أحمد جميل حمودي
الحوار المتمدن-العدد: 2326 - 2008 / 6 / 28 - 08:02
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
أكدت عدة بحوث أن الفشل في التعليم يرتبط ارتباطا قويا بعمليةالاستبعادالاجتماعيSocial Exclusion , يضاف إلى هذا ظهور عدد متزايد من الشواهد على أن الأمر أكثر من مجرد الارتباط بل إن العلاقة بينهما علّية ويمكن عكسها.وان كان ذلك يمثل عملية طويلة وصعبة. ومع ذلك نستطيع ان نطرح التساؤل التالي: هل التعليم عامل ترابط أم عامل استبعاد؟ وهذا السؤال هو محور محاولتنا الأجابة عليه في طرحنا, فإذا كنا نتبنى رؤية أن التدني في مستوى التحصيل الدراسي له علاقة وثيقة بمظاهر الاستبعاد الاجتماعي والتي أهمها جيوش العاطلين عن العمل وبالتالي المبعدين عن المشاركة في أنشطة الحياة العامة, فانه قد عرض مؤتمر القمة العالمية للتنمية الاجتماعية منذ أكثر من عقد,والذي قد عقد في كوبنهاجن من 6 إلى 12 مارس 1995 صورة مزعجة للحالة الاجتماعية الراهنة مذكّرا بوجه خاص بأن أكثر من مليار كائن بشري في العالم في فقر مدقع ويعاني معظمهم كل يوم من الجوع وان أكثر من 120 مليون شخص في العالم يعانون رسميا من البطالة وان أكثر منهم بكثير في حالة عمالة تشبه البطالةUnemployment والأعداد تتزايد كما تصرح به تقارير التنمية الإنسانية الصادرة عن برنامج الأمم الإنمائي وكذلك تقارير البنك الدولي ولا يتسع المجال لذكرها الآن, وكثيرا ما يعتبر نظام التعليم مسئولا عن البطالة, لاسيما إذا علمنا تدني متوسط تراكم رأس المال البشري(مع تحفظنا في إطلاق هذا المصطلح دون تحديده ببعض الضوابط القيمية) في عالمنا العربي.
وبشيء من التفاؤل الحذر يحاول تقرير دايلور المقّدم إلى منظمة اليونسكو في العام 1996 أن يجيب عما إذا كان التعليم عامل ترابط أم عامل استبعاد بأن التعليم قد يكون عامل ترابط إن هو عني بأخذ اختلاف الأفراد والجماعات البشرية في الحسبان, مع تجنب أن يكون هو ذاته عاملا من عوامل الاستبعاد الاجتماعي. فمبدأ المنافسة -المؤاتي في بعض الحالات للتنمية الفكرية- يمكن في الواقع أن ينحرف عن القصد ويترجم بممارسة مفرطة للاختيار بالاستناد إلى النتائج المدرسية. وحينئذ يبدو الرسوب المدرسي أمرا لا رجعة فيه وكثيرا ما يولّد التهميش والاستبعاد الاجتماعيين. وهناك بلدان كثيرة وخاصة من البلدان المتقدمة, تعاني حاليا من ظواهر محيّرة جدّا للسياسات التعليمية: فمن المفارقات أن إطالة مدة الالتحاق بالمدرسة أدّت بالأحرى إلى تدهور لا إلى تحسّن, وضع الشباب المغبونين اجتماعيا,و/أو الذين يواجهون حالات رسوب مدرسي. فالرسوب وترك الدراسة يصيبان نسبة هامة من التلاميذ, حتى في البلدان التي يبلغ فيها الإنفاق على التعليم أعلى المستويات في العالم. فهما يتسببان في انفصام بين فئتين من الشباب, يزيد من خطورته انه يمتد إلى عالم العمل. فمن لم يحصلوا على مؤهّل يتقدمون إلى العمل في المؤسسات بعائق يكاد أن يعصي على الحل. وهكذا فان بعضهم, وقد اعتبرتهم المؤسسات غير صالحين للتوظف, يجدون أنفسهم مستبعدين نهائيا من عالم العمل, ومحرومين من أي إمكانية للاندماج في المجتمع. وحينئذ يصبح الفشل الدراسي الذي يؤدي إلى الاستبعاد, ذلك السبب الذي يكمن في كثير من الحالات وراء بعض أشكال العنف أو الانحرافات الفردية. وهذه العمليات التي تمزّق النسيج الاجتماعي تؤدي في آن معا إلى التنديد بالمدرسة باعتبارها عامل استبعاد اجتماعي, والى شدة الطلب عليها باعتبارها مؤسسة رئيسية تساعد على الدمج أو على إعادة الدمج. وتتسم المشاكل التي تثيرها السياسات التعليمية بالصعوبة الشديدة: إذ يجب لذلك اعتبار مكافحة الفشل الدراسي ضرورة اجتماعية ملحة. وإذا كان احد الأعمدة الأربعة لأسس التعليم هو " تعلم لتكون" (صاغ هذه الأسس تقرير دايلور الصادر عن اليونسكو1996 وهي: تعلم لتكون, تعلم لتعرف, تعلم لتعمل, تعلم لتتعايش مع الآخرين) وهو يعني أن على التربية أن تسهم في التنمية الشاملة لكل فرد... فان ذلك منوط بإتاحة الفرص للشباب في تفعيل قدراتهم الإبداعية والتخيلية. ويدلنا تحليل جون هوبكرافت لبيانات الدراسة القومية لنمو الطفل على أنه يعتبر " نتائج الاختبارات المدرسية خلال مرحلة التعليم الإلزامي أقوى مؤشرات مرحلة الطفولة على سوء العاقبة عند البلوغ" . فتؤكد هذه الدراسة وغيرها أن الأفراد الذين يتخرجون في المدرسة بمستويات منخفضة من التحصيل الدراسي معرّضون بشدة لخطر الاستبعاد الاجتماعي عند البلوغ ، ويرتبط التحصيل الدراسيAchievement ارتباطا قويا بالبطالة وبالدخل في كل بلاد العالم المتقدم, ويمكن القول بوجه عام أن معدّلات البطالة تنخفض بارتفاع مستوى التحصيل الدراسي للعمّال (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 2000) . كما يتأكد أن تحصيل المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب يؤثّر تأثيرا عميقا في المشاركة في سوق العمل والبطالة. وتدل بعض الشواهد على أن هذا الخطر يزداد خصوصا بالنسبة إلى ذوي المهارات الشديدة الضعف في الحساب. ومن حيث القدرة على الالتحاق بسوق العمل فلا تتاح سوى وظيفة واحدة من بين كل خمسين وظيفة لأصحاب المستوى المهاري الأدنى، وتتاح 50 % فقط من الوظائف لأصحاب المستوى المهاري الثاني!، ومعنى هذا أن البالغين ذوي المهارات المنخفضة معرّضون للبطالة بمعدل خمسة أضعاف أصحاب المهارات المتوسطة. ويلاحظ أن صعوبات سوق العمل المرتبطة بضعف المهارات الأساسية تبدأ في الظهور خلال المراحل الأولى من الحياة العملية .وقد كشفت دراسة مواليد الفوج السكاني عام 1970 في بريطانيا أنه في سن الحادية والعشرين يزداد احتمال تعطّل خريجي المدارس الذكور ذوي المهارات الضعيفة وأنهم مروا بتجربة البطالة عددا من الشهور يبلغ ضعف ما تعرض له نظراؤهم ذوو المهارات الأساسية المتوسطة .
ولكنا نجد بحوثا أخرى عن المهارات الأساسية تشير إلى أن مستوى تحصيل الرياضيات يكون حاسم التأثير في احتفاظ المرء بوظيفته في عالم الاقتصاد الحديث ،كما يلاحظ لأن الإناث اللائي تخرجن بمستويات مهارة ضعيفة كنّ أقل تعرضا للبطالة من نظرائهن الذكور، وان كان يميزهن تعديل المسار المهني وتنوعه، والتنقل بين الوظائف، وعمليات التدريب والتعليم، كما أنهنّ يتعرضن للبطالة على فترات متباعدة أو يتجهن إلى الزواج وتكوين أسرة في سن مبكرة. ومن هنا يتضح وجود علاقة بين المؤهلات ،والمشاركة في سوق العمل والدخل .ولهذا نلاحظ ازدياد حاجة الأفراد إلى نيل بعض المؤهلات ،وفي عام 1986 كانت 62% فقط من الوظائف المتاحة تتطلب نوعا من المؤهلات ،وفي عام 1997 ارتفعت النسبة إلى 69% وقد ازداد عبر الزمن إدراك أهمية المؤهلات كعامل في تفسير البطالة . كما يرتبط ضعف المهارات الأساسية بعدّة آثار أخرى تظهر لدى الكبار, في سن السابعة والثلاثين نجد أن ثلث أصحاب المهارات الأساسية الشديدة الضعف لم يستطيعوا تملّك المسكن الذي يقيمون فيه، في مقابل أقل من 10%من الرجال والنساء ذوي المستوى المهاري الجيد. كما أن أعداد كبيرة من أصحاب المهارات الضعيفة لا يدلون بأصواتهم في الانتخابات العامة , فقد تبين أن 32%من الرجال و30% من النساء ذوي مهارات القراءة والكتابة المنخفضة قد عجزوا عن الإدلاء بأصواتهم في بريطانيا عام 1989، فضلا عن هذا ثبت وجود علاقة عكسية بين التحصيل الدراسي وتدهور الصحة العامة مقاسا بمؤشر الوهن. وهذه المؤشرات التي عرضناها آنفا تؤكد الأسباب التي توضح لماذا يتفوق ابناء الطبقات العليا على أبناء الطبقات المتوسطة او الطبقات الأخيرة على الطبقات العاملة حسب ما توصل اليه بورديو. ولذلك نرى أن كارنوي يحمّل سياسات التعليم مسؤولية الإخفاق الدراسي لدى أبناء الطبقات الفقيرة فهو يرى أن سياسات التعليم موجّهة لتعليم فئة محددة.علاوة على أن مشكلة التسرب من المدارس في الدول النامية ناتج عن العائد السلبي لهذا النظام التعليمي، خاصة وان أبناء الطبقات الدنيا هم الأكثر رغبة في ترك المدرسية، حيث تصل نسبة المتسربين منهم إلى 60%في العام الدراسي الثالث ، كما إن نسبة 40 %فقط من أبناء هذه الطبقات هي التي تشعر أو تتمتع بتقدير الذات والاعتماد على النفس .
وبإيجاز إن أبناء الطبقات الأغلبية الفقيرة هم الأكثر فشلا في النظام التعليمي وعدم التمتع بفرص الحياة الاقتصادية والاجتماعية نتيجة إستراتيجية هذا النظام الموجه إلى أبناء الطبقات العليا. وهذا ما يعكس -عموما- العلاقة المتبادلة بين مشكلة التسرب ومشكلة الحراك الاجتماعيSocial Mobility, حيث إن هناك علاقة سلبية بين التعليم واكتساب المهن لأن الحراك يتميز بأنه حراك أفقي لا رأسي بمعنى أن ينتقل أبناء الطبقات الفقيرة للحياة في المدينة بدلا من الريف، والعمل في المصنع بدلا من الأرض دون تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة, نتيجة للدخول المتدنية التي يتحصل عليها هؤلاء الأفراد من مهنهم المتواضعة. وهكذا نرى أن كارنوي بشكل غير مباشر يبين العلاقة الوثيقة بين نوعية التعليم ونوعية المهن وعلاقة كل منهما بالطبقة الاجتماعية كما بينا في إطار توضيحنا علاقة الاستبعاد الاجتماعيSocial Exclusion بنوعية التعليم. و يبقى السؤال مفتوحا أمام الباحثين هل التعليم عامل ترابط ام استبعاد الاجتماعي؟
#أحمد_جميل_حمودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟