أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن-العدد: 2326 - 2008 / 6 / 28 - 12:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
1 ـ الخرافة لا بد لها من محترفين ، بعضهم يتمتع بالقداسة والهيبة ويتبوأ مناصب دينية عليا فى إطار دولة الاستبداد التى تعتمد على الدين الأرضى وشيوخه فى خداع العوام ، وبعضهم لا يحظى بالشهرة فيكون نصيبه الاتهام بالجدل والوقوع تحت طائلة القانون ، مع انهم جميعا دجالون ـ لا فرق بين شيخ وشيخ إلا فى مقدار السطوة والشهرة بين الناس.
2 ـ والتاريخ يحكي لنا عن قصص غريبة الى حد الجنون عن أفعال قام بها الدجالون والدجالات يجعلوننا نتساءل عن تلك العقليات البائسة التى تعتقد فيهم و تسلم لهم وتؤمن بهم . خصوصا وأن بعض تلك العقليات تنتمى ليس فقط للعوام بل لعلية القوم فى الثروة و السلطة . وربما يكون الاعتقاد فى الجدل والدجالين هو الرابطة التى تجمع المتخلفين عقليا من الفقراء والأثرياء و الحكام و المحكومين فى رابطة واحدها قوامها ذلك الدين الأرضى الذى يؤمن به الجميع.
3 ـ ولك أن تتخيل كل تلك المفارقات التى تتجمع فى الدجال (الرسمى أو الشعبى ) .
الدجال عند الله تعالى : "مسجل خطر" أي " عدو الله تعالى ورسله", " يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً",ولكنه عند العوام وضعاف العقول " شيخ عارف" "سره باتع" , " مكشوف عنه الحجاب" , " مبروك" , وتجد عنده كل الحلول لكل الأزمات .
الدجال في نظر القانون المدني مجرم نصاب تطارده السلطات مع أن لقبه الشيخ ، ولكن لو تمتع بالحظوة و الشهرة لتحول ذلك الدجال الذى تطارده السلطات الى شيخ عارف وولى من الأولياء الصالحين تطارده صرخات المتهافتين على التبرك بتراب قدميه .!!
وبالتالى تتوقف سطوة القانون المدنى عن هذا الدجال طالما أصبح محميا بالدين الأرضى وأتباعه .. مع ملاحظة أن موقف هذا القانون المدني يتفق مع القرآن وشريعة الإسلام ، ولكن هذا القانون المدنى متهم عند الاخوان المسلمين ودعاة الدولة الدينية, وإذا نجح أولئك في إقامة دولتهم في مصر المحروسة فسيصبح الإمام الأعظم والحاكم الأكبر هو أكبر الدجالين.
4 ـ لم نتحدث عن الدجل الديني السياسي الذي يهدف إلى تقويض العروش, فذلك يستغرق مجلدات, لا يبدأ ,"بمسيلمة الكذاب" , ولا ينتهي بالمهدي المنتظر وغير المنتظر, كما لن نتحدث عن أحاديث الدجل الديني ونظرياته التي لا تزال تحظى بالتصديق والتقديس وتنشر الدمار والدماء.. فذلك أيضا يستغرق مجلدات ولكن نكتفي ببعض الإشارات التاريخية لبعض الدجالين من الوزن الخفيف, لا يطمعون في أكثر من لقمة العيش, ينتزعونها بالتحايل على البسطاء وضعاف العقول, وهذا الصنف لا يزال موجودا يعيش على غيبة العقل وسوء الفهم للدين, والأزمات النفسية والاجتماعية.. والسياسية..
نبدأ بالحديث عن دجالين ظهروا بين سطور التاريخ تعاملوا مع المجتمع وقتها في ظروف تحكم فيها الدين الأرضى القائم على التدين السطحي المظهري وسيطر به على أفئدة الناس وباعد بينهم وبين الفهم الصحيح للإسلام ـ ولا يزال ..ونتوقف مع هذه القصة التاريخية التى أوردا ابن الجوزى فى كتابه (أخبار الأذكياء ) .
5 ـ كانت "بغداد" في العصر العباسي مركزاً لكل أنواع الدجل , فلم يستطع بطل قصتنا الاستمرار فيها, وطبقاً لما رواه " ابن الجوزي" في " أخبار الأذكياء" فإن ذلك الدجال ترك "بغداد" وهاجر إلى "حمص" ومعه امرأته لأن حمص كما وصفها لامرأته " بلد حماقة" أى كانوا أهل سذاجة يسهل خداعهم بالدين, ولذلك فقد اتفق مع زوجته على خطة محكمة.
طبقاً لهذه الخطة دخل الرجل حمص وقد ارتدى زي الصالحين, واعتكف بالمسجد الجامع في "حمص" في ناحية معينة, يظل نهاره صائماً متعبداً لا يستريح, بينما امرأته في مكان بعيد في المدينة , تقوم بعمل طعام معين له من الزبيب المعجون بأصناف أخرى ثم تضعه في الشمس حتى يكون بني اللون، ثم تتسلل إلى ميضأة الجامع فتضع ذلك الطعام في إناء حديدي نظيف في إحدى دورات المياه.
يدخل الناس دورة المياه فيرون ذلك الطعام فيعتقدون أنه براز متجمد , ويدخل صاحبنا دورة المياه فيأكل ذلك الطعام خلسة كل يوم, ويظل ليله ونهاره متظاهراً بالصوم والصلاة والتهجد,ولا يتحدث مع الناس فشاع أمره، وتوافد عليه الجميع يلتمسون التبرك به، فلا يرد عليهم إلا بالتسبيح, وهم في عجب من أمره كيف يواصل الصوم والصلاة بلا طعام ولا شراب ، وصارت كراماته على كل لسان، وأصبح كل مريض أو معاق يلتمس منه الشفاء، وهو لا يأخذ من الناس أجراً، يشير إلى السماء بأن الله تعالى هو الذي يطعمه ويسقيه, واستمر على هذا الحال مدة عام وشهرته في ازدياد إلى أن حل الموعد المتفق عليه بينه وبين زوجته, وجاء تنفيذ الجزء الثاني من الخطة.
كان أهل حمص, وقد اجتمعوا عن آخرهم في المسجد الجامع لصلاة الجمعة مع الشيخ المبروك الصامت دائما , ففوجئوا بسيدة لا يعرفونها تهجم على شيخهم المقدس وتلطم وجهه وتتهمه بأنه قتل ابنها في بغداد . هجم عليها الناس يريدون الفتك بها , ولكنه أنقذها منهم ، وسمعوه يتحدث لأول مرة . بدأ حديثه بالبكاء حتى أبكى الناس, ثم اعترف لهم فعلاً بأنه قتل ابن هذه المرأة وجاء إلى حمص تائباً يدعو الله أن تلحق به هذه المرأة لتأخذ حقها منه, وقد استجاب الله دعاءه وهو الآن سعيد بأن الله استجاب دعاءه، وقبل توبته، ويطلب منهم أن يسمحوا لها بقتله قصاصاً بابنها، وقال لهم باكياً :استودعكم الله.. وسلم نفسه للمرأة.
وكان من الطبيعي أن تأخذهم النخوة فأقبلوا على المرأة يستعطفونها أن ترضى بدفع الدية وتعفو عن الشيخ الصالح, فرفضت, فأخذوا يزيدون في التعويض، وفي النهاية رضيت بعد أن أعطوها مائة ألف درهم, وانهالت عليها الهدايا العينية والملابس والحلي، وأخذت ذلك وانصرفت به. ظل صاحبنا في المسجد بعدها أسبوعاً, ثم تسلل هارباً, ولحق بزوجته. وعرف أهل حمص في النهاية.. أنهم وقعوا ضحية دجال ظريف!!
6ـ والشيخ أبو حامد الغزالي، في كتابه "إحياء علوم الدين" تحدث عن المكدين أو المتسولين الذين يحتالون على الناس بشتى الحيل, وجعل منهم الوعاظ الذين يصعدون للمنابر ليخدعوا العوام بالدين, وبائعي التمائم والتعاويذ, وبائعي الحشيش على أنه دواء نافع لكل الأمراض . والجدير بالذكر أن شيوخ الصوفية هم أول من اكتشف الحشيش,وأول من روجوه ونشروه وذلك موضوع آخر شرحه يطول, أى أن الدجالين البسطاء في أسواقنا الآن ( الذين يروجون لشراء "شربة" الحاج محمود التى تشفى من الدود و ترد عين الحسود ) كانوا موجودين في عصر الإمام الغزالي , وبعده, ولا يختلف دجالو التمائم في عصرنا عن دجالي الوعظ في عصر الغزالي, وقد استنكر الغزالي أن يعرض أولئك الدجالون بضاعتهم في المساجد, وقال إن ذلك حرام ويجب منعه.. فمن يقول هذا لدجالي المساجد في عصرنا ؟!
7 ـ ومات "الغزالي" سنة "505هجرية" , ولكن الدجل الذي تحدث عنه لم يمت , ولن يموت ما بقي التكسب والتحايل بالدين قائما بين الناس, بل إن الغزالي نفسه ساعد على شيوع الدجل الديني حين حارب الاجتهاد العقلي وساعد على تثبيت الاتجاه الصوفي بما يعنيه من تسليم لكل إدعاءات الصوفية , وهذا يعني إعطاء العقل إجازة مفتوحة , وإتاحة الفرصة للدجالين كي يعملوا أربعاً وعشرين ساعة في اليوم.
8 ـ ونترك الدجل البسيط لنصل الى الدجل الهائل المحيط ، فللدجل اليوم قوى عظمى محلية واقليمية و عالمية .
هناك مؤسسات دينية علمية تحترف الدجل باسم محمد والمسيح عليهما السلام ، وهناك آلاف المنابر الدينية و السياسية تفرغت للدجل السياسى والدينى ، وهناك (طب نبوى ) و عيادات للاستشفاء بالقرآن الكريم ، وهناك قنوات فضائية تنشر الدجل عبر برامج يحضرها شيوخ و رجال دين وأفندية وأساتذة من كل لون ونوع ، ولكنهم محترفو دجل..
وهناك دول تخصصت فى الدجل ، دول لها أيدلوجية دينية (كالوهابية ) أو أيدلوجية قومية ( كالبعث العراقى سابقا والسورى حاليا ) أو ايدلوجية اقتصادية (كالماركسية ) وهناك دولة مثل ليبيا القذافية التى حملت الدجل فى اسمها الرسمى ( الجماهيرية الشعبية الاشتراكية الليبية العظمى) فهل هناك دجل اظرف من هذا الاسم ؟ وبسبب هذا الظرف فى الدجل فقد تجول القذافى وتقلب فى كل أنواع الدجل السياسى و الدينى ، من الاشتركية والقومية العربية الى الاسلامية ثم الى الأفريقية ، والآن يبدأ دجلا جديدا باسم الدولة الفاطمية.. وحين تنظر الى كل أولئك الدجاجلة الكبار الفطاحل لا بد أن تتعاطف مع الدجال الريفى الذى يضطر الى التحايل على الرزق بالتحايل على ألناس ..
9 ـ قد يقول بعضهم : إننا لا نخلو من الذكاء ..انظر الى عدد الدجالين فى العالم العربى وستجد مئات الألوف من الدجالين الأذكياء ..
وأقول له : المهم أن عددهم يتكاثر لأننا شعب من الأغبياء..
#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟