طرح السيد مقتدى الصدر ملاحظات مهمة, في لقاء له مع الدكتور أسامة مهدي نشرت في موقع إيلاف, تستحق الحوار وتبادل الآراء. وإذ أبديت رأيي بشأن موقفه من المسيحيين في مقال سابق, سأتناول هنا ثلاث مسائل جوهرية, وهي:
1. الموقف من الوعود الأمريكية ومدى يمكن الوثوق بها وبهم.
2. الموقف من الاتحادية الفيدرالية الكردستانية.
3. الموقف من الكفاح السلمي والكفاح المسلح في العراق.
وكل من هذه النقاط تستحق حواراً مستقلاً أتناولها في ثلاث حلقات متتالية.
الحلقة الثانية
الموقف من الاتحادية "الفيدرالية" الكردستانية!
أليست دروس وتضحيات العقود المنصرمة كافية لإقناع
الغالبية العظمى من العرب بحقوق الشعب الكردي العادلة؟
لم يكن غريباً أن تمارس الحكومات الرجعية والشوفينية التي تسلطت لعقود طويلة على الحكم والمجتمع سياسة الاستبداد ضد المجتمع بأسره وأن تمارس التمييز إزاء مختلف قومياته وأديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والسياسية, وأن تُقرّم حقوق الناس أو تصادرها جملة وتفصيلاً, كما حصل في العهد البعثي الأخير على نحو خاص. وليس غريباً أن تصادر حقوق القوميات والأقليات القومية في العراق بسبب سياسات تلك الحكومات المتعاقبة التي سيطرت على الدولة العراقية ومسحت دساتيرها الدائمة والمؤقتة بالأرض, رغم النواقص التي كانت فيها, إذ أنها لم تكن بأي حال تمثل إرادة الشعب العراقي ومصالحه الحيوية وحاجاته وطموحاته, بل فرضت عليه فرضاً عبر تزوير الانتخابات أو عبر الانقلابات وفرض الدكتاتوريات المختلفة ذات الطبيعة الواحدة. ولكن الغريب هو أن تقوم قوى سياسية عراقية ناضلت ضد الدكتاتورية وقدمت التضحيات في سبيل الخلاص منه, كما عرفت تجارب الماضي المأساوية التي عاشها هذا الشعب في كل أنحاء العراق حيث يفترض أنها استخلصت الدروس الضرورية من الفترات المنصرمة, أن تطلق التصريحات المناهضة لحق الشعب الكردي في إقامة اتحادية (فيدرالية) إقليم كردستان العراق وفي إطار الجمهورية العراقية. وأن تعتقد هذه القوى وكأن هذه الفيدرالية "تنتزع حقاً من أصحابه العرب", وليس أصحاب الحق المغتصب يستعيدون حقهم المسلوب منهم طيلة قرون.
لست راغباً في إعادة ما كتبته في هذا الشأن حول الفترة الواقعة بين نهاية الحرب العالمية الأولى والمرحلة الراهنة, إذ المفروض أن يكون الجميع قد اطلعوا على تاريخ وأحداث هذه الفترة الغنية بتجاربها في مقارعة الشعب الكردي والأقليات القومية في كردستان العراق للاستبداد والظلم ومن أجل استرداد الحقوق الطبيعية, أي التمتع بحقهم في تقرير مصيرهم, وليس فرض الوصاية عليهم من شعب آخر أو حكومة أخرى أو أي دكتاتور آخر بغض النظر عن الزي الذي يرتديه.
إن القوى التي ترفع الاعتراض على الفيدرالية الكردستانية تنحصر في القوى القومية وبعض قوى الإسلام السياسي. وإذا كانت الأولى تعتقد بأن طريق الفيدرالية يدفع إلى الانفصال عن العراق, في حين هي تسعى إلى إلحاق مناطق أخرى بالعالم العربي حتى بالقوة, كما فعل صدام حسين عند احتلاله لمناطق واسعة من إيران وأصدر خارطة جديدة للعراق المتوسع عبر الحرب (وقد كتبت في هذا الشأن مقالاً حول التباين في الرؤية إزاء المسالة الكردية, فإنها تنطلق من مواقع شوفينية وعنصرية لم تعد تنسجم مع العصر الحديث, وهي من مخلفات الماضي الذي ما تزال تتمسك به كل من تركيا وإيران, والذي سوف لن ينفع البلدين والشعبين على المدى الطويل, فأن القوى الإسلامية تنطلق من أن الجميع رعايا دولة إسلامية واحدة, وهم أمة واحدة إسلامية بغض النظر عن التنوع الإثني والقومي واللغة ..الخ. ولكن تاريخ الدول الإسلامية كلها يعبر عن واقع وجود التمييز بين الإثنيات والقوميات بشكل كبير جداً, بالرغم مما ذكر في القرآن من آيات ترفض التمييز, وبالرغم من الادعاء بغير ذلك, إذ يمكننا إيراد مئات الأمثلة على التمييز الإثني والقومي والديني والمذهبي والفكري في الدول الإسلامية القديمة والحديثة حتى يومنا هذا. وتقدم إيران الحالية الأدلة الكافية على ذلك, دع عنك الدولة التركية التي ترفض الدول الأوروبية حتى الآن عضويتها في الاتحاد الأوروبي بسبب شوفينيتها ومصادرتها لحقوق القوميات والأديان والمذاهب.
عندما سؤل السيد مقتدى الصدر عن الفيدرالية قال بأنه يرفض الفيدرالية القومية ويريد فيدراليات المحافظات, وهي محاولة لتمييع حقيقة وجود شعب كردي يعيش في إقليم يسمى كردستان, له ثقافته ولغته وتاريخه المشترك, وله خصائصه المميزة التي تكونت عبر مئات السنين. كما تعيش في هذا الإقليم أقليات قومية هي التركمانية والآشورية والكلدانية التي يفترض هي الأخرى أن تتمتع بالحقوق الثقافية والإدارية في إطار الفيدرالية الإقليمية لكردستان وعلى مستوى الحكومة المركزية.
لا تشكل الفيدرالية الكردستانية خطراً على الوحدة العراقية المتماسكة, بل أن رفض حقوق الشعب الكردي ورفض فيدراليته هي التي سوف تتسبب في زعزعة الوحدة العراقية التي سوف لن تكون متماسكة وقوية بل هزيلة وآيلة للسقوط في كل لحظة, كما حصل للحكومات المتعاقبة التي شنت الحرب ضد الشعب الكردي أو تلك التي رفضت الاستجابة للحقوق العادلة لهذا الشعب.
إن على السيد مقتدى الصدر وعلى كل الأخوة العاملين في الأحزاب السياسية الإسلامية أن يستعيدوا الماضي البعيد والقريب وأن يقرأوا التاريخ العراقي ببصيرة متفتحة وذهنية رحبة تقبل الحوار وتبتعد عن إصدار الفتاوى أو القرارات التي يرفضها الواقع العراقي وتقود إلى خراب جديد في العراق الذي نتطلع أن يكون مدنياً وديمقراطياً.
لن تستقيم السلطة في العراق لأحد إن حاول فرض الحلول غير المقبولة على الشعب الكردي وعلى الأقليات القومية, وستسقط تلك السلطة التي ترفض الاعتراف بالحقائق الفعلية لا محالة أجلاً أو عاجلاً, ولكنها ستؤدي إلى كوارث جديدة على صعيد العراق كله.
إن على السادة الذين التزموا بالفيدرالية في مؤتمر لندن وصلاح الدين أن لا يتهربوا مما التزموا به أمام الجميع, وأن لا يسعوا إلى تفسير الفيدرالية على هواهم الخاص وكأنها غير الشيء الذي التزموا به. فالفيدرالية المطلوبة في كردستان العراق تسمح بإقامة حكومة كردستانية تضم إلى جانب الأكراد ممثلين عن الأقليات القومية وتنتخب من قبل البرلمان الكردستاني الذي هو الآخر ينتخب بطريقة مدنية وديمقراطية نزيهة وبأشراف الأمم المتحدة من قبل الشعب الكردي والأقليات القومية القاطنة في كردستان العراق, وهي تكون مسؤولة عن مجموعة من المجالات الحيوية الخاصة بإقليم كردستان, في حين تترك مجموعة من الأمور الأخرى والأساسية التي تمس العراق كله للحكومة المركزية ببغداد والتي يتمثل فيها العرب والكرد والأقليات القومية. ومن حقنا نحن العرب في القسم العربي من العراق أن نقيم اتحاديتنا (فيدراليتنا) التي تشمل مناطق الوسط والجنوب والموصل والتي تقام فيها حكومة اتحادية وبرلمان منتخب من قبل العرب وكل القاطنين فيه من الأقليات القومية الأخرى والمنظمات المهنية والجماعات المختلفة والأحزاب السياسية عبر انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة.
إن مثل هذا التنظيم للدولة العراقي الحديثة سيلعب دوراً فعالاً في تعزيز لحمة الشعب العراقي وتآخيه بعيداً عن التسلط والإلحاق القسري الذي حصل حتى الآن. إن ما يتمتع به الأكراد حالياً أكبر بكثير من الفيدرالية التي يسعون إليها, ولكنهم يريدون الوحدة مع الشعب العربي والأقليات القومية في عراق ديمقراطي مدني موحد, فلِمَ تتخذ بعض الجهات الموقف المتزمت والشوفيني الذي يعرض هذه الجهد المشترك إلى مخاطر الضياع في حمى صراع غير مسؤول لا يبدأه الأكراد, بل يبدأ به أولئك الذين يرفضون حق الأكراد المشروع والعادل.
أملي أن يسعى السيد مقتدى الصدر إلى الإطلاع على نظم الحكم المختلفة في العالم من العهود البابلية والرومانية والإغريقية حتى الوقت الحاضر ويدرس بإمعان موضوع الفيدرالية بصدر رحب وذهن متفتح غير مغلق, وسيجد أن من حق أخواته وأخوته أبناء وبنات الشعب الكردي في العراق كل الحق في ما يطالبون به ويسعون إليه. إن حرصي على إقامة عراق ديمقراطي مدني موحد خالٍ من العنصرية والشوفينية والأحقاد القومية التي عانينا منها الكثير, حرصي على أن بنات وأبناء قوميتي العرب أن يتمتعوا بحياة هادئة وسعيدة هي بالضبط التي تدفعني في أن أكون حريصاً في أن يعيش الشعب الكردي والأقليات القومية في حياة هانئة وسعيدة ويتمتعوا بحقوقهم المشروعة كما أتمتع بحقوقي المشروعة وأن لا يتعرضوا للتمييز مرة أخرى كما تعرضوا له طوال العقود المنصرمة, وأن يكون الجميع, سواء أكانوا من العرب أو الكرد أو التركمان أو الآشوريين أو الكلدان, مواطنات ومواطنين من الدرجة الأولى. يجب أن لا نشعر بالحرية والسعادة وممارسة الحقوق ولا نعيشها حقاً, عندما نغتصب حرية وسعادة وحقوق الآخرين, حقوق الشعب الكردي وحقوق الأقليات القومية في العراق. إذ نما لدينا هذا الشعور الوطني, هذا الإحساس الإنساني بأن "أنا" هو "الآخر" وأن "الآخر" هو "أنا", عندها سنكون قادرين على ممارسة فعلية للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, وعندها سنرتقي إلى مستوى الحضارة الإنسانية المنشودة, حيث تكون كرامة الإنسان وحريته أثمن وأرفع شيء في الدولة التي نريد إقامتها والعيش فيها. وهذا ما نرجوه لشعبنا في العراق بقوميتيه العربية والكردية وأقلياته القومية التركمانية والآشورية والكلدانية ولكل إنسان يسعى للعيش في هذا الوطن المعطاء.
لا يمكن أن نطرح مشروع الفيدرالية على الشعب العراقي كله لإقرارها, إذ أن الفيدرالية حقٌ من حقوق الشعب الكردي الذي ينبغي له أن يقررها بنفسه, وقد قررها فعلاً في عام 1992, إذ أن طرح مثل هذا المشروع على الشعب العراقي كله يمكن أن تكون أكثرية العرب ضد هذا المشروع حالياً لأسباب تتعلق بالتربية الفكرية الشوفينية التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 1926 حتى الوقت الحاضر, وكذلك الوعي الضعيف والضبابية التي تلف مفهوم الفيدرالية والتأثيرات الأخرى على السكان في الوقت الحاضر. ولهذا ينبغي أن لا نخاتل ولا نراوغ في الأمر, بل أن نكون واضحين لكي لا نعقد القضية التي نريد لها حلاً عقلانياً واعياً وحريصاً على وحدة العراق أرضاً وشعباً, ولنتذكر القول الحكيم الذي ردده المسلمون طيلة قرون "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا", ولكنهم لم يمارسوه حتى الآن.
وتقع على عاتق كل القوى الديمقراطية العراقية, بغض النظر عن انتماءاتها الحزبية والسياسية أن تلعب دوراً متزايداً في شرح مفهوم الفيدرالية وتقريبها إلى أذهان الشعب العربي والأقلية القومية التركمانية في العراق وخارجه وتوضيح التجارب الغنية للقرن العشرين وأهمية أخذها بنظر الاعتبار في المرحلة الجديدة من حياة العراق الجارية, إذ لا يكفي أن نرفع الشعارات فحسب, بل أن نفسرها للناس خير تفسير وأن نسعى لممارستها خير ممارسة.
برلين في 20/01/2004 كاظم حبيب