرية التطور الداروينية، وتحيينها على ضوء الاكتشافات الجديدة في مجال علم الجينات، وأعيد الاعتبار لآليتي التطور الأساسيتين كما سبق وأن شرحهما داروين: التنوع والانتقاء، أي بما لا يسمح إلا لنسبة قليلة من مكونات النظام، أن تضمن استمراريتها، تلك التي تكون قد حصلت على اللياقة المناسبة للبيئة المحيطة بها. - نظرية الشواش théorie du chaos ، والتي تكشف أنه في كل ما نعتقده فوضى ولاتنظيم، أنما يوجد تنظيم ضمني، يكفي لاكتشافه، أن نراقب تلك الفوضى من نقطة مراقبة أكثر ابتعادا أو علوا . - نظرية "الفراكتال" théorie du fractale ، وهي تكشف لنا، أننا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار النظرية العامة للأنظمة أعلاه، حيث كل نظام هو في نفس الوقت، فرع أو جزء من نظام أعلى، sous-système ، ثم هو مكون نفسه، من أنظمة فرعية أدنى منه، وقمنا بالتحرك عموديا من النظام الأعلى إلى النظام الفرعي الأدنى منه، أو إلى الأدنى من الأدنى، سنلاحظ أن عددا من الخصائص إنما تتكرر باستمرار في كل هذه المستويات من الأنظمة... هذه فقط نماذج من النظريات المبتدعة حديثا في مختلف العلوم الدقيقة، وهي وإن بدأ استعمالها يمتد تدريجيا لبعض العلوم الاجتماعية الأخرى، كعلم الاقتصاد مثلا، إلا أن تعميمها لم يشمل بعد كل المجالات، وبالخصوص لم نشاهد لحد اليوم، حسب علمنا، من سعى إلى توظيف كل هذه المعارف الجديدة، باستثناء هابرماس، في صياغة فلسفة بديلة، أو مشروع نظرية عامة عن التاريخ و المجتمع يمكن لليسار أن يعتمدها كمرجعية له في ممارسته، ويحرره من الإطار المعرفي القديم الذي سبق وأن صاغه هيجل أو ماركس، أو غيرهما من الذين كانوا وراء التأسيس المعرفي لفكرة اليسار.
#حميد_باجو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية : من يسار للدولة إلى يسار ل
...
-
اليسار المغربي نداء بوزنيقة للعمل اليساري المشترك.
-
تيار الاشتراكيون الجدد : مسؤولياتنا
-
-رحيل اليازغي عن الاتحاد الاشتراكي... نهاية الأزمة أم بدايته
...
-
تجربة -الاشتراكيون الجدد-
-
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تيار -الاشتراكيون الجدد-
-
التصورات حول العالم والإنسان في الديانات والمعتقدات القديمة
-
أي مستقبل لليسار المغربي؟
-
اليسار المغربي في الحاجة إلى إعادة التأسيس
-
مشروع أرضية لتيار الاشتراكيون الجدد داخل الاتحاد الاشتراكي ل
...
-
عن مآل الاشتراكية
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|