تناقلت الأنباء في الفترة الأخيرة, عن بروز مجموعات مسلحة ومنظمة في العراق, أخذت على عاتقها مهمة تصفية بعض عناصر النظام المنهار من منتسبي الأجهزة الأمنية والحزبية والحكومية السابقة. تضيف الأخبار ان عمليات التصفية هذه تشمل العناصر الأكثر أجراماً ودموية والمشهود لها بالعنف والوحشية في قمعها لمعارضي النظام وفي تعاملها مع أبناء الشعب.
لا نريد هنا ان نتحقق من صحة هذه الأنباء او مدى مصداقية مصادرها ودقة تفصيلاتها, لأننا نتوقع أن عدد الفضائع والجرائم التي حصلت في العراق كثير جداً والمسؤولين عنه كثرة أيضاً, والضحايا أكثر. ولهذا فأن هناك عدد كبير من العراقيين فقدوا أعزاء وأحباب و أهل لهم بطريقة وحشية وظالمة وكان الذنب الوحيد للضحايا هو رفض الظلم والاستكبار. ولسنوات طويلة بقى أهالي الضحايا يحلمون بيوم الخلاص من نظام الطاغية صدام والثأر لاحبابهم. وقد جاء هذا اليوم مصحوباً بغياب كامل للأمن والقانون ومؤسسات الدولة. ترافق ذلك مع بقاء عدد كبير من أزلام النظام السابق وجلاوزته ومجرميه احرار طلقاء بدون حساب أو عقاب. وبالتالي فمن الممكن جداً أن يأخذ أهالي الضحايا الأمر على عاتقهم لتصفية حسابهم مع القتلة والمجرمين.
ونحن هنا نريد أن نطرح جملة من الملاحظات حول هذه الظاهرة الخطيرة مهما كان حجمها صغير أو كبير لآن أسمها فقط "مجموعات مسلحة للتصفية" يستحق الاهتمام والدراسة.
1- حقائق
I- عدد ضحايا النظام المنهار كبير جداً ويعد بمئات الالاف.
II- عدد افراد عوائل الضحايا هائل ولا نبالغ اذا قلنا انه بضعة ملايين
III- عدد المشتركين في الاجرام من قتل، تعذيب، انتهاك اعراض وكل ما شابه من خروقات لحقوق وكرامة الأنسان العراقي، ليس قليل ويصل الى الآلاف أو حتى عشرات الآلاف.
IV- لحد يومنا هذا لم يتعدى عدد المحتجزين ، من أعوان النظام السابق الذين ارتكبوا جرائم بحق الشعب العراقي، بضعة مئات، وهو عدد قليل جدآ اذا ما قورن بعدد الضحايا.
V- الغالبية العظمى من اعوان النظام المنهار ومجرميه لم تتضرر من دخول قوات الاحتلال الى بغداد وسقوط النظام ، بل انسحبت ومعها مبالغ كبيرة من اموال الدولة وكميات هائلة من الاسلحة والذخيرة.
VI- لايزال لحد اليوم عدد غير قليل من وجوه النظام السابق يحتل مناصب رسمية حساسة في مؤسسات الدولة واجهزتها، واصبح وجودهم ظاهر للعيان بعد عودة النشاط لبعض الوزارات والمؤسسات الحكومية.
VII- من جهة أخرى، لاتزال اعداد هائلة من ضحايا النظام وعوائل الشهداء تعاني من الظلم وشغف العيش والبطالة.
VIII- هناك تأخر بتشكيل المحاكم الخاصة التي تأخذ على عاتقها أولاً استلام الشكاوي المقدمة من قبل ضحايا النظام المنهار ضد جلاديهم، ومن ثم اعتقال واحالة المجرمين من أعضاء وأعوان النظام على محاكم علنية وعادلة.
كل الحقائق اعلاه تشكل ارضية خصبة لبروز مجموعات مثل التي تكلمت عنها الأنباء، هدفها حسب ما تعتقد استرداد الحق لاصحابه والقصاص من المجرمين.
2- مخاطر
I. أن أي تشكيل مسلح غير خاضع لسلطة القانون وليس تحت رقابة سلطات منتخبة ومؤسسات مجتمع مدني فاعلة سوف تكون مهمة السيطرة على ممارساته وتوجهاته عملية بالغة الصعوبة، وقد يشكل هذا النوع من التنظيمات خطر على مجمل عملية التحول الديمقراطي حتى ولو كانت نواياه ودوافعه نبيلة.
II. العقوبة التي يلقاها المستهدفين من اعوان النظام المنهار هي الاعدام (التصفية)، وهي اقصى عقوبة يمكن أن يوجهها القانون والمحاكم لآي مجرم، وتخضع عادتاً الى تحقيقات طويلة وتدقيق كبير بالتهم الموجه، وتتطلب موافقة أعلى السلطات القانونية والتنفيذية في البلاد. لآن الخطأ فيها يتسبب في كارثة انسانية لا يمكن تعويضها تتمثل بازهاق روح بشرية بريئة. ومهما كانت دقة القرارات التي تتخذها هذه المجموعات في أختيار وتشخيص أعوان النظام الصدامي المجرم فانه من شبه المستحيل أن لا تخطأ، لآن حتى المحاكم المختصة وفي أكثر البلدان تقدماً تقع في اخطأ من هذا النوع، ومهما كانت نسبة هذه الاخطأ ضئيلة فهي تعني أن هناك ارواح بشرية بريئة قد ازهقت بدون حق، وهذا الوضع يدعونا جميعاً الى ضم صوتنا الى صوت المرجع الديني والعلامة الجليل علي السيستاني الذي دعى الجميع الى عدم اللجوء الى أخذ القصاص بانفسهم بل ترك ذلك للجهات القضائية والقانونية المختصة.
III. هذا العمل العشوائي الغير منظم، قد يتسبب في تلطيخ أيدي بعض العراقيين الشرفاء بدماء اناساً ابرياء نتيجة اخطأ غير مقصودة، ويضعهم ذلك تحت طائلة القانون. والعراق بالوقت الحاضر هو في امس الحاجة الى جهود كل العراقيين المخلصين وخصوصاً اولائك الذين ينحدرون من عوائل وطنية قدمت العديد من الشهداء في سبيل الحرية والعدل، ونحن نعتقد أن الشهداء انفسهم لم يقدموا حياتهم فقط لغرض ان يآتي احد في يوم من الايام وينتقم ويأخذ بالثأر لهم، بل قدموها من اجل اهداف سامية تتمثل في ازاحة النظام الديكتاتوري الغاشم واقامة نظام عادل يتمتع خلاله العراقييون بالحرية، وقد تحقق ذلك اليوم بفضل دمائهم الزكية. فلنكرمهم بتقديم المجرميين الذين عذبوهم وقتلوهم الى محاكم عادلة، ونجنب انفسنا اخطأ وهفوات غير لازمة ومردوداتها بعض الاحيان كارثية.
IV. من جهة اخرى قد يؤدي هذا الطابع العشوائي للتصفية الى ردود فعل معاكسة من عوائل العناصر التي تصفى، ومحاولة بعضها الى الرد بالمثل "وخصوصاً تلك العوائل التي تعتقد أن ابنائها قتلوا ظلماً "، وفي هذه الحالة تنتشر ظاهرة الثأر والآخذ بالثأر المتبادل الى وقت لا يعرف احد نهايته، خصوصاً في ظل التدهور الآمني السائد في العراق حالياً. ويمكن تجنب ذلك من خلال تقديم العناصر المجرمة من النظام المنهار الى محاكم مختصة تقوم بدراسة كل حالة وتصدر قراراتها العادلة وتنفذها و لا يستطيع احد ان يطلب الثأر منها.
V. الخطورة الكبيرة تنجم من ان هذه المجموعات المسلحة ليس لها برنامج محدد ولا وقت محدد لانجاز اعمالها، وقد توسع نشاطها ليشمل فئات اخرى غير الفئات المجرمة المتعاونة مع النظام الغابر، والتجارب التاريخية تشير الى ان هذا النوع من المجموعات يمكنها وبسهولة خلق الذرائع والتهم لغرض تصفية خصومها ومعارضيها. ونتيجة لطبيعة ونشاط هذه المجموعات عادتاً ما يبرز على رأسها العناصر الاكثر تطرفاً وقسوة وبالتالي تجر نشاطات هذه المجموعات الى مسالك خطيرة يغيب فيها تحكيم العقل وتنسى الاهداف الاولية التي شكلت من اجلها.
3- بدائل
I. يجب الاسراع بتشكيل محاكم استثنائية تأخذ على عاتقها مهمة محاكمة الذين ارتكبوا جرائم بحق العراقيين وخرقوا حقوق الانسان من اعوان النظام المنهار واعضاء اجهزته القمعية. على ان تتم عملية اختيار القضاة والحكام من بين خيرة العناصر المتخصصة والكفؤة، و بشفافية تامة.
II. من الضروري ان تجري المحاكمات بشكل علني، لكي يعرف جميع العراقيين حجم الجرائم التي ارتكبت ومن قام بها، وماهي الاحكام التي صدرت بحق المجرمين، ليكون ذلك عبرة لكل من يفكر بأن يقوم بنفس الممارسات والجرائم مستقبلاً.
III. العمل على كشف كل الخروقات والانتهاكات والجرائم التي ارتكبت، وتوثيق وتجميع كل المعلومات المتعلقة بها، وتقديمها الى المحاكم المختصة التي تقوم بدراستها بدقة وتمعن لغرض تطبيق العدالة وكذلك كشف اسماء مرتكبي الجرائم بعد ادانتهم، من جهة اخرى يجب توخي الحذر الشديد قبل اصدار أي احكام نهائية لتجنب ادانة بعض الابرياء بجرائم لم يرتكبوها.
IV. تشكيل منظمات لأبناء الشهداء وذويهم تأخذ على عاتقها مايلي:
1- العمل على أسترداد حقوق الشهداء وتكريمهم وتعويض عوائلهم والتكفل بأراملهم واطفالهم.
2- توثيق تاريخ الشهداء وجمع معلومات عنهم وعن طبيعة نضالهم ومواقفهم البطولية وتشجيع الاجيال االشابة على الاحتذاء بهم.
3- العمل على جعل هذه المنظمة جزء اً حيوياً من المجتمع المدني ومؤسساته، تربي أعضائها على القيم النبيلة التي ضحى ذويهم من أجلها، وتدافع عن الانسان العراقي وتقف بوجه كل خرق لحقوقه التي يضمنها الدستور.
4- تعمل هذه المنظمة على تأهيل اعضائها مهنياً وسياسياً ، لتزود الدولة العراقية بكادر كفوء ومخلص وينحدر من عوائل لها تاريخ نضالي مشرف واثبتت حبها ووفائها للعراق والعراقيين.
V. من البدائل المقترحة هو من الضروري متابعة كل من ارتكب خروقات وتعاون بشكل سافر مع النظام الصدامي الدموي المنهار، ومنع هذه العناصر من اشغال مناصب حساسة في الدولة العراقية، لآن هؤلاء الناس لايمكن الثقة بهم، وأشغالهم لمواقع مهمة يعطيهم فرص أكبر للتخريب واعاقة عملية البناء ويسهل عليهم مهمة تطوير شبكاتهم داخل مؤسسات الدولة التي تعمل على عرقلة نشاطات العناصر المخلصة ومنعها من التطور واشغال مناصب تتناسب مع كفاءتها. من جهة اخرى فأن وجود هذه العناصر التخريبية في مناصب مسؤلية يثير حفيظة المواطنيين المخلصين ويفقدهم الثقة بالنظام الجديد، وقد يدفعهم الى اتخاذ مواقف خاطئة.
VI. أخيراً:
حتى ولو كان عدد المجرمين الذين تعاونوا مع النظام الصدامي هو مليون شخص فان هناك أكثر من 24 مليون عراقي قد عانوا كثيراً من ظلم وهمجية هذا النظام الديكتاتوري، ولهذا فمن واجب كل العراقيين المخلصيين وضع اليد باليد لآجل انهاء تلك الفترة المظلمة من تاريخ العراق ومحاسبة المسؤوليين عنها. والتفرغ لبناء عراق جديد مبني على أسس التسامح والمحبة وبناء دولة القانون لسد الطريق امام كل المجرمين الفاشيين من اعتلاء سدة الحكم مجدداً، عراق تعيش فيه كل قومياته وطوائفه باخوة ومحبة دائمة، عراق مزدهر وقوي.
دكتور راضي فاخر عبدالنبي