أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - سَعْد اليَاسِري - تائهٌ أم ملحد .. ؟!















المزيد.....


تائهٌ أم ملحد .. ؟!


سَعْد اليَاسِري

الحوار المتمدن-العدد: 2320 - 2008 / 6 / 22 - 01:10
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


تائهٌ أم ملحد .. ؟!
كتاب : حوار مع صديقي الملحد
تأليف : د. مصطفى محمود
قراءة : سَعْد اليَاسِري


مدخل :

أقف باحترام أمام شجاعة الأستاذ مصطفى محمود الفكرية و أخلاق الفروسية التي يتحلّى بها , حين نقد ذاته , واعترف بخطأ أفكاره – كما يرى هو للأسف – في فترة الفتوة والشباب , أفكاره التي أدّت إلى وصمه بـ " الكفر " و محاكمته أيام الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر بتشجيع و تأليب من الأزهر بالطبع . فأنا أحترم الفرسان وإن اختلفت معهم . وأيضًا ؛ لا أنكر إعجابي بمعلومات برنامجه الشهير (العلم والإيمان) , البرنامج الذي تجاوزت حلقاته أرقامًا مئويّة والذي اجتهد فيه على ربط العلم بالإسلام .. و الذي شاهدتُ عشرات الحلقات منه . ولكنّ احترامي وإعجابي لا دخل لهما بما سأقوله حول كتابه الموسوم (حوار مع صديقي الملحد)(1) .
لذا ؛ وفي المبتدأ أحبّ أن أقتبس شيئًا مما قاله عبد الله القصيمي :
(إنّ العقيدة هي الحل السهل للمشكلة الصعبة , و التفسير غير العلمي لوضع أو واقع يحتاج إلى تفسير علميّ , و إنّها الرقية أو التميمة للمريض الذي لا يجد طبيبًا أو شفاءً أو أملاً […] إن العقيدة هي الاستمناء بالذات لمن عجز عن الجنس , وهي الجواب الخاطئ عن السؤال الصحيح , وهي البحث عن أسباب الاقتناع بالجهل حيث لا توجد أسباب الاقتناع بالعلم , و هي الخروج من الكون عجزًا عن البقاء فيه وخوفًا من البقاء فيه)(2) .

في الكتاب :

أسلوب الكتاب أقرب إلى الأسلوب المدرسي التلقيني الموجّه لليافعين , لم يشفع له الزّج بمقارنات مع المثالية أو المادية أو تيارات سياسية يمينية ويسارية في شيء . فيه تجميع وخلط كبيران من كتب التفسير والفلسفة والشعر وحتى تصريحات معاصرة بلا أهميّة . وهو – أي المؤلف – يحاول أن يثبت رأيه دون أن يدرك بأنّ إثباته لنقطة معينة في الحوار قد أثّر سلبًا وخالف نقطة سابقة كان قد أثبتها .. !!
ثم لا أدري لماذا يصرّ المؤلف على إظهار صاحبه الملحد – وهو رمز لا أكثر – بمظهر السّاذج الذي يسأل أسئلة سطحية كان يمكن أن تشغل فتىً غرَّا في بداية فورته و إدراكه , لا دكتورًا تخرّج من فرنسا كما يقدّمه لنا الكتاب . هذا الكتاب يصادر منطقية عقل الإنسان للأسف , ويدبّج أجوبةً معلّبةً مللنا تكرارها .

مقدّمة ركيكة :

المقدّمة هي مقياس العلاقة بين النص ومتلقّيه , وإذا فسد الرأي في المقدّمة فسدت العلاقة بينهما .. وعلى هذا الأساس سأنظر في مقدّمة هذا الكتاب . يقول المؤلف في مقدّمة الكتاب : (لأنّ الله غيب ولاّن المستقبل غيب ولأنّ الآخرة غيب ولأنّ من يذهب إلى القبر لا يعود .. راجت بضاعة الإلحاد) . سأكتفي بسؤال واحد هنا : أليست تلك هي أهم أسباب رواج الفكر الإيماني | الديني أيضًا .. ؟!
و في المقدّمة أيضًا يبتهج المؤلف بأنّ رئيس الولايات المتحدّة الأميركية الأسبق "بيل كلينتون" قد قال حول "الجينوم البشري" : (أوشك العلماء أن يفضّوا الشفرة التي كتب الله بها أقدارنا) . وأنا لا أدري إن كان في تصريح "بيل كلينتون" ما يعوّل عليه ..فالرجل له تأريخ أخلاقي فاسد في البيت الأبيض . ولا أدري أيضًا ما أهمية تصريحه و كونه قال الله أو الشيطان ما الذي سيتغيّر ؟ و أخيرًا لا أدري من قال للمؤلف بأنّ "بيل كلينتون" كان ملحدًا في يوم من الأيام كي نبتهج بعودته إلى جادة الرّب .. ثم ما دخل إيمانيات الرئيس الأميركي بما يؤمن به شعبه مثلاً .. خاصّة و أنّ أكبر دولة في العالم – كما وصفها الدكتور في مقدّمته – لا تؤمن بفكرة (الناس على دين ملوكهم) .. ؟!

صفات بشريّة للإله :

يقول المؤلف في الفصل الأوّل : (لله الكبرياء و الجبروت و هذه صفات لا تحتمل الشركة) . و أنا – كغيري – أتساءل لماذا يدأب المتدينون على وصف الله بصفات إنسانية , وأخلاق إنسانية , و ردود أفعال إنسانية .. ؟! فأنا و بنظرة سريعة على قائمة أسماء الله الحُسنى – وفق التعبير الإسلامي – أجد بأنّ كل تلك الأسماء تحمل غرائزَ وصفاتٍ بشرية .. وهذا ما لا يليق بالأبيض الكامل . فحين نقول بأنّ الله (أحاط بكل شيء علمًا)(3) ثم نصفه بعدها بالمتجبّر والمتكبّر والمتعالي بل و حتى خير الماكرين .. تلك مسألة فيها نظر .. و كلام يطول ليس أقلّه السؤال : ما بال هذا الإله العظيم يعاير مخلوقاته بضعفها .. ؟! ولله درّ عمر الخيام حين قال :
إذا كنت تجزي الذنب مني بمثله *** فما الفرق بيني وبينك يا ربّي ؟!

بين التخيير والتسيير :

يقول المؤلف في الفصل الثّاني : (أفعالك معلومة عند الله في كتابه , ولكنّها ليست مقدّرة عليك بالإكراه) ثم يقول بعد ذلك : (الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه فنعصيه , ولكنه لم يعطِ أحدًا الحريّة في أن يعلو على مشيئته) . و أنا هنا أقف حائرًا متسائلاً : كيف لا يكون إكراهًا و المشيئة نافذةٌ في النهاية مهما كان خيار هذا العبد ؟ وكيف يمكن تقسيم سلوك الله بهذا الشكل الحسابي الساذج (أفعال | علم | إكراه | مشيئة | إعطاء) , هذه أمور يمكن أن يقبلها عقل إنسان حيال إنسان آخر .. ولكن أن يكون الخالق بتلك النظرة الانتهازية فهذا مرفوض قطعًا . ثمّ أنّ المؤلف يناقض نفسه هنا ويقول في سطر (لا إكراه) ثم يقول في سطر تال (لا علوّ على مشيئة الله) . ثم يختمها بالنصّ القرآني (وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله)(4) .. فعن أيّة حريّة وتخيير نتحدّث بعد هذا .. ؟! ثمّ يأتي بعد ذلك بعدّة آيات عن الموادعة وحرية الاختيار , و فاته أنّها – في الغالب – آيات منسوخة فقدت عملها . أيضًا ؛ ينتقد المؤلف الأفكار المادية بقوله : (يخطئ المفكّرون الماديّون أشد الخطأ حينما يتصوّرون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقيّة) . وأنا أستغرب هكذا خلط بين رؤية تناقش تطور المجتمع و بين إقحام تلك الرؤية لتمرير هواجس فكريّة معيّنة . فالمؤلف يعلم قبل غيره بأنّ الحتمية التاريخية والطبقية أتت ضمن سياق تأكيد "كارل ماركس" على الفترات الخمس لنشوء وتطوّر المجتمعات البشريّة , والتي هي بحسب "ماركس" : (الشيوعيّة البدائيّة | العبوديّة | الإقطاع | الرأسماليّة | الشيوعيّة) وهذا كلّه في سبيل تمرير رؤيته الاقتصادية والاجتماعية حول وسائل الإنتاج (5) , و لم يكن يناقش التخيير والتسيير وفق المنظور الإسلامي .. ومع ذلك فهي رؤية تقوم على السبب والمسبب , و أنّ حتمية الصراع تحتاجهما معًا , وهو رأي يقترب من رأي الدين القائم على تنظير شبيه .. وكان يجدر بالمؤلف الاستفادة منه . ثمّ يعود في الفصل الثالث و يقول : (إنّ جدّتي أكثر ذكاءً من الأستاذ الدكتور المتخرّج من فرنسا حينما تقول في بساطة : " خير من الله , شرٌّ من نفوسنا") . وأنا أقول بأنّ المشكلة هي في أنّك تضع أسئلة غبيّة على لسان صديقك الملحد , و هكذا سيبدو فعلاً أنّه أقل شأنًا من جدّتك البسيطة . على أنّ ما قاله على لسان الجدّة هنا ليس عابرًا بل أنّه ينسف نقطة سابقة أشار إليها بالآية القرآنية ( وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله) . ولم يكتفِ ؛ بل يعود في الفصل الخامس لنسف كلامه السابق حول التخيير والتسيير مستشهدًا بالقرآن أيضًا .. فيقول : (الله يقول عن هؤلاء المخلّدين في النار حينما يطلبون العودة إلى الدنيا ليعملوا غير ما عملوا بقوله سبحانه " ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه و إنّهم لكاذبون ") . فهل بعد هذا من تخيير للعبد المسكين الذي كُتب عليه الشقاء حتى في النوايا و الغيب ؟! وكلّ ذنبه أنّه كما يقول : (ذنبهم ليس ذنبًا محدودًا في الزمان بل هو خصلة ثابتة سوف تتكرّر في كل زمان) . ثمّ يعود لينسف هذه أيضًا فيقول : (إنّ التعذيب في الآخرة ليس تجبّرًا من الله على عباده , وإنّما هو تطهير وتعريف و تقويم و رحمة) . و لا أدري أين الرحمة في خلود المذنبين – وفق معايير الإسلام مثلاً – في النّار , وأين التقويم الذي يجب أن يتبعه وفق المنطق التربوي إطلاق سراح , فيما لا يمكن الاستفادة من تقويم هذا المذنب لأنّه خالد في النّار , فما نفعنا ونفعه باستقامته إن بقي فيها .. ؟!

عن المشقّة والشقاء :

يقول المؤلف في الفصل الثالث وفي معرض حديثه عن الألم والمشقّة : (وظيفةٌ أخرى للمشقّات والآلام .. أنّها هي التي تفرز الناس وتكشف معادنهم :
لولا المشقّة سادَ الناسُ كلّهمُ *** الجودُ يفقرُ والإقدام قتّالُ) .
وأنا صدقًا أستغرب كيف للدكتور وهو الأديب الأريب , أن يقحم بيت المتنبي هذا في غير معناه وسياقه , و كلّنا يعلم بأنّ هذا البيت الشّعري الفاخر يقوم على فضح مخاوف النفس البشرية من خلال صفتي (الكرم | الشجاعة) و يريد به شاعرنا أنّ بعض النفوس الوضيعة لا تستطيع السيادة لأنّها تفكّر في عاقبة جودها و إقدامها , وتخشى من الفقر والهلاك (6) . المشقّة هنا من الصعوبة وليست من الشقاء والألم .

عن الزنجي والإسكيمو :

في الفصل الرابع , والذي يتمحور حول سؤال (ما ذنب الذي لم يصله القرآن) .. يقول المؤلف مجيبًا : (الرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن ليسوا كل الرّسل ؛ إنّما هناك آلاف غيرهم لا نعلم عنهم شيئًا) ثم يستشهد بالآية القرآنية : (منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك)(7) . ويردف قائلاً : (ومن يدرينا ربّما كانت لفتة من ذلك الزنجي البدائي إلى السماء في رهبة هي عند الله منجية ومقبولة أكثر من صلاتنا) . وفي موقع آخر : ( قد تكون لفتة إلى السماء من هذا الإسكيمو الجاهل ذات ساعة من عمره .. عند الله كافية لقبوله مؤمنًا مخلصًا) .و أيضًا في ذات الفصل يتحدّث عن ديانات الشعوب والأقوام السالفة مثل : ( قبيلة ماوماو | قبيلة نيام نيام | الشيلوك | الدنكا) ويربطها جميعها بأنّها الإسلام ولا ريب لأنّ الدين واحدٌ .. !!
وأنا أقول كان يجدر به أن يبحث في نصوص و عقائد السومريين والأكاديين والبابليين على غرار " خزعل الماجدي " و " فراس السوّاح " كي يعرف حجم الدمار الشامل الذي سببه الأنبياء لمعتقدات تلك الشعوب, و كيف أنّ السرقات والاقتباسات شوّهت صفاء تلك المعتقدات التي كانوا يؤمنون بها . ثم أسأل المؤلف – وكلّي حيرة – لماذا تكفي لفتة من الزنجي والإسكيمو ليدخل الجنّة الموعودة , فيما يتوجّب على المسلم – مثلاً – أن يمرغ وجهه في التراب خمسة أوقات كلّ يوم .. ؟! وكأني الآن بالمعرّي يصرخ :
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنّما ***دياناتكم مكرٌ من القدماءِ .

أحواض التفريخ والشهوة :

في الفصل السادس ؛ والذي خصّصه المؤلف لقضايا المرأة , يقول : (الإسلام جاء على جاهلية , والبنت التي تُولد نصيبها الوأد و الدفن في الرمل) . وأنا أقول بأنّ مصطلح "جاهلية" غير دقيق بالمرّة , و أنّ الوأد كان معروفًا ولكنه غير مستشر كما يريد أستاذنا , بل كان محصورًا في قبائل معدودة ومعروفة , وإن هي إلاّ طريقة دفاعية مستهلكة يستغلّها المتزمّتون دينيًّا للتعبير عن رحمة الإسلام بالمرأة , ولو كانت هناك إحصائيات دقيقة عن حالات الوأد في تلك الفترة الزمنية لما كانت النتائج كما يتوهّمون . ثم يعود ويقول : (وهل المرأة الآن في أوربا أسعد حالاً في الانحلال الشائع هناك , وتعدد العشيقات) . أحسب أنّي أقيم في دولة أوربيّة منذ سنوات , و لم ألمس ما يقوله المؤلف لا في شارع ولا فندق ولا مقهىً ولا حتى في حانة , والحديث عن امتهان المرأة الأوربيّة بهذا الشكل يبعث على الضحك ويذكّرني بتقرّحات فكريّة شرقية طالت الأدب العربي في روايات شهيرة (8) , و يؤكّد أنّه يتحدّث عن نسوة رخيصات قد يتوفّرن في أي مكان على ظهر الكوكب , وهذا ليس أمرًا غريبًا , ولكنّ الغريب بالنسبة إليّ أنني لم أسمع بمبغىً في السويد مثلاً , فيما هناك مئات المباغي في الوطن العربي | الإسلامي , على الأقل في سبع دول مررتُ بها يومًا . ثم يفجّر المؤلف قنبلة ساذجة للأسف , ويقول : (الوضع الأمثل للمرأة هي أن تكون أمًّا وربّة بيت تفرغ لبيتها وأولادها . ويمكن أن نتصوّر حال أمّة نساؤها في الشوارع والمكاتب وأطفالها في دور الحضانة والملاجئ) . هذا كلام لا يُرد عليه إلاّ باعتباره لم يصدر أصلاً , لأنّ مقدار رجعيته لا يُحتمل . ويعود فيقول حول الحجاب : (معلوم أنّ الممنوع مرغوب و أنّ ستر مواطن الفتنة يزيدها جاذبية) و في سطر تال : (لا شكّ أنه من صالح المرأة أن تكون مرغوبة أكثر وألاّ تتحوّل إلى شيء عادي لا يثير) . وأنا أقول أصلح الله أستاذنا الذي يعامل رجال أمّته على أنهم أعضاء تناسلية وظيفتها التكاثر وتجلّياتها فحولة بدائية , و نساء أمّته على أنّهن أحواض تفريخ و شهوة .

الإسلام الاقتصادي :

في الفصل السابع حديث حول الإسلام الاقتصادي والصراع الطبقي والزكاة وثورة الدين الجديد على الكانزين والأثرياء . و أجد بأنّ الكلام مقبول وإن كنتُ أرى بأنّ فترة ما قبل الإسلام شهدت أحلافًا و قوىً اتّحدت وفق منظور أوليغارتي نخبويّ , هو ذات المنظور الذي تكرّس بشكل أو بآخر في الدولة الإسلامية الوليدة .. على الرغم من الرغبة – المعلنة - في المساواة الاقتصادية التي تلاشت في عهد الخليفة الثالث , وعادت بشكل متطرف في عهد الخليفة الرابع , ثم ماتت في عهد الأمويين ومن تلاهم . غير أنّني لا أميل إلى تسطيح وتبسيط العملية كما يذهب بعض المستشرقين في قولهم : (إنّ الأساس الاقتصادي والاجتماعي للإسلام هو المصالح التجارية لمكّة) (9) . و هنا كلام يطول سرده و ليس هذا مقامه .

في أنّ الوردة والحجر واحد :

أودّ هنا أن أقف بشكل قاس على مغالطات غير مقبولة وردت في الفصل العاشر من الكتاب , و أودّ أيضًا أن أعترف بأنّي صُعقت من هكذا مقارنات سطحية . حيث يرد المؤلف على سؤال ( هل الحج مناسك وثنيّة ) بالقول : (ألا تطوفون أنتم – يقصد الماديين – حول رجل محنّط في الكرملين – يريد فلاديمير لينين - ؛ تعظّمونه وتقولون أنّه أفاد البشرية , و لو عرفتم لشكسبير قبرًا لتسابقتم إلى زيارته) . بدايةً ؛ ما الرّابط بين تعظيم فكر وجثمان رجل من قبل مريديه , و بين طواف عبيد حول بيت خالقهم المفترض ؟ ففي الأولى لن يدخلوا جنةً أو نارًا , وفي الثانية قول ثقيل كما يعلم الأستاذ , و المقارنة لا تجوز هكذا حتى لو كانت في حدود الطواف أو الهرولة . ومن قال له أنّ شكسبير بلا قبر أو شاهدة ؟ ونحن ندري أنّه – أي شكسبير – دُفن في مذبح كنيسة الثالوث الأقدس في ستارتفورد وله شاهدة هناك ونصب تذكاري وتمثال نصفي (10) . وهل يمكن مقارنة زيارة قبر أديب شغل العالم لأربعة قرون بمسرحيّاته , مع طقس عقائدي لديانة عمرها أربعة عشر قرنًا ومعتنقوها تجاوزوا المليار ؟ هل يمكن ذلك ؟!
ويقول في كارثة أخرى : (ألا تضعون وردًا على نصب حجري تقولون أنّه يرمز للجندي المجهول , فلماذا تلوموننا لأنّنا نلقي حجرًا على نصب رمزي نقول أنّه يرمز إلى الشيطان) . معك حق يا أستاذنا, ففي عُرفك الحجارة كالوردة , بل أعزّ شأنًا كما أرى , وفي عُرفك تكريم من سقط صريعًا لأجل الوطن دون أن يلمّه قبرٌ أو يكفّنه محبٌّ , هو كالشيطان الذي صنعته الهواجس والنفوس الشّقيّة تمامًا .

تحفّظٌ :

في الفصول الحادي عشر والثاني عشر و الثالث عشر و الرابع عشر التي خصّصها المؤلف للحديث عن القرآن وهل هو من تأليف محمّد وعن الشكوك في القرآن و عن الخلق وفق المنظور القرآني ؛ يقول قولاً كثيرًا فيه بعض صواب و كثير زلل , وأنا عازم منذ مدّة على كتابة مقال مستقل عن القرآن وألفاظه وبلاغته وناسخه ومنسوخه و ما يسمّى بإعجازه العلمي وبعض متشابهاته أو تناقضاته , وحتى يحين ميقات مقالي المزمع .. سأتحفّظ على رأيي في تلك الفصول . كما أودّ الإشارة إلى أنّ الفصلين الثامن والتاسع لا يمثّلان أكثر من اجتهادات و تصوّرات فكرية أو فلسفية عن مفهومي (الروح | الضمير) . لن أتطرّق لهما حيث أرى بأنّ الاتّفاق أو الاختلاف فيهما لا يشكّل ضررًا .

فصل زائد :

يحاول المؤلف إثبات أهمية عبارة " لا إله إلاّ الله " في الفصل الخامس عشر , وذلك عبر تفكيك العبارة لغويًا , ولا أجد مشكلة في هذا , غير أنّ المشكلة تكمن في أنّه يجتهد لربطها بإله الإسلام فقط , وتلك نقطة يجب الحذر حين المرور عليها , فإمكانية وجود إله واحد قادر ليست بالأمر المزعج حتى للملحدين الذين تتنوّع تسمياتهم لهذا الإله من العقل إلى الفيض إلى الطبيعة إلى الفكرة إلى القوّة ... إلخ . ولكن سنصطدم بمشكلة أن الإله المطلوب هو فقط الإله الإسلامي , و هذا يخالف أفكار الكثيرين – من متديّنين وملحدين - ممن لديهم حججهم وبراهينهم أيضًا . و بالنسبة إلي شخصيًّا أرى بأنّ هذا الفصل زائدٌ ولم يخدم فكرة الكتاب المبتغاة , حيث أنّ المشاكل – كما أرى - تكمن في الأديان وشرائعها عادةً وليس في الإله . كما يقول المعرّي البصير :
إنّ الشرائع ألقت بيننا إحنًا ***وعلّمتنا أفانين العداواتِ .

كهيعص :

الفصل السادس عشر وعنوانه " كهيعص " ؛ خُصّص للحديث عن الإعجاز العددي للحروف في فواتح السور القرآنية ومعانيها , وهو فصل لا يخلو من الطرافة في استخدام أي شيء و لأجل أي شيء , وهو أمر درجَ عليه المدافعون عن أديانهم منذ الأزل , و تأريخ الكنيسة متخم بوساوس من هذا النوع كانوا يكبّلون بها عقول شعوب أوربا سابقًا , وفي كتب الهندوس أيضًا أمثلة كثيرة حول أهمية الأرقام "1,3,7" , و لكنّني – و للأمانة - لم أجد دينًا يعتمد على مسائل الإعجاز العددي والحسابي كما أرى كلّ يوم من بعض الذين يعتنقون الإسلام دينًا . والسؤال الأهم هو : هل هذه النتائج الحسابية تثبّت القرآن و ركائز الدين ؟ وهل " الله " أوحى للرسل من أجل أن يكتشف العباد بعد عشرين قرنًا أنّ في الأمر لعبة حسابية ؟ وما الذي سينفع غير المؤمن بالقرآن – مثلاً – لو ورد حرف القاف 57 مرّة أو أكثر أو أقل في سورة (ق) ؟ وما أهمية الأرقام ومعدّلات ورود الأحرف ؟ خاصّة وأنّ القرآن كتاب شاسع ومن الممكن أن أختار حرفًا ما في سورة ما و بعد حسابه أكتشف أنّه ميقات وفاة الملك الضلّيل أو نفوق ناقة صالح أو حتّى تأريخ اعتزال مارادونا . لذا فهذه أمور لا يمكن الانسجام مع نتائجها , فإن كانت مصادفة أو نتيجة تعقّل وتفكّر فهي لن تغيّر من المعنى شيئًا , و قد قال الأوّلون فيها كلامًا طويلاً منذ الزمخشري و كشّافه . وفي الواقع أن الإكثار في هذا الأمر سيأخذنا إلى أن محمّدًا لم يكن أمّيًّا – وهذا ما أثق به - خاصّة حين نقرأ أن البعض قال في أن تلك الحروف لو قُرأت بأصواتها ولفظها لا بأسمائها سيكون لها معنىً في لغات أخرى كالعبرية (11) . إنّما خلاصة القول عندي في كل ما أراه من تلك المحاولات أنّها أحاجٍ تنطلي على أصحاب العقول الرخوة , حتّى أنّ بعضهم خرج بعملية حسابية من القرآن تؤكّد ميقات التفجير الإرهابي لـ برجي نيويورك في 11/9/2001 .

المعجزات بين الحسّي والرمزي :

يتناول الفصل السابع عشر معجزات الأنبياء , وهو كلام مكرّر لا يقبله عقل أو منطق علمي ولا حتى فطري . خاصّة و أن بعض المعجزات التي قال بها القرآن أنكرها أهلها , فلن تجد مسيحيًا على سبيل المثال يؤمن بما يسمّى أناجيل الطفولة و أنّ المسيح قد خلق الطير من الطين و كلّم الناس في المهد وما إلى ذلك من أمور عجائبية .. و الكنيسة ذاتها – على شدّة تقديسها للمسيح - تعتبرها أناجيل منتحلة غير صادقة ولا مقبولة . و أيضًا فيما يخصّ المعجزات التي أتى بها موسى ؛ في جلّها لم تكن حسّية بل كما يرى " البهائيون " مثلاً أنّها رموز مجازية . و هو الأمر الذي أنكره عليهم أستاذنا الفاضل في كتابه , وكأنّ شق البحر بالعصا أيسر من شق الشريعة رمزيًّا والتفريق بين الحق والباطل . وهو – أي المؤلف – يقول في هؤلاء : (أخرَجوا القرآن من معانيه الحرفية إلى تأويلات مجازية ورمزية كلّما اصطدموا بشيءٍ لم يعقلوه) . وأنا أريد أن أقول هنا بأنّ معاني القرآن الحرفية وبيانه العربي " البليغ " لا يخصّان غير الناطق بالعربيّة وفي ذلك مشكلة تسلب من هذا الكتاب أمميّته المرجوّة , و أنّ الرمز والمجاز هو الغالب على تفسير آيات القرآن وترجماته , لأنّنا لو أخذنا السور على معانيها الحرفية الظاهرة لوقعنا في كوارث اجتماعية وأخلاقية لا يمكن سترها , كما لا يمكن قبول تلك التفسيرات المجازية .. والله المستعان .

سؤال الأخلاق والدين :

في الفصلين الثامن عشر والتاسع عشر , يتحدّث المؤلف عن الفرق بين الأخلاق والدين , وأن الأخلاق الحميدة مهما كانت فهي لا تغني عن الدين . وأنا لا أدري ماذا يريد بالضبط , فهو يقول بطريقة ما أنّك إلى الجحيم حتى لو كانت أخلاقك أخلاق النبوّة .. ما دمت غير مؤمن بهذا الدين , ولم تعرف الإله , ويريد طبعًا الإله الديني وليس الفكرة الفلسفية , تلك التي بدأ بها "أرسطو" وتتبّعها بإخلاص "الفارابي" ومن تلاه . الدكتور يتناسى أو ينسى بأنّ أسبقية الدين على الأخلاق ليست تاريخية , إنَّما أبستمولوجية , إذ أنّ انساقًا أخلاقية كانت تؤدّي دورًا هامًا في حياة الناس قبل ظهور الأديان (12) . ثم لا يكتفي بهذا بل يزيد من سذاجة صاحبه الملحد , ويضع على لسانه هذا الفشل الكامل : (فزنا بسعادة الدنيا و خرجتم أنتم ببضعة أوهام في رؤوسكم .. وماذا يجدي الكلام و قد حرجنا من الدنيا بنصيب الأسد .. فلنا السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللّذات التي لا يعكرها خوف الحرام) . و أنا هنا أودّ القول بأنّه ليس أشرّ من متديّنٍ متزمّتٍ إلاّ صاحبك هذا يا أستاذنا , فهذا ليس ملحدًا إنّما رجل عقله بين فخذيه , و غايته سعادة غرائزية عابرة مثل : (سهرة | سكرة | نعيم | بذخ | نساء للمتعة ... إلخ) . ولا أدري كيف يجرؤ أستاذنا الفاضل أن يقول هذا القول و ينسبه إلى ملحد ينطلق من فكر ما ويدّعي – أي الملحد - في فصل سابق السلوك الحسن .. ؟!

خاتمة :

أما وقد وقفت بعجالة على هذا الكتاب " المشهور " أودّ أن أتمنى للدكتور مصطفى محمود سعادة العقل وراحة الضمير , خاصّة والأخبار تتوالى تلك الأيام حول حالته الصحيّة الصعبة وعزلته التي طالت , آملاً بشفائه وطول بقائه . و بخصوص صديقه الملحد ؛ أريد أن أقول بأنّه لم يكن غير رجلٍ تائهٍ , و الكتاب عبارة عن حوار مع صديق تائه , إذ أنّ الإلحاد عملية عقلية متقدّمة و نتيجة تترتّب على أسباب فكريّة و استيعابيّة وليست نزهة على شاطئ .. ولم ألمس تلك الأسباب ولا نتائجها في صديقه الملحد الذي اختلط عليه الأمر وظنّ أن الإلحاد سهرة وسكرة . عمومًا , كلّنا نجتهد في خدمة الحقيقة وهي المبتغى و إن أفسدها هوىً , وفي هذا يقول علي الوردي :
(كلّنا ندّعي أننا نحبّ الحقّ ونريد نصره من صميم قلوبنا . ولكننا في الواقع لا نحبّ إلاّ ذلك الحقّ الشِّعري الذي نلهج به دون أن نعرف حدوده ... )(13) .




WWW.ALYASIRY.COM

حزيران | 2008
السّويد

هوامش :

(1) حوار مع صديقي الملحد , مصطفى محمود , دار العودة (نسخة إلكترونية) .
(2) هذا الكون ما ضميره ؟ , عبد الله القصيمي , مؤسّسة الانتشار العربي , بيروت , الطبعة الثانية 2001 . الصفحة 55 .
(3) القرآن , سورة الطلاق , الآية 12 .
(4) القرآن , سورة الإنسان , الآية 30 | سورة التكوير , الآية 29 .
(5) دراسات في الفلسفة السياسية , أحمد جمال الظاهر , مكتبة الكندي , إربد , الطبعة الأولى 1988 , الصفحة 114 .
(6) للاستزادة انظر : شرح ديوان المتنبي , الواحدي , دار الرائد العربي , بيروت 1999 .
(7) القرآن , سورة غافر , الآية 78 .
(8) موسم الهجرة إلى الشمال للطيّب صالح نموذجًا .
(9) للاستزادة انظر : اليمين واليسار في الإسلام , أحمد عبّاس صالح , المؤسّسة العربية للدراسات والنشر , بيروت , الطبعة الثانية 1973 .
(10) انظر المقال عبر http://en.wikipedia.org تحت اسم (William Shakespeare) .
(11) الشخصيّة المحمّدية , معروف الرّصافي , دار الجمل , ألمانيا , الطبعة الأولى 2002 . الصفحة 575 .
(12) الأخلاق والعقل , عادل ضاهر , دار الشروق , عمّان , الطبعة الأولى 1990 . الصفحة 193 .
(13) مهزلة العقل البشري , علي الوردي , دار كوفان للنشر , بيروت , الطبعة الثانية 1994 . الصفحة 61 .

* منشور في موقع جدار .



#سَعْد_اليَاسِري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هلْ أنتَ شاعرٌ عراقيٌّ .. ؟!
- أدونيس ؛ يا - ساعة الهتك - .. اغفر لنا .. !!
- شَهْقَةٌ .. حِينَمَا الرُّوحُ دَفْتَرْ
- و أُوتيت بلقيسُ : شِعرٌ على هيئة السُّنبلةْ .. !!
- المَجُوسِيُّ يُهَيِّءُ نَارَهُ .. !!
- علي بدر ؛ بين غثيان - سارتر - و مطرقة - نيتشه - .. !!
- أَعَادَتْ تَرْسِيمَ المَعْنَى بِخَلْخَالٍ .. !!
- مَسَدٌ نَمَا فَوْقَ اللِّسَانِ .. !!
- لَمْ نَكُنْ صَالِحِينَ .. !!
- دَاخَ البَنَفْسَجُ .. !!
- يَتَقَاطَرُونَ .. !!


المزيد.....




- أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل ...
- في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري ...
- ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
- كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو ...
- هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
- خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته ...
- عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي ...
- الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
- حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن ...
- أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - سَعْد اليَاسِري - تائهٌ أم ملحد .. ؟!