كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 719 - 2004 / 1 / 20 - 08:08
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
تناقلت الأخبار والبيانات, التي أصدرتها العديد من الجهات في العراق وخارجه في أعقاب سقوط نظام صدام حسين حتى الوقت الحاضر, عن واقع تعرض بنات وأبناء الديانة المسيحية في البصرة إلى اضطهادات وتجاوزات فظة على حقوقهم كمواطنات ومواطنين في العراق, وإلى محاولات تهجير أو فرض الإسلام عليهم أو تعليق شعارات تمجد هذا العلامة الديني المسلم أو ذاك على كنائسهم. وبكلمة واحدة إنها مضايقات تستهدف طرد العوائل المسيحية من البصرة عبر إلحاق الأذى بهم وجعل العيش في البصرة بالنسبة لهم جحيماً لا يطاق. إن هذه الوقائع ليست مجرد حكايات, بل هي وقائع تنقل عن مدينة عرفت بالود والتسامح والتعاون بين سكانها من مختلف القوميات والأديان والمذاهب. وبالتالي فأن ما يجري هناك هي إساءة مباشرة بسمعة أهالي البصرة والشعب العراقي من خلال إلحاق الأذى بجزء أساسي وأصيل من هذا الشعب, هذا الجزء الذي يعود في أصوله إلى الآشوريين والكلدانيين والسريان العراقيين الذين ساهموا في بناء الحضارة العراقية القديمة, ومنهم برز مجموعة كبيرة من أفضل الباحثين والعلماء والمترجمين الذين ساهموا في إغناء وبناء الحضارة العربية وما نطلق عليه اليوم بالحضارة العباسية والإسلامية في العراق.
لا أعرف بالتحديد من يقوم بهذه الأعمال البشعة والجرائم المنكرة بحق المواطنات والمواطنين المسيحيين, ولكني أدرك تماماً لمن تعود هذه الروائح الكريهة التي تنطلق من ذهنية وممارسات التعصب الديني والطائفي المقيت والعنصرية الكريهة. علينا أن نطرح الأسئلة التالية بهدف الإجابة عنها وهي التي يمكن أن تدلنا عن المسؤولين عن كل ذلك: من هي القوى التي تقف حقاً وراء مثل هذه الأفعال الشريرة؟ وما هي الغايات الفعلية التي تريد الوصول إليها؟ هل يجوز لنا السكوت عن ذلك, أم ينبغي رفع الصوت عالياً احتجاجاً عما يجري في البصرة أو في غيرها من المدن العراقية في هذا الصدد أولاً وأن نطالب ممارسة كل السبل المتوفرة لإيقافها فوراً ثانياً, وفضح من يمارسها علناً؟
عندما لا يعرف الإنسان القوى التي تمارس مثل هذه الأفعال المنكرة بشكل محدد ودقيق, لا بد له أن يسعى للوصول إلى المعلومات المفيدة والموثقة, وفي حالة عجزه عن ذلك يجوز له الاستدلال على تلك الأفعال من خلال التصريحات والدعوات الموجهة ضد الجهات التي تتعرض للاضطهاد والأذى, وهي بالتالي شبهات لا يمكن دحضها إلا من خلال قيام من توجه إليه الاتهامات باستنكار ما يجري في البصرة والعمل مع الآخرين لفضحها ومنع وقوعها والاعتذار أو تعويض من تعرض للأذى من مواطنينا المسيحيين في العراق.
أولاً: كانت جميع خطابات أسامة بن لادن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 موجهة ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل, ثم وسع قائمة المشمولين بحربه الشريرة لتشمل كل مسيحيي ويهود العالم. كما أنه شمل في ذلك كل من يعتبره وفق "إسلامه" الخاص به كافراً في جميع أرجاء العالم, في ما عدا "مسلميه" والعياذ بالله. وقد وجه هذا الإرهابي الدولي النداء تلو النداء إلى "مسلميه" الأقحاح لتهديد وقتل كل مسيحيي ويهود الولايات المتحدة أو العالم. وهو نداء ليس فقط غريباً وعجيباً ومذهلاً في عدوانيته وشراسته السادية, بل يعتبر تجاوزاً على ما جاء في القرآن والسنة والصحابة بشأن الموقف من أتباع الديانات السماوية. فأسامة بن لادن وصحبه هم أول من توجه لهم التهمة في ما يجري في العراق من إيذاء واضطهاد لمواطناتنا ومواطنينا المسيحيين, إضافة على جملة من العمليات الانتحارية المجرمة التي تطال الشعب العراقي. إنها الحرب الهمجية التي أطلقها أسامة بن لادن في العالم.
ثانياً: أما الجهة الثانية فهي القوى الوهابية التي تحاول اللجوء إلى هذه الوسيلة في التصدي لأتباع الديانات الأخرى, إذ أنها تنطلق من نفس المواقع الفكرية الدينية التي ينطلق منها أسامة بن لادن. وفي محافظة البصرة توجد بعض القوى التي تدين بالولاء للمذهب الوهابي في السعودية, وترى في محاربة المسيحيين في العراق ضرورة باعتباره عملية انتقام من وجود المسيحيين في الراضي السعودية وبجوار مكة. وهم في ذلك يهددون أسس التعايش السلمي بين جميع القوميات والأديان والمذاهب في العراق.
ثالثاً: أما الجهة الأخرى التي تتوجه إليها الأصابع بالشبهات, فهي جماعة السيد مقتدى الصدر التي قامت في أعقاب سقوط النظام باتخاذ جملة من الإجراءات المناهضة للمسيحيين في البصرة, وكذلك ضد أتباع المذهب السني في المدينة, ورفعت الشعارات على الكنيسة المسيحية هناك ...الخ. وأخيراً ظهرت التصريحات التي أدلى بها السيد مقتدى الصدر على الموقع الإعلامي عبر الإنترنيت (إيلاف), إذ ورد فيه اعتراضه على تعيين السيد جورج يوسف منصور مديراً عاماً للشبكة العراقية من قبل الشركة الأمريكية التي حازت على مقاولة شبكة التلفزيون العراقية, بسبب كونه مسيحياً أولاً وكندياً ثانيا#, وبسبب البرامج التي كان يقدمها بسبب كونه مسيحياً وكندياً ثالثاً. ثم اعتراضه على المديرة العامة التي احتلت مكان السيد منصور, وهي السيدة شميم رسام, بسبب كونها مسيحية وأمريكية وصدامية سابقة, إضافة إلى البرامج التي تقدمها والتي لا ترضي السيد الصدر.
يبدو بأن السيد الصدر قد وصل به التعصب والتزمت إلى حد نسيان وجود عدد كبير جداً من المواطنات والمواطنين العراقيين ممن يعيشون في الخارج ممن حصلوا على جنسيات مختلفة, إضافة على العراقية, لكي يستطيعوا التحرك في نضالهم ضد النظام السابق, إذ لم يكن ممكناً التحرك بالجواز العراقي الذي لم يجدد لهم من قبل سفارات الدولة العراقية الدكتاتورية. وأن هذه الورقة (الجواز) لم ولن يغير هوية العراقيين الحقيقية ووطنيتهم. ثم نسى السيد الصدر بأن المسيحيين قد احتلوا مراكز مهمة في الدولة العراقية وساهموا في مجلس النواب والأعيان والوزارات ودوائر الدولة والجيش العراقي والشرطة في العهد الملكي وما بعده أيضاً, بل حتى في الدولة العباسية لعب المسيحيون دوراً كبيراً في حقول الثقافة العربية والعراقية والإسلامية وفي الشؤون المالية. ولا يحق للسيد أن يحرم مواطنةً أو مواطناً من شغل أي وظيفة حكومية أو خاصة في العراق, إذ أن هذا من حقهم المشروع ولا يحق لأحد سلبه منهم, كما أشار إلى ذلك السيد الدكتور صادق البلادي في مقاله الموسوم "السيد الصدر وحقوق الإنسان في العراق" بهذا الشأن أيضاً. وإذا كان الحديث عن السيد المهندس والصحفي جورج يوسف منصور فعلى السيد الصدر أن يعرف بأن هذا الرجل كان يحمل السلاح في كردستان العراق ويناضل ضد النظام الدكتاتوري سنوات طويلة في صفوف الأنصار الشيوعيين وغير الشيوعيين والبيشمركة الشجعان, في وقت كان السيد الصدر ما يزال طفلاً يحبو, وأن هذا الرجل قد اعتقل في إيران بسبب كونه مناضلاً في صفوف الأنصار وصمد تحت تعذيب الجلادين الإيرانيين في سجن "إيفين" الشهير في طهران, وخرج منه رافع الرأس رغم أساليب التعذيب الجسدية النفسية الشرسة جداً التي مورست معه, بسبب كونه مناضلاً وطنياً عراقياً, تماماً كما كان قد تم قبل ذاك مع السيد حيدر فيلي عضو الحكومة الحالية في كردستان العراق, أربيل, وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكردستاني, وكما قد حصل أيضاً عند اعتقال رفيقه الدكتور العراقي الراحل رحيم عجينة, عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي, في إيران لفترة غير قصيرة, والذي خرج بوساطة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.
من حق السيد الصدر أن يعترض على البرامج التي قدمها التلفزيون, ومن حقه المطالبة بتغيير المدير العام, ولكن لا يحق له المطالبة بتغييره بسبب دينه الذي هو ليس دين الغالبية, أو بسبب الجنسية الكندية التي يحملها إلى جانب الجنسية العراقية, وهو من عائلة عراقية منذ مئات السنين تعيش في مدينة عينكاوا في محافظة أربيل في اتحادية كردستان العراق.
لا أعرف تماماً السيدة شميم رسام, ولكني أعرف أنها صحفية ومن عائلة مسيحية تقطن منذ أجيال وأجيال في مدينة الموصل, وهي مواطنة عراقية لها كل الحق في احتلال كل المراكز الموجودة في العراق دون استثناء. وكانت صحفية في العراق وعملت كبقية الصحفيين ويمكن أن نختلف معها إن كانت قد عملت للنظام في فترة ما, ولكنها تخلت عن ذلك وساهمت في العمل ضد النظام ومن حقها أن تعمل مع الآخرين في المرحلة الراهنة, وإذا كان لديه شيء ضدها فعليه رفعه إلى المحكمة العراقية وليس التشهير بها.
وهنا علينا أن نطرح السؤال التالي: هل مثل هذه التصريحات تعتبر بمثابة توجيهات لأتباع هذا الشيخ أو ذاك للقيام بأعمال من هذا النوع ضد المسيحيين في البصرة أو في غيرها من المدن العراقية, خاصة ونحن لم نطلع على التعليمات الداخلية التي يصدرها تحريرياً أو شفوياً السيد الصدر؟ نعم هذا ممكن وينبغي أن نتصدى له ونفضحه. وإذا كان السيد مقتدى الصدر يرفض مثل هذه الاعتداءات ويستهجنها حقاً, فما عليه إلا أن يعلن ذلك على الملأ ويدينها بكل صرامة ويطلب من أتباعه التصدي الديمقراطي السلمي لمن يمارس مثل تلك الأفعال الشريرة, لا كما فعل في لقائه الصحفي مع إيلاف. إن علماء الدين العراقيين يتحملون مسؤولية كبيرة في هذا الصدد, وكذا القوى والأحزاب السياسية الديمقراطية, بل إن هذه المهمة تقع على عاتق الشعب العراقي كله.
برلين في 18/1/2004
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟