فيما تعصف تعقيدات ومخاطر متنوعة في الواقع العراقي القائم داخلياً وخارجياً، تسببت ـ برأي الكثيرين ـ بعض الفصائل والشخصيات الأسلامية والوطنية برفضها للحل الفدرالي للقضية الكردية بعد ان وافقت عليه في السابق، الى انشغال العراقيين جميعاً عرباً وكرداً واقليات في مناقشات اتخذت طابع الحدة في عدد من المجالات بل وطابع العنف الذي ادى الى تشديد السيطرة العسكرية لقوات الأحتلال في مناطق الأختلاف .
وبينما لايزال الصراع حول الفدرالية مستعراً في طول البلاد وعرضها، اضافة لدول الجوار حتى البعيدة منها! محرّكاً اطرافه وخاصة الكردستانية منها صاحبة القضية، الى تجاوز نواقصها وثغراتها، موضحة ومشددة على الفدرالية كآلية لتعزيز الدولة الديمقراطية البرلمانية الموحدة . . تفاجأ الجميع بصدور قرار 137 لمجلس الحكم، لايتفق مع الوجهة الديمقراطية الليبرالية، يرمي الى الغاء قانون الأحوال الشخصية الذي شرّعته ثورة 14 تموز انتصاراً للمرأة وبالتالي للأسرة العراقية .
ورغم انه لم يتم العمل به واوقف من قبل الحاكم المدني بريمر! الاّ انه شكّل مفاجأة ذات ابعاد متنوعة، كونه جاء باسلوب وفي ظرف لامعنى فيه الاّ وضع المزيد من العقبات امام فرص استقرار الأوضاع على اساس التنوع وقبول الآخر، وكونه اتخذ في غفلة لاتتناسب مع حجم قضية كقضية المرأة التي تشكّل اكثر من نصف المجتمع في عراق اليوم والجزء الأكثر تضرراً من سنوات الأرهاب والحرب والعنف، والذي يحتاج المزيد من الرعاية والشفافية والدعم . ويثير تساؤلات اخرى من قبل هل كان محاولة لجس النبض مثلاً والقاء ضوء كاشف على مجلس الحكم ؟! وهل كان صفقة سياسية رغم ما يقال من عدم التدخل بالسياسة ؟!
وقد حار العديد في كون ان القرار اجمعت عليه القوى الأسلامية كلها كما يبدو، متنوريها ومتشدديها، حيث لم ينتقده احد منها، وبشكل شبيه بما يجري في الموقف من الفدرالية الكردستانية مؤخراً وان بلهجات متنوعة، اضافة الى الأصرار على الأسراع باجراء الأنتخابات التي ينشدها اصلاً كل الطيبين، دون الألتفات الى الآراء المخلصة ( بعيداً عن الأخرى التي لاتريد اجراء الأنتخابات اصلاً )، التي تطرح ضرورة انجاز التمهيدات اللازمة لأنجاحها من :
اجازة احزاب قد يريد (المتحمسون) للأنتخابات السريعة القفز فوقها، وتهلل لها ادارة الرئيس بوش، واضعة اسس تشكيل مجلس الحكم على اساس الطوائف ومفهومها هي للـ(المجتمع المدني)، الأمر الذي سيشكّل خطورة حقيقية في امكان التمهيد لدكتاتورية جديدة لا احزاب فيها سوى حزب الحكومة، استمراراً لآلية حكم الدكتاتورية المنهارة لأنها اسهل ! شاء (المتحمسون) ام ابوا، الأمر الذي سيطول ضرره حتى الأحزاب الكردستانية التي حكمت وفق الأصول المدنية لمدة اثنتي عشرة سنة، الأمر الذي يؤكد ان الديمقراطية لاتبنى على الحماس فقط مهما صفت النيّات .
اضافة الى موقف واضح من الفدرالية الديمقراطية التي اقرها البرلمان الكردستاني المنتخب، وتثبيت مساواة المواطنين الكاملة بغض النظر عن القومية والجنس والدين والمعتقد الفكري والسياسي. اضافة الى قانون انتخابات واحصاء وحالة امنية معقولة وحاجة ذلك الى وقت ضروري معقول . . الأمر الذي قد يفسّر الدعوة للأسراع باجرائها وسط صخب شعار " كل السلطة للحوزة " الوحيد الجانب بكونه محاولة من القوى الأسلامية للأنفراد بتقرير مصير البلاد وفق منظورها وحدها، بعيداً عن قوى الطيف العراقي بمجموعها وخروجاً على اتفاقها معها، موظفة استمرار انعدام الأمان والبطالة وعدم الأستقرار وانعدام الشفافية وتوهان الجموع وتوسّلها للعلي القدير في ظرف احتلال وفراغ سياسي .
من ناحية أخرى فان ترحيل مشاكل المرأة والأسرة وفق القرار 137 من المحاكم الشرعية للدولة العراقية، الى المذاهب والطوائف يشكّل تثبيتاً وتشجيعاً جديداً لاداع له للطائفية المقيتة في مجتمعنا العراقي، وتمزيقاً اكثر يهدد البلاد بمخاطر الأنقسام، الذي تدفع له اكثر من دولة اقليمية وقوى كبرى بوعي او بدونه، بتركيزها على مصالحها وسلامتها هي فقط، دون الألتفات الى حجم كارثة ومأساة الشعب العراقي بانواع طيفه القومي والديني والسياسي، في ظروف البلاد الراهنة .
ان الخروج من الواقع القائم بتقدير الكثيرين لايمكن ان يتم بضربة واحدة، بانتخابات كيفما كانت، لأن الأنتخابات جزء من آلية اجتماعية سياسية اقتصادية سايكولوجية متكاملة، يراد الخطو نحو عتبتها على الأقل. انه تجاهل لما خلّفته الدكتاتورية من سموم ومن واقع مشوّه يزداد تشوّهاً بالأحتلال والبطالة وانعدام الأمان . . ان تصوّر بعض الأخوان من القوى الأسلامية بأن بامكانهم الفوز الآن، لايعني ان القوى الأسلامية لوحدها ـ اوغيرها لوحدها ـ ان استطاعت الفوز فعلاً في عدد من المناطق، ستكون قادرة على حل مشاكل وازمات البلاد لوحدها، او انها قادرة على الحفاظ على فوز دائم في ظل الحاجات والتداخل والتشابك والتعقيدات والتنوّع الداخلي والأقليمي والدولي، على ارضية اهداف الأحتلال و(حقوقه) لما اريق ويراق من دماء جنوده .
ان تمسك الناس بالدين للعوامل الأنسانية المعروفة، ثم زيادته مقارنة بالعقود السابقة، بسبب النوائب والخطوب والفواجع التي ابتلتها بها الدكتاتورية واليأس من ابواب الأمل ، لايعني انها متمسكة بالأسلام السياسي واحزابه كيفما كانت . . انها مستعدة للتمسك بكل قوة او قوى تستطيع ان تساعدها على توفير لقمة العيش والأمان والكرامة، التي تشكّل اساس المعتقد وكما قال الأمام علي امام المتقّين " وذقت المرارات كلها فلم اجد امرّ من الحاجة الى الناس" و" لو كان الفقر رجلاً لقتلته" .
ويحذّر المراقبون انه بالرغم من الجهود المخلصة لسماحة آية الله السيستاني بانغماره المتأخر بالسياسة بعد ان نأى بالحوزة عنها، واصراره على سماع صوت الشعب ورأيه، وعلى ضرورة زجّ الأمم المتحدة في اقرار آلية وشكل الحكم والأنتخابات، فان هناك من يتستّر بعبائة سماحته وصولاً لأهداف قد تكون ضيقة . . ويذكّرون بما لعبه السياسيون المحيطون في حرف مسيرة الثورة الأيرانية التحررية وقائدها آية الله الخميني الذي دعى بداية الى احترام وانصاف المرأة التي شوهها النظام الشاهنشاهي البغيض، حين ادّت المكائد السياسية والتطرف والجمود على الشريعة الى اهدار حقوق المرأة ودفعها الى ان تشكّل اول تظاهرة نددت بالحكومة الأسلامية! حين طافت عشرات آلاف النساء الأيرانيات شوارع طهران من كل القوميات والأديان والمذاهب، بالعباءة وبغطاء الرأس وبدونهما، بالجينز وبالملابس القومية، بقيادة المرحوم آية الله الطالقاني كتفاً لكتف مع كريمتيه(2،1) حين شكّل سماحته رمز التحرر والتفتح الأسلامي آنذاك في ايران، مع فارق الأوضاع والأزمان .
لقد شكّلت مصادرة حقوق المرأة في ايران الأسلامية، شارة البدء للأجهاز على الديمقراطية الوليدة وعلى حقوق القوميات غير الفارسية وعلى آمال الكادحين، بعد ان اطلقتها الثورة الأيرانية التي قامت على اكتاف وتضحيات كادحي وكادحات اليد والفكر عام 1979 وحطّمت عرش الطاووس الشاهنشاهي، الأمر الذي يوضح مدى قلق الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية على اختلاف الوان الطيف العراقي من صدور قرار 137 لمجلس الحكم الأنتقالي رغم وضعه على الرف الآن .
وفي الوقت الذي تلاقي فيه دعوة السيد السيستاني استجابة بين الناس التي تبحث عن الخلاص بين سحب اليأس والفراغ السياسي وانواع التصريحات المتضاربة، يتطلّب من شخص سماحته، بعد توضيحات بعض المقلدين المهدّئة، الرد بالملموس حول موقفه من ولاية الفقيه وهل تتعارض فعلاً مع فقه سماحته والى اي مدى؟ وتبيان مدى صلاحيتها بتقديره للعراق بعد ان افتى مرشد الجمهورية الأسلامية السيد الخامنئي بعدم صلاحيتها للعراق مع فجر انهيار دكتاتورية صدام، والموقف من الدستور العلماني والبدائل، ومعنى مفهوم الدولة الأسلامية المعتدلة في ظرف يطرح فيه بعض ممثلي الأدارة الأميركية فكرة الدولة الأسلامية (المعتدلة) في العراق.
ان القوى والشخصيات الأسلامية المتنورة المعروفة بدعوتها لـ ( الدين، التسامح والمساواة والأخوّة والعدل) مطالبة بتوضيح وتثبيت مواقفها الملموسة في مسائل غاية بالحساسية تثار في وقت واحد، الا وهي قضية الديمقراطية والتعددية ومؤسساتها المدنية التي اجتهد فيها الشهيد محمد باقر الحكيم، والأكثر التهاباً الآن، قضية الفدرالية البرلمانية الديمقراطية وقضية المرأة . (يتبع)
20 / 1 / 2004 ، مهند البراك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) آية الله الطالقاني ابرز زعيم اسلامي في الداخل الأيراني في النضال ضد حكم الشاه المقبور، عذب وسجن سنوات طويلة وشكّل بعيد انتصار الثورة الأيرانية، الشخصية البارزة الثانية بعد آية الله الخميني
في الحكم .
(2) كانت احدى كريمتيه في التظاهرة، من الوجوه اليسارية ومن ابرز اعلام النضال ضد سلطة الشاه المقبور، من اجل التحرر والديمقراطية وقضية المرأة، ومن ضحايا تعذيب سلطته التي عانت التعويق جراّئه، الاّ انه لم يمنعها من المشاركة مستندة الى ذراع ابيها.