" ألو !! ألو؟ عمو عبد الباري ؟ أيوه ..
مرحبا عمو .. كيفك ؟ أنا بهية من الجولان .. بهيـة سلطان .. عمري 24 عاما ولدي صبي في الصف الأول الابتدائي وبنتي هدية مازالت في حضني أرضعها حليب بقرتنا الشقراء خميسة الجولانية النسب .. الطبيب منعني من إرضاعها من ثديي .. نصحني بعدم إجهاد نفسي كي لا أعرض جسدي المنهك لانتكاسة قد تميتني ... عندما كنت حاملا في شهري السابع بهدية جاءني خبر مقتل أخي الشاب في الشيشان فأصبت بانهيار عصبي .. لقد كان أخي عوني كل شيء بالنسبة لي ولأختي سمية .. غادرنا دون وداع ولم نكن نعرف عنوانه لأكثر من سنتين .. أحد أصدقائه حصل على معلومات بأن شيخا من حلب لاقاه في جنوب لبنان وربما يكون قد أرسله إلى الباكستان .. كنا في دوامة ولكننا كنا نأمل في أن نراه قريبا .. خطيبته وضحة تحولت في غيابه إلى جلد على عظم .. صامت رمضان الماضي ولم تفطر إلا على التمر .. حتى حليب خميسة كرهت أن تشربه إلا من يد عوني .. راح عوني ويمكن أن تلحق به وضحة ولا حول ولا قوة إلا بالله !
شو بدي قلك عمو عبد الباري .. الحزن طامرنا .. واليأس سود قلوبنا .. واللقمة بتدخل حلوقنا مثل الزقوم والله .. ومنشان نسلي حالنا شوية منقعد خلف التلفزيون لنشوف الأخبار .. وشو هالأخبار ؟! ما في شي بيسر القلب والله .. الله يصطفل فيكم يا اسرائيل و يا أمريكان ..
جوزي منصور استاذ المدرسة لا يهتم بشيء إلا شغله وطاولة الزهر.. كاس العرق أخذ له نص عقله .. نانسي عجرم أخدتله النص التاني ..
لما بشوف صور جرائم اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بيتقـطع قلبي .. ولما بشوف صور صمود الأمهــات والرجال أفتخر بهم .. والله ما بيحرر فلسطين إلا شعبها .. شو نفع حكي العرب والحكام .. حكي ع الفاضي .. أنا كنت أصدق اللي قاله حافظ الأسد أنه سيحرر الجولان .. لم يفعل .. نحن تحت الإحتلال من أكثر من 30 سنة وأوضاعنا لا تطاق والحكي مازال نفسه والوعود كبيرة والفعل لا شيء ..
عمو عبد .. مبارح سمعتك تتكلم على شاشة التلفزيون عن سوريا وتقول بأنك تخاف أن تتراجع القيادة عن حقنا بالحرية والعودة إلى وطننا سوريا .. أنا كتير بحبك عمو عبد الباري .. أنت لا زم تصير رئيس والله .. لو انت كنت الرئيس كنا مشينا وراك كلنا وحررنا بلدنا ..
عمو عبد انت دعيت أهل الجولان للإنتفاضة مثل أهل الضفة .. والله لا زم يسمعك أهل الجولان وتبدأ الإنتفاضة .. بالحجار وليش لأ .. حجارة الجولان سوداء وصلبة ورح تحرق نفس الاسرائيلية .. أنا معك عمو عبد الباري ومع العمليات الإستشهادية مثل الضفة وغزة .. لذلك انا أكلمك الآن راجية إياك أن تتبنى هذه العمليات وتنظمها من مكان وجودك الآمن في لندن .. ستكون مدعوما من الكثير من أبناء الجولان الصامد ومن كل المؤمنين بالجهاد المقدس ..
أرجوك عمو أن تسجل أسمي في رأس قائمة الإستشهاديين لأكون الأولى في كتائب الجولان ولألحق بريم الرياشي وأخي عوني وكافة الشهداء ولن أقلق على ولدي فلهما الله وجوزي منصور الله يصلحه ويهديه .. أنا جاهزة عمو عبد الباري وأؤكد لك أن حياتي ليست أغلى علي من الجولان .. وأهو .. بكون قصرت طريقي ع الجنة.. ولما بتوافق اتصل بي عن طريق الإذاعة أو ابعث لي من يخبرني بما أفعل ..
شكرا عمو .. والنصر لنا بإذن الله !! "
بهذه الكلمات أنهت بهية مكالمتها من طرف واحد مع الرفيق عبد الباري عطوان في لندن مفتتحة باب التطوع للإستشهاد من أجل الجولان تلبية لدعوته وفتواه عبر صحيفته (القدس العربي) ..
أعتقد أن أحدا لم تفاجئه الآراء العامة لأمير الصحافة العربية في الغرب السيد عبد الباري المنشورة في صحيفة القدس في 15 يناير الحالي تحت عنوان (ماذا تريد سوريا؟) .. فله في كل حدث باع يعرف كيف يمده ومن أين ليؤكد سوداويته وتشكيكه الدائم في وطنية الجميع واتهاماته المستمرة لكافة الحكومات العربية بالعمالة للغرب وأمريكا ..
ولكن الإبداع الجديد في (أطروحة اليوم) هو تصوره لحل مسألة الجولان بالطريقة الفعالة التي ستحوله إلى (شوكة في الخاصرة الإسرائيلية) تبدأ بتحريك الأهل بحجارتهم وتنتهي بـ (العمليات الإستشهادية) ضمانا لـ (هرولة المسؤولين الإسرائيليين للتفاوض مع سوريا) وتحقيقا لـ (حلم شارون بانسحاب القوات الإسرائلية من قطاع غزة وتوجهها إلى أماكن أخرى) !!
هكذا إذن .. الرفيق عبد الباري يرى بأن الحل الأمثل لإظهار خيبة الأمل الإسرائلية والإنتصار الحماسي في غزة يتحققان باستفزاز القوات الإسرائيلية من قبل أهل الجولان المحتل وجرها إلى هناك لمواجهة الإنتفاضة الجديدة .. تكتيك ينم عن نضوج سياسي ومهارة عسكرية لم نعهدهما من قبل ..
متابعو الأحداث وتعليقات المحللين والمسؤولين السياسيين العرب والإسرائيليين والغربيين طيلة السنوات الماضية يعرفون آراء السيد عبد الباري واعتراضه الدائم على أية مبادرة من شأنها وقف حمامات الدم التي أودت بحياة الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وخلقت جيلا كاملا من المشوهين واليتامى والأرامل والثكالى، ووقف مسلسل العنف والتحدي والمواجهات غير المتوازنة والتي في معظم حالاتها سهلت على القوات الإسرائيلية عمليات الإجتياح وهدم المنازل فوق رؤوس الآمنين واقتلعت الأشجار وصادرت الأراضي وشردت آلاف العائلات بكامل من تبقى من أفرادها ..
لم تأت مبادرات السلطة الفلسطينية للهدنة والتفاوض أو مبادرات المؤسسات والشخصيات غير الرسمية من أجل السلم والديموقراطية من فراغ أو بسبب (النزعات الاستسلامية) ،كما يحلو للبعض تسميتها، بل بسبب ما آل إليه الوضع الكارثي في الأراضي المحتلة، والذي لم يعد التعنت الإسرائيلي ولا العنف الإنتحاري الذي تتبناه بعض الفصائل الفلسطينية قادرين على تغييره ولا بد من الإحتكام إلى العقل والمنطق وإلى مبادىء التعايش السلمي والشرعية الدولية كي نصل به إلى طرق قويمة تضمن حياة من تبقى من أبنائنا وتضمن مستقبلا معقولا للأجيال القادمة ..
ماالذي سيجنيه أهل الجولان من انتفاضة وعمليات انتحارية غير جر إسرائيل للمواجهة غير المتكافئة وتكرار مسلسل العنف المتبادل والقتل والتدمير ؟؟!! وما ذا يريد السيد عبد الباري حينها من سوريا ؟ فلنتصور أن رغبته تحققت فرأى الجيش السوري يتدخل لصالح انتفاضة الأهل في الجولان مستفزا الجيش الإسرائيلي الذي سيرد بدوره بعنجهيته المعروفة وربما بهمجية تطال المدارس والأحياء السكنية والمرافق الإقتصادية بعمليات انتقامية تخلف مئات الضحايا والكثير من التدمير إلخ... هل سيثلج قلبه لأن العدو انشغل عن غزة بالجولان !! أهكذا تقطف الكرمة؟ أم أن مبدأ جديدا جاءنا به (علي وعلى إخواني يا رب) !!
لم تعرف العرب مثل سوريا متعاضدا مع القضايا العربية عبر التاريخ .. الأخ عبد الباري يعرف هذا ويقر به .. من المحيط إلى الخليج. ولكن السياسة السورية كانت وما زالت واعية وحاضرة. فهي سياسة لا عدوانية ومكافحة من أجل السلام وتعترف للجميع بحقهم بالحياة الحرة الكريمة، من جهة، وصلبة صامدة ضد العدوان واحتلال أراضي الغير وعنيدة في مناصرة الحق دون ركوع، من جهة أخرى ..
وإذا بدت السياسة السورية لعبد الباري وكأنها (تتسول وتستجدي السلام الإسرائيلي) عن طريق زيارات أو لقاءات لمسؤولين هنا وآخرين هناك فإن لذلك واحدا من سببين أو كليهما: الأول أنه يرى بأن أركان الفكر القومي العربي، التي (كما يقول عطوان) حافظت السياسة السورية السابقة على الإلتزام بها، بدأت تتزعزع بتراجع سوري واضح عن شعارات الصمود وإعلان الاستعداد للتفاوض المباشر مع إسرائيل مما أظهر الموقف السوري (هشا وضعيفا) إضافة إلى خوف القيادة السورية مما سماه (تكرار مصير الرئيس العراقي صدام حسين) !! أما الثاني فهو تساؤل عطواني مضطرب ممزوج بحقد مبطن على كل من أغبطه خلع الطاغية صدام حسين وحكومته الكرتونية عنوانه: لماذا لا تكون سوريا أيضا؟ انتفاضة .. فرد اسرائيلي .. فعمليات استشهادية .. فقصف فوق الجولان ودمشق واللاذقية وحلب .. فاشتباكات على الحدود .. ففك ارتباط بتوسط دولي .. فمفاوضات لنزع الأسلحة .. فرفض سوري .. فتدخل أمريكي .. ففشل في التفاهم وفشل في المقاومة واحتلال ..... وما في أحد أحسن من أحد .. ويا الله يا سوريين فرجونا شطارتكم بمقاومة الإحتلال !!!
لكأنني أرى السيد عطوان يتمنى أن يشهد ذلك في أقرب فرصة .. من متابعتي إياه في تعليقاته المستمرة على شاشات التلفزة العربية أحسه متشوقا لرؤية مشاهد في المسارح العربية وقد سقطت حكوماتها كما سقط صديقه صدام ..
وإلا فلماذا التلميح المستمر حول السياسة السورية والمبادرات التي أقل ما يقال عنها أنها تقطع الطريق على خطط اسرائيلية وأمريكية لابتزاز الحكومة السورية وما زال دورها محوريا في المنطقة .. ولماذا التشكيك في عقلانية السياسة السلمية التي من شأنها أن تجند حكومات العديد من البلدان الصديقة والهيئات العالمية والحركات المحبة للسلام إلى جانب نضالنا العادل وأن تظهرنا كشعوب مسالمة تكره العنف والإرهاب ولا تروج لهما ..
ويأتي الحديث عن لواء اسكندرون الذي يرى فيه الأخ عبد الباري خير دليل على (لا مبدأية) النظام السوري المتمثلة بإقامة علاقات طبيعية مع تركيا التي سلخته عن سوريا، والذي ينذر بموقف مماثل مع إسرائيل تجاه الجولان المحتل، ليؤكد اتهاماته لسورية بالاستسلام واتباع نهج السادات .. لذا فهو يحذرنا من ثقافة الضعف وينصحنا بالسلام الداخلي السوري المتمثل بإطلاق الحريات وتعزيز الجبهة الداخلية والإفرج عن جميع المعتقلين !!
أعتقد أن السيد عبد الباري عطوان لم يكتف بالتساؤل عما تريده سوريا بل توجه بالنصائح العديدة للقيادة السورية محذرا من مغبة المضي في السلوك الاستجدائي ضمانا للسلام .. آمل أن تجد نصائحه طريقها إلى المسؤولين السوريين كي يوضحوا مواقفهم وخططهم على أساس ما جاء في مذكرة السيد عطوان.
كندا - 18 يناير 2004