لقد دخلت الديمقراطية في بنية الوعي العام، في جميع الدول العربية تقريباً، منذ بداية ما اصطلح عليه بعصر النهضة العربية تحت مسميات مختلفة، واكتسبت زخما بعد الحرب العالمية الأولى، لتصبح مألوفة تحوز على التقبل والمطالبة لدى مختلف الفئات الاجتماعية كل من موقعه الطبقي وفي إطار منظومته الأيديولوجية وعلى طريقته .
وكما بحثنا في الثقافة العربية الإسلامية وكيف أنها حاولت استيعاب الديمقراطية وبيئتها المفهومية من خلال المنظومة الفكرية التراثية الإسلامية، وما خلصنا إليه من أن هذه البنية الفكرية تظل محكومة بثنائية الإيمان والكفر، لكنها مع ذلك ليست مغلقة تماما، بل تحاول أن تنفتح على المنظومات الفكرية الأخرى، وعلى ما يحصل حولها من تغيرات وتطورات، وأن قابليتها للانفتاح والتكيف تظل، مع ذلك، مرهونة بعمق التحولات المجتمعية وبضغط القوى الديمقراطية الأخرى في المجتمع، وبمدى اتساع هوامش الحرية التي تتيحها الأنظمة العربية..الخ.نعود الآن لاستقصاء وعي الديمقراطية عند التيارات الفكرية الأخرى وخصوصا عند التيار الماركسي والتيار القومي وكيف تنزاح العوائق هنا أيضا لتفسح المجال أمام تقدم الخيار الديمقراطي.
لقد لعب الفكر الماركسي والحركات الاجتماعية والسياسية التي عملت تحت رايته دورا هاما في الحركة النهضوية والتنويرية العربية خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية. بل كان له التأثير الأبرز على الحركات الثورية العربية ذات الاتجاه القومي، فانعكس ذلك في طراز الدولة التي بنتها بعد استلامها للسلطة وفي التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أنجزتها.
في هذا المبحث سوف نناقش مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " باعتباره ركنا أساسيا في النظرية الماركسية، يحدد رؤيتها للسلطة والدولة، وشكل أساسا للأنظمة الشمولية التي بنتها الأحزاب الشيوعية، في ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي. ومع أن هذه الرؤية يمكن اعتبارها محجوزة ومتجاوزة بالمعنى التاريخي، وإن العديد من الحركات والأحزاب الشيوعية والماركسية قد تخلت عنها رسميا، فإنه لا يمكن بناء رؤية ماركسية جديدة للديمقراطية بدون نقد هذا المفهوم الأساس في النظرية الماركسية.
يشير ماركس في إحدى رسائله إلى أن مساهمته الرئيسية في مجال الصراع الطبقي تتلخص في برهانه على تاريخيته، وان النضال الطبقي سوف يفضي موضوعيا إلى دكتاتورية البروليتاريا، وأن هذه الدكتاتورية نفسها لا تعني غير الانتقال إلى القضاء على كل الطبقات والوصول إلى المجتمع الخالي من الطبقات(1)
1-رسالة ماركس إلى يوسف فيديماير 5/3/1852.
لقد استند ماركس في برهانه على دكتاتورية البروليتاريا على تحليله لأوالية اشتغال القوانين الاقتصادية الرأسمالية التي تفضي موضوعيا إلى تشكيل طبقتين متضادتين مبدئيا: الطبقة البرجوازية وطبقة العمال الأجراء. وأن سيرورة الطبقة الأولى سوف تفضي موضوعيا إلى تلاشيها التدريجي في حين أن سيرورة الطبقة الثانية تقود موضوعيا إلى توسعها المستمر وعند نقطة معينة من المسار العام للتاريخ سوف تتحول إلى الطبقة الأمة.
إن تحليل ماركس واستنتاجاته من الناحية النظرية تبدو متماسكة منطقيا فالطريقة التي تشتغل بها القوانين العامة للحراك الاجتماعي ومنها القوانين الاقتصادية تؤدي فعلا إلى إزاحة مستمرة للعمل الحي من دائرة الإنتاج، بل من الدوائر الأخرى لاستهلاك قوة العمل وذلك نتيجة الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة. وعلى المدى البعيد يمكن توقع وضعية اجتماعية جديدة نوعيا يصبح الانقسام الرئيس فيها هو بين وقت العمل ووقت الراحة وليس بين من يملك وسائل الإنتاج ومن لا يملك.
لكن ما لم يقله ماركس(وما كان باستطاعته أن يقوله آنئذ) هو كيف سوف تتحقق هذه الصيرورة الموضوعية على الصعيد السياسي والأيديولوجي؟ وفي أية وضعية بنيوية سوف تكون هذه الطبقة الأمة؟. ونظرا لأن ماركس كان رجل علم فإنه لم يعط أجوبة على أسئلة لم تطرحها الحياة بعد، بل لم يقطع بأجوبة عن أسئلة هي بطبيعتها احتمالية. فعندما سُئل عن بناء الدولة في ظل الاشتراكية أجاب بأن العلم هو الكفيل بالإجابة عن هكذا سؤال في المستقبل فقد تأخذ الكثير من مكونات الدولة التي بنتها البرجوازية. لكن الذي حصل لا حقا في عهد لينين صاحب نظرية الاحتراف الثوري، أو في عهد ستالين باني الدولة المركزية الشمولية هو نوع من التجاوز لأفكار ماركس باتجاه آخر، بل اعتبار النموذج السوفييتي، هو النموذج الاشتراكي الذي يجب الإقتداء به. وكالعادة فإن الماركسيين العرب الذي وعوا الماركسية بصورة تأملية، وبحكم استسهال تبني النماذج الجاهزة، فقد تم استحضار طراز الدولة السوفييتي كما هو، وروجوا له في منطقتنا العربية. وعندما تبنت الحركات القومية الثورية هذا النموذج كان من أول ضحاياه الشيوعيين أنفسهم.
يقوم النموذج السوفييتي للحكم على أساس فصل الديمقراطية بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي عن الديمقراطية بالمعنى السياسي، الأمر الذي قضى على الاثنتين معا، وكرس الحزب الشيوعي القوة السياسية الوحيدة في البلدان الاشتراكية السابقة . في ظل هذه الوضعية
جرى بناء أكثر الدكتاتوريات شمولية في التاريخ المعاصر، الدولة تقف في مواجهة جميع فئات الشعب بما فيهم العمال أنفسهم، وحتى الحزب الشيوعي نفسه تحول إلى مجرد جهاز من أجهزتها.
لقد تسببت الدكتاتورية الشمولية في البلدان الاشتراكية السابقة بحصول أضرار كبيرة بقضية تطور هذه البلدان من خلال كبت التناقضات الاجتماعية ومنعها من التعبير عن نفسها بشفافية.
ولم يكن الحال أفضل منه في البلدان المتخلفة التي استلهمت النموذج الاشتراكي السابق، فلم يتم إنجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية، فتعمق اغتراب المواطن عن كل شيء وحتى عن وطنه أيضا.
ماذا كانت نتيجة التصورات الأيديولوجية السابقة في الحقل السياسي؟ إن الإلغاء التعسفي للأحزاب السياسية، التي هي شكل ضروري للوجود المجتمعي في ظل الرأسمالية، يمارس المجتمع من خلالها حياته السياسية، ألحق ضرراً كبيراً بقضية التقدم الاجتماعي، واربك الحياة السياسية ومهد الطريق أمام قيام الدكتاتوريات الشمولية.
إن وجود الآخر المختلف سياسيا يشكل حدا معياريا للأنا السياسية، وهو ضروري للبناء الاجتماعي السليم، ولحراكه التطوري الداخلي، ويحصن المجتمع ضد الأخطار في اللحظات الانعطافية الحادة. من هذا المنطلق لا يجوز القبول بالدكتاتورية مهما تم تزيينها أيديولوجيا، بل بالديمقراطية الشاملة. لذلك فإن القضية التي يجب طرحها في الوقت الراهن هي الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية ،فشعار" المزيد من الاشتراكية يعني المزيد من الديمقراطية " له ما يبرره في البلدان المتقدمة، لكنه شعار خاطئ في الدول المتخلفة. هنا يصح رفع شعار آخر هو " مزيدٌ من الديمقراطية يعني مزيداً من التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية " .
وهكذا، ونتيجة للتحولات الكبيرة التي جرت على الصعيد العالمي، وفشل النموذج السوفييتي، فقد أزيحت عقبة كبيرة من أمام وعي ضرورة الديمقراطية لدى قطاع هام جدا من شعبنا العربي، وخصوصا لدى الفئات الأكثر فاعلية منه، أعني لدى المثقفين والطلبة والأحزاب الشيوعية والماركسية والقومية. لم يعد النموذج السوفييتي ملهما لها، كما أن العديد منها وصل إلى استنتاج هام مفاده أن الاشتراكية ليست قضية راهنة في ظروف التخلف، بل تطوير قوى الإنتاج وإنجاز الإنماء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الشامل في إطار من العدالة الاجتماعية الممكنة، هي القضية الملحة. مهمة بهذا الحجم تحتاج إلى جهود جميع فئات المجتمع وطبقاته وأفراده خصوصا في ظروف العولمة.
وانزاحت عقبة كبيرة أخرى، أيضاً، من أمام تقدم الخيار الديمقراطي، نتيجة لسقوط المنظومة السوفييتية، فانفك الحصار عنه في البلدان المتخلفة، التي شكلت في حينه ميدانا رئيسيا للصراع بين الكتلة السوفييتية والمعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فمن جهة لم يعد الاتحاد السوفييتي قائما، وبالتالي فإن احتمال سعيه لإنشاء أنظمة شمولية حليفة له لم يعد قائما أيضا. ومن جهة ثانية لم تعد المصالح الغربية عموما، والمصالح الأمريكية خصوصاً، تتطلب دعم الأنظمة الدكتاتورية.
هذا في الإطار العام أما ما يتعلق بالمنطقة العربية كانت لا تزال الدوائر الغربية والأمريكية منها على وجه الخصوص متحفظة تجاه دعم الخيار الديمقراطي بشكل جدي، لما تتوقعه من احتمال تهديد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، لذلك نراها تميل إلى دعم الأنظمة القائمة مع تشجيعها للقيام ببعض الرتوش الديمقراطية، هنا وهناك، بالقدر الذي يفرغ الاحتقانات القائمة ويصرفها باتجاهات غير ضارة لمصالحها السياسية أو الاقتصادية. ربما كان ذلك هو الاتجاه السائد حتى أحداث أيلول من عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، غير أنه بعد هذه الأحداث بدأت ترتسم ملامح استراتيجية أمريكية جديدة تجاه المنطقة، تشكل قضية الديمقراطية ركن أساسي فيها. ومع أنه يمكن قول الكثير حول الطريقة الأمريكية لنشر الديمقراطية في المنطقة، إلا أن واقعاً موضوعياً جديدا آخذ بالتبلور بعد غزو واحتلال العرق لا يمكن تجاهله ،وإنه سوف يؤثر على المنطقة برمتها، وقد بدأت تأثيراته تظهر بالفعل. من جهة، فلأول مرة تتعرض الأنظمة العربية لانكشاف خطير من جراء التوجهات الأمريكية الجديدة، جعلها تعيد النظر في كثير من سياساتها الداخلية تحت عنوان الإصلاح والانفتاح. ومن جهة أخرى بدأت القوى الديمقراطية والوطنية المعارضة تزيد في زخم مطالبها مستفيدة من هذه المتغيرات. بالنسبة لسورية يمكن القول أنها في قلب العاصفة وليس على أطرافها، ولم يعد مجدياً أن نحني رأسنا لها لتمر، بل لا بد من مواجهتا بأن نتغير من تلقاء أنفسنا، والتغيير لا يكون إلا بمزيد من الحرية والديمقراطية. ومع أن الخيار الديمقراطي في سورية هو خيار وطني بامتياز، إلا أنه يستطيع أن يعول أيضاً على العوامل الخارجية، على الأقل من ناحيتين موضوعيتين: الأولى، وهي المتمثلة في التحولات الديمقراطية المتسارعة على الصعيد العالمي والتي أفسحت بالمجال أمام فئات اجتماعية محلية واسعة نسبياً لتتقبل الخيار الديمقراطي عن طريق استلهام ما يجري في مناطق أخرى في العالم. والثانية، وهي المتمثلة بالتغيرات الإقليمية التي لم يعد من الممكن مواجهة تأثيراتها الضارة على مصالحنا بالأساليب القديمة في الحكم والسياسة، فهي تحتاج إلى مشاركة أوسع فئات المجتمع في الجهد العام، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال المزيد من الحرية والديمقراطية.