لا تزال الأحداث في العراق بعد سقوط النظام واعتقال الدكتاتور السابق صدام حسين ، تتلاحق بسرعة وتتفاعل داخلياً ، وتنعكس على الجوار والمنطقة على شكل ردود أفعال سياسية وتطورات متحركة باتجاه التكيف مع الأوضاع المستجدة ، حيث أقرّت إيران باستخدام اليورانيوم لأغراض عسكرية ، ووفقت مؤخراً على فتح منشآتها النووية أمام لجان التفتيش التابعة لوكالة الطاقة الدولية ، وعلقت برنامجها لتخصيب اليورانيوم ، وذلك في إطار تناغم واضح مع أمريكا بشأن الشيعة ومجاهدي خلق داخل العراق ، واقتدت بها ليبيا طوعاً ، حيث أعلنت تفكيك برنامجها النووي تحت ضغط العزلة التي ظلت تعاني منها ، ولجذب شركات النفط الأمريكية وتطوير حقولها البترولية ، وفك الحصار المفروض عليها وإطالة عمر نظامها ، في حين فتحت فيه كوريا مفاعلاتها أمام وفد أمريكي وجمدت نشاطاتها النووية مقابل وعود بتعويضات مادية . وبنفس الاتجاه ، أعلنت المملكة العربية السعودية بدء عملية إصلاح سياسي من خلال وعودها بإجراء انتخابات محدودة لمجالس استشارية محلية ، وتشديد الخناق على المتشددين الإسلاميين بعد أن أحست بتراجع أهميتها الاستراتيجية إثر أحداث 11 أيلول . أما السودان الذي كان حتى عهد قريب متهماً بإيواء أعضاء من تنظيم القاعدة ، فهو على وشك توقيع اتفاق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب ، الذي سوف يمنح بموجبه حكماً فيدرالياً، على قاعدة تقاسم الثروة والسلطة، مع انفتاحه على خيارات أخرى على أساس حق تقرير المصير بعد ست سنوات ، وذلك بمباركة أمريكية .
ورغم هذه التطورات التي تسجل في خانة حظر أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب واعتماد الأساليب الديمقراطية في الحكم والإدارة ، فلا يزال البعض من الدول المحيطة بالعراق ، تعتمد رهانات خاسرة تقوم على الفوضى وعدم الاستقرار في العراق ، بهدف تأخير استحقاقات التغيير المطلوبة منها . وفي خضم تلك التطورات ، تتوجه الأنظار نحو سوريا التي تمارس ضدها ضغوطات متواصلة بدأت حتى قبل انتهاء الحرب في العراق ، اعتباراً من إيقاف الضخ في أنبوب النفط الذي كان يزودها بنفط عراقي رخيص، مروراً بالعدوان الإسرائيلي على موقع عين الصاحب بضوء أخضر أمريكي ، وانتهاءً بتوقيع قانون محاسبة سوريا وسيادة لبنان . فإذا أضفنا لها تراجع دائرة الأصدقاء وفقدان العديد من الأوراق الإقليمية وتأزم الوضع الداخلي ، يكون بالإمكان فهم حساسية المرحلة الحالية وخطورتها بالنسبة لسوريا ، ويمكن على ضوئها معرفة طبيعة الأجواء المحيطة بزيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى تركيا ، والتي جاءت في إطار محاولة تحسين صورة النظام وفتح القنوات مع الأمريكان من خلال البحث عن دور إقليمي ما في المنطقة وفك العزلة التي يعاني منها ، إضافة إلى مواصلة الجهود لإطلاق مفاوضات السلام ، حيث عرضت تركيا تسهيل الحوار بين سوريا وإسرائيل ، وجاءت الدعوة التي وجهها الرئيس الإسرائيلي إلى الرئيس بشار الأسد لزيارة القدس ، وتصريحات شارون المطالبة ببدء المفاوضات بدون شروط ، وتسلم السفيرة الأمريكية لمهام عملها في دمشق ، وتسرب أنباء حول لقاءات سرية بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين في أوروبا لتعزز تلك الروايات حول أهداف الزيارة .
من جانب آخر ، وفي حين وافق فيه الطرفان السوري والتركي على عدم إثارة موضوع تقاسم مياه الفرات ، وقضية لواء الاسكندرون ، حيث قلل الرئيس بشار الأسد من تأثيرهما على العلاقات السورية التركية ، مؤكداً على إمكانية إيجاد الحلول لها مع الوقت ، فإن موضوع العراق بشكل عام ، والفيدرالية بشكل خاص ، تصدّر جدول المفاوضات التي أبرزت الالتحاق الكامل بالموقف التركي المتشنج حيال الملف العراقي عموماً والموضوع الكردي خصوصاً ، ويبدو ذلك واضحاً في التصريحات السورية و التركية ، حيث أعلن الرئيس بشار الأسد بأن الفيدرالية خط أحمر ، وذلك في إشارة واضحة لاتفاق الجانبين على محاولة تطويق المطاليب الكردية المشروعة في كردستان العراق ، وعلى قطع الطريق أمام أي تطور إيجابي من هناك على الوضع الكردي في كل من تركيا و سوريا وكذلك إيران التي زارها وزير الخارجية التركي مباشرة لاضطلاع مسؤوليها على فحوى المفاوضات السورية التركية ومطالبتها بالتعاون المشترك من أجل الحيلولة دون تمكن أكراد العراق من التمتع بحقوقهم القومية .
ويمكن فهم محاولات تهرب الدول الثلاث من الاستحقاق الديمقراطي الذي يفرضه الوضع الجديد في المنطقة ، ومن الانعكاسات التي يفرضها إقرار الفيدرالية في كردستان العراق ، والتي من شانها وضع القضية الكردية في الجوار الكردي ضمن دائرة الاهتمامات الدولية ، من مقارنة المواقف المتشنجة لهذه الدول الثلاث من تطورات الوضع في العراق ، مع تجاهلها التام لاتفاقية الفيدرالية المتطورة في جنوب السودان ، الذي يفترض أنه بلد إسلامي يهم إيران وتركيا ، وعربي يهمّ سوريا بقدر ما يهمها العراق ، لولا وجود قضية كردية مشتركة بين بلدانها الثلاثة . كما أن إقرار مبدأ الفيدرالية أو عدم إقراره هو شأن عراقي صرف يهمّ أبناء الشعب العراقي وقواه السياسية الفاعلة التي لا تحتاج إلى وصي عليها ، وليس شأن دول الجوار التي يفترض بها أن تسعى جاهدة إلى حل القضايا الأساسية لشعوبها أولاً ، بدءً من توفير الديمقراطية ولقمة العيش لها ، مروراً بالبطالة ومكافحة الفساد المستشري في دوائرها ، وانتهاءً باحترام العهود والمواثيق الدولية التي تحمل تواقيعها ، وغيرها الكثير ... ومن هنا ، فإن هذا الموقف قد خلق استياءً واضحاً بين أوساط الشعب الكردي في سوريا .
وتأتي تلك المواقف الإقليمية المتشنجة مشجعة لامتداداتها داخل العراق ، حيث تحركت لدعم الأطراف الحاملة للفكر الشوفيني الذي زرعه النظام المنهار ، وتروج حالياً لافتراءات مفضوحة ، هدفها تشويه الحقائق التاريخية ، ومنها تفسيرها للتمسك الكردي بـ كركوك بمجرد غناها بالبترول ، علماً بأن المطالبة الكردية بها تعود لما قبل عام 1927م تاريخ اكتشاف النفط ، حيث طالب الوفد الكردي في مؤتمر سيفر عام 1920م برئاسة شريف باشا بإقامة دولة كردية تضم كركوك ، كما ظل الشيخ محمود الحفيد بعد إعلان مملكته عام 1919م يطالب بها ، لكن الإنكليز الذين شموا رائحة النفط منها آنذاك ، حالوا دون ذلك . ويلقى الموقف الكردي الآن بشأن كركوك ، والقاضي بضرورة تصحيح عمليات التعريب الجارية منذ عشرات السنين ، واعتماد إحصاء عام 1957م ، وعودة المهجرين الكرد وكذلك المستوطنين العرب إلى مناطق سكناهم الأصلية ، ومن إجراء استفتاء يحدد التركيب القومي لـ كركوك ومستقبلها ، القبول والمساندة من كل القوى الوطنية داخل العراق .
أما موضوع الفيدرالية الذي لا ترى فيه الأنظمة الإقليمية سوى مشروع للانفصال ، رغم أن تجارب الشعوب والدول التي اعتمدتها كأسلوب حكم ، تؤكد أنها لا تعني سوى تقاسم السلطة وتخفيف المركزية ، مقابل تمتين وحدة الدولة ، فإن أكراد العراق وحركتهم السياسية ، ربطوا تحررهم تاريخياً بديمقراطية العراق ووحدته ، ولذلك ، فإن شعارهم الديمقراطية للعراق والفيدرالية لكردستان ، يجسد ارتباطهم بعراق حر موحد . ويأتي التهويل بإقامة دولة كردية مستقلة في إطار المحاولات الرامية إلى تشويه صورة الأكراد وتأليب العرب والتركمان وغيرهم ، وإضعاف الوحدة الوطنية ، وتكريس حالة الفوضى السائدة في العراق .
في المجال الداخلي السوري ، تراجعت الآمال التي عقدت قبل سنوات قليلة على التجديد ، وتترسخ حالة الركود في مسار الإصلاح الديمقراطي بسبب إصرار السلطة على الفصل القسري بين الأبعاد السياسية والاقتصادية والإدارية للإصلاح المنشود ، والتمسك بمحاولة الإصلاح الإداري بعيداً عن مبدأ فصل السلطات ، وبغياب صحافة حرة تشير إلى مواقع الخلل ، وقضاء مستقل يساعد في مكافحة الفساد . ويتأزم الوضع الداخلي باستمرار بسبب اتساع دائرة الفقر المترافقة مع ارتفاع معدلات النمو السكاني الذي يضيف سنوياً حوالي 200 ألف شخص إلى اليد العاملة ، وتفشي البطالة التي بلغت نسبتها 20% بسبب عجز القطاع العام ، وتعرضه للنهب والتسيب ، وفشل الحكومة في إيجاد فرص عمل تستوعب الأيدي العاملة .
وعلى صعيد آخر ، فإن سوريا بدأت تتقبل اتفاقية الشراكة الأوربية التي تأخر التوقيع عليها لعدم استكمال شروطها ، وذلك بهدف امتصاص الضغوط الأمريكية المتزايدة ، وتقوية الموقع السوري ضمن الترتيبات الجارية في المنطقة ، خاصة في هذه المرحلة التي تهدف فيها تلك الضغوط إلى تحجيم الدور السوري إقليمياً ، والذي لا يمكن تفعيله ، وبالتالي تحصينه إلا من خلال العودة إلى الخيار الداخلي ، والمباشرة بعملية الانفراج الديمقراطي الذي يوفر الشروط الضرورية لإشراك الجميع في بناء المجتمع والدفاع عنه ، لإعطاء الموقف السوري عمقاً وطنياً ومصداقية شعبية ، في حين يتسبب فيه احتكار السلطة من قبل حزب واحد ، وإغلاق فرص العمل السياسي أمام الآخرين إلى انتعاش ظاهرة التطرف بجميع أشكاله ، وارتداد المواطنين إلى انتماءاتهم العشائرية والعائلية والمذهبية وغيرها ، ولذلك ، فإن الحاجة تزداد لمواصلة الجهود واللقاءات الوطنية تمهيداً لعقد مؤتمر وطني عام ، تلتقي فيه كل القوى والفعاليات السياسية للاتفاق على برنامج عمل وطني ، ينظم العلاقة بين السلطة والمجتمع ، ويعيد صياغة الدستور لضمان التمثيل الحقيقي لجميع المواطنين والقوى السياسية في السلطتين التنفيذية والتشريعية ، والاعتراف بالوجود التاريخي للشعب الكردي وضمان حقوقه القومية المشروعة .
أواسط كانون الثاني 2004م
اللجنة السياسية
لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي)