كثُر الحديث عن الشورى والديمقراطية، وكثُر الخلط بين الشورى والديمقراطية. فالاسلاميون وعلى رأسهم جماعة الاخوان المسلمين لا يعترفون بالديمقراطية، ويصرون على الشورى، فلماذا؟
والعلمانيون يرفضون الشورى، ويصرون على الديمقراطية، فلماذا؟
وهل كانت الشورى نظاماً سياسياً اسلامياً له قواعده وأحكامه، أم هي مجرد تجربة لم تدم أكثر من ثلاثين عاماً من حكم الخلفاء الراشدين كانت فيه الشورى بدائية لأهل العقد والحل؛ أي لعلماء الدين والصحابة الذين كانوا ينوبون عن باقي أفراد الأمة، حيث لم يكن هنا تصويت للشعب، ولا انتخابات شعبية، بحيث يُعبّر كل فرد عن رأيه؟
وما هو الفرق بين الشورى والديمقراطية؟
لكي تتضح الفروقات بين الشورى التي كانت سائدة منذ أكثر من 1500 سنة ولمدة قصيرة جداً من عمر الزمن كما قلنا، وبين النظام السياسي الديمقراطي، نذكر النقاط التالية للتفريق بين الشورى والديمقراطية، حتى يفهم الجميع، لماذا يرفض الإسلاميون الديمقراطية، ولماذا يرفض العلمانيون الشورى؟
***
الفرق بين الشورى والديمقراطية:
1- مفهوم الشورى بدايةً غير مؤسَس نظرياً، ولا تأصيل له في تاريخ وتجربـة الحكم الإسلامي. ولا يمكن وصفه بالنظام الاجتماعي الشامل" كما يقول عزيز العظمة، وهو من ضمن آليات الممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي، ومرتبط باجتهادات الخلفاء والملوك والسلاطين والولاة، دون الانتظام في رؤية كاملة و"دون الانتقال من مستوى التقنية السياسيـة الجزئية إلى مستوى المؤسسة السياسية الراسخـــة في الواقع، كما يقول كمال عبد اللطيف.
في حين أن مفهـوم الديمقراطيـة مفهـوم مـؤسَس نظريـاً، ومؤصَّل، وله تاريـخ وتجربــة ممتـدة في الحضـارة الغربيـة منذ عهـد الإغريـق إلى اليوم. ويعتـبر مفهـوم الديمقراطيـة من أكثر المحـاور السياسيـة أهميـة في الفكـر الغـربي السياسـي منذ قـرون طـويلـة. واستطاع كبـار المفكـرين السياسيين أن يطـوروا هذا المفهوم تطويـراً علمياً متقدمـاً، انتهى بالغربيـين إلى ما هم فيه الآن.
2- السلطة في النظام الشوري للسلطان، في حين أن السلطة في النظام الديمقراطي للأمة.
3- السيـادة في النظام الشوري لله. والله هو المشرِّع الأعلى في الدولـة، وشريعته واجبة التحقيق. والحاكم هو الله وليس الإنسان، ولا حكم قبل ورود الشرع. وهو مفهوم يُسلِّم بتعالي القانون الإلهي ونسبية الإرادة البشرية. أما في النظام الديمقراطي فالسيادة للشعب. والأمة مصدر السلطات. والحاكم هو العقل والإنسان الذي يضع لنفسه القوانين الملائمة. وهو قانون ومفهوم يُسلِّم بتعالي الإرادة البشرية ولا مجال لنسبية القانون الإلهي فيه.
4- حكم الأغلبية ليس معياراً للحق والصواب في النظام الشوري. بينما حكم الأغلبية في النظام الديمقراطي هو معيـار الصواب والحق.
5- الشورى المُطبَّقة نظام رأسمالي. وكذلك الديمقراطية نظام رأسمالي.
6- الشورى مصطلح إسلامي، مستمد من دستور، موجه لحمايـة المغفلين قبل سواهم، كما قال الصادق النيهوم. أما الديمقراطيـة فهي مصطلح أوروبي، مستمـد من دستور رأسمالي لا يحمي المغفلين.
7- لا يفصل النظام الشوري بين الدين والدولة، ولا يمنع رجال الدين من التدخل في السياسة. بينما يفصل النظام الديمقراطي بين الدين والدولة، ويمنع الدين ورجاله من التدخل في السياسة.
8- الأنظمة والقوانين والقواعد ثابتة في النظام الشوري. فلا تغيير ولا تبديل في أحكام الله، مهما اختلفت وتطورت الحياة. والدولة مقيدة بها، وعليها أن تحكم بمقتضاها. بينما في النظام الديمقراطي، تكون الأنظمة والقوانين متحوّلة، وتتغير مع تغير الحياة والاحتياجات ومستويات الوعي والثقافة. والدولة لا تتقيد بأي نظام أبدي مطلق.
9- تُطبَّق الشورى في دولــة تُحـرِّم قيام الأحـزاب السياسيــة، وتعتبر حزب الله هو الحزب الوحيـد المشروع. في حين تُطبَّق الديمقراطية في دولة تفصـل الدين عن الدولة، وتتخذ لنفسهـا قوانين وشرائع من صُنع المفكرين والدارسين. وهي تخرج من فطرة الشعوب كما يخرج النبات من الأرض.
10- تمنع الدولة الإسلامية ذات النظام الشوري من قيام جبهة للمعارضة، لأنه لا تحالف في الإسلام. وأن المسلمين جميعاً ينضمون في عقد واحد هو عقد الإسلام.
تُطبَّق الديمقراطية في دولة تؤمن بتعدد الأحزاب السياسية، وتعتبر تعدد الأحزاب دلالة صحية على نقاء الحياة السياسية، وتعدد الآراء.
11- الشورى لا تتم بلقاء ممثلين عن الناس، بل لقاء الناس أنفسهم، لأن الإسلام لا يعترف بالنيابة، ولا يعترف بسلطة الحزب، مما يعني في لغة التطبيق أن تخضع الإدارة مباشرة لسلطة الأغلبية، وتُعاد صياغة القوانين بلغة الجماعة. تسمح الدولة الديمقراطية بقيام المعارضة، وتعتبرها عين الرقابة على أداء الحكومات والإدارات. وكلما كانت المعارضة عاليـة المستوى العلمي والثقافي استفادت الدولة من انتقاداتها.
12- تتناقض دولة الشورى مع نفسها. ففي الوقت الذي تُحرِّم فيه قيام المعارضة وتحريم الأحزاب تعود لتقول بقيام الأحزاب، وتستشهد بالآية (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) (سورة هود، الآية 118). في حين أن الديمقراطيـة تتم بلقـاء ممثلين عن الناس، فالناس أنفسهـم لا وقت لديهم للقاء. ورغم هذا فالإدارة في الدول الديمقراطيـة الحقَّـة تخضع لسلطة الأغلبية المُنتخبة بالاقتراع الحر النـزيه.
13- تتم إقامة مجلس الشورى - والذي هو مستحب وليس مُلزماً للحاكم في رأي أغلبية فقهاء السُنَّة - منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى الآن بالتعيين من قِبَل السلطان للمؤيدين الطائعين المبارِكين كما كان يفعل السلف، وليس بالانتخاب الحر المباشر من قِبَل الجمهور. وقد أصبحت هذه المسألة خلافية بين رجال الدين في العصر الحديث. فمنهم من يرى وجوب اختيار أعضاء مجلس الشورى عن طريق الانتخـاب الحر المباشر، ومنهم من يرى وجوب تعيينهم من قبل السلطان، ومنهم من يمزج بين الاختيارين.
لا تتناقض دولة الديمقراطية مع نفسها. فمن المبادئ السياسية التي لا يختلف عليها اثنان أن روح الديمقراطية هي قيام الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة. وأن الدولة الحرة هي دولة الأحزاب الحرة.
14 - تتمسك الشورى بحرفية الآلية البدائية العفويـة التي لا تتعدى النصيحة والاستشارة والقـول الحَسن والتي درجت عليها في العهد الراشدي القصير، ولا تغـيرها حسب ما يُستجد في الحياة السياسيـة كل يوم من تطورات، وتغيرات، ومتطلبات، ومستلزمات. بينما تتم إقامـة المجالس النيابيـة الديمقراطيـة على أسـاس الانتخـاب المبـاشر الحر من الشعـب، ولا تعيين فيهـا من قِبَل السلطان إلا في الدول ذات القشـرة الديمقراطية الرقيقة المُزيَّفـة حيث يتم تعيين أعضـاء مجلس الشيـوخ (الأعيان) من قِبَل السلطـان ومن المؤيـديـن، الطـائعـين، المبارِكـين أبداً. أما في البلدان الديمقراطيــة العريقــة فلا تعيين يتم وإنمـا يـأتي مجلس النـواب ومجلس الشيـوخ بالانتخـاب الحر النـزيه المباشر. كذلك فإن الديمقراطية لا تتمسك بمنهاج معين، بل هي مرنة أشد المرونة، وتُطوِّر وتُعدِّل من قوانينها من حين لآخر بما يتماشى واحتياجات الحياة السياسية وما يستجِدُ لها وما يتغير فيها. ولا تقف عند حد النصيحة بل إقرار الأنظمة، وإجبار السلطة على تنفيذها والرقابة على التنفيذ السليم.
15- تتغير مفاهيم الشورى من عهد إلى آخر ومن فقيه إلى فقيه، بحسب نوعية السلاطين، وبحسب طبقة الفقهاء ونوعيتهم وتقواهم. في حين تتغير مفاهيم الديمقراطية من عهد إلى آخر بحسب تغير الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتطورها ومتطلباتها ومستلزماتها.
16- يقترن النظام الشوري دائماً بالسلطة السياسية الوراثية. فكما أنه لا انتخاب في مجلس الشورى، فكذلك لا انتخاب في رأس السلطة التنفيذية. أما الديمقراطية فتقترن دائماً بالسلطة السياسية التداولية. فكما يتم انتخاب رأس الدولة لمدة محدودة، يتم كذلك انتخاب الهيئات التشريعية.
17- مجتمــع الشـورى الإسلامـي يرفــض الاستبـداد المُطـلـق الممنوع شرعاً. أما الاستبـداد المُقيَّــد فهـو غير ممنـوع في هـذا المجتـمع، وهـو غير ممنوع في الشـرع والعقل كما يقول أصحابها. في حين أن مجتمع الديمقراطية الحقَّة يرفض كافة أنواع الاستبداد المُطلقة والمُقيَّدة. بل إن الديمقراطية الحقَّة ضد الطغيان وتنادي بالعدالة على كافة مستويات الحياة. وأن الديمقراطية والاستبداد لا يجتمعان.
18- الشورى تُمارس دائماً في سياق حكم ديني. والديمقراطية تُمارس غالباً في سياق حكم لا ديني.
19- الشورى ليست ممارسة سياسية معزولة، وإنما هي نظام حياة كامل في الأسرة والمجتمع والمعاملات والعلم والسياسة، كما يقول أصحابها. الديمقراطيـة ليست ممارسة سياسية فقط، وإنما هي أيضاً نظام حياة كامـل تبدأ من البيت وتنتهي تحت قبة البرلمان.
20- وأخيراً فالشورى لا تنفصل عن الدين ومن ثم يظل نظامها مؤسَسَاً على رعايـة المسؤولية أمام الله الذي يراقب النيات والأعمال والأسرار والظواهر. أما الديمقراطية فهي نظام ينطوي على طلاقة الهـوى والشهـوات السياسيــة من قيــود الأخـلاق، كما يقول أعداؤها من المفكرين الإسلاميين.
***
ومن المعروف أن الفقهاء لم يتفقـوا على حكم موحَّد للشورى، وانقسمـوا إلى فريقين: فريق يرى الندب (الاستحباب) وفريق يرى الوجـوب. وكـان أقوى هذين الفريقين هو فريق الندب الـذي يرى أن الشورى ليست من المبادئ التي تُلزم الحكام، ولكنها مُستحبـة. فإذا قام بها الحاكم استحق الثواب في الآخرة والثناء في الدنيا، وإذا لم يقم بها وتركها فلا حرج عليه في ذلك.
وقال هؤلاء انه لا يوجد في القرآن نص صريح على وجـوب الشورى، وأن قوله تعالى (وشاورهم في الأمر) (سورة آل عمران، أية 159) نزلـت في أبي بكر وعمر بن الخطاب فقط. ويرى معظم المفسرين أن هذه الآية ليست من النوع الواجـب اللازم ولكنها من المُستحب الحسن، وذلك لأن النبي المؤيـد بالوحي من قبل الله ليس بحاجة إلى الشورى حيث أغناه الله بتسديـد خطاه وتوفيقه للصواب. ويفسر المفسرون سبب نزول هـذه الآية بأنها للاستحباب وتطييب القلوب عن طريق إظهار التقدير لآرائهم واحترامهم.
وقال ابن كثير:
" إن الرسول كان يشاور أصحابه في الأمر تطييباً لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه".
*مفكر أردني.