الفرد هو الموضوع الأثير لدى صديقي حسين عجيب. ليس لأنه من المدافعين عن المفاهيم البرجوازية، كالفردية، فقد كان في ما مضى ثورياً بروليتارياً من الطراز العنيف، وإنما بسبب معاناته من الكيانات الشمولية ورفضه لها كالمجتمعات العربية والمجتمعات التي تسمّي نفسها بالاشتراكية. هذه الكيانات لها هوية موحَّدة طاغية تطمس الفردية والاختلاف، حسب رأيه وأنا أتبنّاه، حيث يختفي الأفراد، بوصفهم مبادرات، مع غياب الإبداع والرأي الآخر. فرغبةً مني بالدخول في الحوار معه، سأتبنى هذا الموضوع مفهوم الفرد وأدلي برأيي لعله يسهم في مغادرتنا لمواقعنا، أنا وحسين، والخروج معاً إلى فضاء أرحب.
يمرّ الإنسان خلال مسيرته النفسية والمعرفية، التي نسميها حياته منذ ولادته حتى موته، بأربعة أطوار حتى تتحقّق فرديته، عندئذٍ يستحقّ تسمية الفرد بحقٍّ وجدارة. ما عدا ذلك، أي بغياب أية حلقة من هذه السلسلة المتكاملة، يظل الإنسان في مرحلة ما قبل الفرد. بهذا المعنى، فإن تحقّق الفردية شرط أساس لإنسانية الإنسان. أيّ مجتمع، مهما كان نمطه، ثيوقراطياً أم اشتراكياً أم ديمقراطياً، ما لم يحقّق فيه الأفراد فرديتهم هذه فهو مجتمع لا إنساني بالضرورة. فيما يلي، أحاول عرض مسيرة الإنسان نحو تحقيق فرديته طوراً بعد طور:
1- طور الحرّية الممنوحة:
هذا الطور هو مرحلة الإنسان ما قبل التكوّن كجنين. إنه طور التساؤل الميتافيزيقي حول ما إذا كان هذا الإنسان مسيَّراً أم مخيَّراً، حراً أم مقيَّداً بالمعنى الوجودي للكلمة. يقرّ الإسلام، نصّاً وفقهاً، بأن الإنسان مخيَّر وحرّ منذ أن نفخ الله روحه فيه وهو لم يزل بعد طيناً، وذلك بغضّ النظر عن وجوب اختياره، فيما بعد، الصراط المستقيم حتى يتجنب العقاب في يوم القيامة. كذلك باقي المذاهب الفكرية عبر التاريخ، المؤمنة منها والملحدة، تُجمع على أن حقّ الإنسان في الحرية يولد معه، وهي قدَره، ولا قوة، لا في السماء ولا على الأرض، تستطيع نكران هذا القدَر وسلب الإنسان حقّه هذا. هذا هو معنى قول الخليفة عمر بن الخطاب: "كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، وقول جان بول سارتر: "الإنسان محكومٌ عليه بالحرية" في معرض حديثه عن قدَر البشر تحت سماء خالية من الله. هكذا تصبح الحرية منحةً ميتافيزيقية للإنسان، قبل أن يرى النور، وحقّاً من حقوقه الفردية شرّعه مجمع الآلهة أو فطرته الأولى وقد وهبتْه إياها الطبيعة. فلا فرق بين المعنيَينِ. إذن، يأتي الإنسان إلى الحياة ومعه حصانته من كل أشكال القيد، ألا وهي الحرية.
2- طور القيد المفروض:
هذه المرحلة تمتدّ من الجنين حتى سنّ ال18، سنّ الرشد، حسب معظم الدساتير الحديثة في العالم. لا أنوي هنا مناقشة ما إذا كانت سنّ ال 18 هي فعلاً سنّ الرشد أم لا للإنسان، فهذه مسألة لا يمكنني أن أبتّ فيها بمفردي إذ تحتاج إلى إجماع الرأي العام ولا يتمّ قبول اجتهادي الشخصي إلا على المستوى الأدبي. هكذا أضطر للإقرار بهذه السنّ، احتراماً للرأي العام، على أساس أنها سنّ حيازة الإنسان لعقله "الراشد" حتى يغدو، بالفعل، صاحب قرار فيما يتعلّق بمصيره الشخصي. هكذا تصبح حرية الإنسان الممنوحة، أو الميتافيزيقية، معلَّقة في هذا الطور، ويغدو مقيَّداً من قبل المجتمع بمختلف تجلياته ابتداءً من الأسرة ومروراً بالمؤسسات التعليمية وانتهاءً بالهويّات التي تنتمي إليها فئات شعبه. فأنا، أحمد جان عثمان، هذا الاسم ليس لي فقد فرضه عليّ والداي كما فرضا عليّ لغتهم وأخلاقهم ونمط تفكيرهم بالإضافة إلى الأمراض، الجسدية والنفسية والثقافية، التي أورثاني إياها. ومنذ اليوم الأول من حياتي المدرسية أوقفوني بين الصفوف مع أمثالي أؤدي التحية للعلم وأرفع عقيرتي بالنشيد، ثم عرفت فيما بعد أنهما علم ونشيد يخصّان وطني. ثم، عندما قرروا بأن عقلي أصبح راشداً، وضعوا في يدي جواز سفر، ويا للصدفة، لم يكن غير جواز سفرٍ صينياً. وليس "معقولا" بالطبع أن يكون غير ذلك، أميركياً مثلاً أو أوغندياً. هكذا قيّدوني بالجنسية (الصين)، والقومية (الأويغور)، والديانة (الإسلام)، والوظيفة (طالب جامعي بكلية الآداب، أو الطب لا فرق، ما دام ما أدرسه هو مناهجهم وعلومهم هم!). هكذا أغدو، وأنا "راشد"، ألتزم بأخلاقهم، وأفكّر على طريقتهم، وأتعصّب لمعتقَدهم، أؤدي خدمةً لِعلَمهم الوطني، وأخوض حربهم مع الغرباء إن لم تكن بين بعضهم البعض، وأستشهد في سبيل إعلاء كلمة الحقّ، سواء كان هذا الحق هو الله أو الوطن أو الأيديولوجيا، فأُكرَّم على الأرض، حيث يُشيَّد لي نصبٌ يتوافد إليه من بقوا أحياء، وأُكرَّم أيضاً في السماء، حيث أستمتع بِنِعم الجنة من خمر وحوريات. لهذا السبب، ربما، قال الصديق حسين عجيب في مقاله: "لو كنتُ أستطيع تبديل الأوطان كالأحذية". باختصار، أعتبر هذا الطور طور مصادرة الجماعة لحرية الفرد الممنوحة من قبل الآلهة أو الطبيعة، مصادرة هذه الحصانة التي أجرؤ على تسميتها مقدَّسة. إنه طور توريث الفرد أمراضاً ليست من صنع يديه كالعاهة، الجسدية والنفسية، كالفكر والهوية. إني الآن، بوصفي راشداً، أتّهم العالم بما آلَ إليه أمري.
3- طور الحرية المستعادة:
في هذا الطور، يبدأ الإنسان، أو قُل الراشد، بمراجعة شاملة لطورَيه السابقَين، ما له وما عليه. يقوم بأمرين في الوقت نفسه، أمرين في غاية الأهمية بالنسبة إليه: التذكّر والنسيان. تعود إليه الذاكرة فيسترجع في فكره قدَره الذي صنعته الآلهة، أو حقّه الفطْريّ الذي تنصّ عليه الطبيعة. فجأةً، تشرق في داخله شمس الحرية، التي فقدها طوال هذه السنين من عمره الممتدّة من بداية تشكّلِ الجنين حتى هذه اللحظة. فيكتشف في وضح الحرية أن ما اعتقد بأنه اكتسبه من ثقافة وفكر وهويّة ليس سوى أطيافٍ وقد تلاشت الآن. هذا هو فعل النسيان الذي يعقب عملية التذكّر. كثير من البشر لا تصيبهم هذه اللحظة الحاسمة فيظلّون، برأيي، غير راشدين حتى نهاية حياتهم. إن المجتمع، الذي يتشكّل من أكثرية هؤلاء البشر، أستطيع تسميته بالمجتمع المنغلق على ذاته، حيث يسوده الجهل والتعصّب، ولا يحلّ مشاكله إلا بالعنف. فهو مجتمع لم يبلغ، بعد، طور الرشد. عندما أستعيد حريتي، الممنوحة لي قبل أن أكون أنا أنا، أشعر بقوة روحية تدفعني أن أشجب أَنَاي هذه، التي هي مجرد وعاء امتلأ بما هو لهم من ثقافة وفكر وهويّة وذلك قبل أن أعي ذاتي، أي قبل أن أبلغ سنّ الرشد. إن ذاتي، وها أصبحت الآن أضيف ضمير المتكلم إلى كلمة "ذات"، إن ذاتي هذه ما هي إلا الحرية الممنوحة لي قبل ولادتي، والتي استعدتُها الآن. تُغبطني هذه الذات، ذاتي أنا وحدي، لأنها غدتْ فارغة من تركة الآخرين، وفي الوقت نفسه، تُقلقني هذه الذات، ذاتي أنا وحدي، لأنها فارغة. غبطتي تجعلني أترك الماضي ورائي وأمضي قدماً نحو المستقبل المجهول، في حين أن قلقي يضطرني ألتفت إلى الوراء علّني أجد ما يملأ ذاتي الفارغة، وبمحض إرادتي، من بين تركة الآخرين أو أنخرط في الحوار مع أمثالي، هذا الحوار بوصفه مصيري. إن الراشدين، الذين يغتبطون بذواتهم الفارغة ولا يَقلقون، هم أشباه الفرد إذ تحرّروا، فحسب، من القيد المفروض عليهم، ولا يعنيهم، من ثمّ، أن ينخرطوا في الحوار ويشتركوا مع الآخرين مشروع المصير.
4- طور القيد الإرادي:
هو طور الحوار. إذ لا تركة تشدّ الفرد نحو الماضي كي يتعصّب لانتمائه ولا هو يركن إلى الحلّ اللغويّ (إذا ما استعرنا تعبير حسين) ليواجه به ما يستجدّ من مسائل الثقافة والفكر والهويّة وكأنها مسائل يمكن تخطّيها بما يسمّى بالحل الرياضيّ التافه. اثنان لا يؤمنان بجدوى الحوار: الأول هو الإنسان غير الراشد، إذ يتوهّم حيازةَ الحقيقة. والثاني هو شُبْه الفرد، الذي لا تعنيه الحقيقة قطّ. الأول لم يتحرّر بعد من القيد المفروض عليه، وأما الثاني فهو لا ينوي التقيّد مرةً أخرى. إن المنخرطين في الحوار هم وحْدَهم الذين حطّموا القيود المفروضة عليهم واستعادوا حريتهم و... يفكّرون بمصير مشترك يتقيّدون به، من جديد، وبمحض إرادتهم، علّه يمنحهم ثقافةً جديدة، وفكراً جديداً، وهويةً جديدة أكثر انفتاحاً وتحقيقاً لفرديتهم. هذه هي مسؤولية من يهتمّون بالشأن العام.
إن المجتمع، الذي يتشكّل من هؤلاء الأفراد، وقد أكملوا الأطوار الأربعة، هو وحْدَه مجتمع الحوار، المجتمع المنفتح على الآخر، على المختلف، حيث الهويّة لا تني تحقّق فردية الإنسان بوصفه إبداعاً ومبادرة.
أحمد جان عثمان، شاعر صيني يكتب بالعربية، مقيم في سوريا.